شم الفقاهة

شم الفقاهة .. مصدر من مصادر الحكم الشرعي /آية الله الشيخ علي كاشف الغطاء “ره”

الاجتهاد: شم الفقاهة:من نظر و تتبع أحوال الفقهاء من قديم الزمان الى هذا الآن يجد انه لو لا أن الشم من مجموع الأدلة أو من مفرداتها و من أدلة كل باب منها لما كتبوا كتب الفروع و اكثروا من تشقيق المسألة الواحدة الى ما يقرب المئات و أفتوا بها و ليس عندهم نص في ذلك من عموم أو خصوص.

يعد آية الله الشيخ علي بن محمد رضا كاشف الغطاء في كتابه “مصادر الحكم الشرعي و القانون المدني” تسعة وعشرون مصدراً من مصادر الحكم الشرعي مبتدءاً بالقرآن الكريم ومنتهياً بقاعدة قاعدة لا ضرر ولا ضرار. وكتقديم موجز للكتاب يقول المرحوم كاشف الغطاء: قد وضعت هذا الكتاب للبحث عن الأدلة والاصول التي تستمد منها الفقهاء القوانين الشرعية وتستنبط منها المسائل الفرعية وترجع إليها في معرفة الأحكام الفقهية

سواء أفادت القطع بالحكم الشرعي أو الظن المعتبر به أو كانت مما يرجع إليها في مقام الشك في الحكم الشرعي كالأصول العملية بل يمكن لأرباب القوانين المدنية ان يستفيدوا منها وينهلوا من معين معدنها متوخيا في ذلك سبيل الاختصار المثمر الذي لعله يغنيهم عن التطويل وباحثا عن كل دليل أو أصل اتخذه الفقهاء مستندا للحكم الشرعي الفرعي أو اتخذه أرباب القوانين المدنية مصدر وسميته ب «مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني».

أما المصدر الثامن و العشرون من مصادر الحكم الشرعي هو ‌شم الفقاهة

ذكره المرحوم صاحب أنوار الفقاهة الشيخ حسن كاشف الغطاء في كتابه شرح القواعد لأبيه جدنا كاشف الغطاء في البحث التاسع و العشرون فقال:

«قد علم بالبديهة ان المراد في طاعة العبيد لمواليهم و سائر المأمورين لأمراءهم على العلم بمرادهم من أين جاء ذلك العلم بعقل أو نقل أو من تتبع أقوالهم أو أفعالهم اذا كان في أفعالهم دلالة على مرادهم أو ما يقوم مقامه أي مقام العلم من فطنة عهدوا اليهم في إتباعها و العمل بها كالظنون الناشئة من الألفاظ و نحوها

فلو تعلق حكم شي‌ء و علمت أولوية آخر من داخل أو خارج بذلك الحكم و الغاء الفارق بينهما كان مثبتا للحكم في الآخر أو ظنت أولويته من داخل كذلك فيكون من المفاهيم اللفظية لانفهامه من داخل الخطاب كان أيضا مثبتا للحكم كمفهوم الأولوية أو علمت مساواته أو ظنت من داخل الخطاب كذلك كمفهوم العلة كان مثبتا للحكم كمفهوم العلة كان مثبتا لحكمه

فالاولوية بقسميها و تنقيح المناط القطعي ومنصوص العلة لا ينبغي التأمل في اعتبارها و كذا ما ينقدح في ذهن المجتهد من تتبع الادلة بالانبعاث عن الذوق السليم و الادراك المستقيم بحيث يكون مفهوما له من مجموع الأدلة فان ذلك من جملة المنصوص

فان للعقل على نحو الحس ذوقا ولمسا وسمعا و شما و نطقا من حيث لا يصل الى الحواس فاعتبار المناطيق و المفاهيم و التعريضات و التلويحات و الرموز و الاشارات و التنبيهات و نحوها مع عدم ضعف الظن من مقولة واحدة اذ ليس مدار الحجية الا على التفاهم عرفا». انتهى متن كلام الشيخ الكبير،

قال ابنه الشارح و تحقيق المسألة ان المطلوب‌ من المكلفين هو العلم بما كلفوا به ابتداء لأتباع الأحكام الشرعية للمصالح الواقعية

فلو لم يكن الطريق الأولي في الايصال للمصلحة هو العلم لفات الغرض المطلوب من التكليف لأن الطريق الظني مظنة الخلل و الخطأ و الزلل و العوج و الميل فيلزم منه خلاف المقصود

و لكن لما كان للشارع أيضا قصد آخر في التكليف و هو إظهار العبودية و الطاعة و الانقياد و كان العلم بالتكاليف أجمعها مما لا يمكن من الطبع البشري المغموس ببحر الظلمة و الغباوة و النسيان و الخطأ أذن لنا بالاخذ ببعض ظنون خاصة في الموضوعات و الأحكام حالة زمن التمكن في الجملة من العلم و حالة عدمه من حيث علمه بأن العمل بالظن الخاص من حيث الجهل رافع لسّميّة الفعل المجهول و إن الانقياد له و الطاعة بهذا النحو الخاص المظنون دواء لداء الفعل من جهة المفسدة الكامنة فيه

و بقيت هذه الظنون المخصوصة مساوقه للعلم في وجوب الاخذ بها في زمن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و الأئمة عليهم السلام و في زمن الغيبة الكبرى إلا أنها من زمن الغيبة الى اليوم توسعت فيها الدائرة جدا و تكثرت فيها الى حيث لا تبلغ حدا

فقد كان سابقا حصول الظن من راو واحد و الآن من رواة متعددين و كان سابقا من لفظ واحد مثلا و الآن من ألفاظ كثيرة و كان سابقا من تحريف أو زيادة أو نقصان أو سهو أو غفلة أو كذب أو اشتباه و الآن من تحريفات أو نقصانات أو زيادات أو اسهاءات أو غفلات أو كذبات

و كما كان الظن الاول حجة مع ذلك في الزمن الاول كان الظن الثاني ايضا حجة في الزمن الثاني و لا تأثير لزيادته لبقاء التكاليف قطعا و ليس لنا طريق إلا الاخذ به و ان زاد و لا يجوز لنا تركه ضرورة. لعدم إنسداد التكليف و انفتاح بابه سابقا و لاحقا و زيادته مما يقطع بعدم تأثيرها في رفع التعبد به

و لا يجوز لنا أن نأخذ بكل ظن و ان لم يكن مشروعا أصله للزوم‌ القبح و الهرج و المرج و عدم الدليل عليه بل الدليل على عدمه و ضرورة بقاء التكليف لا يتيقن منها إلا العمل بالمعلوم و المظنون الذي شرع لنا العمل به في الجملة سابقا و لاحقا مع العمل بهذين فلا ضرورة تقتضي ببقاء التكليف مطلقا قطعا بل المتيقن من وجوب العمل بتكاليف الشارع انما هو فيما علم أو ما كان بمنزلة العلم و اما ما لم يكن كذلك فلا تكليف به و لا وجوب عمل به بل يحرم العمل من غير دليل.

و الحاصل انه يكفي في رفع القطع ببقاء التكليف و الضرورة الدالة على ذلك العمل بما هو معلوم أو ما ثبت انه كالمعلوم في الزمن السابق و ان زاد و تكثر في الزمن اللاحق

فعلى ما ذكرنا يكون كل ظن نشأ من الادلة الشرعية في سند أو دلالة من منطوق أو مفهوم قريب أو بعيد أو حكم متصيد من مجموع خطابات الشارع أو من مجموع أفعاله حجة أو مجموع سيرته و طريقته و تقريره أو متصيد من كيفية خطاباته و الحانه و رموزه و ظواهره و بطونه فهو حجة على من فهم لمشروعية العمل بالظن الناشي‌ء من الادلة الشرعية في الزمن السابق على جميع هذه الانحاء وان زادت وكثرت ومثل هذه الظنون الاعتماد على الظنون الرجالية في علم الرجال والظنون الموضوعية في علم التفسير والحساب والهيئة ومثلها الظنون الناشئة عن التراجيح في الاخبار أو التراجيح في الالفاظ في مسائل الدوران أو الظنون في فردية الموضوع للموضوعات العرفية فانها حجة أيضا

و لكن يختلف الفاهمون في مراتب الوصول و العالمون في درجات الحصول فمنهم من يكون ذا فكر صائب و رأي ثاقب سريع الانتقال من الدليل الى مدلوله و من الملزوم الى لازمه و من الاصل الى فرعه و من الظاهر الى باطنه و من مجموع الأدلة الى أحكام غير منصوصة و فروع غير مذكورة قد ورد ما مضمونه ان الفقيه لا يكون فقيها حتى يعرف لحن الخطاب‌ و رمزه

و هذا معنى جعل شم الفقيه للحكم من الأدلة و صيرورة الشم دليلا للمجتهد و انها لكلمة حق و منطق صدق يعرفها أهلها و ينكرها من لم يكن كفوا لها و منهم من فقد حاسة الشم فجمد على ما رآه أو سمعه لا ينتقل من شي‌ء الى آخر و لا من مفهوم الى مفهوم و لا من مراد الى مراد لعدم تبينه أنفه له

لأن من لم يشم الشي‌ء لا يهتدي اليه اذا كان لا يبصره و لا يسمعه فجمد على المناطيق و النصوص و زاد على المعاصرين في الاقتصار على الخصوص و على المشافهين في الجمود و هو يرى ان عمل القدماء على الشم و تمييز الصحيح و الفاسد مبني عليه و ان قلت اليه الحاجة هناك و كثرة ههنا.

و بالجملة فالشم من الادلة الشرعية و الظن الحاصل به دليل و أي دليل يهدي الى السبيل و غير الحاصل من الأدلة بل الحاصل من شهرة أو رأي أو استحسان أو غير ذلك من قرعه أو تفاؤل أو إستخارة فهو ضلال و لا يجوز الأخذ به بحال

و من نظر و تتبع أحوال الفقهاء من قديم الزمان الى هذا الآن يجد انه لو لا أن الشم من مجموع الأدلة أو من مفرداتها و من أدلة كل باب منها لما كتبوا كتب الفروع و اكثروا من تشقيق المسألة الواحدة الى ما يقرب المئات و أفتوا بها و ليس عندهم نص في ذلك من عموم أو خصوص كالعلامة في ثلثي القواعد و التحرير و كذا الدروس بل و المبسوط و حاشاهم من الأخذ بغير دليل أو عمل بالقياس و الاستحسان بل عملهم على الظنون الناشئة عن الادلة الخاصة و هو معنى الشم

فظهر انه لا يجوز الاخذ بكل ظن و لا الجمود على الظنون المخصوصة بل هو أمر بين أمرين، انتهى مصححا على النسخة التي كتبها المرحوم عمنا عبد المجيد بن الهادي بن العباس بن علي بن جعفر كاشف الغطاء في سنة 1321 ه.

المصدر: المجلد الثاني من كتاب مصادر الحكم الشرعي و القانون المدني – صفحة 159

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky