الاجتهاد: عقد بيت الحكمة في تونس ندوة تحت عنوان: “الفقه الإسلامي والقانون الوضعي: أية علاقة؟ وفيما يلي جزء من الكلمة الملقاة فيها مع إدخال بعض التعديلات والإضافة لزيادة الترابط والعمق.
لتحقيق فقهٍ داعمٍ للتقنين بصورةٍ علميّةٍ متكاملة، لا بدّ أن يستند الاجتهاد إلى ركيزتين جوهريتين:
الأولى: فلسفة الشريعة.
الثانية: الإدراك العميق للوقائع.
أولاً: فلسفة الشريعة
فلسفة الشريعة تختلف جوهريًا عن الفقه ذاته؛ فالفقه يُعنى بعملية استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لمعالجة القضايا، بينما فلسفة الشريعة تبحث في طبيعة الشريعة نفسها، بما تحمله من غايات، وبنية، وروح.
للتوضيح أكثر، يمكن القول إنّ هناك مقولتين أساسيتين:
– فقه الشريعة
– فلسفة الشريعة
فقه الشريعة هو ما نمارسه اليوم بصورةٍ جادّةٍ وموسّعة، حيث نعتمد على القواعد الأصولية لاستخلاص الأحكام الشرعية.
فلسفة الشريعة، تحاول استكشاف الأبعاد العميقة للشريعة، بما يشمل جغرافيتها، خصائصها، غاياتها، روحها، كيفية تحركها نحو أهدافها (سياساتها) وأولوياتها.
هي التي تكشف أن الشريعة حيال قضية مهمة هل تسير بوتيرةٍ سريعةٍ أم بطيئة؟ هل تتقدّم بأولويات واضحة أم بدون ترتيبٍ محدد؟
فلسفة الشريعة تسعى إلى استكشاف الأبعاد العميقة للشريعة، بما يشمل جغرافيتها التنظيمية، وخصائصها التشريعية، ويتضمن غاياتها السامية، وروحها المتجددة، وكيفية تحركها نحو أهدافها المنشودة، من سياساتها المرسومة إلى أولوياتها المحسوبة.
هي التي تكشف لنا عند كل مفصلٍ، هل تتحرك الشريعة بسرعةٍ خاطفةٍ أم بهدوءٍ متأنٍ؟ هل تُقدّم أولوياتٍ واضحةً أم تسير في خطوطٍ متشابكةٍ؟ وهل تختار مسارًا تدريجيًا يبدأ من الأدنى ليصعد نحو الأعلى، أم تمضي مباشرةً نحو القمة دون تمهيدٍ؟
كما تتساءل فلسفة الشريعة: هل تسعى الشريعة في مواجهة قضية اجتماعية مهمة إلى حلولٍ كليةٍ شاملةٍ أم جزئيةٍ مرحليةٍ؟ وهل تبدأ مع الفرد لتصل إلى الجماعة أم تراها تعالج الأمور بعينٍ على الفرد وأخرى على الكيان الأكبر؟
وتبحث أيضًا في مرونة الشريعة أمام التغيرات: هل تختار التأقلم المرن أم تظل ثابتةً على مبادئها؟ هل توسع مجال الاجتهاد أمام المستجدات أم تحافظ على ضوابطٍ صارمةٍ في قضاياها الحساسة؟
وفوق ذلك، تنير فلسفة الشريعة سبيل فهمنا لتفاعلاتها، فتسأل: هل تحمل الشريعة في خطابها أسلوبًا يركز على الإقناع اللين أم الإلزام الصارم؟ هل تُقدّم الأمور بصراحةٍ باديةٍ أم تُبقي بعضها في طيّ الحكمة المستترة؟ وهل تفضل التدرج الحكيم أم الحسم المباشر؟
بمثل هذا التحليل المسهب، تتحول فلسفة الشريعة إلى بوصلةٍ مرشدةٍ، تزود الاجتهاد بطاقات كي يلبي بالحاجات.
هذا النهج يجعل الفقه في خدمة التقنين أكثر ذكاءً ووعيًا، ويُمكّن المقنن من صياغة قوانين تراعي الغايات العليا للشريعة، وتتناسب مع الواقع الاجتماعي، مع تحقيق توازنٍ بين الثبات والمرونة، وبين النصوص الحرفية والغايات الكبرى.
وهكذا نفهم أن فلسفة الشريعة تُقدّم للفقيه إطارًا فكريًا متكاملًا يُقوّم عملية الاجتهاد، ويجعله أكثر قربًا من إرادة الشارع وأقل عرضةً للأهواء الشخصية أو الانطباعات الذاتية. من خلال هذا الفهم الفلسفي، يصبح الاجتهاد قادرًا على تقديم استنباطات شرعية، هي:
– أكثر انسجامًا مع العقلانية.
– أكثر مرونة في مواجهة تحديات العصر.
– أكثر فائدة لإيجاد النظم القانوني والاجتماعي.
أما الاجتهاد الذي يفتقر إلى هذا العمق الفلسفي، فقد ينتهي إلى نتائج متأثرة بالذهنية الفردية التي قد تكون غير منقحة أو غير متناسبة مع واقع الشريعة وغاياتها الكبرى.
ثانيًا: فهم الوقائع والديناميكيات الاجتماعية
إلى جانب فلسفة الشريعة، يحتاج الاجتهاد الفقهي إلى وعيٍ دقيقٍ بالوقائع الميدانية التي يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيين:
أ) المعطيات الحقوقية
الإدراك العميق لهذه المعطيات يُمكّن الفقيه من فهم الإطار الحقوقي الذي تتحرك فيه القضايا الشرعية. هذا الوعي يساعد على تقديم حلول فقهية، هي:
– منسجمة مع الواقع الحقوقي.
– متوافقة مع طبيعة العلاقات الحقوقة.
ب) التحليلات الاجتماعية
تشمل دراسة واقع المجتمع من حيث ثقافته، اقتصاده، سياساته، وعاداته، إضافة إلى تحدياته المختلفة. فهم هذه التحليلات يُمكّن الفقيه من إدراك السياق الاجتماعي للقضايا الفقهية، مما يتيح له استنباط حلولٍ شرعية، هي:
– تعبر عن الشريعة.
– تستجيب لحاجات الواقع ومتغيراته.
إذا تحدثنا عن حاجة الاجتهاد إلى فلسفة الشريعة، وعن ضرورته في ربطه بالواقعيات الاجتماعية وأبعادها الحقوقية، فلسنا بصدد إنكار أو تضعيف الفكرة الرائجة القائلة بأن الاجتهاد هو فنٌ دقيق، ومهارةٌ رفيعة، تقوم على تطبيق القواعد الأصولية، واستنباط الأحكام الشرعية، واستخدام عناصر الاجتهاد الأخرى.
بل نقول: إن تلك الأسس هي الأوتاد التي يثبت بها البناء، والجذور التي تغذّي الشجرة، فتظل شامخةً، لا تميل مع الرياح ولا تزول مع الزمان.
لكننا نطمح إلى أن نُضيف لهذا الصرح بنية تحتية، يفتح بها أبواب الحكمة الموصدة، ويجدد نوافذ الفقه بما يلائم روح العصر ومقتضيات الأوان. فإذا اجتمع نور فلسفة الشريعة ونظرها العميق مع بصيرة دقيقة تستوعب الواقعيات الاجتماعية وأبعادها القانونية، كان كيان الاجتهاد أشدّ رسوخًا وأعمق ذكاءً، يتكوّن على أسس أوثق وأركان أمتن، ويكتسب وجهةً أدقّ وأهدى سبيلًا.
عندئذٍ، يصبح عنصر الفهم أكثر صلابة، ينطلق في مساره الحقيقي بثقةٍ وثبات، فيكون الاجتهاد مصباحًا يضيء الدروب، ومنارةً تهدي السائرين، يحفظ الأصول ويعانق التجديد، ليظلّ فنًّا حيًّا، يجمع بين أصالة النصوص وحكمة التطبيق، ويمتزج بروح الزمان ليتصدر قافلة الفكر والعمل.
فدمج فلسفة الشريعة مع الإدراك العميق للوقائع يجعل من الفقه أداةً أكثر فاعلية لدعم التقنين. فالتقنين الذي ينبثق من فهم فلسفي عميق ووعيٍ واقعيٍ دقيق يُقدّم إطارًا قانونيًا أكثر انسجامًا مع غايات الشريعة، وأكثر قدرةً على تلبية احتياجات المجتمع.