الاجتهاد: تتكفّل هذه المقالة، في رسالتها التي ترمي إليها، بعقد المقارنة بين النظريّات المطروحة في مجال النهضة الحسينية فتسعى إلى تحقيق النقاط التالية: أوّلاً: أن تضع كلّ ما قيل وطرح في هذا المجال ضمن بنية مقارنة منسجمة ومنظَّمة نتوصّل منها إلى معرفة منزلة كلّ نظريّة بالقياس إلى النظريّات الأخرى، ونسبتها إليها. ثانياً: أن تفتح الطريق ـ ولو بنسبة معيّنة من النجاح ـ أمام المسائل والتحليلات الجديدة المطروحة في جميع الميادين، وبالنسبة لكافّة النظريّات المقترحة؛ من أجل دراسة هذه النهضة، والبحث حولها في المستقبل.
نظراً لما تتوفّر عليه النهضة الحسينية من أبعاد خاصّة تفرَّدت بها فقد جذبَتْ نحوها العديد من النظريّات عبر التاريخ ، وهي تنتظم في طيفٍ متنوّع وواسع من الدراسات والرؤى التاريخيّة والكلاميّة والسياسيّة والفقهيّة وغيرها.
وقد انتهى هذا التنوّع والتعدُّد في طرح النظريات حول تلك النهضة التاريخيّة إلى توفّر نتاج وافر وثريّ يتناولها. غير أنّه رغم كلّ ذلك لا يزال يظهر على ضوئها جوانب وتساؤلات تنتظر الجواب. ولا تتيسّر الإفادة من هذا النتاج ما لم يعدّ لذلك خير إعداد، بما يرفع عنه الإبهام.
والعمل على المقارنة بين النظريّات المطروحة في هذا المجال، وإعادة قراءتها في هذا السياق، هو جهد كفيل بالنهوض بهذه المهمّة إلى حدٍّ كبير. وتتكفّل هذه المقالة، في رسالتها التي ترمي إليها، بعقد هذه المقارنة. فهي تسعى إلى تحقيق النقاط التالية:
أوّلاً: أن تضع كلّ ما قيل وطرح في هذا المجال ضمن بنية مقارنة منسجمة ومنظَّمة نتوصّل منها إلى معرفة منزلة كلّ نظريّة بالقياس إلى النظريّات الأخرى، ونسبتها إليها.
ثانياً: أن تفتح الطريق ـ ولو بنسبة معيّنة من النجاح ـ أمام المسائل والتحليلات الجديدة المطروحة في جميع الميادين، وبالنسبة لكافّة النظريّات المقترحة؛ من أجل دراسة هذه النهضة، والبحث حولها في المستقبل.
وقد طرحت في مجال فلسفة النهضة الحسينية والأهداف التي ترمي إليها نظريّات عديدة، أهمّها:
1ـ إقامة الحكومة.
2ـ طلب الشهادة.
3ـ الفرار من الموت.
4ـ الأهداف المتوازية.
5ـ مواجهة حالة الانغلاق السياسي السائدة في عصر يزيد.
(6 – نظريّة الأهداف ذات المستويات المتعدِّدة (نظريّة جديرةٌ بالبحث)
وسنسعى هنا إلى بحث كلِّ واحدة من هذه النظريّات على حِدَة:
1ـ إقامة الحكومة
كثيرون هم الذين تبنّوا النظريّة القائلة بأنّ «إقامة الحكومة هي هدف الإمام الحسين»، ولكنْ كلُّ واحدٍ نظر من زاوية تغاير زوايا نظر الآخرين. وسنعمد هنا إلى المرور في عجالة على تلك النظريّات:
أـ نظريّة الشيخ الطوسي
استناداً إلى رؤية خاصّة انتهى الشيخ الطوسي في دراسته لعصر الإمام الحسين(عليه السلام) إلى أنّ حركته نحو الكوفة كانت خطوةً في طريق تأسيس الحكومة. فقد ارتكز إلى أنّ الإمام إذا ما قَوِيَ في ظنّه تأثير فعلٍ ما في تشكيل الحكومة وجب عليه الإقدام عليه.
ويقول في هذا الصدد: قد علمنا أنّ الإمام متى غلب على ظنّه أنّه يصل إلى حقّه، والقيام بما فُوّض إليه، بضربٍ من الفعل وجب عليه ذلك، وإنْ كان فيه ضربٌ من المشقّة([1]).
ففي دراسة تاريخيّة خاصّة لظروف العصر الذي انبثقت فيه واقعة كربلاء رأى أنّ العوامل والظروف المحيطة بتلك الحادثة كانت تحتمل احتمالاً يعتدّ به في أن تكون أعمال التحريض السياسيّ ضدّ يزيد، والجهود المبذولة في سبيل تأسيس حكومة، أعمالاً وجهوداً مثمِرة؛ ومن هنا غلب الظنّ على الإمام الحسين بحصول النصر. وفي هذا الصدد يقول: إنّ أسباب الظفر بالأعداء كانت لائحة([2]).
