خاص الاجتهاد: من خلال مقارنة السند الذي أورده النجاشي لكتاب «صلح الحسن» مع الرواية التي نقلها الشيخ الطوسي في كتابه «الأمالي»، يمكن استنتاج أن هناك تطابق معتبر بين جزء كبير من هذين السندين. هذه النقطة تُعزز احتمال أن يكون الشيخ الطوسي قد اقتبس الحديث المذكور من نفس هذا الكتاب.
وفقًا للاجتهاد، قام الدكتور محمود ملكي، عضو الهيئة العلمية ورئيس مركز البحوث التابع لمجمع البحوث الإسلامية، في جلسة عقدت في هذا المجمع التابع للعتبة الرضوية المقدسة، بدراسة كتاب “صلح الحسن” التراثي القديم لعبد الرحمن بن كثير.
وقدّم شروحات حول مفهوم الكتب المفقودة وكيفية استردادها أو إحيائها، وسعى من خلال ذلك إلى تقييم اعتبار وأصالة هذا الكتاب. وهذا التقرير هو ملخص للمباحث التي طُرحت في هذه الجلسة
الكتب المفقودة ومناهج الإحياء
إنَّ من القضايا المحورية في الدراسات التاريخية والحديثية، دراسة المصنَّفات التي فُقدت بمرور الزمن. هذه الكتب قابلة للإحياء على منهجين اثنين:
إعادة البناء واستعادة: في هذا المنهج، يُسعى إلى تدوين النسخة الأصلية للعمل بهيئتها الأولية، وذلك من خلال جمع الأسانيد والنقول المتوفرة.
الاسترداد والإحياء: في هذه الطريقة، يُقتصر على إثبات أنَّ مجموعة من النقول تنتمي إلى كتاب معيَّن، لكن دون تحديد هيكله وترتيبه الأصلي.
وفيما يخص كتاب “صلح الحسن”، لا بد من النظر فيما إذا كانت النقول المتبقية من هذا الأثر تتيح إمكانية احياءه وإعادة بنائه، أو أنها تقتصر على إمكانية استعاده فحسب.
التعريف بعبد الرحمن بن كثير الهاشمي
يُنسب هذا المصنَّف إلى عبد الرحمن بن كثير الهاشمي. وبناءً على ما أورده النجاشي في تقريره، كان الهاشمي من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، ويُعزى إليه تأليف أربعة كتب هي: كتاب فضل إنا أنزلناه”، وكتاب “صلح الحسن”، وكتاب “فدك”، وكتاب “الأظلّة”. وقد ذكر الشيخ الطوسي كتابًا واحدًا فقط من مؤلفاته. وقد عدَّ النجاشي عبد الرحمن بن كثير ضعيفًا، ونقل عنه أنه لم يكن يتحلى بالدقة اللازمة في نقل الحديث.
دراسة سند كتاب صلح الحسن
إنَّ إحدى طرائق احياء الكتب المفقودة هي دراسة الطرق التي قدّمها علماء الرجال، كالنجاشي والشيخ الطوسي، للوصول إلى هذه المصنَّفات. إذا تشابه السند المذكور في كتب الرجال مع سند الحديث المروي في كتب الحديث، فإن احتمال كون متن ذلك الحديث مأخوذًا من المصنَّف المفقود نفسه يرتفع. وبمقارنة السند الذي ذكره النجاشي لكتاب “صلح الحسن” مع الرواية التي نقلها الشيخ الطوسي في كتابه “الأمالي”، يمكن بيان أن جزءًا لا يُستهان به من هذين السندين يتطابق مع بعضهما البعض. هذه المسألة تُعزِّز احتمال أن يكون الشيخ الطوسي قد أخذ الحديث المذكور من هذا الكتاب (صلح الحسن) بالذات.
بناءً على ما أورده الشيخ الطوسي في كتابه “الأمالي” (ص ٥٦١)، فإنه بعد إبرام الصلح بين الإمام الحسن (عليه السلام) ومعاوية، دخل الإمام الكوفة، فطلب منه معاوية أن يخطب في الناس. امتنع الإمام في البدء عن الخطابة، ولكن بإصرار معاوية، ألقى الإمام خطبة نُقل محتواها في مصادر متفرقة بأشكال متباينة.
في هذه الخطبة، قام الإمام بتبيان شرعية ومشروعية أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، مستشهدًا بآيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، كما تناول مكانة أهل البيت (عليهم السلام) في الدين الإسلامي. إنَّ أحد الأقسام المحورية في هذه الخطبة هو الاستدلالات المتعددة للإمام الحسن (عليه السلام) بآيات القرآن والأحاديث النبوية، التي استُخدمت على وجه الخصوص في بيان فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام).
بعض من أهم هذه الاستنادات تشمل: الإشارة إلى آية التطهير (الأحزاب: ٣٣)، حيث أشار إليها الإمام الحسن (عليه السلام) وتلاها في حضور معاوية. والنقطة الجوهرية هنا هي أنه لم يقل أحد في ذلك المجلس بأن هذه الآية خاصة بنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، رغم أن بعض مفسري أهل السنة كعكرمة كانوا يرون ذلك.
