الاجتهاد: المراد بالنوع الاجتماعي الذي يطلق في مقابل الجنس الجسدي البيولوجي كل شيء يتعلق بالذكورة والانوثة في الإنسان غير البعد الجسدي العيني بدء من انطباع الإنسان عن جنسه ومرورا بالميول والسلوكيات الغريزية وانتهاء بسائر السلوكيات والأدوار التي يقوم بها على أنها تلائم هذا الجنس أو ذاك كلها مما يتلقاه الإنسان من المجتمع،
ولذلك فهي لا تزيد على أمور مكتسبة من خلال التربية الاجتماعية، ولا تنطلق من ذاته وداخله وجنسه الجسدي (البيولوجي).
ويُفرّع على هذا الأصل أمور ثلاثة:
1- إنّ شيئا من هذه الانطباعات والميول والسلوكيات والأدوار ليست فطرية بتاتا فلا موجب للالتزام والإلزام بها على أساس أنها الحالة الطبيعية والفطرية، كما لا يصح اعتبار التخلف عنها حالة مرضية وغير مستقيمة فلو أنّ الذكر جسديا رأى نفسه أنثى اجتماعيا وأراد أن يتزوج بذكر آخر على أنه أنثى ويتزيا ويتزين ويظهر كالإناث فإنه لا مانع من ذلك من المنظور الفطري بحسب افتراضهم.
2- كما أنهّ ينبغي أن يجوز ذلك كله قانونا للذكر جسديا وللأنثى في الدول كلها استنادا إلى مبدأ الحرية الشخصية في قانون حقوق الإنسان، وأي قانون يحدد ذلك ولو اعتمد على الدين والشريعة الإسلامية والأعراف الاجتماعية السائدة فإنّه لا بدّ من العمل على إلغائه لأنهّ ينافي المواثيق والاتفاقيات الدولية في حقوق الإنسان والمرأة. وبناء على ذلك فإنّ من الضروري المساواة التامة بين الذكر والأنثى في القانون والتشريع في الحقوق والواجبات، لأنّ التفاوت بينهما جسدي محض ولا اقتضاءات فطرية له في شأن السلوك والأدوار والحقوق والواجبات.
3- إنّه لا بدّ من تمكين الأنثى كما الذكر من استيفاء حقوقه القانونية وإصلاح الأعراف الاجتماعية التي تحول دون وصول المرأة الى تلك الاستحقاقات من خلال العمل الثقافي والاجتماعي.
وبالنظر إلى هذا الأمر الثالث نرى أنه قد يفرع على نظرية النوع الاجتماعي الحاجة إلى إنصاف المرأة في دورها الاجتماعي وإحقاق ما يستحقها قانونا ورفع الحيف الاجتماعي عنها.
فهذه أمور ثلاثة تُفرع على نظرية النوع الاجتماعي. والأمران الأولان يخالفان بديهة الدين والشريعة الإسلامية، من حيث القبول بانطباع الشخص عن جنسه على خلاف جسده والإذعان بالميول والاقترانات الشاذة، والتسوية بين الجنسين في الأ حكام الشخصية مثل الستر والحجاب والعدة وغير ذلك.
وأمّا الأمر الثالث فهو في حدّ نفسه وعلى إجماله لا يخالف الدين والتشريع الاسلامي، ولا يتفرع بالضرورة على نظرية النوع الاجتماعي، لأنه يدعو الى تمكين المرأة مما ثبت لها في التشريع، وإزاحة العوائق الاجتماعية دون ذلك، ولا يدعو الى تشريع مختلف كما هو الحال في الأمرين الأولين.
ولكن من الملاحظ وقوع الالتباس في شأن هذا المصطلح وسوء استخدامه في مقامات حساسة للغاية قد تكون له تبعات ثقافية وقانونية سلبية جدا، حيث أطلق النوع الاجتماعي على الرجل والمرأة بمعناهما العرفي، وتمّ تغليب دلالة المصطلح على إنصاف المرأة فحسب أو بتصوّر أنّ مؤدى هذا المصطلح لا يزيد على إفادة ذلك، من غير التفات إلى عمق متبنيات مصطلح النوع الاجتماعي من نفي أي اقتضاء فطري للذكورة والأ نوثة الجسدية في شأن الهوية الجنسية والميول المقبولة والسلوكيات المشروعة والادوار الملائمة، ولا ما يقتضيه هذا المصطلح من تجويز الانطباعات والميول والسلوكيات الشاذة.
ومن جملة الموارد التي أطلق فيه هذا المصطلح على وجه غير دقيق:
1- نصوص قانونية وقرارات تشريعية وتنفيذية في بعض الدول الإسلامية كانت غايتها إنصاف المرأة بإيفاء حقوقها الشرعية الدستورية والقانونية فحسب، ولكنها استخدمت في التعبير عن ذلك مصطلح النوع الاجتماعي.
2- توقيع بعض الدول الإسلامية على اتفاقيات دولية وثنائية بمحورية هذا المصطلح، كانت غايتها من منظور تلك الدول الإسلامية إنصاف المرأة فحسب، بينما كان منظور الطرف الآخر هو المصطلح بجميع متبنياته ولوازمه.
3- أذونات صدرت من الدولة لمنظمات وجمعيات ومؤسسات تقوم بنشاطات على اساس مصطلح النوع الاجتماعي كان الغرض من الإذن أنصاف المرأة فحسب بينما استغلت تلك المنظمات الأذونات الصادرة للعمل وفق ما يعنيه مصطلح النوعي الاجتماعي وتثقيف الناس على أن الذكر والأنثى لا يختلفان إلا جسديا وأنّ كون الشخص امرأة أو رجلا ناشئ عن التربية الاجتماع فحسب، علما أن العديد من تلك المؤ سسات مرتبطة ماليا وثقافيا بمنظمات أجنبية تعمل على مبادئ هذا المصطلح بعمقه وليس على إنصاف المرأة بالمنظور المفهوم في البلاد الاسلامية.
إذن من المفروض تصحيح النصوص المتقدمة وأمثالها وإيضاح المراد بها على نحو مؤكّد كي لا يظن الإقرار فيها والالتزام من خلالها بالمعنى المصطلح وشرعية أبعاده المخالفة لثوابت الدين التي كان عدم مخالفتها شرطا دستوريا في صحة أي تشريع أو قرار أو تعليم، كما ينبغي تثقيف الناس على ما يعنيه هذا المفهوم من تجاوز قواعد الفطرة وثوابت الدين وأصول الثقافة الإسلامية والشرقية والعربية والاعراف المبنية عليها فلاحظ.
هذا وكون النوع الاجتماعي بالمعنى الذي ذكرناه أمر ظاهر وبديهي لمن اطلع على المصطلح، وفهمه فهما فنيا، وفق سياقات استعماله في هذا العصر وبيان معناه في مصادر الموضوع كافة، ولم يبن في معناه على انسباق ذهني ناشئ عن استعمالات غير دقيقة أو ارتكازات سائدة في بيئة الشخص.
ولا يتوقف ذلك على أن يكون متخصصا في علم النفس والاجتماع المعاصر، فمن البديهي أنهّ لا يراد به الرجل والمرأة وفق الخصائص الجسدية، ولذلك يعد النوع الاجتماعي لمن كان ذكرا ولكن يرى نفسه أنثى هو الأنوثة لا الذكورة، والنوع الاجتماعي لمن كان أنثى ولكن يرى نفسه ذكرا هو الذكورة لا الأنوثة، والنوع الاجتماعي لمن يرى نفسه ذكرا وأنثى في آن واحد هو ازدواج الهوية لا الذكورة محضا وإن كان ذكرا جسدا ولا الأنوثة محضا وإ ن كان جسدا أنثى.
ويكفي منبها على ذلك تأمّل معنى جملة (النوع الاجتماعي) وفهمه، فالتعبير بالنوع بدلا عن الجنس الذي يعبّر عن الذكر والأنثى إنّما كان ناظرا إلى أمر مختلف، كما أنّ توصيف النوع بالاجتماعي يعني أنّ هذا التنوع ليس أمرا فطريا بل هو أمر اجتماعي ناشئ عن التربية الاجتماعية والأعراف الموضوعة السائدة.
وقد يتساءل عن العلاقة بين النوع الاجتماعي بالمعنى المعروف الذي بيّناه وبين الاقتران الشاذ بالمماثل. والجواب أنّ هناك علاقة بينهما فعلا، من وجهين:
1- أنّ الاقتران الشاذ بالمماثل يقع على وجهين: الأوّل: أن يكون مع إذعان كل من المقترنين بجنسه، فهما مث لا ذكران ويريان أنفسهما ذكرين فعلا.
والثاني: أن يكون الاقتران الشاذ بالمماثل جسديا على أساس اعتقاد أحد الطرفين عن نفسه بخلاف جنسه، فيقترن ذكر يرى نفسه ذكرا بذكر آخر يرى نفسه أنثى. ومن الواضح أنّ الاقتران الشاذ في الوجه الثاني مبني على فكرة النوع الاجتماعي الذي يتضمن أنّ الهوية الجنسية للإنسان إنما تكون وفق انطباع الإنسان عن نفسه، وليس على أساس خصائصه الجسدية، فاقترن شخصان ذكران جسديا بعضهما ببعض على أساس أنّ أحدهما ذكر والآخر أنثى بحسب النوع الاجتماعي.
2- إنّ فكرة النوع الاجتماعي من حيث مبناها تعتمد على أنّ كل ما يتعلق بالجنس عدا البعد الجسدي هو أمر غير فطري، بل مكتسب من البيئة والتربية الاجتماعية، ويندرج في ذلك طبعا الميل الغريزي للإنسان إلى الجنس المخالف، فهذا الميل هو ميل مكتسب حسب التربية الاجتماعية، وليس الاقتضاء الفطري كما يراه جمهور العقلاء وذكره القرآن الكريم بقوله إنكارا على قوم لوط اصحاب الفعل الشاذ: ﴿أَتأَتوُنَ الذّكْرَانَ مِنَ الْعَالمَيِنَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ (سورة الشعراء: آية 165-166).
وعليه فلو أنّ الإنسان تربّى على الميل الشاذ إلى المماثل كان ذلك في حقه طبيعيا وسائغا كما هو الحال إذا كان على الميل المتعارف إلى الجنس المغاير، وكيف لا يكون الميل الشاذ إلى الجنس المماثل مقبولا وفق مبنى اتجاه النوع الاجتماعي الذي يرى مشروعية انطباع الانسان عن جنسه على خلاف جسده!
على أنّ هناك من يتوسع في إطلاق النوع الاجتماعي وما يرادفه في اللغات الاجنبية ويطلقه على مجموعة العناصر غير الجسدية المتعلقة بالذكورة والانوثة وهي اربعة:
1- انطباع الإنسان عن جنسه سواء كان على وفق جسده أم لا.
2- ميله إلى الجنس المخالف أو المماثل جسديا أو إليهما معا.
3- السلوك الغريزي الفعلي مع المخالف والمماثل أو معهما.
4- المظاهر والسلوكيات والأدوار التي يميل الشخص إليها مثل الزي والزينة وغير ذلك.
وعلى هذا المعنى فإنّ النوع الاجتماعي يتضمن التعبير عن التنوع في الميل والسلوك الغريزي.
وقد يطرح أنه متى كان المقصود بالنوع الاجتماعي الإشارة الى التنوع الجسدي إلى الأنثى (المرأة) والذكر (الرجل) دون المعنى المعروف فلا ضير في التعبير به، إذ لا ينبغي المشاحة في التعبير.
ولكن يلاحظ بشأن ذلك أنّ دقة التعبير مهمة في النصوص القانونية والاتفاقات الرسمية إذ يجري الاحتجاج بالمفهوم الفني، ولا يعتنى بدعوى التوسع والمسامحة في التعبير، وذلك أمر ظاهر ومعروف.
كما أنّ ذلك مهم من البعد الثقافي لأنهّ يكون مدخلا إلى تمرير أفكار خاطئة وخطيرة من حيث لا يحتسب المخاطبون، وهو من الأساليب الناعمة للتأثير على الآخرين وتزريقهم بالأفكار المقصودة من حيث لايشعرون، وقد نبه بعض علماء المنطق كالعلامة المظفر في مباحث التصورات إلى دور غموض المصطلحات والتعابير في التأثير في أفكار العامة وإثارة مشاعرهم في اتجاه المقصود من غير أن ينتبهوا إلى ذلك.
إذن دقة التعبير أمر مهم، ولكن لا ينبغي استغلال ذلك لغايات أخرى.
المصدر: كتاب تكامل الذكر والأنثى في الحياة – دراسة موجزة في تكامل الجنسين ونقد الاتجاهات الشاذة الحديثة. بقلم: الأستاذ السيد محمد باقر السيستاني.
تحميل الكتاب