الأمور الحسبية في الفقه الشيعي

الأمور الحسبية في الفقه الشيعي ودور الفقيه فيها / السيد علي الحسيني

الاجتهاد: يتفق العلماء تقريباً على أنّ للفقيه ولاية في الأمور الحسبية، وأنّ القيام بها هي إحدى الوظائف الموكلة إليه. فما الأمور الحسبية؟ وما الولاية في الحسبة؟ وهل هي ثابتة للفقيه؟ ومن أين جاء هذا المصطلح وما سبب تسميته بذلك؟ وما حدود الأمور الحسبية؟ وهل تشمل شؤون الحكم؟ وهل هي منصب شرعي؟ وما الفرق بين جواز تصرّف الفقيه في الأمور الحسبية وبين ولاية الفقيه في الأمور الحسبية؟ وما علاقتها بحكم البلاد، والشأن السياسي؟

الحسبيّة- صياغة المصدر، ودلالة المفردة:

ربما تبدو مفردة “الحسبيّة” غريبة على ذائقتنا العربيّة بل على نصوصنا الدينيّة أيضاً، فيستفهم الكثير عن أساسها وأصل مادتها اللغوي، ومن جانب آخر فإنّي لا أعرف أحداً لفت لهذا الجانب، وهو أنّ هذه الكلمة في الحقيقة من المصدر الصناعي/ الجعلي المصاغ من كلمة أخرى وهي: الحِسْبة، والمصدر الصناعي ببساطة ووضوح هو: كلّ كلمة أُضيف في آخرها ياء النسبة، والتاء المربوطة (يـــة) مثل: إنسان-إنسانية/ وطن-وطنيّة/ سياسة-سياسية، وهكذا: الحسبة-الحسبيّة، فالكلمة العربية بالأصالة هي الحسبة،

وأّما الحسبية فهي من المولّد المقيس على الكلام العربي، والهدف من هذه الصياغة والتحويل من الكلمة العاديّة إلى مصدر صناعي هو جعلها متمحضة المعنى وخالصة الدلالة في الحالة و الصفات التي تحملها قبل زيادة الياء والتاء،

فلو أخذنا كلمة (الإنسان) مثالاً و بما تعنيه من معنى (حيوان ناطق) ثمّ أضفنا عليه الياء والتاء لتكون (إنسانيّة) فإنّنا بهذا الاجراء محّضنا الكلمة في معناها، وجرّدناها عن الجانب الشخصاني، وجعلناها مدلولها خالصاً في الصفات والقيم الخاصّة بالإنسان، وصارت تدل على القيم التي يتفرد بها الإنسان، مثل: الرحمة، والإيثار، والعطف…والأمر ذاته ينطبق على ما نحن فيه (الأمور الحسبية) وهو ما يستدعي أولاً وقبل كلّ شيء معرفة أساس هذا المصدر الجعلي (الحسبيّة) وأصله الذي صيغ منه أعني: (الحِسْبةُ)، وهي كما يجمع أئمة اللغة تعني الأجر والثواب، والاحتساب هو طلب ذلك الأجر والثواب، تقول عند موت قريب: احتسبه عند الله، وفي الحديث: مَن صامَ رمضانَ إِيماناً واحْتِساباً أَي طلَباً لوجهِ اللّهِ تعالى وثَوابِه … والاحتِسابُ في الأَعمال الصالحاتِ وعند المكْرُوهاتِ هو البِدارُ إِلى طَلَبِ الأَجْرِ وتَحْصِيله بالتسليم والصبر أَو باستعمال أَنواعِ البِرِّ والقِيامِ بها على الوَجْهِ المَرْسُوم فيها طلَباً للثواب المَرْجُوِّ منها (انظر: لسان العرب مثلاً-مادة حسب).

وبالنظر لهذا المعنى للحسبة، فإنّ مصدرها الصناعي (الحسبيّة) المسبوق بالأمور يعني بشكل عام: الأعمال التي يتم انجازها بنيّة تحصيل الأجر والثواب لا غير.. وهذه هي مناسبة النقل من المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي الآتي، فكما لا يخفى فإنّ أي عمليّة نقل من اللغة إلى الاصطلاح تستدعي وجود مناسبة والرابطة بين المنقول منه والمنقول إليه.

العلاقة بين الحسبة في فقه أهل السنيّة، والحسبيّة الشيعية

والذي يظهر أنّ مصطلح “الأمور الحسبية” لا يعود إلى “الحسبة” في جذره اللفظي واللغوي فقط، بل حتى من ناحيّة اصطلاحيّة وتاريخية، فإنّ مصطلح الحسبة يعود لما يعرف في أدبيات الفقه عند أهل السنة بنظام وإدارة الحسبة، وهو عبارة عن مؤسسة عرفت في نظام الخلافة بديوان الحسبة أو ولاية الحسبة و يوكل إليها مهمّة اجرائية تتمثل بتطبيق ومتابعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقال لمن يتولى هذه المؤسسة: المحتسب، وقد أُسس علم الاحتساب ودونت فيه كتب مطوّلة.

يقول ابن خلدون (ت 808هـ): الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الّذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعيّن لذلك من يراه أهلا له فيتعيّن فرضه عليه ويتّخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزّر ويؤدّب على قدرها ويحمل النّاس على المصالح العامّة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطّرقات ومنع الحمّالين وأهل السّفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسّقوط بهدمها وإزالة ما يتوقّع من ضررها على السّابلة والضّرب على أيدي المعلّمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصّبيان المتعلّمين

ولا يتوقّف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النّظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع إليه وليس له إمضاء الحكم في الدّعاوي مطلقا بل فيما يتعلّق بالغشّ والتّدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين وله أيضا حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك ممّا ليس فيه سماع بيّنة ولا إنفاذ حكم وكأنّها أحكام ينزّه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء

وقد كانت في كثير من الدّول الإسلاميّة مثل العبيديّين بمصر والمغرب والأمويّين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولّي فيها باختياره ثمّ لمّا انفردت وظيفة السّلطان عن الخلافة وصار نظره عامّا في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية.(تاريخ ابن خلدون،ج1،ص280).

إنّ مصطلح الأمور الحسبيّة في الفقه الشيعي قريب المضمون من نظام الحسبة آنفاً، ولا أقل من اشتراك المصطلحين في جوهر المعنى وروح المدلول وهو ضرورة حفظ النظام ووجوب رعاية مصالح العباد والبلاد، سيّما إذا قارنّا بين ما يرد مكرراً على لسان فقهاء الشيعة: “ما لا يرضى الشارع بتركه” الذي يشير إلى الواجبات التنظيمية ولو لم ينصّ الشارع عليها من جهة، و وسّعنا من مفهوم المعروف والمنكر المأخوذ في ولاية الحسبة من جهة أخرى، وقلنا إنّ المراد بالمعروف في هذا الباب مطلق ما يستحسنه العقل أو الشرع من الواجب والمندوب بل وبعض المباحات الراجحة لجهة من الجهات الراجعة إلى مصالح المجتمع.

والمراد بالمنكر مطلق ما يستنكره العقل أو الشرع، محرما كان أو مكروها أو مباحا له حزازة عرفية لجهة من الجهات، إذ ربّ أمر لا يكون بالذات محرماً ولكن مصالح المجتمع والبلاد تقتضي تحديد حريات الأفراد بالنسبة إليه، كما لا يخفى على أهله.” (منتظري-دراسات في ولاية الفقيه،ج2،ص270).

اصطلاح الأمور الحسبيّة في الفقه الشيعي

وأيا يكن فالكلام فيما يلي في الأمور الحسبيّة حسب منظور الفقه الشيعي، فقد تعددت تعريفات الفقهاء وتنوّعت كلماتهم واختلفت في صياغة التعريف لكنّه اختلاف على قاعدة: تعددت الألفاظ وحسنك واحد، وكلٌّ إلى ذاك الجمال يشير، وخلاصة ما يذكر في تحديد المفهوم الفقهي للأمور الحسبيّة أنّه عبارة عن مصالح العباد المطلوب تحقيقها شرعاً ويتوقف تحقيقها على وجود من يتصدى لها، ولم يجعل لها الشارع شخصاً بعينه وليّاً عليها، فيكون زمام أمرها بيد الفقيه.

ويشتمل هذا المفهوم بالتحليل على ثلاثة عناصر:

الأول: أنّ الأمور الحسبية من مصالح العباد العامّة والخاصة، فهي أولاً وقبل كل شيء أمورٌ حتميّة التحقق، وضرورية الحدوث، وما يقتضي حدوثها هي الحياة الطبيعة أو الاجتماعية للمؤمنين كبشر، وما يستدعيه ذلك علاوة على الموقف الشرعي والديني منهم كمؤمنين من وجود نظام ينظّم حياتهم، و يرعى شؤونهم، ويحفظ مصالحهم حسب القوانين العامة للدين الذي يؤمنون به.

خذ على سبيل المثال: ظاهرة الموت التي لا يستثنى منها أحدٌ من البشر طراً، فإنّها وبلا شك تتطلب هذه الظاهرة منهم باعتبارهم مؤمنين جملة أشياء فصّلها الشارع تحت عنوان: تجهيز الميت، من تغسيل الميت، وتكفينه، وتحنيطه، والصلاة عليه ودفنه، كما أنّ من تداعيات هذه الظاهرة وافرازاتها هو أن يترك الميت أطفالاً صغاراً (يتامى) يحتاجون إلى من يؤدي دور أبيهم من حفظهم وحفظ أموالهم ورعايتهم وتربيتهم.. إلخ.

وهذا القيد الأول ليس أكثر من توصيف للواقع، وإخبار عن الواقع الخارجي؛ تمهيداً لبيان ما يتطلبه من موقف حسب المنظور الشرعي.

ثانياً: ولا شك أن الموقف الشرعي إزاء ذلك هو المطلوبيّة وضرورة التصدي لها، من حيث أنّها من جملة مطالب الشرع وضروراته، وأهدافه القصوى وغاياته، فمن المعلوم أنّ أولى أولويات الشرع: حفظ النفوس، والأموال، والأعراض، ومن ثمّ يُلزم الشرعُ المكلفين ويأمرهم، ويطلب منهم طلباً حثيثاً بالتصدي لكل ما يحفظ تلك الضرورات ويصونها، بل لا يرضى الشارع أي إهمال من شأنه إحداث الضرر والنقص فيها، وعلى هذا الأساس، وبالعودة للمثال آنفاً: يجب شرعاً حفظ (نفوس، وأموال) اليتامى الذين فقدوا أبائهم، ولكن مَن المخاطب بهذا الوجوب الذي لا تتأمن تلكم المصالح ولا تتحقق على أرض الواقع إلا به؟!!

الثالث: ومن القيود المأخوذة في مفهوم الأمور الحسبيّة فقهياً أنّ الشارع المقدّس لم يعيّن لها في عصر الغيبة الكبرى شخصاً بعينه للقيام بها على غرار ما فعله في عصر حضور الإمام مع بسط يده وتمكين الأمة له، وعندها فإذا كان ولابدّ من وجود شخص متصدي لإنجاز تلك المصالح من ناحية، ولم يعيّن الشارع شخصاً لها من ناحية أخرى فإن من نقطع بأهليته ورضا الشرع في تولي الأمور الحسبية هو الفقيه.

وفي ضوء هذا الضابط فإنّ شيئاً واحداً كالقيام بشؤون اليتامى مثلاً يخرج عن الأمور الحسبية فيما لو كان جدّهم من أبيهم حيّاً؛ لأنّ ولاية الجدّ ثابتة من قبل الشارع المقدّس، ويدخل في الحسبيات ويكون ضمن مسؤوليات الفقيه في حال فقد الجدّ أيضاً؛ إذ لم يسمّ لنا الشارع أشخاصاً بأعيانهم للقيام برعاية الصغار الذين فقدوا أباهم وجدّهم من أبيهم.

الأمور الحسبية: وحدة الضابطة واختلاف المصاديق

والأمر ذاته ينطبق على تولي شؤون القاصرين والمجانين وحفظ أموالهم ونفوسهم، وهكذا تجهيز الميت الذي لا ولي له ولا وارث، والوقف الذي لم يحدّد له الواقف متوليّاً.. إلى غير ذلك من الواجبات التنظيمية للمجتمع، وما ذكرناه آنفاً مجرّد أمثلة،

لذا ذكر الفقهاء ضابطة عامّة تتسع للعديد من الأمثلة والمصاديق وهي ما عُلم أن الشارع المقدّس يطلبه، ولا يرضى بتركه لكنّه لم يعيّن له شخصاً بعينه لإدارته، أو كلّ ما لا بدّ من حصوله في الخارج، ولم يعين من يتوجه إليه التكليف بالخصوص، لكن هذا لا يستدعي بالضرورة أن يتصدى الفقيه بنفسه لها، بل قد يأذن لوكلائه كما في التولية على الأوقاف وغيرها، أو يأذن لأي أحد آخر يقوم بها كما في المجالس النيابية والبرلمانات ومجالس المحافظات وغيرها مما يتعلق بتدبير شؤون المجتمع ومصالحه، وحفظ نظام البلاد (انظر-صراط النجاة،ج1،ص 10، وج3،ص358)،

وصفوة القول في التعريف: إنّ الأمور الحسبية هي كل ما يحفظ النفوس والأموال والأعراض، وتصان به مصالح العباد والبلاد بحيث يؤدي تركه وإهماله إلى اختلال النظام، ويتعيّن على الفقيه القيام بها إمّا لأنّه القدر المتيقن للقيام بهذه الوظيفة، أو ولايةً على ما سيأتي بيانه.

فرق الأمور الحسبية عن الواجبات الكفائية

الأصل في الأمور الحسبية أنّها واجبة على جميع الناس وجوبا كفائياً، لكنّها متميزة عن غيرها من الواجبات الكفائية بأنّ الواجب الكفائي التصرف في غير الحسبيات لا يتوقف القيام به على إذن أحد، بل يمكن لأي مكلّف القيام به وعندها يسقط على الباقين، فيما الحسبيات تتوقف مشروعية القيام بها على إذن من ثبتت ولايته فيها، ومن ثمّ فوجوب الحسبيات الكفائي لا يتنافى مع وقوعها تحت ولاية الفقيه أو تصرّفه، بأن يقال: إنّ مطلوبيتها أول ما توجهت إليه ابتداءً، ثمّ إلى غيره بنحو الترتيب الطولي و يكون تصدي غيره منوطا بإذنه.. (للتفصيل انظر: المشكيني-مصطلحات الفقه، ص136)

أقسام الأمور الحسبيّة

وفي ضوء ما تقدّم من فرق بين الحسبيات والواجبات الكفائية؛ ذكر الفقهاء أنّ الامور التي يقع لها وصف الحسبية على قسمين:

ما كان الأصل في التصرّف فيها هو الجواز، و لا حاجة إلى إذن الحاكم أو غيره، كالصلاة على الميت وتغسيله وتكفينه ودفنه؛ وذلك لانّ مقتضى اطلاق أدلة وجوبها أنّها أمور واجبة على كل واحد من المكلفين -أذن فيها الحاكم أم لم يأذن فيها-، فلا دليل على ثبوت الولاية للحاكم فضلا عن غيره فيجوز التصدي لتلك الامور من غير حاجة إلى الاستئذان من الحاكم الشرعي.

ما كان الأصل في التصرّف فيها هو الحرمة وعدم جواز التصرّف، وموردها الأموال والنفوس والأعراض، ومن ثّمّ يتوقف القيام بها، والتصرّف فيها على الإذن كما في التصرف في مال الصغير والمجنون والغائب والاوقاف التي لا متولي لها وغير ذلك من الاموال؛ لأنّ القاعدة الشرعيّة في هذه العناوين الثلاثة هي عدم جواز التصرف فيها، فلا يجوز التصرّف بمال الغير إلا بإذنه، وكذا التزويج..

لكن بما أنّ التصرف في تلك الأمور أمر لابد منه؛ إذ لولاه لتلف مال الصغير وغيره أو لتلفت نفس الصغير لأنه لو لم يبع داره -مثلا- ويعالج الصغير أو المجنون لتلف ومات -فنعلم في مثل ذلك جواز التصرف فيها شرعاً، إلا أنّ القدر المتيقن من جوازه أن يكون التصرف بإذن الحاكم الشرعي؛ لأنّه القدر المتيقن من جواز التصرف في تلك الموارد. (الخوئي-التنقيح،ج8،ص299، بتصرّف).

ولاية الفقيه في الأمور الحسبيّة

وفي القسم الثاني آنفاً من الأمور الحسبيّة (ما كان الأصل فيه عدم جواز التصرّف) ثمّة مسألة رئيسة، وفي غاية الأهميّة نظراً للآثار المترتبة عليها، والمسألة هي: هل تصدّي الفقيه للأمور الحسبية –منصبٌ ثابت للفقيه وولاية له أم أنّه تصرّف مجاز و مأذون به لا أكثر؟؛ ذلك أنّ مبدأ هذا القسم هو عدم الجواز، فتصدّي الفقيه أو أي أحد آخر يحتاج إلى مبرّر وأساس شرعي يتيح له التصرّف في أموال الآخرين –مثلاً- دون إذنهم ورضاهم، مع أنّ القاعدة الشرعيّة المسلّمة تنصّ على عدم حليّة التصرّف بمال الغير دون رضاه..