ويقول أيضاً: وأبو عبد الله(عليه السلام) لم يسِرْ طالباً الكوفة إلاّ بعد توثُّقٍ من القوم وعهود وعقود، وبعد أن كاتبوه(عليه السلام) طائعين غير مكرهين…
ب ـ نظريّة الشيخ صالحي النجف آبادي
يعَدّ الشيخ صالحي النجف آبادي من المحقّقين المعاصرين الذين انكبّوا على دراسة النهضة الحسينية (عليه السلام) انطلاقاً من رؤية خاصّة. وقد انتهى إلى أنّ هدف الإمام من النهضة هو إقامة الحكومة.
وتحقيقاً لاتّسام بحثه بالحرّيّة فقد حرص منذ البداية على عدم الخوض في المبنى الكلامي القائل بعلم الإمام، وانطلق في دراسته من المبدأ القائل بضرورة دراسة نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) مع غضّ النظر عن مسألة علم الإمام بالغيب، والتي أدّت إلى انقسام العلماء إلى فئتين متقابلتين([3]).
وقد قسّم حركة الإمام الحسين في نهضته إلى مراحل عدّة:
اعتبر بأنّ المرحلة الأولى تكمن في صمود الإمام في وجه استفزازات الحكومة وأطماعها الزائدة. فباعتقاده أنّ الإمام كان يهدف في هذه المرحلة إلى تقييم الظروف المحيطة به، وتحليل الأوضاع السائدة حوله، شأنه في ذلك شأن أيّ سياسي آخر.
وبعبارة أخرى: إنّ الهمّ الأساسي الذي كان يشغل الإمام الحسين(عليه السلام) في هذه المرحلة هو تقييم الأوضاع في سبيل إقامة الحكومة. وتبدأ هذه المرحلة من حين خروج الإمام الحسين(عليه السلام) وتستمرّ إلى زمان إقامته بمكّة.
وتتألَّف المرحلة الثانية من صمود الإمام ووقوفه في وجه تجاوزات حكومة ذلك العصر من جهة، وعمله على الوصول إلى الحكم وتهيئة الظروف اللازمة لذلك من جهة أخرى. وتستغرق هذه المرحلة الفترةَ الواقعة بين خروج الإمام من مكّة وبين مواجهته لجيش الحُرّ.
وتشرع المرحلة الثالثة بدورها من حين المجابهة مع الحُرّ، وتستمرّ في داخل الفترة التي بدأت منها، حيث سعى فيها الإمام الحسين إلى تجنّب وقوع الحرب، والتوصّل إلى صلحٍ يحفظ له شرفه. وقد بلغ الإمام في سعيه هذا إلى حدّ إقناع عمّال الحكومة بالصلح.
وأمّا المرحلة الرابعة والنهائيّة فتبدأ من حين هجوم قوات العدوّ. وما قام به الإمام الحسين في هذه المرحلة كان عبارة عن دفاع مستميت، يبعث على الفخر، في مقابل هجوم دمويّ ووحشيّ… دفاع اختتم بشهادته(عليه السلام).
ومن أجل إثبات مدّعاه القاضي بتشكُّل النهضة الحسينية من أربع مراحل فإنّه قام بإيراد أدلّةٍ على كلّ مرحلة بشكلٍ تفصيلي([4]).
وخلاصة القول: لم يكن الإمام الحسين، وفقاً لهذه النظريّة، يسعى نحو هدف واحد من البداية حتّى النهاية، بل كان يتعرَّض لتعيين الاستراتيجية، وتحديد الهدف، حسب الوضعيّة التي يتواجد فيها. وعليه تعتقد هذه النظريّة بأنّ هدف الإمام الحسين كان يرتبط في المرحلة الأولى بالحكومة، وفي المراحل اللاحقة بمسائل أخرى، من قبيل: العودة إلى المدينة، والشهادة. وفي هذه الحالة ستترك شهادته (عليه السلام) مع أهل بيته تأثيراً أعمق.
الشواهد المؤيّدة للنظريّة، والإشكالات المشهورة الواردة عليها
هناك العديد من الشواهد والمؤشّرات التي تُقوّي الادّعاء القائل بأنّ الإمام شدّ أمتعته وتوجَّه نحو الكوفة عازماً على إقامة نظام للحكم، بحيث كان هدفه يتعلّق بالقيام بهذا الفعل.
غير أنّ هذه النظريّة تُعاني في نفس الوقت من بعض الإشكالات، التي يلزم حلُّها علميّاً؛ لكي نقول بتماميّتها.
وفي ما يلي سنشير أوّلاً إلى الشواهد المؤيِّدة للنظريّة، وبعد ذلك سنتعرّض للإشكالات المشهورة الواردة عليها:
أولاً: الشواهد المؤيِّدة للنظريّة
الشواهد التالية تدلّ على اعتبار إقامة الحكومة بمثابة الهدف من نهضة الإمام الحسين(عليه السلام):
1ـ قصّة مسلم
فحكاية ذهاب مسلم إلى الكوفة، مبعوثاً من قِبل الإمام، تُعبّر من عدّة جهات عن سعيه(عليه السلام) للحكم، من خلال النهضة التي شيّد دعائمها بنفسه:
أـ أصل بعثه إلى الكوفة
ويوجد لدينا رأيان حول هدف الإمام(عليه السلام) من إيفاد مسلم إلى الكوفة:
الرأي الأوّل: ومفاده أنّ إرسال مسلم كان بهدف تقييم الظروف العمليّة المساعِدة على إقامة الحكومة. ويتبنّى الإمام الخميني هذا الرأي، فيقول: لقد أرسل مسلم لكي يدعو الناس إلى البيعة؛ من أجل إقامة الحكومة، والقضاء على ذلك الحكم الفاسد([5]).
الرأي الثاني: ويقول بأنّ إيفاد الإمام الحسين(عليه السلام) لمسلم كان من أجل اختبار دوافع أهل الكوفة. وعليه يكون الهدف من إرساله هو تقييم مدى صحّة وصدق ادعاءات الكوفيّين وتقاريرهم. وقد تمّ الحديث بشكلٍ صريح عن هذه الوظيفة ـ التي يقول بها الرأي الثاني ـ، وذلك في قسمٍ من الرسالة التي بعثها الإمام(عليه السلام) إلى الكوفة عند إيفاده مسلماً إلى تلك الديار، حيث كتب لهم ما يلي: فَإِنْ كَتَبَ إِلَيَّ أَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلئكُمْ وذَوِي الْحِجَا والْفَضْلِ مِنْكُمْ عَلَى مِثْلِ مَا قَدِمَتْ بِهِ رُسُلُكُمْ، وقَرَأْتُ فِي كُتُبِكُمْ، أَقْدِمُ عَلَيْكُمْ وَشِيكاً إِنْ شَاءَ الله([6]).
لو قبلنا بأيّ واحد من الرأيين السابقين فينبغي علينا أنّ نعدّ إرسال مسلم علامةً على طلب الإمام الحسين( عليه السلام) وسعيه للحكم. وبعبارة أخرى: إنّ دراسة الرأيين السابقين تدلّنا على أنّه باستطاعة كلّ واحد منهما أن يكون شاهداً على رغبة الإمام الحسين في الحكم.
فبحسب الرأي الأوّل يكون مسلم قد سار نحو الكوفة من أجل توجيه الناس وتحفيزهم أكثر على مسألة إقامة الحكومة.
كما أنّ الرأي الثاني ـ بضميمة حدثٍ تاريخي آخرـ يُعدّ بدوره تأكيداً على توجُّه الإمام الحسين ونزوعه نحو الحكم. ويكمن هذا الحدث في بعث مسلم لرسالة إلى الإمام الحسين يطلب منه فيها أن يتعجَّل القدوم إلى الكوفة؛ لأنّ الناس معه([7]). والعجيب في الأمر أنّ الإمام الحسين توجّه نحو الكوفة بمجرّد وصول الرسالة، ومن غير انتظار([8]).
فلو لم تُرسَل الرسالة، ويُجِب الإمام الحسين عنها عملياً، لكان من المحتمَل أن نعتبر مهمّة مسلم مجرّد حركة سياسيّة؛ من أجل تقييم الظروف الممهّدة للحكم، لا مهمّة مشخّصة في سبيل تهيئة الأرضيّة للحكم، وتقديم تقريرٍ يؤسِّس لمسألة تشكيل الحكومة والخطوات السياسيّة التالية، إلاّ أنّه ومع وجود هذه الرسالة، وجواب الإمام العملي عنها، فإنّ هذا الاحتمال يعدّ مردوداً.
وعلى أيّ حال فإنّ المتواجدين في قلب الأحداث السياسيّة كانوا على علمٍ، منذ توجّه مسلم نحو الكوفة، بعزم أهلها على مواجهة يزيد، وإقامة نظام للحكم على يد الإمام الحسين؛ فيكون بعث مسلم في مثل هذه الظروف بمثابة تأييدٍ لرغبتهم.
ب ـ فهم السفير للمهمّة الملقاة على عاتقه، وتصرّفاته وفق ذلك
فالفهم الذي كان يحمله السفير الخاصّ للإمام الحسين(عليه السلام) عن المهمّة المسندة إليه هو مؤشّر جديد على حاكميّة ذلك الفهم على الأجواء السائدة في المجتمع آنذاك، والذي مفاده أنّ الإمام الحسين يسعى نحو إقامة نظام للحكم. ويتبلور فهم السفير للمهمّة المناطة به من خلال الخطوات التي قام بها؛ حيث إنّ دراسة الإجراءات التي اتّخذها مسلم ـ ومن جملتها: أخذه للبيعة؛ بعثه برسالة إلى الإمام؛ وكذلك بالنسبة للرسالة المعبِّرة عن خيبة أمله، والتي أرسلها إلى الإمام الحسين بعد إعراض الناس عنه، وطلبه منه عدمَ المجيء إلى الكوفة ـ تدلّ على الفهم والرؤية التي كان يحملها المقرَّبون من الإمام الحسين عن مواقفه.
