يعتبر الناشط الحقوقي د. هيثم مناع أن السنوات بين ١٩٧٨–١٩٨٢ شكّلت منعطفًا مهمًّا في الوجود البشري الإسلامي في أوروبا، إذ شهدت هذه المرحلة سنوات صعود عدة حركات إسلامية سياسية، رغم التباينات بينها، فظهرت الثورة الإسلامية في إيران، والطليعة المقاتلة في سوريا، وغيرها، وظهرت فكرة الخطر الإسلامي والحُمّى الإسلامية التي تهدّد الحضارة الغربية، وظهر أيضًا الاهتمام السّياسي بمسألة اندماج المسلمين في المجتمعات الأوروبيّة. بقلم مريم تولتش
الاجتهاد: نبوءة أطلقها بنجامين كوراس، أحد الكتاب التشيكيين المشاهير، كحل من اثنين لا ثالث لهما. ما لم يذكره كوراس أن المحاولات جارية فعلًا لإنتاج «حل وسط» أو «طريق ثالث»؛ ألا وهو «الإسلام الأوروبي».
قبل ٢٠ سنة تقريبًا بدأ هذا المفهوم يروج بين أوساط الأكاديميين والباحثين والمحللين الغربيين، وإلى حد ما، الناشطين المسلمين في أوروبا. لا تبدو الكلمة مستساغة لدى كثيرين، سواء أكانوا مسلمين أو كانوا من الأوروبيين غير المسلمين. فالمسلمون يرفضونه لإيمانهم أن الإسلام واحد، ولا يصلح تفصيله وفق مقاسات تقتضيها الظروف والبيئات. والأوروبيون أيضًا يرفضون ببساطة أي ربط بين كلمتي «إسلام» و«أوروبا».
لكنّ هذا المفهوم غدا واقعًا، يُدرَّس في جامعات كبيرة، وتؤلَّف حوله الكتب، ويطرح للنقاش في المؤتمرات ووسائل الإعلام والمقالات كحلٍّ جذري لمجموعة مستعصية من المشكلات بالدرجة الأولى، ومن هذه المشكلات اندماج المهاجرين، وظهور الإسلام و فوبيا، وصعود اليمين المتطرف، والهجمات الإرهابية. يطرح أيضًا كمقاربة تعطي هويةً جديدة أوروبا الغارقة في أسئلة عن تعريف المنتمين لها، ومكان الدين في قيمها ونظامها. كما أن هذا المصطلح تتابع حيثياته مراكز الدراسات الإسرائيلية بغية توجيه تناقضاته وخنق إنجازاته، وهي القلقة بحدّة من دعوات الإسلام الأوروبي ومستقبل المسلمين في أوروبا، لذا اختارت موقف المحرّض المكشوف ضدّهم في السّاحات الغربية[1].
يحاول الإسلام الأوروبي تقديم إجابات لأسئلة المسلمين أنفسهم الذين يعيشون في مجتمعات أوروبية حول وضعهم وطريقة ممارستهم للدين التوفيقية بين معتقداتهم والبيئة التي يعيشون فيها، ومن أشهر دعاته الدكتور طارق رمضان، السويسري من أصل مصري، وترد أسماء أخرى من أصول أوروبية تناولت جانبًا أو جوانب متصلة مثل أوليفييه روا وجيل كيبيل وآلان غريش، وآخرين من أصول مسلمة سيردون ضمن المقالة.
الأقلية المسلمة في أوروبا الغربية
عندما نتحدث عن وجود الإسلام في أوروبا فإن الاحتكاك بينه كديانة وبين أوروبا الغربية في العصر الحديث بدأ مبكرًا، قبل قدوم موجات المهاجرين المسلمين، وهناك ذكر لأشخاص ذوي مكانة مجتمعية مرموقة اعتنقوا الإسلام ونشطوا في تقديمه، إما عبر تأليف الكتب كما حاول رولاند الينسون وين، بارون هيدلي الخامس 5th Baron Headley، أو عبر مؤسسات أو عبر العمل الدبلوماسي كما حاول ليوبولد فايس أو محمد أسد.
وهناك مؤشر قوي على أن نوعًا من «التسامح» و«المحبة» في التعامل مع وجود مظاهر إسلامية في ألمانيا مثلًا، كان موجودًا في بدايات القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، قبل القفزة الكبرى في الوجود الإسلامي التي حدثت في ألمانيا الغربية باستقدام عدد كبير من العمال الأتراك من أجل إعمار البلد المدمّر، وقدوم المهاجرين من المغرب العربي إلى فرنسا خصوصًا في فترة السبعينيات، والهجرة الباكستانية إلى بريطانيا التي بلغت أوجها خلال عقد الخمسينيات، وليستقر هؤلاء المهاجرون ويكوّنوا أسرًا وينشأ جيل ثانٍ ثم ثالث من المهاجرين.