وبكلمة أوضح: الأصل القطعي والثابت لدى الجميع هو عدم ولاية أحد من البشر على أحد، فالولاية المطلقة وما يتفرع عنها من الطاعة المطلقة والتصرّف في النفوس والأموال.. هي منصب ثابتٌ لمن نصّ الله على ولايتهم أعني النبي وأهل بيته(ص)، فكيف ساغ اعطاؤها للفقيه في عصر الغيبة الكبرى بخصوص الأمور الحسبيّة؟!

وجواباً عن هذا:

جنح بعض الفقهاء إلى أنّ هذا التسويغ مردّه ومستنده هو الدليل الشرعي والروائي (اللفظي)، وبموجبه تمّ الخروج عن أصالة عدم الولاية، وبنفس المعيار الذي اعتبرنا فيه ولاية أئمة أهل البيت امتداد لولاية الله، فهكذا الحال بالنسبة لولاية الفقيه الجامع للشرائط فإنّها امتداد لولاية الأئمة،

فالولاية للفقيه منصب شرعي كما أنّ ولاية أهل البيت منصب ثابت بالنصّ والدليل الشرعي، ويقابل هذا تماماً رأي المشهور الأعظم من علمائنا الذي ينفي وجود دليل شرعي لفظي يعطي الولاية للفقيه، لكنّ نفي الدليل لا يعني بأي حال نفي المدلول، بمعنى أنّهم نفوا وجود نصوص شرعيّة تثبت الولاية للفقيه بيد أنّهم أثبتوها بدليل آخر غير لفظي وهو ما يعبّر عنه بالدليل اللبي الذي يقتصر فيه على القدر المتيقن.

وبيان ذلك كالآتي:

الفرق بين الدليل اللفظي والدليل اللُّبي:

إنّ ثبوت (الولاية) للفقيه في الأمور الحسبيّة، هي محل اتفاق بين الفقهاء، لكنّهم اختلفوا في مدركها ومستندها الذي يثبتها، وهذا الاختلاف في المدرك هو الأساس للاختلافات الأخرى في هذا الإطار، لذا نحن بحاجة إلى مدخل مهمّ جدّاً يوضّح الفرق بين نوعين من الأدلة لدى علماء الأصول، فقد قسّموا أدلة الأحكام إلى لفظيّة، ولُبيّة.

والأدلة اللفظيّة بكل وضوح هي عبارة عن الآيات والروايات الثابتة التي يمكن النظر في ألفاظها ومديات مدلولها من جهة الاطلاق والتقييد، والعموم والخصوص.. وهلمّ جراً.. ويقابله الدليل اللُّبي (نسبة إلى اللُّب) وهو الدليل الذي لا لسان له تعرف بواسطته سعة دائرة مدلوله أو ضيقها.

فالدليل اللبّي هو ما يكون من قبيل الإجماعات والسير العقلائيّة والمتشرعيّة، فهي جميعا تشترك من جهة عدم امكان التعرّف على سعة مدلولها بأكثر ممّا هو القدر المتيقّن من مدلولها، فحينما يقع الشك في اتّساع السيرة لمورد من الموارد فإنّه لا مجال لاستظهار شمولها له. فدليليّة الدليل اللبّي متمحّض في المقدار المتيقّن من مدلوله.

مثلا: قاعدة الصحّة في عمل الغير من القواعد المستندة حجيّتها الى السيرة العقلائيّة الممضاة، والقدر المتيقّن من هذه السيرة هي موارد امكان صدور العمل الصحيح من الغير بنحو الإمكان العرفي، وحينئذ لو وقع الشك في صحّة قراءة الأعجمي فإنّه لا يمكن التمسّك بأصالة الصّحة للبناء على صحّة قراءته، وذلك لأنّ المقدار المتيقّن من مورد القاعدة هو إمكان صدور العمل الصحيح من الغير،

ومن الواضح انّ صدور القراءة الصحيحة من الأعجمي غير ممكن عرفا، وعندئذ يقع الشك في شمول القاعدة لهذا المورد، وباعتبار انّ مستند القاعدة هو السيرة والتي هي دليل لبّي تكون النتيجة هي عدم امكان التمسك بالقاعدة للبناء على صحّة قراءة الأعجمي رغم اننا نحتمل شمول(انظر- صنقور: المعجم الأصولي ج2،ص136)،

وزبدة المدخل: إذا كان الدليل لفظيّاً أمكننا استفادة الاطلاق والعموم والسعة والشمول منه، بينما إذا كان الدليل لُبّياً وقفنا في الاستفادة منه على القدر المتيقن، ولا نوسّعه ليشمل ما نشك فيه، فإذا تجلّى المدخل سهل علينا فهم جوهر اختلاف الرأيين بشأن ولاية الفقيه وتصرّفه في الأمور الحسبية الذي كان أساساً لجملة من الاختلافات الأخرى:

الرأي الأوّل: الفقيه نائب الإمام ومعيّن بالنصّ على الحسبيات

يذهب هذا الرأي إلى أن مقام الولاية الثابت للأئمة في زمن الحضور قد انتقل في عصر غيبة الإمام المهدي (ع) إلى الفقيه بصفته نائب الإمام، فتثبت له أدوار الإمام ومسؤولياته ووظائفه وأهمها هي ولايته في الأمور الحسبية، والفقيه في ضوء هذه الرؤية قد تمّ تعيينه وتنصيبه من قِبَل الشرع، وأوجب على المسلمين أتّباعه وطاعته، ويترجم ذلك بأنّ الفقيه هو رأس للحكم الإسلامي والسلطة التنفيذية، ويجب عليه التصدّي لرئاسة وإدارة نظام الحكم في عصر الغيبة، ولا يتمّ هذا الرأي إلا إذا استند إلى أدلّة نصّية/ لفظيّة كما أسلفنا، لذا اعتمد على جملة من الروايات،

فمن ذلك مثلاً: مقبولة عمر بن حنظلة التي ورد فيها نقلاً عن الإمام الصادق: ” فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً..” فاعتبروا هذه المقبولة حكماً سياسياً يحمل المسلمين على ترك مراجعة السلطات الجائرة وأجهزتها القضائية، حتى تتعطل دوائرهم، إذا هجرها الناس، ويفتح السبيل للأئمة «ع» ومن نصبهم الأئمة للحكم بين الناس..” (الخميني-الحكومة الإسلامية، ص88).

وثمّة نصوص أخرى لا تقل أهميّة عن الحديث السابق من قبيل: الحديث المعروف بـ”توقيع اسحاق بن يعوب” عن الإمام المهدي (ع)، بل يمكن القول إنّه أهم النصوص في المسألة حتى أكتفى به بعضٌ لإثبات ولاية الفقيه بحسب النصوص..(الحائري-ولاية الفقيه في عصر الغيبة، ص101)! وفي التوقيع يسأل ابن يعقوب عن مسائل أشكلتْ عليه، فجاءه الجواب عن الإمام ومما جاء فيه: “وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله “، وسيأتي البيان أكثر لاحقاً..

الرأي الثاني:

يرى أصحاب هذا الرأي وفي طليعتهم السيد الخوئي الذي يؤكد على الدوام على أنّ الأخبار المستدل بها على مرجعيّة الفقيه، وولايته المطلقة؛ قاصرة السند أو الدلالة “(الاجتهاد والتقليد،ص419).

فلا يرى الولاية المطلقة للفقيه، فضلا عن أنّه لا يرى في الفقيه نائباً عن الإمام و منصّباً من قِبَله، ويناقش هو وجملة من تلامذته جميع الأدلة الروائية المساقة في هذا الإطار، ففي تعليقه على توقيع إسحاق بن يعقوب كتب السيد السيستاني يقول: إنّ التوقيع مخدوش سنداً، وغير قابلٍ للاستدلال به.. وينص على وجه الخدش: بأنّا لا نعرف من هو إسحاق بن يعقوب.. ولم يذكر في غير هذه الرواية!.

كما أنّه يرد محاولة توثيقه بدعوى أن أسئلته تدل على وثاقته بالقول: إن من جملة أسئلته: السؤال عن أمر المنكرين والفقاع ووقت ظهور الفرج وعمّن زعم أنّ الحسين (ع) لم يقتل.. إلى غير ذلك من الأسئلة التي لعلّها واضحة لكثير من عوام الشيعة فكيف بالعلماء، فأسئلته لا تدل على جلالته.. (السيستاني: الاجتهاد والتقليد،ص84)،

وهكذا يناقش أنصار هذه المدرسة سائر أدلة ولاية الفقيه النصّية واللفظيّة، ويحصرونها بالنبي وأهل بيته (ع)، ومقصودهم من الولاية المنفية هي المعنى المعهود والمتبادر، وهي أولوية التصرّف و السلطنة على الأموال والنفوس.. على حدّ ولاية النبي وأهل بيته، لكنّهم في الوقت نفسه يثبتون للفقيه نحوا آخر من الولاية،

وفي ضوء ذلك يكتب السيد الخوئي قائلاً: الأصل عدم نفوذ بيع الفقيه لمال القصّر أو الغيّب أو تزويجه في حق الصغير أو الصغيرة، إلاّ أنه لما كان من الاُمور الحِسبية ولم يكن بدّ من وقوعها في الخارج كشف ذلك كشفاً قطعياً عن رضى المالك الحقيقي وهو الله (جلّت عظمته) وأنه جعل ذلك التصرف نافذاً حقيقة، والقدر المتيقن ممن رضى بتصرفاته المالك الحقيقي، هو الفقيه الجامع للشرائط فالثابت للفقيه جواز التصرف دون الولاية .(التنقيح: كتاب الاجتهاد والتقليد،ص361)،

ومن ثمّ فما يقوم به الفقيه خارج نطاق الفتوى والقضاء فإنّما يقع منه على سبيل الحسبة وطلب الأجر والثواب، فإن قام به أحدٌ غير الفقيه بعد الرجوع إليه وأخذ الإذن منه؛ سقط عن الفقيه القيام به.

أثر اختلاف الدليل على دور في الأمور الحسبية

وقد يبدو للقارئ أنّ الاتفاق على النتيجة والمدلول (الأمور الحسبية بيد الفقيه) مع الاختلاف في الدليل (هل هو لفظي أم لبي) هو أمرٌّ هينٌ لا يترتّب عليه أثرٌ عملي!، وأنّ اختلاف الرأيين شكلي غير حقيقي، إلا أنّ الواقع ليس كذلك، فثمّة آثار وتبعات، وفوارق وتداعيات ليست قليلة ولا هينة، كلّها تبتني على الاختلاف في طبيعة الدليل الدال على ولاية الفقيه في الأمور الحسبية،

فدونك ثلاثة من الفوارق والآثار المهمّة:

تعدّد مفهوم الفقيه، والولاية

بمعنى أن الولاية ذات مدلولين مختلفين عند الفقهاء، بل يلقي بضلاله حتى على مفهوم الفقيه الجامع للشرائط وتعريفه: فهل ولاية الفقيه تعبير عن منصب ديني/شرعي، وسلطة متفرعة عن ولاية الله وولاية الأولياء وامتداد شرعي لها قد دلّت الروايات عليها بحيث تقرأ الفقاهة وتفهم على أنّها نيابة عن الإمام المعصوم وأن الفقيه قد تمّ تعيينه وتنصيبه من قبل الأئمة في عصر الغيبة ؟!

أم أنّها مجرّد تصرّف مأذون به قد سمحت به الضرورة ودلّ عليه الدليل اللبّي الذي يقتصر فيه على القدر المتيقن، وليس منصباً دينياً قد أثبتته النصوص الشرعيّة؟،

فيتحدّد المعنى المختار في ضوء الرأيين السالفين، ومن هنا نلاحظ وبشكل واضح أنّ السيد الخوئي وفي الوقت الذي ينفي الولاية عن الفقيه، فإنّه يثبتها له بمعنى آخر مع النصّ على اختلاف المعنيين، فيقول من جهة: الولاية لم تثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليل.. لكنّه ينبّه من جهة أخرى على: أنّ الفقيه له الولاية في الأمور الحسبية، لكن لا بالمعنى المدعى، وقد اتضح ذلك في كلامه السالف فلا نطيل.