ج ـ ردّة الفعل التي أبداها الكوفيّون ونُخبة القوم حيال السفير
حيث يدلّ ذلك بشكلٍ واضح على نظرتهم للخطوات التي اتّخذها الإمام الحسين. والظاهر أنّ جميع مَنْ كان في الكوفة كان يعتقد بأنّ مسلماً لم يضع قدمه هناك إلاّ من أجل الإعداد لإقامة نظام للحكم. فمن المتيقّن أنّه في الوقت الذي عبر فيه مسلم بوّابة الكوفة اطمأنّ أهل الكوفة إلى أنّ الإمام الحسين قد استجاب لمطالبهم، وأرسل مبعوثاً خاصّاً؛ تأييداً لرغبتهم تلك([9]).
من المحتمل أنّه لو عثرنا على طريق يُمكّننا من التسلّل إلى الجوّ الحاكم على الكوفة في ذلك العصر، بحيث يكون في استطاعتنا العيش في تلك الظروف ـ مع عدم الاطّلاع على عاقبة دعوة الكوفيّين ـ، لحكمنا على ورود مسلم بأنّه يُشكّل جواباً قاطعاً لمطالبات الكوفيّين، وقد وصلهم جواب عمليّ من طرف الإمام، إلاّ أنّ تراجعهم صار سبباً في حدوث واقعة كربلاء.
وعلى هذا فكلُّ ما قام به الكوفيون، سواءٌ عندما ذهبوا لاستقبال مسلم بكلّ حفاوة وترحاب، وفتحوا له أبواب المدينة، أم حين تنحَّوا عنه، وتركوه وحيداً فريداً، كلُّ ذلك يدلّ على ذلك الفهم. ففي حالةٍ يكون موضع تأييد كبير؛ بسبب الرغبة في عمليّة التغيير، وفي حالة أخرى يتعرَّض للطرد بقسوة؛ بسبب الخوف من العقاب، أو لبواعث أخرى، من قبيل: بروز مصالح جديدة. هذا ما لا يُمكن تصوُّره في حقّ أيّ سفير، إلاّ إذا كان يرغب في تغيير نظام الحكم.
2ـ أقوال أعداء الإمام الحسين(عليه السلام)، ومواقفهم، وردود أفعالهم، وإجراءاتهم
من اللازم التحرّي عن بعض الشواهد في ضمن كلمات أعداء الإمام الحسين(عليه السلام)، ومواقفهم، وردود أفعالهم، والإجراءات التي اتّخذوها. فتجهيز جيش كبير وضخم، وإثارة الناس بشكل واسع، وإرسال قوّات عظيمة؛ من أجل حماية ابن زياد من الكوفيّين، والأهمّ من ذلك كلّه إطلاق اسم الخوارج ـ وهو مصطلح سياسي بمعنى الخروج عن النظام الحاكم ـ على الإمام الحسين وأصحابه، كلُّ ذلك يفضي بنا إلى القول بأنّ الناس، النخبة منهم والصديق والعدوّ وكلّ مَنْ تحدّث عن هذا الأمر أو ترك حوله بصماته على صفحات التاريخ، يُشيرون إلى أنّهم كانوا يعدّون الحركة التي قام بها الإمام الحسين(عليه السلام) حركةً في اتجاه إقامة الحكومة.
3ـ اختيار مدينة الكوفة
تُشير مسألة اختيار مدينة الكوفة إلى فترة خلافة الإمام علي(عليه السلام). والظاهر أنّها المدينة الوحيدة التي كانت تتهيّأ لها الأرضيّة المناسبة من أجل استلام الإمام الحسين للحكم، بحسب الظروف السائدة في ذلك العصر. فيكون الرجوع إليها في حدّ ذاته علامةً على رغبته(عليه السلام) في إقامة نظام للحكم.
4ـ الاستفادة من آليّة البيعة طوال مدّة الحادثة
فالاستفادة من آليّة البيعة عبر المدّة التي استغرقتها الحادثة ـ وخصوصاً في مكّة، وقبل الرحيل إلى الكوفة ـ تُعدّ من الشواهد التي يصحّ لنا الاستناد إليها. والبيعة هي آليّة وعمليّة يتجلّى معناها في تعيين الخليفة وإقامة الحكومة. وعلى الرغم من أنّنا كنّا نحسب أيضاً توديع الإمام لأصحابه في الليلة الأخيرة، وردّهم الحماسي والعاطفي عليه، بيعةً، إلاّ أنّ مثل هذه التصرُّفات في الواقع وحقيقة الأمر لا تُعدّ كذلك بحسب الأعراف السياسيّة. على أنّه بالإمكان التعرّف على بعض مظاهر مبايعة الإمام الحسين من خلال متابعته(عليه السلام) لرسائل الكوفيّين، وهي رسائل تُفصح عمليّاً عن رغبة مدينة الكوفة في إقامة نظام حكمٍ جديد. كما أنّ التقارير الأوّلية التي بعثها مسلم، والمعبِّرة عن ميل شديد لأهل الكوفة تجاه الأمر، وعن تقديمهم لبيعات متواصلة، تُشكِّل دليلاً واضحاً على تبلور توجُّهات قد تنتهي إلى إقامة حكومة في حالة النصر.
