الاجتهاد: إذا رجعنا إلى أدلَّة الجامعات، وهي الإصدارات التي تُعطي صورة عن الجامعة إدارياً وأكاديمياً، سوف نقرأ في أولى صفحاتها بيان الهدف من الدراسة في الجامعة، بينما لا نجد أيَّ شيء من هذا في الحوزات العلمية لا تحريريّاً ولا شفهياً، ذلك أنَّ الطالب يدخل الحوزة ويواصل دراسته لعدَّة سنوات ثم يخرج منها، وهو لم يعرَّف من قبل أساتذته أو غيرهم من المسؤولين والمعنيين في الحوزة بالهدف من دراسته، وكل ما يفهمه هو أنَّه سيكون إمام مسجد، والإجابة عن الأسئلة الشّرعية التي توجَّه إليه.
إنَّ نمط التعليم في الحوزات العلمية هو أقدم أنماط التّعليم الإسلامي، وكان يعرف بـ حلقات الدَّرس المسجديّة؛ لأنَّ بدايته كانت، من حيث المكان، في مسجد النبي(ص) في المدينة المنورة، ثم منه امتدّ إلى المساجد الإسلامية الأخرى في مختلف البلدان الإسلامية. وعُرفت بعض المدن الإسلامية، بوصفها مراكز كبيرة لهذا اللّون من الدراسة، كالبصرة والكوفة وبغداد والنجف في العراق، وقم ومشهد وإصفهان وطهران في إيران.
وحالياً يوجد مركزان كبيران للشيعة الإمامية في العالم، هما:
الحوزة العلمية في النجف الأشرف في العراق.
الحوزة العلمية في قم المقدسة بإيران. وهي، حالياً، أكبر من سابقتها، من حيث عدد الطلبة وعدد الأساتذة وآليات الدّراسة، وذلك بسبب مواتاة الظّروف المساعدة، وعدم مواتاتها لرصيفتها في النجف.
وتُقسَّم الدراسة في الحوزات العلمية الإمامية إلى ثلاث مراحل:
مرحلة دراسة المقدّمات:
ويراد بالمقدّمات العلوم الآلية التي تعدّ مساعدة وممهِّدة للتّخصص في فقه أهل البيت. ويدرس فيها الطالب: علوم العربية: الصرف والنحو والبلاغة، والعلوم العقلية: المنطق والكلام. وتتم الدراسة من خلال الكتب المقررة وبطريقة شرح العبارة.
مرحلة دراسة السّطوح:
ويراد بذلك الدراسة السّطحية التي لا يعتمد فيها الإستدلال إلاّ بمقدار ما يمهِّد لحضور الطالب البحث الخارج، وهذه التّسمية جاءت في مقابل البحث الخارج الذي يعتمد فيه الاستدلال التّفصيلي. ويدرس فيها الطالب: الفقه وأصول الفقه، من خلال الكتب المقرَّرة، وبطريقة شرح العبارة أيضاً.
مرحلة البحث الخارج:
سُمّي هذا البحث بالخارج لأنَّ الدراسة هنا تكون خارج الكتب؛ أي ليس من خلال كتاب مقرَّر كما في المرحلتين السابقتين.
وسُمّي بالبحث لأنَّ الأستاذ، هنا، لعدم إلزامه بكتاب مقرر، عليه أن يُلْزَم بطريقة البحث العلمي في إعداد مادة الدرس من مختلف مصادرها.
وتعتمد الدراسة في هذه المرحلة على طريقة المحاضرة. وقد مرّ على هذا اللّون من الدراسة أكثر من ألف عام، تغيّرت فيها الكتب الدراسية المقرَّرة، ولم تتغيّر فيها الطريقة، كما لم تتغيّر فيها العلوم المقرَّرة لا حذفاً ولا بالإضافة، أي أنَّها حافظت على أصالة البرنامج التّعليمي الموروث، ولم تعطِ الاهتمام المطلوب لمتطلَّبات المعاصَرة.
أقول هذا لأنّ الغاية من هذه الدّراسة هي إعداد المعلِّم الإسلامي والمبلِّغ الإسلامي. ومن غير شكّ أنّ التَّعليم، وكذلك التَّبليغ، تختلف وسائلهما وأساليبهما باختلاف الأعصار والأمصار حسب مقتضياتهما في اتّباع أفضل طريقة في تحقيق الغاية من التَّعليم والغاية من التَّبليغ.
ومن هنا ينبغي إعادة النَّظر في ما ينبغي إعادته فيه من شؤون الحوزات كالموادّ العلمية والكتب الدِّراسية وطرق التَّدريس. كما ينبغي إيجاد إدارة تتولَّى شؤون التَّنظيم وشؤون التَّعليم. وأن يكون من التَّنظيم:
اشتراط الشّهادة الثّانوية أو ما يعادلها في القبول.
تحديد مدَّة الدراسة.
تقييم مستوى الطالب علميَّاً عند تخرّجه، وتزويده بالوثيقة التي تُثبت ذلك.
ولا بدّ، هنا، من التَّركيز على مسألة مهمّة، وهي بيان الهدف من الدراسة، لأنَّه الشَّأن المهم الذي يرتبط بموضوعنا التَّبليغ الإسلامي.
إنَّنا، إذا رجعنا إلى أدلَّة الجامعات، وهي الإصدارات التي تُعطي صورة عن الجامعة إدارياً وأكاديمياً، سوف نقرأ في أولى صفحاتها بيان الهدف من الدراسة في الجامعة، بينما لا نجد أيَّ شيء من هذا في الحوزات لا تحريريّاً ولا شفهياً، ذلك أنَّ الطالب يدخل الحوزة ويواصل دراسته لعدَّة سنوات ثم يخرج منها، وهو لم يعرَّف من قبل أساتذته أو غيرهم من المسؤولين والمعنيين في الحوزة بالهدف من دراسته، وكل ما يفهمه هو أنَّه سيكون إمام مسجد، والإجابة عن الأسئلة الشّرعية التي توجَّه إليه.
وقد طَرحتُ السؤال الآتي: ما هو الهدف من دراستك؟ على عدد من خرِّيجي الحوزات العلمية يمثِّلون العيِّنة الكافية للاطمئنان إلى إجاباتهم، ولم أتلقَّ إجابة من أحد تقول: إنَّه التَّبليغ الإسلامي.
ولا إخال أنَّ هناك مؤسَّسة تعليميَّة لا هدف لها، أو لا يعرف أبناؤها ما هو هدفها. إنَّ الذين يكنّون كلّ الحب وبإخلاص، وكلّ التّقدير وبوفاء، لهذه المؤسَّسة العلمية العظيمة بعراقة أصالتها ووفرة عطائها، ليرجون أن يعمل القادرون من أبنائها على تطويرها إلى ما هو أفضل، وعلى التَّأكيد، وبكلّ تركيز، على بيان الهدف من الدراسة، وعلى إعداد الطالب إعداداً وافياً يهيّئه للقيام بهذه المسؤوليَّة الشَّريفة والعظيمة، وأعني بها مهمة التَّبليغ الإسلامي.
وقد قرأت غير محاضرة مطبوعة لسماحة المرجع القائد آية الله العظمى السيد الخامنئي يدعو فيها أساتذة الحوزة في قم والمعنيين فيها إلى ذلك، بما يفرض علينا الاستجابة لدعوته والتّجاوب معه، لأنَّه، وأقول هذا بكل ثقة، الرَّائد الذي لا يكذب أهله، والقائد الذي ارتفع إلى مستوى مسؤوليَّته، حقَّق الله على يديه، وبمساعدة المخلصين من رجالات الحوزة العلمية بقم المقدسة، ما يصبو إليه الجميع من تطوير واقع الحوزة إلى ما هو أرفع وأنفع.
المرجعيات الدِّينية
المرجعية، عندنا، معاشر الإمامية، مصطلح خاص مأخوذ من كلمة مرجع على هيئة المصدر الصّناعي. والمرجع، هو الآخر، مصطلح خاص، يُراد به الفقيه العادل الذي يُرجع إليه في أمور التّقليد لأخذ الأحكام الشَّرعية الفرعية منه والعمل على وفقها. والمرجع، عندنا، يمثِّل النِّيابة العامة عن الإمام المهدي’ في الوظائف الآتية:
الإفتاء.
القضاء.
الحكم.
وهذا المعنى يفرض أن يكون النّائب عن الإمام واحداً كما كان الإمام في كلّ عصر واحداً. من هنا، ولعلاج قضية تعدّد المرجعيات، قلت في أحاديث لي سابقة: على الأمة، وعن طريق علمائنا المجتهدين العدول، اختيار واحد من المؤهلين للمرجعية بتوافره على المواصفات الآتية:
الاجتهاد.
العدالة.
القدرة على القيادة لإدارة شؤون الناس.
وبأيَّة طريقة مشروعة من طرق الاختيار. ومهمة المرجع هي رعاية مصالح الأمة إن كان حاكماً، والدِّفاع عنها إن لم يكن حاكماً. وفي وقتنا الرَّاهن، ولأسباب قائمة ولَّدتها الظّروف قُسِّمت المرجعية إلى قسمين:
مرجعية قيادة، وهي التي تحدَّثنا عنها في أعلاه.
ومرجعية تقليد، وهي أن يبقى المجال مفتوحاً أمام الفقهاء العدول الآخرين ليقلَّدوا من قِبَل عامَّة الناس في شؤونهم الخاصّة،كالعبادات والمعاملات في حدود ما هو مدَّون في الرِّسالة العملية بصيغتها الموروثة، وفي الوقت نفسه عليهم أن يخلّوا أمر الإفتاء في الشؤون العامّة، وتحديد المواقف في القضايا التي تهمّ الجميع، للمرجع القائد.
قلتُ بهذا التَّقسيم وتوزيع الأدوار ليكون ذلك تمهيداً عند زوال الأسباب المشار إليها لتوحيد المرجعية، ذلك أنَّ من أخطر إفرازات التَّعدد تضارب الموقف في القضايا العامَّة بما يهزّ مصالح المسلمين ويضر بها، وقد يُستغل من قِبَل من يريد السّوء بنا.
وليست ببعيدة منّا قضية المشروطة والمستبدة، وأقرب منها تصادم الرَّأي بعد انبثاق الثَّورة الإسلامية المباركة في إيران في مسألة الحكم عند غيبة إمام العصر بين السَّلب والإيجاب، وما أدَّت أمثال هذه إليه مما ينبغي إلاّ يكون. هذه واحدة مما أردتُ الإلماح إليها بدافع الحب والوفاء ومن باب أنَّ الرَّائد لا يكذب أهله.
المصدر: موقع دائرة المعارف العلامة االفضلي كتاب بعنوان “التّبليغ الإسلامي” كذلك نُشرت الدراسة في مجلة – المنهاج – العدد 22 -السنة السادسة- صيف- 1422هـ/2001م.