الاجتهاد: بسم الله الشافي والمعافي والصلاة والسلام على محمد واله الاتقياء سبل النجاة للعباد والبلاد .
من المسلمات الدينية هو الايمان بجناحي الغيب والشهادة (الظاهر والباطن), فلا يتم ايمان المؤمن الا بالإيمان بكلا العالمين, ويستتبع ذلك الايمان خلق توازن في التعاطي العملي معهما, فلا منافاة بين الاعتقاد بكرامات اهل البيت عليهم السلام وبين انتقال الامراض في الاضرحة والتجمعات الدينية .
لذا ركزت الشريعة على الجانبين في كل مستويات الحياة فخلقت توازن بين طلب الدنيا وطلب الاخرة والعمل لهما , وخلقت توازن بين العبادة لله والعمل لأجل العيش وهكذا في كل صنوف الحياة .
ومن امثلة التوازن هو الايمان بإمراض الجسد وامراض الروح وان لكل منهما علاجه الخاص ولكل منهما اسبابه المرضية .
فان الله تعالى هو يطعم ويسقي وهو يميت ويحيي وهو يمرض ويشفي ,وهذا ايمان بالغيب بلا ريب , وقاعدة الكن فيكون حاكمة فيه, ولكنه جعل امر اخر وهو نظام الاسباب والمسببات , فجعل الماء سببا للإرواء والدواء سببا للأشفاء , وجعل الميكروبات والوباء سبب للوفاة , والعلاج والوقاية سبب للنجاة .
نعم يد الغيب حاكمة على ان الميكروبات فقد يصاب بها الانسان ولا يميت , والنار قد تصيب ولا تحرق , والماء قد يشرب ولا يروي وهكذا .
ولكن ضمن السياق الطبيعي بل هو الاصل في الجعل الالهي , ان الماء سبب للإرواء والعلاج سبب للشفاء والمرض سبب للموت وهكذا .
وانسياقا مع هذا التوازن كان لأهل البيت عليهم السلام توصياتهم في باب الطب المادي ونظام العلل والامراض المادية وسبل الشفاء منها بل كانوا يصرون على انهم مشمولون بهذا النظام وانهم اذا مرضوا يذهبوا للطبيب ويعالجوا ضمن السياقات الطبية ويتجنبوا الوباء والامراض فاذا عجز الطب المادي التجوا الى عالم الغيب, ولا يعني انهم اذا ذهبوا للطبيب المادي انهم نفوا وتجاوزا عالم الغيب بل هو رجوع للغيب ايضا لان الذي جعل هذا النظام في العلل والاسقام هو الله تعالى وهو جعل الشفاء في الادوية والامصال .
فعَنْ ابي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ان نَبِيّاً مِنْ الانبياء مَرِضَ، فَقَالَ: لَا أَتَدَاوَى حَتَّى يَكُونَ الَّذِي امرضنى هُوَ الَّذِي يَشْفِينِي، فاوحى اللَّهِ اليه: لَا اشفيك حَتَّى تَتَدَاوَى فَانٍ الشِّفَاءُ مِنِّي.
بل ان النبی الاعظم امر بالتداوي المادي وعمل به كما في الروايتين :فقد روى البرقي بإسناده عن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَ نَتَدَاوَى؟ فَقَالَ:«نَعَمْ تَدَاوَوْا، فَانَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا وَ قَدْ أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً
وکذا عن يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ لَدَغَتْ رَسُولَ اللَّهِ ص عَقْرَبٌ فَنَفَضَهَا وَ قَالَ لَعَنَكِ اللَّهُ فَمَا يَسْلَمُ مِنْكِ مُؤْمِنٌ وَ لَا كَافِرٌ ثُمَّ دَعَا بِمِلْحٍ فَوَضَعَهُ عَلَى مَوْضِعِ اللَّدْغَةِ ثُمَّ عَصَرَهُ بِإِبْهَامِهِ
فاذا مرضت فهو يشفين , لا يقول احد انها للغيب فقط بل هي للغيب والشهادة , بل الاصل انها للشهادة بجعل من الغيب كما مر في رواية النبي الذي اراد الشفاء المباشر من الله تعالى .
وهذا الامر لا ينافي نظام الكرامات والمعجزات فان النبي ابراهيم ضمن السياق الطبيعي كان لابد ان يموت بالإحراق ولكن يد الغيب اوقفت الاسباب الطبيعية, وكذلك في مجمل الحياة ان النار سبب للاحراق وان المرض سبب للموت وان الفايروس سبب للعدوى بغض النظر عن تواجده في أي انسان او في أي مكان , الا ان تتدخل يد الغيب فتمنع .
لذلك امرنا النبي ان نبتعد عن من فيه العدوى كالجذام :
ففی من لا يحضره الفقيه ؛ ج3 ؛ ص557عن النبی الاعظم عن الصادق ع ( وَ كَرِهَ أَنْ يُكَلِّمَ الرَّجُلُ مَجْذُوماً إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُ قَدْرُ ذِرَاعٍ وَ قَالَ فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَد)
فكون اضرحة المعصومين طاهرة مطهرة لا يتنافى مع الواقع المادي في الحياة من امكان نقل الامراض والجراثيم ونقل العدوى لان هذا السياق الطبيعي لنقل الامراض لولا يد الغيب .
وكون مراقد اهل البيت موردا للشفاء من الامراض المادية والمعنوية كما هي عقيدتنا الحقة لا ينافي مع امكان تواجد العدوى على سطح جدرانها وامكان انتقالها الى الاخرين طبقا لموازين الطبيعة .
فلو اصابتك النجاسة المادية كالبول مثلا وانت قرب الضريح المقدس فهل لك ان تصلي بها او تنفي اثارها التكوينية كما لو كان المتبول يحمل لمراضا معديا في بوله ؟ وهل ينافي ذلك الطهارة المعنوية للضريح .
وهل تجمع الاوساخ والقاذورات المادية والقيام بتنظيفها من العمال ينافي طهارة الضريح ؟فحكم الامثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد في كل الامور المادية كالنجاسة ونقل العدوى .
فهل يا ترى يمكن ان يقال ان اهل البيت يقولوا تشافوا بنا ولو بلا رجوع للطبيب, فمثلا اذا كان فيك الم في الاسنان او الم في القالون او غيره يقولون لك اذهب الى الاضرحة المطهرة للاستشفاء وابقى فقط عليها بلا الذهاب الى الطبيب, هذا ينافي تعاليم اهل البيت انفسهم في الامر في الاستشفاء بالأسباب الظاهرية مع الاعتقاد بان الشافي هو الله تعالى , نعم مع عجز الاسباب المادية هناك اسباب غيبية بل المتابع للروايات يجد ان الجمع بينهما هو المتعين .
لذا في كثير من العلاج المادي ذكر معه الدعاء وقراءة القران وذكر النبي وذكر اهل البيت والتوسل بهم وزيارة مراقدهم وباقي الغيبيات .
فلا يصح الخلط بين مقام العقيدة ومقام الفقه في التعاطي مع الشريعة , فان لكل منهما اثارة الواجبة .
وللكلام تفصيل وتتمة لا يسعها المقام .
والحمد لله رب العالمين…
الشيخ محمد رضا الساعدي
النجف الأشرف