ومع الزّيادة الطبيعية وموجات اللّجوء الجديدة بلغت نسبة المسلمين في دول الاتحاد الأوروبي 5% بحسب الإحصاء الصادر عن مركز بيو للأبحاث لعام ٢٠١٦ وبنسب متفاوتة بين دولة وأخرى، إذ تصل نسبتهم بفرنسا إلى 8%، والسويد 8.1%،بينما في سلوفاكيا وبولاندا أقل من واحد من العشرة بالمئة، وبذلك تصبح الأقليّة المسلمة الأقليّة الدّينية الأكثر عددًا في أوروبا، وهذا بالتالي يبني حالة غير مسبوقة في تاريخ العلاقة بين الغرب المسيحي والشّرق الإسلامي.
تعاطي الحكومات والمجتمعات الغربية مع الأقلية المسلمة
يعتبر الناشط الحقوقي د. هيثم مناع أن السنوات بين ١٩٧٨–١٩٨٢ شكّلت منعطفًا مهمًّا في الوجود البشري الإسلامي في أوروبا، إذ شهدت هذه المرحلة سنوات صعود عدة حركات إسلامية سياسية، رغم التباينات بينها، فظهرت الثورة الإسلامية في إيران، والطليعة المقاتلة في سوريا، وغيرها، وظهرت فكرة الخطر الإسلامي والحُمّى الإسلامية التي تهدّد الحضارة الغربية، وظهر أيضًا الاهتمام السّياسي بمسألة اندماج المسلمين في المجتمعات الأوروبيّة.
وقد تحوّل الإسلام إلى ضرورة وسلاح نافع لأكثر من تيار سياسي في أوروبا، حيث ترافق مع عاملين مهمين:
١– تزايد عدد المهاجرين المسلمين إلى أوروبا.
٢– تصاعد أزمة البطالة.
ويضيف الدكتور هيثم منّاع:
وقد ترافقت هذه التغيرات البنيويّة مع أزمة هويات على الصعيد العالمي، عزّزتها إعادة اكتشاف الهوية الأوروبية المتعدّدة القوميّات، ومخاض هذه العملية على الذّات المهاجرة سمراء وسوداء، في مجتمعات جعلتها الأزمة الاقتصاديّة تنمّي ثقافة خوف جديدة، لم تلبث أحداث الحادي عشر من سبتمبر أن أعطتها صفة «العدوّ الإرهابيّ».
ومنذ أواسط تسعينيات القرن الماضي اعتمدت دول أوروبا الموحّدة مجموعة سياسات من أجل وضع إطار مؤسساتي للإسلام في سياق مختلف التشريعات الوطنية القائمة، من أجل تحديد طبيعة العلاقات بين المسلمين وكلّ دولة على حدة. فكأنها محاولة من الدول الغربية لترويض نشاط المسلمين بخلق إسلام رسمي قابل للاندماج.
يمكن القول إن صورة الإسلام، كما عكسها استطلاع الرأي الصادر عن مركز بيو، في غاية السلبية، وبناء هذه الصورة نابع بشكل رئيسي من الأحكام التلقائية التي تطلقها وسائل الإعلام الغربية، ومن ورائها النخب السياسية والفكرية والثقافية الغربية.
يهاجم طارق رمضان نمط التعامل الأوروبي مع السّمات الخاصّة بالمهاجرين المسلمين والتمييز الحاصل ضد المظاهر الدينية منها، فـ «عندما يأتي الموضوع للطعام الكاري، الكسكسي، لا مشكلة. عندما نأتي للاقتصاد، النظام البنكي الإسلامي لا مشكلة.. ولكن عندما يصل الموضوع للباس، للون، لأي شيء مختلف، يصبح مشكلة. نحن انتقائيون فيما نريد دمجه في ثقافتنا، الطعام والمال: أهلًا وسهلًا.. اللباس واللون: لا».
هذا الواقع المشكِل المنذِر بتصاعد الكراهية ورفض التعايش دفع أكثر من 400 جمعية إسلامية أوروبية لعقد اجتماع في بروكسل عام 2008، وأصدروا ما أسموه «ميثاق مسلمي أوروبا»، وهو ميثاق يدعو إلى الدفاع عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويدعو إلى ترسيخ قيم التعايش والاعتدال والاندماج بين المسلمين وبقية السكان في الغرب، وهي محاولة لتوحيد ١٥ مليون مسلم كانوا يعيشون في أوروبا الغربية آنذاك، ودعوتهم للانخراط الإيجابي في مجتمعاتهم. كما دفع هذا الواقع أيضًا جمهرة من المفكرين المسلمين في أوروبا، مثل الدكتور طارق رمضان والدكتور مالك شبل ويوسف صديق وغالب بن الشيخ وعبد النور بيداد، لطرح رؤاهم حول ضرورة طرح فكر تجديدي للدين يمكّن مسلمي أوروبا من التعامل مع وضعهم القائم.
مضامين «الإسلام الأوروبي»
لابدّ من الإشارة إلى الاختلافات الكثيرة فيما يتعلق بتوضيح مفهوم «الإسلام الأوروبي»، ويعود هذا إلى التباين في خلفيات المفسّرين والدارسين لهذا المفهوم الدّينية والثقافيّة، وكلها تصبّ في خانة محاولة توضيح المشروع الفكري الذي لما تكتمل أبعاده بعد. وبشكل عام يقوم الداعون لإسلام أوروبي بطرح رؤى فكرية لتحديث الخطاب الإسلامي في أوروبا؛ ليكون جزءًا من الفكر الأوروبي، وذلك بتأصيل حقوق الإنسان، وطرح حلول فكرية لإشكاليات قضايا المرأة، وعلاقة الدين بالسياسة، وإعادة النظر في منهجية التعامل مع النص الديني. فمن الأمثلة على هذه الطروحات الفكرية:
١. ما صرح به الدكتور طارق رمضان في مناظرة أجراها عام ٢٠٠٣ مع نيكولا ساركوزي، وهو رفضه للعقوبات البدنية والرجم والإعدام، وأنه يؤيد وقف تطبيق تلك العقوبات كخطوة نحو إلغائها، وهو ما لا يراه ممكنًا دون حوار داخل الأوساط الفقهية ودراسات تستوعب النص الديني.
٢. وكذلك يدعو في كتبه إلى إعادة النظر في النظرة القديمة التي تقسم العالم إلى «نحن» التي نعبر عنها بـ «دار الإسلام»، في مقابل «هم» التي نعبر عنها بـ «دار الحرب» أو «دار العهد»، في ضوء مراجعة كل مفهوم من تلك المفاهيم وما كان يعنيه في سياقه، ومدى تحقق ذلك المعنى أو عدم تحققه في الواقع الحالي. ويطرح طارق رمضان بدلًا من تلك المفاهيم مفهومًا جديدًا هو دار الشهادة، ويعني الشهادة للرسالة الإسلامية أمام الناس.
٣. معاداة السامية، ويقول رمضان حول ذلك:
أما فيما يخص معاداة السامية، فقد كتبتُ مقالًا في جريدة «لوموند» الفرنسية وأعادت جريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية نشره، أشرت فيه إلى أن الشباب المسلم يخلط بين إسرائيل واليهود. هنا يجب أن نكون واضحين، فمعاداة السامية هي معاداة للإسلام. وفي المقابل، لدينا الحق في نقد بعض الدول مثل السعودية أو إسرائيل بكل حرية. يسود، للأسف، خطاب عنصري وشيء من التعميم لدى بعض المسلمين. إنها تجاوزات لا بد أن نقف في وجهها بحزم.
٤. ويرى رمضان أن المسلمين مطالبون اليوم بالتخلي عن كل نزوع طائفي، بكل ما يحمله من انطوائية ومحدودية في التواصل والمشاركة، إذ يجب عدم الخلط بين التجمع الإيماني وأساليب النزوع الطائفي المغرقة في الانعزال والتفرد على المستويات الاجتماعية والسياسية والتشريعية، فبالتالي هو مطالَب بالتصرّف في البلد الأوروبيّ الذي يكون فيه باعتباره مواطنًا وينتمي حقيقة للمجتمع الذي هو فيه.
٥. يدعو رمضان المسلمين إلى الاندماج مع هامش من الاختلاف الذي يدافع عنه المسلمون ويحترم خصوصية المجتمع من حولهم.
ويشرح طارق رمضان المنهج الذي يسير عليه بقوله:
نحتاج إلى الإسلام الأوروبي، وهو إسلام من مواطنين أوروبيين، وليس إسلامًا يتألف من مجتمعات متأثرة ببلدانهم الأصلية.نحن بحاجة إلى الإسلام مستوحى من العقول التي هي مفتوحة للتغيير والتحديات في العصر الحديث، ورفض القراءة الحرفية للقرآن وبما يتماشى مع السياق التاريخي الجديد. ومن شأن هذا النوع من الإسلام أن يسهم إسهامًا مهمًا في الثقافة الأوروبية في القرن الحادي والعشرين وما بعده. ومن شأنه أيضًا أن يكون علاجًا قويًا للتعصب الديني الموجود في كل الأديان، وفي الوقت نفسه، تشكل ردًا على الجمود، والإسلام المحافظ المتشدد، الذي يُعلن عنه أحيانًا من قبل بعض الجماعات الإرهابية.
ويصوّر الدكتور صلاح عبد الرزّاق تجليّات الإسلام الأوروبي بقوله:
إنّ ملامح الإسلام الأوروبي تبدو من خلال أنماط الثقافة المركّبة بين المفاهيم الدّينيّة والمفاهيم الغربيّة.وتتجسّد في كثير من صور السّلوك اليومي كالملابس والعادات، إلى المواقف الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة، إلى الانفتاح على الثّقافة الغربيّة والمجتمع الأوروبي وكل ما يزخر به من مفاهيم وسلوكيّات وأساليب في التفكير وتحليل الأمور، ومن قيم وأعراف أوروبية. فهناك اتصال يومي مستمر بين الإسلام الذي يحمله هؤلاء المسلمون وبين مفردات الثّقافة الغربيّة في المدرسة والجامعة والنادي والعمل والحي والشارع. وقد نختلف أو نتفق مع هذا التفاعل أو التطور، ولكنه يحدث ويترسخ يومًا بعد آخر. فربّما يذوب الإسلام في الثقافة الغربيّة كما ذابت المسيحيّة، ويتحول إلى مجرّد اعتقاد شخصي لا شأن له بالمجتمع أو السّياسة. وربّما يتطوّر لينتج لنا إسلامًا ذا ملامح أوروبيّة في التأكيد على الحريّات الشّخصيّة والأنظمة السّياسيّة الديمقراطيّة.
ويفسّر الدكتور محمد الطّيبي ظهور أطروحة الإسلام الأوروبيّ في هذا العصر بأن «الإسلام يعيش اليوم تحوّلات نوعيّة لم يعهدها من قبل. إنّها أوضاع عكستها بقوّة أنماط التّجدّد المتعدّدة التي تعرفها ساحته، وذلك إمّا بسبب العولمة، أو بسبب إعادة العولمة، وهو واقع حال جيوسياسي أمْلته – وبعيدًا عن إرادة أهله – تحوّلات الكون وتقلّب أنماط البشريّة كلّها»[2].
وعلى قدر ما تلاقي هذه المقولات من ترحيب بقدر ما تثيره من جدل، بل اعتراض، سواء من المسلمين أم من غيرهم؛ فقد وصف أحدهم، وهو إقبال صدّيقي، مقولات طارق رمضان خاصة في كتابه «أن تكون مسلمًا أوروبيًا»، وصفها بأنها نظرية، وبأنه فشل في أن يضمن كتابه تقييمًا موضوعيًا للواقع غير الموات الذي يواجهه المسلمون في أوروبا، وأنه ليس هناك حرية دينية بالقدر الذي يتحدث عنه في أوروبا، وأنه بذلك وقع فيما حذر منه غيره من عدم قراءة الواقع بشكل جيد.
من جانب آخر، تلهم محاولات مفكري الإسلام الأوروبي دعاة الإصلاح والتجديد في العالم العربي، ولعلّ المحاولات النقدية والتحديثية لمنهج التفكير الإسلامي تستنير بتجربة نجاح الإسلام الأوروبي، ولن ينجح إذا لم تقم النّخب المبدعة بدورها وعطائها علمًا وفلسفة وقيمًا وبالعمل الجاد الهادف للتمثيل الصحيح للجاليات المسلمة في أوروبا، وتحقيق تقدّم ملموس لوضع المسلمين ونمط حياتهم.
الهوامس:
[1] الإسلام الأوروبي، صراع الهوية والاندماج، مجموعة باحثين، ط2، دار المسبار، ص١٣-١٤.
[2] الإسلام الأوروبي، صراع الهوية والاندماج، ص71، 72.
(المصدر: إضاءات)