ثانياً: في نطاقها سعة وضيقاً، واطلاقاً وتقييداً

من التداعيات المهمّة لاختلاف الفقهاء في الدليل الدال على ولاية الفقيه وتصرفه في الأمور الحسبية؛ هو اختلافهم في نطاقها ودائرتها، فالذي يرى أنّها ثابتة بالدليل أي بالنصوص والروايات فعندها يكون له فسحة ومجال للنظر في لسانها ومدلولها ليرى هل جاءت مطلقة أم مقيّدة؟

والرأي عنده أنّها جاءت بلسان الاطلاق، فعلى سبيل المثال: مما استدل القائلون بالنيابة المطلقة للفقيه؛ هو توقيع اسحاق بن يعقوب الذي مرّت الإشارة إليه، فقد اعتمدوا على الاطلاق الذي توفّر عليه هذا الدليل اللفظي. فقالوا: إنّ مقتضى اطلاق كلمة: (الحوادث الواقعة) وكذا: (فإنّهم حجتي عليكم) هي الوكالة المطلقة في كل ما للإمام، فتثبت الولاية المطلقة للفقيه في جميع الحوادث على أساس هذا النصّ.. (الحائري-المصدر السابق،ص101).

إنّما وسّعوا الولاية وأطلقوها في جميع الاتجاهات والشؤون؛ لأنّ النصّ الدال عليها مطلق، ولم يحدّد الرجوع للفقيه بالفتوى فقط، وفي المقابل، فإنّ من نفى الأدلّة الروائية ورأى عدم تماميتها من جهة الصدور والدلالة قد اعتمد على دليل الحسبة/اللّبي الذي لا نصّ فيه ولا لسان له لكي يتمسك بإطلاقه؛ لذا يقتصر فيه على القدر المتيقن ولا يتوسع بشأنه كما لاحظنا في كلامه آنفاً، وبموجبه يقتصر دور الفقيه وتدخله على مقدار الضرورة.

ثالثاً: في القاعدة والأصل عند الشك

وفي هذا المجال يقول السيد الخوئي: إنّ ثمرة ثبوت الولاية بالأصل أو بالدليل؛ هو أنّه إذا كان شيءٌ واجباً، وشُك في كون صحته مشروطاً بإذن الفقيه، فبناءً على ثبوت ولايته بالدليل لا يجوز لغيره أن يمتثل بدون اذنه لعموم الدليل عليه لكونه مثلاً من “الحوادث الواقعة” فلا بدّ فيه وأن يرجع إلى الفقيه أو يتصدى به بإذنه وذلك كصلاة الميت إذا شك في اعتبار اذن الفقيه فيه. وإن كان ثابتا بمقتضى الأصل فلابد أن ينفى احتمال اعتبار اذنه بأصل البراءة (مصباح الفقاهة،ج3،ص299).

ختاماً:

إنّ الفروق أعلاه ليست فروقاً نظريّة مجرّدة بحيث لا يكون لها أثر عمليّ، بل تترتب عليها جملة من الآثار العمليّة الكبيرة والمهمّة، فمن جملة آثار هذا التفاوت هو أنّ الولاية في الحسبيات لو كانت ثابتة بدليل لّبي وكانت بمعنى جواز التصرّف؛ فعندها لا ثبت للفقيه إلا فيما وصل لمرتبة الضرورة، فحتى لو كان الأمر الحسبي أمراً كمالياً أو فيه مصلحة للناس دون أن يبلغ الضرورة كفتح شارع، أو توسعة المراقد أو غير ذلك، فإنّما يجوز اجراؤها على خلاف رضا أصحابها بمقدار ما تتأمن به الضرورات لا غير، وأمّا الزائد على ذلك من الكماليات والمصالح الثانوية فلا يجوز اجراؤها..

ولو وقع الخلاف بين السلطة وبين شخص من الأشخاص في ثبوت الضرورة وعدمها، فأرادتْ السلطة اعمال ولايتها لكن الشخص لم يكن مقتنعاً بذلك فلا يجب عليه الطاعة؛ لأنّه لا يعتقد بدخول ذلك في الأمور الحسبية (انظر: ولاية الفقيه في عصر الغيبة،ص76). وعلى النقيض من ذلك تماماً فيما لو كان البناء على ثبوت الولاية المطلقة للفقيه بالروايات، وأنّه نائب الإمام المعصوم في غيبته، وولايته امتداد لولاية النبي وأهل البيت، وقوله مسموع، وأمره مطاع مطلقاً، وسلطته فاعلة على النفوس والأموال والأعراض.

السيد علي الحسيني-أستاذ الفقه والأصول في الحوزة العلمية بكربلاء المقدسة/

المصدر: موقع الأئمة الاثني عشر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky