الاجتهاد: إن بعض الشعائر لها ارتباط بمظاهر الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد التي يتصف بها أهل أي منطقة؛ نظراً للخلفيات الثقافية التي ألفها ذلك المجتمع. فهذه الأُمور أثَّرت أثرها بشكل تدريجي، لا سيّما في الجانب الشكلي والصوري للشعائر، والنموذج الواضح لهذه الأُمور ما نراه في الهند، فنجد أن بعض نماذج الشعائر الحسينية ـ غير المنصوصة ـ لها جذور في حياة الهنود الاجتماعية، وتعدُّ جزءاً من عاداتهم وتقاليدهم.
استثمرت مجلّة الإصلاح الحسيني فرصة الحوار مع سماحة المحقّق الشيخ رسول جعفريان(حفظه الله)؛ وذلك إيماناً منها بضرورة عرض النتاج الفكري للمحقّقين والباحثين المتخصّصين، مع مراعاة أُصول البحث العلمي والحوار الهادئ الرصين؛ للوصول إلى الحقيقة بكل حرفية وعقلانية، فكان لنا معه هذا الحوار:
: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله الطاهرين المعصومين عليهم السلام . نرحّب بسماحة المحقّق الشيخ رسول جعفريّان، ونقدّم له فائق الامتنان على إتاحة هذه الفرصة لنا لإجراء هذا الحوار.
(الشيخ جعفريّان): بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآله الطيّبين الطاهرين عليهم السلام . أنا أيضاً بدوري أُرحّب بكم وأشكر لكم اهتمامكم المتواصل بالمحقّقين في مجال التاريخ عموماً، والنهضة الحسينية بشكل خاص.
: سماحة الشيخ، ما هي البذرة الأُولى التي نشأت من خلالها الشعائر الحسينية؟
(الشيخ جعفريّان): امتازت واقعة عاشوراء بخصوصيتين كانتا سبباً في تبلور عنوان (الشعائر الحسينية):
الخصوصية الأُولى: الصبغة القدسية، تلك الصبغة التي نلحظها في الروايات الكثيرة، وبأساليب مختلفة، وردت في النصوص الحديثية والتاريخية القديمة عند الفريقين، ودلّت على أن عاشوراء ليست أمراً تاريخياً طبيعياً، بل إن فيها صبغة سماوية[1]، وهذه المسألة لها دور مهم في إعطاء حادثة عاشوراء القابلية والأرضية المناسبة لإيجاد الشعائر الحسينية؛ ومن هنا يمكننا أن نشبّه عاشوراء بحادثة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بجنبتها القدسية، بقطع النظر عن الجنبة التاريخية؛ ولهذا تحوّلت إلى نموذج يتمتع بقابلية التكرار في الدين الإسلامي.
الخصوصية الثانية: هي قابلية عاشوراء واشتمالها على الأرضية المناسبة لظهور الشعائر الحسينية، والمقصود بذلك: أن العناصر الداخلية لهذه الحادثة تجعلها متميزة ومدهشة وعظيمة ومشتملة على مبادئ عالية؛ فإن دوافع عاشوراء وأهدافها، ونوعية الأحداث والوقائع التي حدثت فيها، ومكانة الشخصيات ودورها في عاشوراء، وكثيراً من الخطب والكلمات؛ كل ذلك أعطى هذه الحادثة قابلية التحوّل إلى ظاهرة مميزة، يمكنها أن تثمر الشعائر الحسينية.
إذاً؛ هاتان الخصوصيتان قد هيّأتا الأرضية المناسبة لنشوء الشعائر الحسينية، الشعائر التي كانت وظيفتها إيجاد الربط بين الناس وهذا الحدث.
: هل هناك ممارسات فردية عفوية بدأت من خلالها الشعائر الحسينية، أو أنها بدأت من خلال ممارسات واعية وهادفة؟ وبعبارة أُخرى: ما هو الطابع الذي اصطبغت به الشعائر عند نشوئها، هل هو الطابع، (الفردي أو الاجتماعي)، (النخبوي أو العامي) (العقدي أو الفقهي)؟ وكيف؟
(الشيخ جعفريّان): أتصور أن هذه المسألة فيها جنبة دينية ومذهبية، ومَن كان لديه مشاركة في هذا الأمر بدأ نشاطه في إطار عقيدته الدينية والمذهبية، ولولا هذا البُعد الديني والمذهبي في عاشوراء لم يكن من المتوقع أن يحدث هذا التطور في تكوين واتساع الشعائر الحسينية في مجتمع يتمتع بهذه الخصوصيات، وبعبارة أُخرى: إن ظاهرة تكوين الشعائر واتساعها لها تفسيرٌ مذهبي تمثّل بالتيار الديني الأصيل ذي الصبغة القدسية، وكان هذا التيار موجوداً ومعروفاً بين أصحاب رسول الله عليهما السلام وعدة من التابعين[2] الذين يؤمنون بضرورة اتّباع أهل البيت عليهم السلام .
هذا الاتجاه يحمل نظرة خاصة لأهل البيت عليهم السلام ، مبنية على أساس آية التطهير[3] والنصوص القطعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في حقّهم عليهم السلام [4]، فهُم النواة الأساسية في تفسير الدين، وإن سلوكهم وأعمالهم مبنية على العصمة، لا كما يقوم به بقية الناس، وحينما وقعت حادثة الطف ـ باعتبارها حدثاً مميزاً عن سائر الأحداث في مذهب أهل البيت عليهم السلام ـ أوجدت الأرضية المناسبة لأن تكون أمراً ممهداً للشعائر الحسينية؛ باعتبارها حدثاً مهماً ومؤلماً ومؤسفاً من جهة، وحدثاً هادفاً وتوجيهياً في التفسير المذهبي لتاريخ صدر الإسلام من جهة أُخرى.
وهذه النظرة المذهبية بالنسبة إلى تحليل سير تطور الأحداث في صدر الإسلام، وكذلك دور أهل البيت عليهم السلام في التأكيد والدفاع عن ذلك؛ هيّأت الأرضية لبروز عاشوراء، ونشوء الشعائر الحسينية. ومن الممكن وجود بعض العناصر والمكونات الأُخرى الفردية والاجتماعية في داخل المجتمع الشيعي، إلّا أن الذي تكفّل بإدارة هذه العملية هي الصبغة المذهبية والقدسية في المجتمع الشيعي، وهناك روايات كثيرة في كتاب (كامل الزيارات)[5] يمكنها أن تُبرز لنا جانب التعاضد بين المعتقدات الشيعية في تفسير التاريخ بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من جهة، وبين الدور الإرشادي للأئمة عليهم السلام في إيجاد الشعائر الحسينية في داخل المجتمع الشيعي من جهة أُخرى.
: سماحة الشيخ، ما هي الجوانب الثابتة والجوانب المتبدلة (المتطوّرة) في الشعائر الحسينية؟ وكيف تتماشى ثوابت الشعائر مع التطور؟
(الشيخ جعفريّان): يمكن ـ لأجل التشبيه ـ أن نستخدم اصطلاح: الثابت والمتغير في الشعائر، أو الأصلي والفرعي، أو المنصوص والمفهوم.
يمكننا أن نقسم الشعائر إلى قسمين:
الأوّل: الشعائر المنصوصة: وهي الشعائر التي تم تأكيدها في الروايات التي وصل بعضها إلى حدّ التواتر[6]، وبعضها الآخر وصل إلينا بخبر الواحد، إلاّ أنها مروية بسند صحيح، وبعضها يحث بشكل خاص على إقامة شعائر معينة[7]، وبعضها يؤكد إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام بشكل عام[8]، ولدينا نماذج من ذلك في كتب الزيارة، هذه النماذج لا بدّ أن تعرف بأنها مسائل منصوص ومجمع عليها عند المجتمع الشيعي.
الثاني: الشعائر المستنبطة: وهي الشعائر التي تخضع للاستنباط، بمعنى أنها ينبغي أن تكون مبنية على أساس ما يُفهم من النصوص التي تُوجد لنا نموذجاً خاصاً من الشعائر الحسينية.
وهناك عدة مسائل لها دور في هذا القسم:
الأُولى: الإبداع الذي يتمتع به أصحاب هذا المذهب.
الثانية: تأثير العادات والتقاليد في مسألة الشعائر؛ مما يزيد من درجاتها شِدَّة وضعفاً، فإن بعض الشعائر لها ارتباط بمظاهر الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد التي يتصف بها أهل أي منطقة؛ نظراً للخلفيات الثقافية التي ألفها ذلك المجتمع. فهذه الأُمور أثَّرت أثرها بشكل تدريجي، لا سيّما في الجانب الشكلي والصوري للشعائر، والنموذج الواضح لهذه الأُمور ما نراه في الهند، فنجد أن بعض نماذج الشعائر الحسينية ـ غير المنصوصة ـ لها جذور في حياة الهنود الاجتماعية، وتعدُّ جزءاً من عاداتهم وتقاليدهم.
وهنا ينبغي الالتفات إلى ملاحظة، وهي أنّ المسألة قد تكون أحياناً غامضة إلى حدٍّ يوجب تدخّل رؤساء القوم وعلماء الدين، بناءً على فهمهم الصحيح لدينهم ومذهبهم وشعائرهم، فيقومون بالدور الرقابي، ولا يسمحون بتوسع ذلك الأُسلوب في الشعيرة.
: سماحة الشيخ، ما هي برأيكم الأُسس الصحيحة لتطوير الجانب المتغيّر في الشعائر، أي: الخاضع للاستنباط؟ وما هي أهمية الربط التاريخي لتلك الشعائر بوقتنا الحاضر؟
(الشيخ جعفريّان): من الملاحظات المسلّمة أنه لا يمكن السماح لوضع قضية الشعائر بيد مَن ليس لديه معرفة كافية بالدين والمذهب، ويجب أن تدخل عاشوراء وشعائرها في إطار أهداف الدين والمذهب، ولا ينبغي أبداً أن تختلف وتتعارض مع أُسس الدين والمذهب، ويتحتم علينا الاعتماد على الجانب المعرفي أكثر من غيره، واجتناب الأعمال الخارجة عن دائرة المعرفة الصحيحة للدين، ومن الطبيعي في هذا المجال أن يكون المعيار هو رأي العلماء ومراجع الدين، وإذا كان هناك أمر خارج عن نطاقهم، أو ترددوا فيه، أو أنكروه، فلا ريب في وجوب تركه.
إنّنا نجد في بعض البلدان أو المناطق ـ على سبيل المثال ـ شيوع قسم من الشعائر المتغيرة بين عوام الناس، مع أنّه ليس لها مبّرر عقلي ولا منطقي، وقد توجهت لنا نتيجة لذلك أصابع النقد.
وبقطع النظر عن هذا الأمر، يجب أن تكون لدينا معلومات دقيقة وعلمية بشأن حقيقة بعض الشعائر، وأُسسها التاريخية، والتطورات التي مرّت بها؛ لأن الحركة التاريخية لبعض النماذج قد يكون لها أثرٌ في دراسة حقيقتها. وبعبارة أُخرى: نحن بحاجة أن نعرف بدقة تاريخ هذه الشعائر والمظاهر المتعلقة بها؛ حتّى نتمكن من الحكم عليها بشكل أفضل، وهذا العمل يجب أن يتصدى له المحقّقون في هذا المجال.
والملاحظة المهمّة الأُخرى: هناك إصرارٌ شديد من قِبَل بعض العوام على إدخال بعض السلوكيات والعادات المناطقية الخاصة بهم، والمحبذة لديهم في الشعائر. ومن الطبيعي إذا ما أُوكل أمر الشعائر إلى عامة الناس فسنلاحظ إضافة بعض النماذج إليها من قِبَلِهم بكل سهولة، فإن لم تبرز الاعتراضات على ذلك من قِبَل المختصّين، فسيخرج الأمر حينئذٍ عن السيطرة، وتفلت الأُمور من زمامها؛ وهذا قد يقلل من التأثير المباشر للعلماء في إدارة وترشيد بعض الشعائر الحسينية.
إن دراسة موضوع الشعائر في الماضي، وما برز منها في الأزمنة المتأخّرة ومناقشتها، يضعنا في موقف منطقي. وبالطبع هذا لا يختص بالشعائر الحسينية فحسب، بل له مصاديق في الشعائر الأُخرى أيضاً، فبيان حدود هذه المسألة يعطي المراجع والنُّخب القدرة على العمل بمهامهم تجاه الشعائر بنحو أكثر إتقاناً وحكمة، وتنبيه الناس إلى ضرورة الالتفات ومراقبة السلوكيات والتصرفات الإفراطية، والأعمال غير المتعارفة وغير المعقولة في هذا الميدان.
يمكننا بنظرة فاحصة أن نحدّد المجتمع بثلاث طبقات: علماء الدين، وعامة الناس، والوجهاء من الناس، وإلى جانبهم الشخصيات المرموقة التي تمتلك مكانة خاصة في هذا المجال، والذين يعتمدون على مهاراتهم كالشعراء، وأهل الرثاء، ومديري مراسم العزاء، والداعمين له.. كل أُولئك يشكلون جبهة واحدة أكسبتهم القدرة والسلطة التي تمكِّنهم من إضافة بعض الشعائر وتعميقها. وفي قبال هؤلاء علماء الدين الذين يعتمدون على مكانتهم الدينية التي حباهم الله تعالى إياها بفضل علمهم ومرجعيتهم.
: كيف كان تأثير القضايا الإسلامية الكبرى في الشعائر، سواء السياسية منها أم الاجتماعية أم الاقتصادية؟ وما مدى حضورها فيها؟ بمعنى: هل كانت الشعائر حسينية بحتة أو أنها متحركة في حياة الشيعة وتُعنى بقضاياهم؟
(الشيخ جعفريّان): إنّ المكانة التي تشغلها واقعة عاشوراء في الثقافة الشيعية تقتضي ـ بشكل طبيعي ـ تعاطياً مستمراً معها، وتفاعلاً ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً متنوعاً، فعاشوراء تحوّلت إلى أُسوة للمجتمع الشيعي، غالبية الشيعة يوجِدون علاقة إيجابية بين أعمالهم وبين ما جرى يوم عاشوراء على الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام ؛ وينتج من هذه المقارنة بعض الأحكام ذات التأثير المستمر في معنويات وتصرفات الشيعة، وفي هذه الحال تصبح الشعائر واسطة بين أصل حادثة عاشوراء وبين حياة الفرد الشيعي.
وبعبارة أُخرى: إن دروس عاشوراء وعِبَرها ومعطياتها قد ظهرت في الشعائر، فإلقاء نظرة على تاريخ الشيعة بإمكانه أن يُبيِّن لنا نطاق هذا التعامل والتعاطي، ومشاهدة دور عاشوراء وشعائرها في الحياة اليومية للشيعة، فهي تُنتج المبادئ والقيم بشكل أساسي وتضعها بين يدي الناس، من قبيل: الحرية ومكافحة الفساد، والإيثار، والتضحية بالمال والنفس والأبناء و… كلّها مسائل مستلهمة من عاشوراء، وتظهر في الشعائر ويتم التأكيد عليها.
: لا شك في أنّ الشعائر الحسينية قد نجحت نجاحاً منقطع النظير في حفظ القضية الحسينية، وحفظ عقائد المؤمنين، وترويج معالم الدين، فما هي العناصر التي اشتملت عليها هذه الشعائر وحققت لها هذا النجاح؟
(الشيخ جعفريّان): علينا أن نلتفت ونُلفت انتباه الآخرين إلى أن أهداف عاشوراء، وما تتضمنه الشعائر الحسينية من أسرار، ليست هي إلّا ما نادى به الإسلام من الشعارات والأهداف التي جاءت بها رسالة رسول الله عليهما السلام ، فلا ينبغي أن يتخذ البحث طريقاً يوحي بأنّ الشعائر الحسينية شيء غير الإسلام الحقيقي، فالمهم هو عرض هذه الشعائر على أنها شعائر ساهمت مساهمة فعّالة في حفظ الإسلام الحقيقي وعدم ضياعه في ظل الحكومات الفاسقة والظالمة كدولة بني أُمية.
وبعبارة أُخرى: علينا ـ في الدرجة الأُولى ـ أن نفهم أن عاشور تمثّل حركة لإحياء الإسلام الحقيقي: إسلام العدالة والدفاع عن المحرومين والضعفاء الذين يرزحون تحت السلطة الفكرية لمحرِّفي الدين، والذين يريدون للشعوب المستضعفة الابتعاد عن الإسلام. إن خطاب عاشوراء هو خطاب التوحيد والنبوّة والمعاد وإحياء الشريعة الأصيلة، والرجوع إلى التعاليم الدينية المستوحاة من القرآن الكريم والعترة الطاهرة عليهم السلام .
وهناك نقطة مهمة أُخرى يمكن التنبيه عليها، وهي: أنّ الشعائر الحسينية ـ خصوصاً
تلك المتعلقة بالمجالس الحسينية ـ تُقدّم فرصة بالغة الأهمية للعلماء يمكن استثمارها لتعليم الناس مبادئ دينهم وتوعيتهم، وهذه الفرصة مهمّة جداً، يمكننا الاستفادة منها بالشكل الصحيح لهداية الأُمّة وإيصالها ـ عن طريق أهل البيت عليهم السلام ـ إلى الإسلام المحمدي الأصيل. وهنا لا بدّ من العمل بشكل دقيق؛ لوضع معايير وموازين تمكّن أفراداً يمتلكون وعياً دينياً واجتماعياً لارتقاء المنابر الحسينية.
سماحة الشيخ، يحاول البعض ـ عمداً أو سهواً ـ أن يصوّر تشابهاً ما بين الشعائر الحسينية ومراسم وطقوس وثنية أو قومية قديمة جداً؛ بحجة أنّ هذه موروثة من تلك، فما هو جوابكم عن ذلك؟
(الشيخ جعفريّان): تاريخ عاشوراء وشعائره تاريخٌ مضيء؛ لأنّ ذات الواقعة والأحداث التي تلتها وما جرى في الأُمّة الإسلامية بعد ذلك مذكورٌ في مصادر كثيرة؛ وطبقاً لذلك فهي ليست أمراً مخفياً أو مستتراً عن الأنظار، لكي يُبرَّر ويُسوَّغ لمن يريد الحديث عنها أن يعتمد الظن والحدس، فالتشيع ظاهرة اتضحت معالمها في المجتمع العربي في المدينة والكوفة، واستمرت على مدى ألف سنة في المناطق العربية، مثل: العراق والقطيف والإحساء ثم إيران، وهذا التشيع كان له دور أساسي ـ بل كان عاملاً مهماً ـ في إقامة الشعائر الحسينية في جميع تلك المناطق، كما أن كل حادثة تقع كانت بمرأى ومسمع من الجميع؛
وعلى هذا الأساس، إن كان هناك مَن يدعي شيئاً من الأُمور التي ذُكرت في السؤال المتقدم، فعليه أن يأتي بمصادره التاريخية، ولا يكتفي بمجرد التخمينات الناتجة عن التشابه في بعض المواطن بين الشعائر الحسينية وتلك الطقوس التقليدية فيجعلها أساساً للحديث عن الاقتباس، فمن الطبيعي أن يكون في الحضارة البشرية ـ التي محورها البشر ـ وجود أنحاء وأشكال للتشابه في أُمور الحياة والعادات والتقاليد، وهذا التشابه ينشأ من الإحساس المشترك الذي يمتلكه البشر، فعلى سبيل المثال: من الممكن أن يبكي الجميع في حالة العزاء، أو يلطموا على رؤوسهم ووجوههم، أو يختاروا لأنفسهم طريقة خاصة لإظهار العزاء، وهذا الأمر موجود في جميع الأديان والمذاهب والقوميات، فمن الممكن اقتباس بعض العادات من الثقافات الأُخرى، وليس هذا الأمر عجيباً، كما لا يدل هذا على التأثير والتأثر.
: يحاول البعض ـ لنفس الأغراض المتقدمة ـ أن يربط بعض الشعائر بالفلكلور الشعبي والإرث الحضاري؛ بدليل أن المجتمعات حديثة التكوّن، وليس لها هكذا شعائر، وبعضهم أرجعها إلى العقل الجمعي ـ سطوة أثر الجماعة على الفرد ـ كيف تقيّمون مثل هذا الكلام؟
(الشيخ جعفريّان): في الإجابة عن السؤال السابق أُشير ـ إجمالاً ـ إلى الارتباط القائم بين الشعائر الدينية والتقاليد والعادات القومية والشعبية. هذه المسألة واجهتها جميع الأديان، والتي تسعى إلى تهذيبها وتشذيبها بشكل مستمر. وفي الواقع، إن الدين لمّا كان عقيدة رائجة في المجتمع يكون له نوع ارتباط بالمصادر الأساسية، ومن جهة أُخرى نجد له حضوراً في أعماق الفرد؛ وبالطبع فإن الروح الجماعية تنتج من ذلك، وتتأثر بالأجواء الحاكمة.
فماذا يبتغي أُولئك المدعون من وراء طرح هكذا أُمور؟! وهل يدعو هكذا أمر إلى الترديد والتشكيك في أصل تلك المعتقدات أو الشعائر الأصيلة المستوحاة منها؟! ليس الأمر كذلك؛ إذ إن تشخيص الصحيح من غيره في الاعتقادات والشعائر له طرق عقلية خاصة، يجب أن يتم من خلالها تقييم تلك المعتقدات.
ومثله بالنسبة لارتباط الشعائر بالمعتقدات، فيجب العمل على هذا النحو من خلال البحث والتحقيق في إطار المعتقدات الدينية من جهة، وارتباطها التاريخي بأصل تلك العادات من جهة أُخرى، فمن المستحيل أن يشيع دين في محيط خاص ولا يتأثر به بأيّ شكل من الأشكال، غاية الأمر أن على قادة ذلك الدين أن يراقبوا سير الأُمور بدقة بالغة؛ كي لا يؤدي نفوذ تلك الآداب والعادات الشعبية إلى خروج الدين وأفكاره والمبادئ الناشئة منه والشعائر المتعلقة به عن أُطر المعتقدات الحقيقية.
: سماحة الشيخ، نختم حوارنا معكم بكلمة أخيرة.
(الشيخ جعفريّان): أعتقد أن الشعائر ـ كما أشرت سابقاً ـ تساعد على تعميق الأخلاق والاعتقاد الديني في المجتمع الشيعي، ولكن قد تكون سبباً لظهور بعض الآفات؛ نتيجة الممارسات المفرطة الخارجة عن المسار الصحيح التي تُنتج بدورها أحاسيس ومشاعر لا تنسجم مع الدين ولا تتلاءم معه. لقد طُرحت للدين معانٍ متعددة، ومع وجود اختلاف بسيط فيما بينها إلّا أن ذلك لا يوقعها في معرض الترديد والشبهة والشك. فالقول: إنّ التوحيد هو أساس الدين الإسلامي، يستدعي أن يؤخذ دائماً على أنه أصل من أُصول الدين. أو القول: إنّ الجزاء والعقاب في الآخرة تابع لأعمالنا وسلوكياتنا يُعدُّ أصلاً مهمّاً كذلك.
أو أن تحديد الفروع والأُصول في المنظومة الدينية يُعدُّ كذلك أصلاً لا ينبغي أن نحيد عنه. وبالطبع، إذا كانت أعمالنا بشكل يتم من خلاله تغيير موقعية الله أو النبيّ أو الإمام في المنظومة الدينية، فإن ذلك لا يؤدي إلى الانحراف عن الصراط المستقيم فحسب، بل يؤدي إلى تحريض التيارات المعادية من داخل الإسلام علينا. وما ينبغي علينا فعله هو العمل على طبق هذه المفاهيم التي وضعها الدين الحنيف من دون تغييرها والتلاعب بها.
إن تحريف الشعائر، والميل بها من الجادة الوسط إلى الإفراط، يفتح الطريق أمام الآخرين للطعن بنا، وحينئذٍ نقع في دوامة الرد على قول مَن يدعي أن ما تقولونه هو من فعل العوام، وليس له ارتباط بعلماء الدين، فلا بدّ أن تكون هذه الملاحظات ماثلة أمام أعيننا عند النظر إلى مسألة الشعائر من زاوية الآفات والمشاكل التي تواجهها، ويلزمنا وضع الخطط والبرامج للوقاية منها وعدم الوقوع فيها؛ لنتجنّب بذلك الإفراط والغلو في تعاطينا مع الشعائر الحسينية المباركة.
الهوامش:
[1] اُنظر: الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص463. ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص121 فما بعد. ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج1، ص85. الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد: ج9، ص187ـ201.
[2] كان اسم (شيعة علي) من الأسماء الشائعة المتداولة على الألسن، وعُرف به كلُّ مَن تولّى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وولده من بعده. اُنظر: النيسابوري، مسلم بن الحجاج، المنفردات والوحدان: ص175. وأيضاً: ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب: ج1، ص160. وأيضاً: المناوي، محمد عبد الرؤوف، فيض القدير: ج3، ص270.
[3] وهي قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) الأحزاب: آية33.
[4] كقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الثقلين المتواتر عند المسلمين: «إنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض».
[5] يُعتبر كتاب كامل الزيارات من أهم كتب الحديث والزيارات، ألّفه المحدّث الكبير جعفر بن محمد بن قولويه المتوفّى سنة (368هـ).
[6] أخرج ابن عساكر في ترجمته للإمام الحسين عليه السلام في تاريخ مدينة دمشق ما نصه: «ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بنحو التواتر في إخباره عن شهادة ريحانته الإمام الحسين بكربلاء، أو بأرض الطف، وبكائه عليه قبل وقوع الحادثة». تاريخ مدينة دمشق: ص236.
[7] كصحيحة ابن شبيب، عن الإمام الرضا عليه السلام : «يا بن شبيب، إن كنت باكياً لشيء فابكِ للحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ؛ فإنه ذُبِحَ كما يُذبَح الكبش، وقُتِلَ معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً، ما لهم في الأرض شبيهون…». الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا: ج1، ص268.
[8] كقول الإمام الصادق عليه السلام لفضيل: «تجلسون وتحدِّثون؟ فقال: نعم، جُعلت فداك . فقال عليه السلام : إنّ تلك المجالس أُحبّها، فأَحْيُوا أمرَنا يافضيل، فرَحِمَ اللهُ مَن أحيى أمرنا. يا فُضيل، مَن ذَكَرَنا أو ذُكِرنا عنده، فخرج من عينه مثل جناحِ الذباب، غفر اللهُ له ذنوبَه، ولو كانت أكثر من زَبَد البحر». الحميري، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد: ص36.