كما استُدل بآية المباهلة (آل عمران: ٦١)، وهي الآية التي تُقدّم أهل البيت (عليهم السلام) في أعلى مراتب التقوى، حيث تم الاستشهاد بها في هذه الخطبة.
وكذلك الاستناد إلى آية (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ) (هود: ١٧) لإثبات أسبقية أمير المؤمنين (عليه السلام) في الإيمان.
وأيضاً الاعتماد على أحاديث نبوية، ومنها الحديث الذي يؤكد سبق علي (عليه السلام) في الإيمان، وقد نُقل هذا الحديث ضمن الخطبة.
دراسة التحاريف المحتملة في الخطبة
١. اختلاف الروايات في نهاية الخطبة
إنَّ الجزء الختامي من خطبة الإمام الحسن (عليه السلام) يحتوي على عبارات وردت بصيغ متباينة في عدد من المصادر الشيعية والسنّية. والنقطة الجديرة بالاهتمام هي أن هذه الاختلافات تعود بشكل رئيسي إلى النقول التي شاعت وراجت خلال فترتي حكم بني العباس وبني أمية.
إحدى هذه الموارد المثيرة للجدل هي العبارة التي يشير فيها الإمام الحسن (عليه السلام) إلى القرابة والوشيجة العائلية، ثم يُنقل بعد ذلك حديثٌ عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بخصوص أبي طالب (عليه السلام): “قال رسول الله (صلى الله عليه و آله) لعمّه أبي طالب وهو في الموت: “قل لا إله إلا الله، أشفع لك بها يوم القيامة”.
ثمّ يُتبع ذلك بالاستدلال بآية قرآنية تتناول حكم التوبة في لحظات الاحتضار، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ (النساء: ١٨). هذا المقطع من الخطبة يحوي عدة نقاط إبهام وغموض جرى بحثها وتحليلها في هذا الاجتماع العلمي والندوة البحثية.
٢. تحليل النقول المشكوكة
بناءً على التحليلات المُنجَزَة في هذه الندوة العلمية، طُرِحَ احتمالان فيما يخص هذا المقطع من الخطبة:
الاحتمال الأول: التحريف من قِبَل بني العباس
إنَّ عبد الرحمن بن كثير الهاشمي كان من موالي بني العباس وله صلة وثيقة بالمنصور الدوانيقي. كما أنَّ بعض النقول المشابهة تُوجد في كتب مثل “عيون الأخبار” لابن قتيبة، حيث يتّضح ارتباط رواتها بالعباسيين.
وبناءً على ذلك، طُرِحَ هذا الاحتمال بأن يكون بنو العباس قد قاموا بإضافة هذا الجزء إلى خطبة الإمام الحسن (عليه السلام)؛ وذلك بهدف ترسيخ مكانتهم وتثبيت موقعهم. وكان غرضهم من هذه الإضافة مزدوجًا: فمن جهة، أرادوا خلق فضيلة لعباس بن عبد المطلب (جد الخلفاء العباسيين)، ومن جهة أخرى، عن طريق إبراز نقاش توبة أبي طالب (عليه السلام)، أرادوا تمهيد الأرضية لإضعاف مكانة أبناء أبي طالب وبني هاشم (أي العلويين) بشكل عام.
الاحتمال الثاني: إضافة هذا المقطع من قِبَل بني أمية
من خلال دراسة المصادر الأخرى، طُرِحَ هذا الاحتمال أيضًا بأن يكون تحريف هذا المقطع من الخطبة قد بدأ في فترة بني أمية. توجد شواهد تدلّ على أنَّ عبارات مماثلة قد نُقلت في سياق كلام معاوية كذلك. وعلى وجه الخصوص، فإنَّ هذه العبارات ترد في بعض النسخ بعد إشارة الإمام الحسن (عليه السلام) إلى البيعة لمعاوية، في حين أنَّ هيكل الخطاب وبنية الكلام يشيران إلى أنَّ هذه الجمل قد لا تكون استكمالًا لخطبة الإمام، بل من المحتمل أنها كانت أقوال معاوية التي جاءت بعد اختتام الخطبة.
الخلاصة والنتيجة
إنَّ التحليل الدقيق للأسانيد والرواة يمكن أن يُسهم في فهم أدق لمسار تطور هذا المتن وللتأثيرات المحتملة للتيارات السياسية، ولا سيما بني العباس وبني أمية، على كيفية نقل هذا النص وتفسيره.
ويُقترح إجراء مزيد من الأبحاث حول اختلاف النقول الخاصة بهذه الخطبة، لتحديد أي الأجزاء تتمتع بأصالة أكبر، وأي الأجزاء ربما تكون قد تعرّضت لتحريف أو تغييرات مقصودة. وجدير بالذكر أنَّ المشاركين في نهاية الندوة قاموا بإبداء وجهات نظرهم وقدّموا بعض المقترحات التكميلية للبحوث المستقبلية.
الاجتهاد موقع فقهي