اعترف العلماء والنخب في العلوم الإسلامية بأنّ الأُستاذ المطهري كان منظّراً ومجتهداً بارزاً في أغلب العلوم الإسلامية، وخاصة الفقه وأُصوله، وكان له إبداعات في جميع هذه المجالات، ويؤيد هذا القول آثاره العلمية وكتبه. وعلى الرغم من أنّ له إبداعات فقهية كثيرة وجديرة بالاهتمام جداً يعرف المجتمع الإيراني الأُستاذ المطهري كفيلسوف ومتكلم بارز.
محاور البحث:
1ـ قيمة العقل في الاجتهاد الفقهي
2ـ فلسفة الأحكام، أهميتها ودورها العقلاني
3ـ الحقوق الطبيعية والسعي لتكوين منظومة الحقوق الإسلامية
4ـ مبدأ تطبيق العدالة، إنتاج القانون التشريعي الحاكم
5ـ تناغم القوانين الإسلامية مع متطلبات العصر
الاجتهاد: لعل غياب شخصيته الفقهية لدى المجتمع طبيعي إلى حد ما؛ لأنّ آثاره كانت في المواضيع التي كانت من متطلبات عصره، أي المسائل الكلامية والاجتماعية، وكانت قد اتجهت أنشطة الأُستاذ المطهري ـ كمصلح اجتماعي ـ نحو الردّ على الأسئلة السائدة في مجال الشؤون الاجتماعية من منظور إسلامي.
وفي الوقت نفسه عالج بعض المسائل الفقهية حسب حاجة عصره. وكانت ممارسة الأُستاذ الفقهية في المواضيع الاجتماعية تدخل في مسارٍ اجتهادي، وكان عند الإجابة على الأسئلة المطروحة في المجالات الاجتماعية يستنبط من مصادر التشريع، أي القرآن الكريم وسيرة المعصومين والعقل. وكان الأُستاذ المطهري يسعى لإنشاء مبادئ القانون الإسلامي وفلسفة الاجتماع من منظور إسلامي، حتى يطبق الأحكام الإسلامية في شرائح المجتمع كافة…، ويقول الأُستاذ المطهري في هذا المجال: <بعض مما كتبت فلسفي، وبعض منه اجتماعي، وبعض منه أخلاقي، وبعض منه فقهي، وبعض تاريخي.
ومع أنّ المواضيع التي كتبت فيها متغايرة تماماً مع بعضها، لكن الهدف المتبع في جميعها كان أمراً واحداً فقط..، أنا لن أدّعي أبداً أنّ المواضيع الفقهية التي اخترتها وكتبت فيها كانت أكثر أهمية وضرورية من غيرها، ولكن أدعي أمراً واحداً، وهو أنني لم أجتز من هذا الأصل حسب تشخيصي، وهو حل العقد من المسائل الإسلامية قدر الإمكان، وأعرض قدر استطاعتي الحقائق الإسلامية كما هي، وقد تابعت حسب تشخيصي أصل “الأهم فالأهم” على الأقل.
لذا إن أردنا أن نعد الأُستاذ المطهري من الفلاسفة والمتكلمين دون الفقهاء، فسيواجه هذا التقسيم المشكلة الجدية، ناهيك عن أنّ هذا العمل يفقد أية قيمة علمية. حينما يعالج الأُستاذ المطهري المسائل الفلسفية والكلامية والاجتماعية يرجع إلى الكتاب المجيد والسنة المطهرة ويستفيد منهما، وحينما يمارس البحث في مسألة فقهية يبحث عن جذور الفكرة، ويأخذ بيد القارئ ويذهب به إلى ينابيع التفكر وجذور المسألة الفقهية.
ولكن مع كل هذا نرى أنّ بعضهم لا يعدّ الأُستاذ المطهري فقيهاً مع حبه وولائه له. وكما قلنا آنفاً: بما أنّ آثاره الفلسفية والاجتماعية والكلامية كثيرة وعديدة فقد نرى هذا الرأي طبيعاً وبديهياً، ولكن هذا الرأي غير منصف تماماً، وهو لا يستند إلى الحقيقة، ويرجع سببه إلى الغفلة عن المكانة الفقهية للأُستاذ وإبداعاته الفقهية وشخصيته الشاملة في العلوم. نعم، صحيح أن المسائل المذكورة أعلاه وظروف عصره حالا دون أن يركّز على الفقه، ولكن في الوقت نفسه، وبعد الرجوع إلى آثاره العلمية، نرى أنّ حجم ونوعية عمله الفقهي يحظى بأهمية بالغة، ويكون أكثر قيمة بالنسبة إلى الفقهاء.
المبادئ الفقهية عند الأُستاذ المطهري
1ـ قيمة العقل في الاجتهاد الفقهي
يستطيع العقل في الفقه الإسلامي أن يقوم بأدوار مكتشف القانون ومقيد ومحدد ومعمم القانون، وأن يساهم أيضاً في الاستنباط من المصادر والأدلة الأُخرى، كما يرى المطهري. ويرجع هذا الوزن والحق للعقل إلى تفاعل القوانين الإسلامية مع واقع الحياة، وما خص الإسلام لتعاليمه أسراراً ورموزاً سماوية غير معروفة وغير قابلة للحل( 1). والعلاقة بين هذه الأحكام والمصالح أو المفاسد هي علاقة العلية، ويكون تصنيفها على هذا الأساس. وهذا الأمر أدّى إلى فتح باب ” التزاحم” أو ” الأهم والمهم” في الفقه الإسلامي، حتى يسهل أداء الفقهاء والخبراء حين التعارض واجتماع المصالح والمفاسد المختلفة.وفي الحقيقة فقد أجاز الإسلام للفقهاء والعلماء المسلمين أن يقوموا بتقييم وتقدير مستوى أهمية المصالح باستخدام العقل، ويفضلوا المصالح التي تحظى بأهمية أكبر من غيرها، حتى يخرجوا من المآزق(2 ).
ويفسر الأُستاذ المطهري دور العقل في فهم مصالح ومفاسد الأحكام (فلسفة الأحكام) قائلاً: ” يجب أن أقول بصراحة: إنّ ما نقصدهُ في هذا المجال هو أنّ القوانين والأحكام الإسلامية، سواء في المسائل المتعلقة بالحقوق والحدود والعلاقات الاجتماعية بين الناس أم في المسائل الأُخرى، تبتني على مجموعة من الحقائق، وقد أرسيت عليها بحيث لو عرفنا هذه الحقائق وفق الأُصول والمعايير العلمية الخاصة، والتي هي معروفة في العالم لحسن الحظ، نستطيع أن نفهم وندرك معاني التعاليم الإسلامية المنزلة من جانب الوحي ومفاهيمها بصورة أفضل”.
وعلى سبيل المثال: تساعد المبادئ العلمية والأخلاقية والنفسية في فهم مغزى الأحكام الأخلاقية الموجودة في القرآن والروايات.
العلم هو مفتاح الوحي. يقول النبي الكريم: ” رُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه>، ويجسّد العظمة والبعد الإعجازي من الدين الإسلامي في توسع تعاليمه، بحيث إنْ أضاء العلم كلّ قسم منها تتضح التعاليم الإسلامية أكثر من ذي قبل، إن استطعنا أن نعرف الأُصول والمبادئ العلمية الخاصة لكل شأن من شؤون الحياة فإننا نستطيع أن نستفيد من الفيض الإسلامي بصورة أفضل.
وليست مبادئ الحقوق خارجة عن القاعدة. تبتني الحقوق والأخلاق والإلهيات وغيرها من العلوم على مجموعة من المبادئ الواقعية، بحيث كلما تعرفنا عليها أكثر كلما استطعنا أن نتعرف على الهدف المنشود والمقصود الديني منه. وبناء على هذا يعد كثير من الآليات والأحاديث من آيات الأحكام وأحاديثه بعد التعرف على الأُصول والمبادئ من علم الحقوق.
ومن ثم إذا تعرفنا نحن على الحقائق التي تظهر شيئاً فشيئاً عبر القرون المتمادية وبواسطة العلم فسوف نستطيع أن نفهم مقصود لسان الشريعة بصورة أفضل( 3).
ولا نعني بحق العقل ووزنه تطبيق القياس والرأي الذي كان قد ابتدع في القديم الماضي، ولا نعني أيضاً التفلسف الذي قد أُشيع في عصرنا هذا، بل نقصد المعرفة العلمية من المسائل التي قد وصلت إلى حوزة التعاليم الإسلامية، ونحن قد جنينا ثمارها الحلوة والمنقذة، وجربناها عبر أربعة عشر قرناً مرة واحدة، بل في أكثر من مرة، وهذا هو البعد الإعجازي الوحيد المتبقي من الدين الإسلامي الحنيف( 4).
حينما يوقن العقل بحكمة ومصالح أو مفاسد في مسألة يحكم بذات الحكم الذي يحكم الشارع به، وإذا لم يصل العقل إلى الحكم اليقيني، ولكن كان للشرع حكم فيه، يصدق العقل هذا الحكم. قاعدة الملازمة ” لا تعني أن كل ما حكم فيه الشارع يكون للعقل حكم فيه، فعلى سبيل المثال: إذا حكم الشارع بحرمة لحم الخنزير يفهم العقل هذه الحرمة، بل ما نقصده هو أنّ في كل أحكام الشارع يكمن سرٌ ورمزٌ، بحيث إذا علم العقل هذا السرّ يصدق العقل حكم الشارع، وهذا هو ما يسمى بقاعدة الملازمة “( 5)، وجذور تغير وتبدل القوانين الإسلامية هي أنّ هذه القوانين وضعت على أساس واقع الحياة البشري ومفاسده، أو مصالحه، وليس فيها رمزٌ أو أي مجهول.
وكل ما وضع الإسلام لمصلحة الجسد والروح والأخلاق والعلاقات الاجتماعية و…. صريحاً، وليس فيها غموض أو رموز، لا يستطيع العقل البشري الدخول فيها. وهذا المعتقد من ضرورات الشيعة، وأغلب أهل السنة أيضاً، يعتقدون به، ولهذا السبب فتح في نظام التقنين الإسلامي باب لحضور العقل، وللعقل أن يدخل في الأحكام؛ لأنّ الإسلام قرَّر بأنّ أحكامه ليست خارجة عن العقل، بل كلها عقلانية.
وبناء على هذا إذا ورد حكم عام مبني على فلسفة، واكتشفنا هذه الفلسفة، وواجه العقل مع بعض المستثنيات الخارجة عن فلسفته، ففي هذه الحالة يحق للعقل أن يبين هذا الاستثناء، حتى وإن لم ينص عليه الإسلام؛ لأننا نفقد كثيراً من الأحاديث، ومن الممكن أنّ الحكم قد بين في هذه الروايات المفقودة، ولذا يستطيع العقل أن يحكم، بحيث يخصص حكماً عاماً أو يقيد مطلقاً، بل يستطيع العقل أن يحكم في بعض الموارد الخاصة التي لا حكم لدينا مبيناً من جانب الإسلام، ولكن العقل يعرف بفضل التعرف الكامل على نظام التشريع الإسلامي ما هو الحكم، ويمكنه أن يحكم فوراً “( 6).
وعلى سبيل المثال: يحكم العقل أنّ الشيء الفلاني حرام، في حين لم يذكر حكم الحرمة في القرآن أو السنة. وما نقصد من العقل هو العقل الذي يوقننا، أي الذي يصل إلى اليقين بفضل استخدام العلم، لا العقل المستقل عن العلم(7 ).
وعلى سبيل المثال: يكشف للعقل بفضل استخدام العلم أن التدخين مضرّ للجسم ضرراً مهماً وكلياً، وبناء عليه يحكم بحرمة الاستفادة منه؛ لأنّ نظام التشريع الإسلامي لا يحكم بالحرمة فور حصول الضرر الجزئي، بل يحكم بمكروهيته، ولكنّ الأمر في الضرر الكلي يختلف، وعلى سبيل المثال: يضرّ التدخين بالرئتين و…، ولا يجيز الإسلام هذا الضرر، ناهيك عن أن يثبت للإسلام أنه منشأ لمرض السرطان. وإذا ثبت وجود هذه المفسدة هنا، والمجتهد يعرف بحكم معرفته بالنظام التشريعي في الإسلام أنه كلما كان الضرر للجسد مهماً لا يجيز الإسلام هذا الضرر، ويفتي بحرمته بناء عليه، وإن لم يوجد في القرآن أو السنة وأقوال العلماء حتى كلمة واحدة حول الموضوع(8 ).
وعلى سبيل المثال: لم تكن المخدرات والترياق والإدمان عليه موجودة في زمن الشارع، ولا نجد في الأدلة النقلية دليلاً خاصاً للموضوع، ولكن قد أثبت ضرره ومفاسده بالأدلة الحسية والتجريبية، ومن ثم نحن وصلنا في المسألة إلى <المدرك> أي المفسدة المحرزة والثابتة في الترياق، إذاً الإدمان عليه حرام، وإذا ثبت بأنّ تدخين السيجار يؤدي إلى السرطان أيضاً إذاً هذا حرام في الشرع أيضاً بحكم العقل(9 ).
ولكن إذا تعارض وتزاحم هذا الحكم العقلي غير المنصوص عليه في الإسلام مع حكم آخر منصوص عليه نقدم ذلك الذي هو أهم من الآخر. ولربما يمكن للمجتهد أن يحرّم حلالاً منصوصاً لأجل المفسدة التي اكتشفها عقله، بل يمكن أن يحرم أمراً واجباً شرعاً أو يحكم بوجوب أمر حرام لأجل المصلحة التي وصل عقل المجتهد فقط إلى أنها أهمّ و…، ولذلك على المجتهد أن يتصرف كأنبياء الأُمة في العصور الماضية قبل بزوغ فجر الإسلام( 10).
لقد اتكأ على العقل في أساس التشريع، أي اعترف وأقرّ بالعقل كمبدأ وأصل للتشريع، والسبب في عدّ العقل في رتبة الكتب السماوية هو:
الأول: لا يعتقد الدين الإسلامي بحدوث التناقض والتصادم بين العقل والسنة والكتاب السماوي.
الثاني: فتح الفقه الإسلامي الطريق للعقل بعد عدّه من مصادر التشريع والاستنباط.
والأحكام مبنية على المصالح والمفاسد الواقعية التي تعدّ بمثابة علة الحكم، وهذه تكون في الأعم الأغلب في متناول العقل الإنساني. إذاً بإمكان العقل أن يكتشف القانون الإسلامي بنفسه؛ لأنّه:
1ـ ربّما قد بين هذا الحكم، ولكن ليس في متناول أيدينا (في مصادر التشريع الموجودة).
2ـ يكفينا اعتبار العقل كحجة (الحجة الباطنية لا الظاهرية) من جانب الإسلام.
ومما يقال في التعارض بين الحكم المنصوص والصريح المذكور في القرآن والسنة مع حكم العقل القطعي: إنّ هذا ليس إلاّ افتراضٌ محضٌ، ولا واقع له في العالم الخارجي، بل ما يمكن تعارضه مع الحكم العقلي هو الظاهر (لا الحكم المنصوص) من القرآن والسنة.
وفي هذه الحالة حكم العقل يكشف لنا أنّ هذا الظاهر من الأدلة الشرعية ليس مقصود الشارع، ونرفع أيدينا عنه، وهذا لا يدخل في باب التعارض. وفي بعض الأحيان يتعارض النص القرآني أو الدليل المنصوص في السنة مع الدليل العقلي الظني (التخمين والاحتمال)، وهنا يقدّم النص القرآني أو السنة.
إذاً يعدّ العقل عاملاً لكشف المناط والعلة في الأحكام لا في جميع المجالات، ولكن في أُمور(11 ). وقد تتغير هذه العلل أحياناً، ولكن ليس في الشؤون البنيوية التحتية والكلية، بل في الشؤون الجزئية، وإذا كشف لنا ملاكاً بصورة قطعية ينسجم معه الشرع أيضاً، وهذا هو معنى عبارة ” كل ما حكم به العقل حكم به الشرع>. في حين لدينا حكم شرعي قطعي، وبما أنّ الإسلام لا يصدر أمراً عبثاً وباطلاً، فيحكم العقل في الجملة بأنه يوجد فيه دليل ومعيار، وإن لم يجده العقل حتى الآن، وهذا هو معنى <كل ما حكم به الشرع حكم به العقلُ “.
إذاً ثبت بواسطة العقل والعلم أنه إذا أوجبت المصلحة البشرية أن نغير القوانين فلا مانع من التغيير في الحكم، ولكن هذا في حالة كون ما كشفه لنا العقل قطعياً، لا ظنياً وافتراضياً، وقد كشف لنا العقل كل المعايير والملاكات أيضاً لا ملاكاً دون آخر، ولذلك لا يستطيع الفقهاء أن يقوموا بتعميم دليل مستنبط العلّة حتى يغيروا الحكم، ولا تنقض هذه الأقوال المذكورة أعلاه بأنّ الأحكام الإسلامية قابلة للتغيير بواسطة استخدام العقل وكشف مصالح تلك الأحكام.
يجب أن يكون الدليل العقلي قطعياً، والملاك المنكشف محصوراً أيضاً، يجب كشف تمام العلة لا جزء من العلة، وبصورة قطعية لا ظنية أيضاً( 12). إذاً مرادنا من العقل ليس كل عقل في جميع الحالات. بل يجب أن نصل إلى حكم العقل كسائر المسائل بصورة منهجية وعلمية، أي ” يرجع تشخيص المواضيع إلى المتخصصين، ولا يتعلق بتشخيص المجتهد”(13 )، والنقطة الأُخرى هي أنه بعد العلم بإمكان العقل أن يحكم مستقلاً يجب أن نعرف أيضاً أنّ حكم العقل هو بيان، وتتم الحجة بعد هذا الحكم، ولا مجال لأية ذريعة بعد البيان العقلي(14 )، والأمثلة على هذا هي: مسألة ولاية الحاكم وما يتفرع عنها من المسائل(15 )، وكثير من التحريمات التي ترجع عللها إلى ضدية هذه الأحكام مع المسائل التي تكون ضد العقل( 16).
كباب السهو والملهيات، وباب صيانة دولة العقلاء، وبما أنّ هذه الأُمور تؤدي إلى الانقلاب وإسقاط الدولة المتعلقة بالعقلاء، والحال أنّ الإسلام يعارض ما يكون ضد العقل، لذا حرّم الإسلام هذه الأُمور( 17)، والحيل التي لا يجوز استخدامها في مسألة الربا، أي لا تحقق هذه الحيل في الربا قصد الشارع(18 ). وهذا هو معنى التعبد، أي نعمل وفق كل أمر ثبت أنه وصل من الدين، سواء فهمنا الحكمة فيه أم لا، ولكن لا يوجد التعبد المطلق من جانب الدين نفسه. وتوضيحه أنه لا يوجد أمر أو حكم في الإسلام يخلو عن الحكمة والمصلحة، ولا مكان للانقياد غير العقلي في الإسلام، ولكن هناك انقياد يكون فوق العقل وخارجه، وهذا ينسجم مع حكم العقل، أي يطرح هنا مسألة الأهم والمهم(19 ).
2ـ فلسفة الأحكام، أهميتها ودورها العقلاني
الاهتمام الخاص بفلسفة الأحكام هو الآخر من سمات الأُستاذ المطهري في مجال الفقه والمبادئ الفقهية.
وهذا البحث ناجمٌ في الحقيقة عن الاعتقاد بحق العقل في استنباط الأحكام، لقد بيَّن الرسول الأعظم’ والأئمة المعصومون^ الفلسفة الموجودة لتشريع الأحكام، وأشار القرآن أيضاً إلى المصالح والمفاسد للأحكام. ويعتقد الأُستاذ المطهري أنّ الإسلام وضع في الأساس هذا الباب لإمكانية تناغم الأحكام مع متطلبات كل عصر، بحيث يحق للعقل أن يدرك الملاكات والمصالح أو المفاسد المتعلقة بالقوانين والأحكام. وهذا الاعتقاد يعدّ من الضرورات للمذهب الجعفري، وقد أجمع عليه الفقهاء. وقام ـ على سبيل المثال ـ الشيخ الصدوق بتصنيف كتاب علل الشرائع لتبيين الفلسفة الموجودة للأحكام.
وبناء على هذا يستطيع العقل أن يكشف المصلحة أو المفسدة في الأحكام حتى يبين الحكم الشرعي وفقاً لهذه الفلسفة، أو إذا كان استثناء في مسألة يبينه العقل بنفسه، أو يستطيع أن يخصص حكماً عاماً، أو إذا فقدت فلسفة من أمر حلال يستطيع العقل أن يحرمه و…، ولكن نذكر بأنه يجب على العقل أن يكشف الفلسفة للحكم بصورة قطعية ويقينية كما قلنا.
ولا يعتقد الأُستاذ المطهري بجواز طرح هذه المسألة فحسب، بل يرى أنه يجب البحث حول ما إذا كنا نحتاج إلى الإقناع العقلي، ويعتقد بضرورة البحث عنها. ولهذا السبب نرى أنه & يبحث حول كثير من المسائل الفقهية التي قد طرحت وناقشها، أمثال: فلسفة الحجاب والستر، فلسفة المتعة (الزواج المؤقت)، الطلاق، التعدد في الزوجات، فلسفة الربا، فلسفة الأحكام الجنائية في الإسلام، الحج، الصلاة، الخمس، الإنفاق المالي، والغيبة، وغيرها من المواضيع الفقهية.
إن استخدام فلسفة الأحكام هو منهج الأُستاذ المطهري في الفقه، وبإمكان العقل أن يكتشف القوانين الإسلامية بفضل هذه الفلسفة(20 ). ولكن لا نقصد هنا التفلسف وخلق الحكم والفلسفة، بل نرمي إلى المصالح الواقعية التي نصل إليها بصورة قطعية لا ريب فيها، وبفضل استخدام العلوم والمنهج العلمي، لا استخدام أي عقل في أي مستوى كان(21 )، ولهذا السبب يقول الأُستاذ المطهري: <يجب علينا أن لا نكون مصداقاً لـ ” الجاهل إمّا مفرط أو مفرّطٌ، يبحث بعضهم في كل أمر عن الحكمة وفلسفتها، ويريدون أن يفهموا الفلسفة الموجودة في عدد ركعات صلاة الصبح، في حين أنّ جميع تصرفات وأداء هؤلاء أنفسهم مبنية على الموضة والتقاليد والعادات، ولا يفكرون في تصرفاتهم في مصير هذا العمل ونتيجته، ويتابعون هذه التصرفات دون أي تفكر “(22 )، ويذكر أيضاً بأننا لا نعمل بهذه الأحكام على أساس المصالح والمفاسد المكتشفة، بل قصدنا ونيتنا في العمل هو العبودية، وإذا فرضنا أن لا مصلحة في أمر (وإن لم يوجد أمر كهذا) يجب الطاعة فيه أيضاً بحكم العقل.
فالمصلحة الموجودة في سلسلة من الأوامر الإلهية غير واضحة إلى حدّ ما، ولربما قد عمد إلى هذا الاختفاء في المصلحة؛ لأنه إن أردت أن تعرف الفلسفة في الحكم، ومن ثم تعمل وفق الحكم، لا يعد هذا العمل عبادة أصلاً(23 ).
إذاً نحن لسنا من أتباع هذا المنهج الذي يريد أن يعرف فلسفة الحكم أولاً، ومن ثم يعمل بالحكم، ولا نريد أن نعمل وفق هذا المنهج المتشدد، وفي الوقت نفسه لسنا من أتباع المنهج التفريطي الذي يعمل وفق الأدلة والنصوص الموجودة بصورة عمياء، بل نريد بناء على حق العقل في فهم الفلسفة، أن نفهم فلسفة الأحكام في المستوى الذي يمكننا أن نفهم.
ونعتقد بأنّ لكل حكم من الأحكام الإسلامية فلسفة ومصلحة، ولكن إذا لم يصل العقل إلى ساحة الفلسفة لبعض الأحكام لا يعني هذا أنّ الحكم غير قابل للاتباع، بل نعمل بالحكم نفسه أملاً في أن أن نصل إلى فلسفته يوماً ما، بل إذا لم نصل إليها أبداً يظهر عملنا مستوى تعبدنا للباري والمولى عزّ وجلّ. وإذا وصلنا في الأحكام إلى فلسفتها لا يبتني العمل بالأحكام وفق هذه الفلسفة، بل نقصد التقرب إلى الله وإنجاز أمر المولى.
ولهذا السبب يقول الفقهاء بأنّ كل عمل يصدر من الإنسان بقصد الوصول إلى رضا الله تعالى يعد عبادة، بشرط أن تكون هيكلية العمل ذات مصلحة؛ لأنّ العبادة في الإسلام تكون على قسمين: الأول: العبادة المطلقة التي لا مصلحة فيها غير عبادة الله، كالصلاة؛ والثاني: المصالح الموجودة في الحياة الإنسانية التي إذا قصد فيها طاعة الحق عزّ وجلّ تصبح عبادة وتتحول إليها( 24).
ويرى الأُستاذ المطهري أن التأمل والتدبر في فلسفة حكم وجوب الإخفات في صلاة الظهر جائز أيضاً. ولكن يوصي بالعمل بالحكم، لا لأجل الفلسفة، بل للتعبد(25 ).
ولكن يرى الأُستاذ أنّ فقهاءنا لا يعنون عادة بفلسفة الأحكام حين الإفتاء، ويعتقدون بأنّ القوانين والأحكام الإسلامية عادلة، وفيها حكمة، وهذا من تراث الأخباريين الذي ورثه الشيعة، على رأي الأُستاذ المطهري(26 ).
يقول الأُستاذ في هذا الصدد: ” والمسألة هي أنّ الفقهاء لم يعتنوا أصلاً بفلسفة الأحكام، ويعتقدون بأننا إذا أردنا أن نتبع الفلسفة في أفعالنا، ونقيم الأحكام بالفلسفة التي لدينا، لغيرنا الفقه بصورة كلية. نحن عبيد الأدلة والنصوص، ونتبع كل حكمٍ حكمت به النصوص والظواهر. ويمكن أن نفهم الفلسفة في الحالات الكثيرة، وفي هذه الحالة الحظ يرافقنا ونسرُّ كثيراً، وإن لم نفهم الفلسفة لا نرفض النص لأجل الفلسفة “(27 ).
وعلى سبيل المثال: يعتقد الأُستاذ المطهري بأنّ الملاك في فلسفة تحريم الربا في المعاملات هو إغلاق طريق الربا وسده أمام الحيل الربوية، ولهذا يحكم بتحريم الربا من هذا النوع في المعدود أيضاً، إضافة إلى المكيل والموزون، ويرفض الروايات التي تحكم بجواز هذه الحيل.
وبعبارة أُخرى: يرفع اليد عن الروايات لأجل فهم الفلسفة في حكم الربا( 28)، في حين أنّ الفقهاء من الشيعة يستثنون الربا في المعدودات، ولهذا حينما يقولون بأننا عبيد الأدلة والنصوص، ولا نهتم بفلسفة الأحكام، يواجهون التناقض، وعلى رأي الأُستاذ المطهري عدم الاهتمام بفلسفة الأحكام يؤدي إلى عزل القوانين الإسلامية التي هي بمنزلة الأم ومصدر الثروات الأُخرى، ويقول في هذا الصدد: ” بسبب تخلُّفنا وعدم كفاءتنا وعدم معرفتنا بالإسلام وفلسفته الاجتماعية والإنسانية خرجت هذه القوانين شيئاً فشيئاً وعبر السنوات المتمادية الماضية، واستبدلتها القوانين الوضعية التي وصلتنا من الآخرين”(29 ).
3ـ الحقوق الطبيعية والسعي لتكوين منظومة الحقوق الإسلامية
يقول الأُستاذ المطهري في مجال تبيين القانون الإسلامي بالمبادئ الطبيعية والفطرية: والتوضيح على هذا يكون كالتالي: العالم ونظام الكون هو المرجع الوحيد للقانون، والوسائل اللازمة للكمال والاستكمال قد وضعت في هذا العالم على أساس انعدام العبثية في أفعال الباري، وقد خلق كل محتاج إليه لمحتاج، وقد خلقت المواهب الطبيعية للإنسان وكماله.
وبعبارة أُخرى: توجد بين الإنسان ومواهب العالم علاقة <غائية>( 30)، ونشاهد هذه الحقيقة في كثير من الآيات القرآنية(31 )، فيجب علينا توسيع دائرة آيات الأحكام، ونعد هذه الآيات أيضاً من آيات الأحكام(32 ). لقد عين الله لكل فرد حقوقاً قبل التشريع، كالطفل الذي يحتاج إلى ثدي أُمه، ولذا قد أوجد التناغم بين المحتاج والمحتاج إليه، وعلى سبيل المثال: خلق للطفل شفتين وللأُم الثدي و…، لقد وضع الله قانون الشريعة منسجماً مع القوانين الفطرية(33 )، والنظام الكوني هو خير شاهد على أن خلق الإنسان منسجم مع المواهب الطبيعية، وقد خلقا لبعضهم(34 ).
ولهذا السبب نرى أن بعض القوانين قابل للتوجيه في الفلسفة الإلهية والحقوق الفطرية والطبيعية والإلهية فقط، وباستخدام العلاقة الغائية في العالم، كحق الذين سوف يخلقون، والماضين على الحاضرين حالياً( 35). والشرط الأساس في الاستفادة من الحقوق هو العمل بالواجبات التي قد عينت من جانب الشريعة وعينها الخالق. لكل استعداد يوجد في العالم مبني على حق طبيعي، كالتعليم والتربية وحقهما في الطفل والولد، وبعد إنجاز التكليف يحول حق كل فرد إلى الفعلية، وإن لم ينجز الوظيفة يحرم من الحق.
وللضعفاء والمستضعفين الذين هم غير قادرين على إنجاز الوظائف حصة معينة من حق القادرين على أداء التكليف بالمستوى الذي يمكنّهم من استمرار الحياة؛ لأنهم إن كانوا قادرين كانوا يخصصون حقاً لأنفسهم: { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج: 24 ـ 25) ولكن يقابل هذا الحق التكليف والمسؤولية ولو بالنسبة للأراضي وباقي المخلوقات.
ويقول الإمام علي× في هذا المجال: <إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم>(36 )، ويقول× لمالك الأشتر النخعي: <جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها>(37 )، وأقوال سائر المعصومين الذين يذكروننا بحق الأرض والحيوان والنبات و… على الإنسان(38 ).
ويقوم الأُستاذ المطهري بحل كثير من المسائل والشبهات الموجودة حول القانون الإسلامي على هذا الأساس، الذي هو في الواقع من لوازم التفسير الغائي من الحقوق الفطرية، بحيث لا يمكن تفسير كثير من الحقوق دون التوجه إليه، ومنها: حقوق المرأة(39 )، والملكية( 40)، والاستدلال على حق الأجيال المستقبلة والماضية( 41)، وأرجحية حق الجماعة على حق الفرد( 42)، ومبادئ العدالة(43 )، وغيرها من المسائل.
4ـ مبدأ تطبيق العدالة، إنتاج القانون التشريعي الحاكم
يبدو أنّ أول من طرح العدالة كقاعدة فقهية، وأبدى قلقه من عدم اهتمام الفقهاء بها، هو الشهيد المطهري. يقول الأُستاذ المطهري: <تدخل العدالة في القانون والقاعدة>(44 )، وأيضاً: <العدالة هي من مقاييس الإسلام، ويجب علينا أن نرى ماذا ينطبق عليها. تقع العدالة في سلسلة العلل للأحكام، لا معلولاتها.
ليس كل ما يقول الدين هو العدل، بل كل ما يكون عدلاً يصدر من الدين، وهذا هو معنى كون العدالة كمقياس للدين>( 45)، وفي مكان آخر يقول: <الأهمية تكمن هنا في أنّ العدالة هي مقياس للدين، وليس الدين مقياساً للعدالة>(46 ) وبعبارة أُخرى: <العدل حاكم على الأحكام، وليس تابعاً لها. ليس العدل إسلامياً، بل الإسلام عادل>(47 ).
ويعتقد بأن فقهنا قد تجاهل أصل العدالة الاجتماعية برغم الأهمية التي يحظى بها. في حين استخرج العمومات من آيات كـ {وبالوالدين إحساناً} [الأنعام: 151]، و{أوفوا بالعقود} [المائدة: 1]، ولكن لم يستنبط قاعدة وأصلاً عاماً برغم التأكيد الذي يوجد في القرآن على العدالة الاجتماعية. وهذا الأمر قد سبب الجمود في الفكر الاجتماعي لدى الفقهاء(48 ).
<أثر نفي أصل العدالة من الأفكار حال دون تنامي الفلسفة الاجتماعية في الإسلام، ولم يستخدم كمبدأ علمي وعقلي ودليل للفقه. أُنشئ فقه غير منسجم مع سائر أُصول الإسلام، وهذا الفقه يخلو من الأصول والمبادئ والفلسفة الاجتماعية. لو كانت الحرية في التفكير على حالها، ولو كان أصحاب السنة يتفوقون على أهل العدل، ولو لم يصب الشيعة بالأخبارية، لكان لدينا الآن فلسفة اجتماعية مدونة، وكان فقهنا مبنياً على هذه الفلسفة، وما كنا نعاني من هذه التعارضات والمآزق والتحديات الحالية>( 49).
<أصل العدالة هو الركن الركين والأساسي في التشريع الإسلامي>(50 )، كما يقول الأُستاذ المطهري. وهذا الأصل قد أنشأ قانون تطابق العقل مع الشرع في الإسلام، أي من منظور الفقه الإسلامي، أو على الأقل من منظور الفقه الجعفري، إذا ثبت أنّ العدل يوجب أن يكون أحد القوانين هكذا أو غير هكذا، وإذا حكم بغير حكم العدل حصل ظلم وخلاف العدالة، إذاً يجب أن نقول بأنّ هذا هو حكم الشرع نفسه؛ لأنّ الشرع لن يتعدى من محور العدالة والحقوق الفطرية والطبيعية وفق الأصل الذي علمنا الدين نفسه( 50).
ويستفيد الأُستاذ المطهري من قاعدة العدالة لتبيين بعض من الحقوق والمسائل الفقهية، ومنها: عدم التشابه بين الرجل والمرأة في بعض من الحقوق(51 )، الطلاق القضائي(52 )، الملكية العامة في معدات الإنتاج(53 )، حرمة الربا وحيله( 54).
5ـ تناغم القوانين الإسلامية مع متطلبات العصر
والسمة الأُخرى التي هي من خصائص الأًستاذ المطهري في المجال الفقهي هي اعتقاده بالدينامية والانسجام والتناغم بين القوانين الإسلامية وتوسع الحضارة والثقافة والصور المتغيرة في الحياة ومتطلبات العصر. والسرّ في هذا يكمن في عدة أُمور، كما يرى الأُستاذ:
1ـ الروح المنطقية للقوانين الإسلامية وعلاقتها بالفطرة وطبيعة الإنسان والاجتماع والعالم، وهو ما يمكِّن القوانين الإسلامية من الخلود والحركية والمرونة(55 ).
2ـ لقد وضعت القوانين في الإسلام على مبادئ القضايا الحقيقية لا الخارجية، ولذا فإنّ هذه القوانين خالدة غير مؤقتة وغير ثابتة، أي نُظر إلى طبيعة الأشياء حين التشريع. وعلى سبيل المثال: إنما الخمر حرام، يحرم الغصب، يحل لحم الغنم، وبعد ذلك تختلف الحيثيات. لحم الغنم حلال من حيث هو لحم الغنم، ولكنه حرام من حيث هو مسروق، ولذا لا تعارض بين الأحكام، في حين يوجد تعارض في القضايا الخارجية؛ لأنّ الحكم يصبح انفرادياً وجزئياً(56 ). و<ما شرّع الإسلام الحكم على أساس الأفراد، بل شرعه على أساس الحيثيات والعناوين الكلية، وهذا يجلب نوعاً من المرونة>( 57).
3ـ تعلق القوانين الإسلامية بالمعنى والأهداف الحياتية والطرق المثلى للوصول إلى هذه الأهداف، ولا يتعلق بالصورة الظاهرية وصورة الحياة التي تتعلق دائماً بمستوى العلم المتوفر لدى الإنسان، ولا يغير العلم الهدف والروح في الحياة، ولا يعرفنا أيضاً الطريق الأمثل والأقرب وبأقل الأخطار، بل يتيح لنا العلم الوسائل المفضلة والأكمل لتحقيق أهداف الحياة والمضي قدماً نحو الوصول إلى الأهداف، ويجنب الإسلام عن أي صدام بين قوانينه وتوسع الثقافة والحضارة عبر وضع الأهداف في حوزته ووضع الصور والحالات والوسائل بيد العلم والفن، بل وحتى يحفز الإسلام على مقومات التوسع والحضارة، أي العلم والعمل والتقوى والإرادة والعزم والاستقامة، وبهذا يقوم بدور العامل الرئيسي في تقدم الحضارة(58 ).
لم يُعيِّن الإسلام الخياطة والنسج والزراعة والنقل والحرب، ولم يُعيِّن الإسلام نوعاً وموضة خاصة من الحذاء والثوب، ولم يُعيِّن أيضاً أُسلوباً خاصاً للأبنية وإنشائها، ولم يُعيِّن معدات الإنتاج والتوزيع. وهذه من الجهات التي سهلت التناغم بين الإسلام والتحولات العصرية(59 ). <لا يمكن أن نجد في الإسلام أمراً مادياً وصورة ظاهرية مقدسة، بحيث يعتقد المسلم بأنّ من واجبه حفظ وصيانة الصورة أو الوسيلة>( 60)، ولكن بنفس الوقت هناك بعض من القوالب والحالات ثابتة، كالصلاة وصورتها، ذكر الله هو حقيقة الصلاة، ولكن لها صورة مشخصة وقالب مشخص، وهكذا الحج، ولكن الجهاد بالسيف ليس صورة ثابتة، ولم يتوجه إليه الإسلام.
بل توجّه إلى هو الروح الجهادية، أي الدفاع أمام العدو(61 ). أو في المعاملة نرى أنّ أساس المسألة هو أنه يجب أن تتم المعاملة بالتراضي، ولا يكون غررياً، و…، ولكن الذي يتغيَّر هو صورة هذه الأحكام(62 ).
4ـ لقد وضع الإسلام قوانين ثابتة للحاجيات الثابتة والدائمة لدى الإنسان، وقد توقع أيضاً حالات متغيرة وفقاً للظروف والأحوال المتغيرة، ووضع لها قوانين متغيرة.
لقد وصل الإسلام الحاجات المتغيرة بالواجبات الثابتة. ولكشف هذه العلاقة نحتاج إلى متفقه أو مجتهد فقط، وهذا هو الإعجاز والقدرة المحركة التي استخدمت في هيكلية الدين. وهذا هو مبدأ ضرورة الاجتهاد؛ لأنّ إمكانية الاجتهاد والتفقه في الدين تتفرع على وجود عمق ومسارات مخفية في التعاليم الدينية، يمكن أن نفهمها بفضل قوة الاجتهاد. وبناء على هذا الأساس يتحرك الإسلام دون المخالفة مع روح تعاليمه، ولسنا نحن الذين نحركه( 63).
النظام الذي يجب أن يحكم على غرائز البشر (الأخلاق)، وعلى اجتماعه (العدالة)، والعلاقة بينه وبين الخالق (العبادة)، هو من الحاجات الثابتة للبشر، والتي تُنشِئ في أي ظرف من الظروف المتغيرة قانوناً فرعياً خاصاً ومتناسباً( 64). <وفي الحقيقة هناك بيان في الدين وهناك تطبيق وعمل>( 65)، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، وعلى سبيل المثال لا الحصر: من الأُصول الثابتة للإسلام الاستعداد العسكري على النحو الأتم، واكتساب القدرات للدفاع أمام العدو، ولكن ليس للبغي كما يقول القرآن( 66)، بل كقوة للردع: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال: 60) ولكن تتغير الوسائل والمعدات للحصول على الاستعداد العسكري في كل عصر وزمان( 67).
ومثال آخر هو مخالفة شعارات المشركين، في حين أن ما يتغير هو شعارات المشركين(68 ). والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، بحيث يصعب حصر جميعها، ولا تنحصر المسائل التي تعطي للإسلام مرونة حتى يمكنه أن يتناغم مع الظروف الجديدة دون أي تعدٍّ من الأُصول(69 ).
5ـ لقد خصص في الفقه الإسلامي بابٌ يسمى التزاحم أو الأهم والمهم لأجل معالجة التعارض بين المصالح، وقد أجاز الإسلام للخبراء عند تعارض المصالح أن يختاروا المصلحة التي هي أهم من أخرى على أساس علاقة العلية بين الأحكام الإسلامية والمصالح والمفاسد الواقعية، وتصنيف الأحكام من هذا المنظور، وتقدير مستوى الأهمية لكل حكم، وأيضاً على أساس التوجيهات التي صدرت من جانب الإسلام، وهذا ليس تعارضاً أو تناقضاً، بل يعد التزاحم في العمل بحكمين اثنين(70 ).
<ويتضح هنا أنه قد يختلف تكليف الناس في العصرين. ويحرّم أمر في زمان في حين يحلّ، بل ويجب، في زمان آخر؛ لأنه كان الحكم الأول للمسألة أنها حرام، ولكن في الزمن الثاني وتحت ظروف أُخرى أُحل أو أُوجب؛ لأن الأمر تعارض مع أُمور تكون على درجة أكثر من الأهمية حسب رأي الإسلام>(71 ).
وباب التزاحم باب وسيع في الفقه الإسلامي ولكن لا يعمل وفقه بصورة مطلوبة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يجب على الفقهاء والمجتهدين أن يعرفوا عصرهم، ويعرفوا الأهم والمهم في الأزمنة المختلفة، وإن لم يتعرفوا عليها فسوف تنهار كثير من المسائل، وتكثر المشاكل التي تطرح اليوم، وتتحول إلى مشكلة ومأزق>(72 ).
وعلى سبيل المثال: الدخول إلى أرض بصورة غصبية حرام، ولكن يجب هذا العمل لإنقاذ النفس المحترمة، وحرمة مسّ غير المحارم لإنقاذه(73 )، وتشريح الميت للبحوث الطبية(74 )؛ لأرجحية مصلحة الجماعة على الفرد في التزاحم(75 )، مثل حالة المتترس بهم(76 )، شرب المشروبات الكحولية وأكل الميتة لحفظ النفس( 77)، المخاطرة بالمال والنفس والعرض لحفظ أُصول القرآن، العدالة والوحدة الإسلامية(78 )، وقبول ولاية الجائر( 79).
6ـ قبول إمكانية دخول العقل إلى حوزة الدين، ووضع مكانة له في الاستنباط من الأحكام الإسلامية.
7ـ لقد وضعت القوانين الحاكمة في الإسلام، التي لها حق <فيتو> بالنسبة لسائر الأحكام؛ لأجل التحكم على الأحكام والتعديل في سائر القوانين، أمثال: قاعدة <لا ضرر>، و<لا حرج>، التي تحكم على جميع أحكام الفقه، سواء في المعاملات أم في العبادات. وعلى سبيل المثال: القانون هو وجوب التوضؤ، ولكن حينما يضر الماء بالجسد تقول قاعدة <لا ضرر>: لا يجب عليك أن تتوضأ، أي تحدد القاعدة قانون الوضوء، أو يحرّم الإسلام الصوم المضرّ(80 ).
<هذه القواعد المتحكمة والحاكمة (لا ضرر،ولا حرج) وسلسلة من القواعد الأُخرى تتحكم بالقوانين، ولذا يغيرون الأحكام في حالات كثيرة، ويعد عاملاً في حدوث المرونة في القانون الإسلامي، ويحوله إلى قانون قابل للتناغم مع الظروف المختلفة(81 ).
8ـ أهلية القدرة الحاكمة في الإسلام، التي هي شرط لازم لتنفيذ القوانين السماوية وتطبيقها حسب ما يقتضيه كل عصر، وشرط لازم لتنظيم برامجه الخاصة لكل فترة مع مراعاة الشروط والحدود(82 ).
وكثير من تحريمات أو تحليلات الفقهاء منطلقة من هذا المبدأ، كتحريم التبغ بيد الميرزا الشيرازي( 83)، أو مثل تعيين الضرائب لأجل المصالح العامة، أو التعديل في الثروات الاجتماعية، أو تمديد الملكية، أو تخريب بيوت الناس لبناء شارع في سبيل التسهيل في مرور الناس(84 )، والطلاق القضائي( 85)، وقتل المرتد الفطري(86 )، وتحديد الأسعار(87 )، وتنفيذ العقوبات(88 )، وحل النزاعات خاصة بين الزوجين(89 )، وتوسيع حوزة الزكاة على غيرها من الموارد المنصوصة، <لقد أتاح الإسلام بنفسه هذه الصلاحيات للحاكم الشرعي، والدليل عليه هو تصرفات النبي’ والإمام علي×>(90 ).
9ـ قبول الاجتهاد الذي هو من معجزات الإسلام، بحيث يحظى من الحركة الدينامية والتلقائية دون المخالفة أو التعارض مع أساس القوانين الإسلامية؛ لأنّ للإسلام قوانين ثابتةً ومتغيرةً أيضاً، وقد تعلقت المتغيرة بالقوانين الثابتة، ويمكن أن تتغير باستخدام العقل. ويرى الأُستاذ المطهري أنّ الاجتهاد هو القدرة المحركة للإسلام، ولكنّه ينتقد في الوقت نفسه تخلّيه عن الروح، فيقول: يتخيل الناس أنّ معنى الاجتهاد والمجتهد هو أن يمارس ويعالج المسائل التي لها أحكام ثابتة عبر العصور، وعلى سبيل المثال: يبحث المجتهد في أنه هل يكفي الضربة الواحدة على التراب في التيمم أو تجب ضربتان؟ حتى يقول أحد بأنّ الأقوى هو الضربة الواحدة، ويقول المجتهد الآخر بأنّ الأحوط هو الضربتان، وغيرها من المسائل المشابهة لهذه المسألة، هذا في حين لا أهمية كثيرة لهذه المسائل، بل <الذي له الأهمية هو المسائل الجديدة والمستحدثة التي تظهر، ويجب علينا أن نرى أنّ المسائل تنطبق على أي أصل من المبادئ الإسلامية>(91 ).
التفقه يعني الحصول على روح الإسلام الثابت، وأما الارتباط بين القوانين الثابتة والمتغيرة فهو <يحتاج إلى مجتهد ومتفقه فقط حتى يكشف هذا الارتباط، ومن ثم يبين حكم الإسلام فيه، وهذه هي القدرة المحركة للإسلام>( 92). ويتفرع التفقه في الدين على وجود عمق ومسارات مخفية في التعاليم الدينية يمكن أن نفهمها بفضل قوة الاجتهاد(93 ). وتطبيق التفاصيل والفروع على الكليات والأُصول، الذي يسمى اجتهاداً، هو من واجبات العلماء المهمة( 94)، فإن <واجب المجتهدين هو استخراج واستنباط المسائل المتغيرة الناجمة عن تغيير الصور في المسائل في كل عصر، وليست ناجمة عن التغيير في القواعد الثابتة>( 95).
مقتطف من مقالة: ” الأُستاذ المطهري الشخصية، المبادئ والمنهج الفقهي” للدكتور مجتبى إلهيان عضو الهيئة العلمية في جامعة طهران، في برديس قم. مجلة الاجتهاد التجديد العددان الحادي والثاني عشر، السـنة الثالثة، صيف وخريف 2008م، 1429هـ
الهوامش:
( 1) ختم نبوت: 58ـ59، الطبعة الحادية عشرة.
( 2) المصدر السابق: 63ـ64.
(3 ) مجموعة مقالات: 94.
(4 ) المطهري، مجموعة مقالات: 96ـ99.
( 5) المصدر السابق: 99.
(6 ) اسلام ومقتضيات زمان 1: 247.
(7 ) اسلام ومقتضيات زمان 2: 28.
(8 ) ختم نبوت: 58ـ59.
( 9) المصدر السابق: 30.
(10 ) آشنايى با علوم اسلامي 3: 52.
(11 ) المصدر السابق: 30.
( 12) اسلام ومقتضيات زمان 2: 36ـ39.
( 13) المصدر السابق: 56ـ57.
( 14) المصدر السابق: 67.
(15 ) مسأله ربا به ضميمه بيمه: 240.
( 16) ده گفتار: 122.
(17 ) وحي ونبوت: 119.
( 18) يادداشت هاى استاد مطهري 7: 219ـ221.
(19 ) مسأله ربا به ضميمه بيمه: 240.
( 20) اسلام ومتضيات زمان: 245ـ248.
( 21) اسلام ومقتضيات زمان 2: ص37ـ40.
(22 ) مجموعه مقالات: 96ـ99.
(23 ) يادداشت هاى استاد مطهرى 1: 426.
( 24) آشنايى با قرآن 8: 51ـ58، الطبعة الأولى.
(25 ) تعليم وتربيت در إسلام: 347.
(26 ) آشنايى با قرآن 3: 43.
(27 ) مجموعة مقالات: 81.
(28 ) مسأله ربا به ضميمه بيمه: 118.
(29 ) المصدر السابق: 220.
(30 ) امدادهاى غيبى در زندگي بشر: 142ـ143.
(31 ) نظام حقوق زن در اسلام: 143ـ144؛ بيست گفتار: 67ـ69؛ نظرى به نظام اقتصادي اسلام: 55ـ60.
( 32) منها: آية 70 من سورة الإسراء، و29 من البقرة، و10 من الأعراف، و10 من سورة الرحمن.
(33 ) يادداشت هاى استاد مطهري 3: 239.
(34 ) الروم: 30.
(35 ) بيست گفتار: 70.
( 36) يادداشت هاى استاد مطهري 3: 252ـ253.
( 37) نهج البلاغة، خطبة رقم 166.
(38 ) المصدر السابق: كتاب رقم 53.
(39 ) المصدر السابق، خطبة رقم 167. انظر: مرتضى المطهري، نظام حقوق زن در إسلام: 144؛ يادداشت هاى استاد 3: 241؛ بيست گفتار: 74ـ75؛ بررسى اجمالي مباني اقتصاد اسلامى: 221ـ240.
( 40) انظر: نظام حقوق زن در اسلام: 144ـ145.
(41 ) يادداشت هاى استاد 3: 237ـ241.
(42 ) المصدر السابق: 252ـ253.
(43 ) بررسى اجمالى مبانى اقتصاد اسلامى: 235.
( 44) العدل الإلهي: 61.
( 45) يادداشت هاى استاد مطهرى 6: 246.
(46 ) المصدر السابق: 203؛ بررسى اجمالى مبانى اقتصاد اسلامى: 14.
(47 ) يادداشت هاى استاد مطهرى 1: 52.
( 48) عبد الكريم سروش، روشنفكرى وديندارى: 47، تهران، نشر بويه، الطبعة الأولى، 1367هـ.ش.
( 49) بررسى اجمالى مبانى اقتصاد اسلامى: 27.
(50 ) المصدر السابق: 42؛ وانظر أيضاً: يادداشت هاى استاد مطهرى 3: 250.
( 51) نظام حقوق زن در اسلام: 273.
(52 ) المصدر السابق: 124.
(53 ) انظر: نظام حقوق زن در اسلام: 124 و125.
(54 ) المصدر السابق: 271ـ273.
( 55) نظرى به نظام اقتصادى اسلام: 184.
(56 ) المصدر السابق: 250ـ252 و246؛ بيست گفتار: 42.
(57 ) ختم نبوت: 58.
( 58) اسلام ومقتضيات زمان 2: 20ـ22.
(59 ) المصدر السابق: 46.
( 60) نظام حقوق زن در اسلام: 103.
( 61) المصدر السابق: 104.
(62 ) ختم نبوت: 59.
(63 ) يادداشت هاى استاد مطهرى 5: 19.
(64 ) اسلام ومقتضيات زمان 2: 116.
(65 ) مطهري، اسلام ومقتضيات زمان 1: 232ـ245.
(66 ) ختم نبوت: 60؛ نظام حقوق زن در اسلام: 104.
(67 ) سيرى در سيره ائمه أطهار: 19.
(68 ) المائدة: 8؛ البقرة: 190.
( 69) اسلام ومقتضيات زمان 238:1 80:2؛ نظام حقوق زن در اسلام: 104؛ ختم نبوت: 61؛ پيرامون انقلاب اسلامى: 92؛ اسلام ومقتضيات زمان 80:2.
(70 ) أي وضع العمامة تحت الحنك، اسلام ومقتضيات زمان: 240 ده گفتار: 110.
(71 ) پيرامون انقلاب اسلامي: 93.
( 72) نظام حقوق زن در اسلام: 108، ختم نبوت: 63ـ64؛ اسلام ومقتضيات زمان 1: 248ـ253، و2: 22ـ32.
( 73) اسلام ومقتضيات زمان 2: 22.
( 74) المصدر السابق: 26.
( 75) المصدر السابق 1: 248ـ250.
( 76) ختم نبوت: 63ـ64؛ اسلام ومقتضيات زمان 1: 250ـ253، و2: 24ـ25.
( 77) اسلام ومقتضيات زمان 2: 23ـ24؛ آشنايى با قرآن 6: 153ـ155.
(78 ) يادداشت هاى استاد مطهري 3: 380.
(79 ) اسلام ومقتضيات زمان 2: 26ـ27.
( 80) حماسه حسيني 2: 26ـ27.
(81 ) المصدر السابق: 194.
(82 ) انظر: ختم نبوت: 64؛ نظام حقوق زن در اسلام: 108، اسلام ومقتضيات زمان 2: 69ـ90.
(83 ) اسلام ومقتضيات زمان 9:2.
(84 ) ختم نبوت: 65.
( 85) اسلام ومقتضيات زمان 2: 91ـ92.
(86 ) المصدر السابق: 84ـ86.
( 87) المصدر السابق: 60؛ نظام حقوق زن در اسلام: 272.
( 88) يادداشت هاى استاد مطهري 2: 316.
(89 ) مسأله ربا: 112ـ113، الطبعة التاسعة.
(90 ) يادداشت هاى استاد مطهري 7: 57ـ60.
(91 ) نظام حقوق زن در اسلام: 262.
(92 ) اسلام ومقتضيات زمان 2: 63؛ مسأله ربا: 114.
( 93) اسلام ومقتضيات زمان 1: 233.
(94 ) المصدر السابق: 240.
(95 ) المصدر السابق: 246.