5ـ الثقافة السائدة في ذلك العصر
حيث تدلّنا دراسة الظروف المتقدّمة على حادثة كربلاء على تبلور ثقافة تغييريّة وسط النخب الاجتماعيّة والسياسيّة، تسعى للإطاحة بحكومة يزيد. وتشكّل النماذج التي سنعرضها في ما يلي قسماً مهمّاً من الأجواء السياسية السائدة في ذلك العصر، والتي يُمكننا من خلالها التعرُّف بشكل أفضل على منشأ القرارات التي اتّخذها الإمام الحسين. على أنّه لا ينبغي نسيان أنّ الثقافة السياسيّة ـ الاجتماعيّة التغييريّة السائدة في كلّ عصر لا تُبرز لنا إلاّ قطعة من صورة التحوّلات الجارية فيه، وقسماً من الشواهد التي تستند إليها هذه التحوّلات.
فالشيء الذي يعطي للثقافة والأدبيّات صموداً أكبر في مقابل الشواهد والمؤشِّرات الأخرى هو حكايتها عن المحتوى الداخلي للمواقف السياسيّة والسلوكيّات الاجتماعيّة، وعن العادات والأفكار التي تُشكّلها.
وفي هذه الحالة سيكون الإفراط في تضخيم صورة الثقافة ناتجاً عن النظرة الساذجة التي يُنظر بها إلى المسائل الاجتماعيّة. فأصالة الثقافة وصحّتها من جهة، وتعهّدُنا بشكل أكبر بتقديم فهم أصحّ عن هذه الثقافة من جهة أخرى، كلّ ذلك سيُفضي بنا إلى الاعتماد على الثقافة والأدبيّات، وجعلها مورداً للبحث، عند مواجهتنا للأحداث السياسيّة، وسعينا نحو معالجتها.
ولذلك علينا أن نضع في ضمن جدول أعمالنا مسألة التجوال في الثقافات والأدبيّات السائدة في كلّ عصر، وفي التحوّلات السلوكيّة الطارئة على ذلك العصر، وعقد مقارنة بينها.
فبالإضافة إلى أنّ هذه المنهجيّة ستضفي غنىً أكبر على فهمنا للثقافة، فإنّها ستعمّق نظرتنا إلى السلوكيّات والأساليب العمليّة المتّبعة. ومع الالتفات إلى هذه النقطة فإنّ قضيّة الاستفادة في هذه المقالة من الأدبيّات السياسيّة السائدة في عصر الإمام الحسين(عليه السلام) ستحمل على عاتقها عبء قسم من الاستدلالات والقرائن فقط. وحتّى لو تمّ اعتبارها بمثابة نقطة ارتكاز فإنّها لن تستطيع أبداً التكفُّل لوحدها بإثبات المدَّعى.
وبعبارة أخرى: ستكون مجرّد شاهدٍ، لا أكثر، على أنّ الإمام قد اختار هدفاً ينقدح معناه من بين تطلّعات الناس وتوقّعاتهم في ذلك العصر. وسنحاول استشراف هذه الوضعيّة من خلال القرائن التالية:
الثقافة الحاكمة على مكّة حين خروج الإمام من الكوفة
سنتعرّض هنا إلى ذكر نموذجين:
أـ كلام الفرزدق عند توجُّه الإمام نحو الكوفة
لقد حذَّر الفرزدقُ وآخرون الإمامَ(عليه السلام) من الذهاب إلى الكوفة. وفي ضمن ذلك أماطت عبارة الفرزدق المشهورة اللثامَ عن الذهنيّة العامّة الحاكمة على نخب ذلك العصر؛ حيث قال فيها، قاصداً صرف الإمام الحسين(عليه السلام) عن الذهاب إلى الكوفة: قلوبهم معك، وسيوفهم عليك([10]).
فبالنظر إلى كون السيف يُعدّ مظهراً بارزاً لمسألة إحداث تغييرات في أسلوب الحكم، والإطاحة بالحاكم المتمكِّن، يُمكننا القول بأنّ الفرزدق كان ينظر إلى الإمام الحسين كشخصٍ يُناضل من أجل إسقاط حكومة يزيد، وإقامة حكومة جديدة. وبعبارة أخرى: كان الفرزدق يُنبئ في تلك الظروف التي توجَّه فيها الإمام نحو الذين دعَوْه إلى إقامة الحكومة ـ وهم أهل الكوفة ـ عن أنّ السيف (العامل المساعِد على تأسيس الحكومة) ليس مع الإمام، بل هو عليه. وبناءً عليه، ومن خلال نفيه لاستعداد الناس عمليّاً، يُفصح لنا الفرزدق ـ بصفته واحداً من نخب المجتمع ـ عن توقُّعه الخاصّ من هجرة الإمام الحسين(عليه السلام).
ب ـ كلام ابن عبّاس عند توجُّه الإمام نحو الكوفة
فعند تحرّك الإمام في اتّجاه الكوفة حاول ابن عبّاس صرفه عن ذلك القرار. وفي ضمن حديثه معه قال: وإنْ أبيتَ إلاّ محاربة هذا الجبّار…. واكتب إلى أهل الكوفة وأنصارك بالعراق فليُخرجوا أميرهم، فإنْ قَوَوْا على ذلك، ونفَوْه عنها، ولم يكُنْ بها أحدٌ يعاديك، أتيتَهم([11]).
وتُعدّ نصيحة ابن عبّاس هذه للإمام الحسين(عليه السلام) شاهداً على رؤيته الخاصّة لهدفه(عليه السلام). والظاهر أنّه كان يعتقد، كالفرزدق، بأنّ الهدف والغاية من هجرة الإمام هي إقامة الحكومة. فقد كان يطلب من الإمام عدم الوثوق بأهل الكوفة، وعدم القدوم إليها، إلاّ بعد إخراجهم لوالي المدينة ومندوب يزيد عليها. وإخراج والي الكوفة ـ الذي يُعدّ مظهراً للسلطة السياسيّة آنذاك ـ لا معنى له إلاّ إقامة الحكومة، وتحدّي السلطة الفعليّة.
الثقافة الحاكمة على الأجواء المحيطة بالذين دعَوْا الإمام(عليه السلام)
رسالة الكوفيين إلى الإمام الحسين هي علامةٌ أخرى تُشير إلى طبيعة الظروف التي انبثقت منها نهضة الإمام، وإلى كيفيّة نظرتهم إلى ميول الإمام الحسين وتطلّعاته ومواقفه. فقد ورد في بعض هذه الرسائل ما مضمونه: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْنَا إِمَامٌ، فَأَقْبِلْ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْمَعَنَا بِكَ عَلَى الْحَقِّ. والنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ فِي قَصْرِ الإِمَارَةِ لَسْنَا نجَتمعُ مَعَهُ فِي جُمُعَةٍ، ولا نَخْرُجُ مَعَهُ إِلَى عِيدٍ. ولَوْ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكَ أَقْبَلْتَ إِلَيْنَا أَخْرَجْنَاهُ حَتَّى نُلْحِقَهُ بِالشَّامِ إِنْ شَاءَ اللهُ([12]).
ونطالع كذلك في نفس هذه الرسائل: إنَّ لك ها هنا مائة ألف سيف([13]).
ثانياً: الإشكالات المشهورة الواردة على اعتبار الحكم هدفاً من نهضة الإمام(عليه السلام)
رغم وجود شواهد تساعدنا في إثبات أنّ إقامة الحكومة هي الهدف فإنّ هذه النظريّة تُواجه عدّة إشكالات جادّة، تتطلّب منّا تقديم حلولٍ علميّة؛ من أجل الحكم بقطعيّة النظريّة وتماميّتها.
الإشكال الأوّل: في ردّهم لنظريّة «نزوع الإمام الحسين نحو الحكم» يُشير مؤيّدو نظريّة «كون الشهادة هي الهدف» إلى كلام الإمام الحسين(عليه السلام) في اليوم السابع أو الثامن من ذي الحِجّة، حيث يُبرز(عليه السلام)، ضمن خطبة ألقاها في ذلك اليوم، استعدادَه الكامل للشهادة. والشيء الذي يُؤدّي بنا إلى ترجيح هذا الشاهد التاريخي في مقابل بقيّة كلمات الإمام الحسين، الدالّة على رغبته في الشهادة، هو زمان وقوعه. فالإمام الحسين نطق بهذا الكلام حين وصلت دعوة الكوفيّين إلى أوجها، ولم تكن قد وصلته بعدُ رسالة مسلم المفصحة عن تخاذل الكوفيّين، وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل([14]).
ويقول الدكتور آيتي، وهو أحد المؤمنين بفكرة «كون الشهادة هي الهدف»: نحن نعلم بأنّ الإمام الحسين(عليه السلام) ألقى هذه الخطبة قبل اليوم الثامن من ذي الحِجّة، وربما في اليوم السابع من ذلك الشهر، وذلك في المسجد الحرام، وسط حشد من الحجّاج وزوّار بيت الله.
وقد كانت الأوضاع السياسيّة التي يعيشها الإمام الحسين في ذلك اليوم مناسِبةً بحسب الظاهر، وكان أغلب الناس يعتقدون بتنحّي يزيد وسقوط خلافته في القريب العاجل، ليتربّع بذلك الإمامُ على كرسيّ الخلافة، التي هي حقّه([15]).
ويقول الدكتور شريعتي ـ وهو من المعتقدين كذلك بفكرة «كون الشهادة هي الهدف»: وأمام كلّ ذلك الجمع الغفير من الحجّاج الذي أتَوْا من سائر الأقاليم الإسلاميّة يُعلن بأنّه متَّجهٌ نحو الموت: خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة. إنّ مَنْ يريد أن يقوم بنهضة سياسيّة لا يتحدّث بهذا النحو، بل يقول: سنضرب، سنقتل، سننتصر، سنقضي على العدوّ؛ وأمّا الحسين…([16]).
الإشكال الثاني: الإشكال الآخر الذي يُمكننا إضافته إلى قائمة دعاوى القائلين بنظريّة الشهادة ـ في مقابل المعتقدين بنظريّة الحكومة ـ هو ما يرتبط بالوضعيّة السياسيّة السائدة في عصر الإمام الحسين؛ حيث يحكي لنا التاريخ بشكلٍ واضح عن أنّ الجميع ـ ومنهم العديد من أصحاب الإمام الحسين ومحبّيه ـ كان يرى بأنّ الظرف ليس مناسباً للاستجابة لدعوة الكوفيّين. وعليه يبدو أنّ تقييم نخب المجتمع للظروف الزمنيّة كان مبنيّاً على أنّ الظروف الموجودة لا تُساعد على إقامة الحكومة. وبناءً على هذا التحليل يدلّ العقل الجمعيّ للنخبة، والتقييم الذي قدّمه عامّة الخبراء السياسيّين، على عدم توفّر الظروف المناسبة لتأسيس الحكومة.
ويدور الحديث هنا حول السبب في جعل الإمام الحسين مسألة إقامة الحكومة في ضمن برنامج أعماله، خصوصاً مع ملاحظة الظروف الآنفة.
ويُمكننا أن نحمل هذا الدليل على محمل الجدّ بشكلٍ أكبر، وخاصّةً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّه متى ما تمّ الحديث عن اتّخاذ قرارات سياسيّة فإنّ الرسل والأئمّة كانوا عادةً ما يتمسَّكون بالشورى، واتّخاذ قرارات جماعية. ومع كلّ هذا نرى بأنّ الإمام قد عمل في هذا المورد بخلاف نصيحة الجميع ومشورتهم، ومنهم أقرب محبّيه، نظير: ابن عبّاس. ففي هذه الحالة يكون تغاضي الإمام عن العمل بما كان يُصرّ عليه الجميع علامةً وشاهداً على نزوعه نحو الشهادة، لا على رغبته في الحكم.
وفي الجواب عن هذا الإشكال يقول الشيخ الطوسي ـ الذي يُعدّ من أوائل المدافعين عن فكرة سعي الإمام نحو الحكم ـ بأنّه من المحتمل أن يكون أشخاصٌ من قبيل: ابن عبّاس وغيره من الناصحين غيرَ مطّلعين على الرسائل التي كتبها الكوفيّون للإمام، وأنّ تقييم الإمام المختلف للظروف يعتمد في الواقع على توفّره على معلومات أكثر.
وعلى هذا فإنّ الإمام قد عمل في الحقيقة وِفْق ظنّه، وقام برسم سياسته الخاصّة بحسب ما أملاه عليه تصوُّره، القاضي بإمكانيّة تأسيس الحكومة. وفي هذا الصدد يقول الشيخ الطوسي: فأمّا مخالفة ظنّه لظنّ جميع مَنْ أشار عليه من النصحاء، كابن عباس وغيره، فالظنون إنّما تغلب بحسب الأمارات، وقد تقوى عند واحد وتضعف عند آخر. ولعلّ ابن عبّاس لم يقِفْ على ما كوتب به(عليه السلام) من الكوفة، وما تردَّد في ذلك من المكاتبات والمراسلات والعهود والمواثيق([17]).
الإشكال الثالث: بعد أن عَلِم في منتصف الطريق بمصير مسلم لم يمتنع الإمام عن إكمال الرحلة، واستمرّ في سفره. فلو كان(عليه السلام) يقصد واقعاً من سفره إقامة الحكومة لكان ينبغي عليه العدول عنه بمجرّد الاطّلاع على الحالة التي آل إليها مسلم، وانتفاء الأرضيّة المساعِدة على تأسيس الحكومة، لا أن يستمرّ فيه.
وقد أجاب الشيخ الطوسي عن هذا الإشكال، حيث يُستفاد من كلامه([18]) أنّ الإمام الحسين اختار العودة في هذه المرحلة، بعد علمه بخبر مسلم، ويأسه من الكوفيّين. لكنْ في نفس هذه الأثناء تبلورت حالة روحيّة جديدة، لعبت دوراً مهمّاً ـ على الرغم من جزئيتها ـ في صنع الأحداث التالية. وقد نتجت هذه الحالة عمّا حصل لأسرة مسلم، الذين تأثَّروا بشدّة عند سماعهم خبر شهادته المؤلم، حيث أقسموا على الأخذ بثأره، فما كان من الإمام الحسين بعد تبلور هذه الوضعيّة الجديدة، والأجواء المنبثقة عنها، إلاّ أن قال: لا خير في العيش بعد هؤلاء.
وتحليلاً لهذا الجواب نقول: إنّ التوجّه الخاصّ الذي تمّ تبنّيه في هذه المرحلة ناتجٌ عن حالات روحيّة وعاطفيّة معيَّنة، أكثر من أن يكون حصيلةً لاستراتيجيّة محدَّدة. وفي نفس الوقت، ومع أنّ القافلة لم تختَرْ سبيل العودة، غير أنّها كانت تأمل من خلال إيكال الأمور إلى المستقبل في أن تُفتح أمامها خياراتٌ أفضل.
علاوةً على ذلك من الممكن تقديم جواب آخر، مفاده أنّ الإمام الحسين لو قَفِل راجعاً من سفره بعد خبر شهادة مسلم لأدّى ذلك إلى إبطال جميع الجهود التي بذلها سابقاً، وحُكم عمليّاً على العديد من التمهيدات الأوليّة التي قام بها بالفشل، إنْ لم نقُلْ بانتهائها في الأخير إلى بروز ردود أفعال معاكسة.
وبالتالي كان ينبغي عليه الامتناع عن القيام بالعديد من الخطوات السياسيّة التمهيديّة ـ من قبيل: مسألة عدم إكمال مراسم الحجّ، والعديد من الخطب المناهضة للظلم، التي أُلقيت ضدّ حكومة يزيد ـ، والمحافظة عليها، ومتابعتها، بانتظار حلول اللحظة التاريخيّة لكي تثمر وتؤثِّر. وبعبارة أخرى: لو كان الإمام في هذه المرحلة آيساً من إقامة الحكومة لكان ينبغي عليه ـ بحسب المنطق ـ أن لا يعمد إلى تخريب أُسُسها في الحدّ الأدنى؛ لأنّ هذا العمل قد يُفضي إلى تقوية حكومة يزيد اللاشرعية والمزاجيّة.
وإذا أضفَيْنا على المطالب السابقة مسحةً من القرائن التاريخيّة فستتشكّل لدينا صورة مشوَّهة عن تراجع الإمام الحسين من بين حجّاج المدينة، وخصوصاً إذا كان تراجعاً عن مراسم الحجّ. فقد خطا الإمام الحسين في هذا الطريق بإصرار، وخلافاً لمشورة عامّة النخبة والعديد من محبِّيه، كما أبدى ثباتاً في عزمه على المواصلة، إلى درجة أنّه امتنع حتّى عن الاستمرار في مراسم الحجّ بصورتها المعهودة.
ففي مثل هذه الظروف لا يبدو أنّ أهالي مكّة كانوا مطَّلعين على الأوضاع، أو أنّهم التقَوْا بقافلة الإمام الحسين؛ لكي يعلموا بأنّه اختار سبيل العودة، وتراجع عن مسيره، مع أنّه لا يزال يحمل على عاتقه رُزمة من الادّعاءات الكبيرة. وبناءً عليه، وبالإضافة إلى الجوانب النفسيّة للقضيّة ـ وهي على درجة من الأهميّة، وتشكّل روح جواب الشيخ الطوسي ـ، يُعدّ تبلور هذه الوضعيّة علامةً من الناحية الثقافيّة على ضعف الإدارة والتردُّد في اتّخاذ القرار.
الإشكال الرابع: لقد أظهر الإمام الحسين مخالفته للحكم السائد في ذلك العصر قبل شهور من تحرُّكه. ولم تقتصر هذه المخالفات على إبداء السخط وعدم الرضا، بل ترافق ذلك مع بروز مجموعة من المؤشِّرات على وجود تحرُّك سياسي ضدّ حكومة يزيد. ولو كان الإمام الحسين يسعى واقعاً نحو إقامة الحكومة لكان من اللازم عليه التكتُّم على نيّته إلى أن تتوفَّر لديه المؤهِّلات اللازمة للسلطة.
فمن الواضح تماماً أنّ الإمام الحسين، ومن خلال إبرازه العمليّ لتذمّره من حكومة يزيد، وإفصاحه عن أوضاع ثورته ـ سواءٌ في المدينة أو في مكّة ـ، قد هيّأ ليزيد الأرضيّة المناسبة لتوفير الإمكانيّات اللازمة وتجهيز القوّات. ونحن نعلم بأنّ القيام بخطّة انقلابيّة ضدّ الحكومة مسألة تحتاج إلى التكتُّم، ولو في مراحلها الأولى كحدٍّ أدنى. وبدلاً من إلقاء تلك الخطب الساخنة والحماسيّة في مكّة كان بإمكان الإمام الحسين أن يتوجَّه نحو الكوفة بطريقة سرّية، ولا يطرح فكره السياسي على الملأ إلاّ بعد التعبئة العمليّة لقوّاته، والتوفُّر على مستوى معقول من القدرة العسكريّة.
وهو نفس ما قام به الرسول بالضبط في أوائل البعثة؛ إذ لو تحدَّث الرسول عن مسألة إقامة الحكومة قبل الهجرة إلى يثرب، وسلك طريق المدينة برفقة أهله وأصحابه ومحبّيه، لكان من المحتمل جدّاً أن يسقط شهيداً على يد أعدائه قبل الوصول إلى هناك، لكنَّه توجَّه نحو المدينة في الليل سرّاً، ومع مراعاة المسائل الأمنيّة، من قبيل: اختياره لأشقّ طريقٍ ممكن.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور شريعتي: لو أنّ الناس استيقظوا صباحاً ففوجئوا بعدم تواجد الحسين بينهم، ولو أنّ الحسين خرج من المدينة وحده متستِّراً ليلتحق ببعض القبائل، ولو أنّه هاجر من المدينة إلى الكوفة خُفيةً مثلما فعل النبيُّ عندما هاجر من مكّة إلى المدينة، وبعد مدّة وجيزة يُفاجئ الحكم المركزي بوجوده في الكوفة، فحينئذ سيعلم المعارضون والمتمرِّدون بأنّ الحسين ما تحرّك إلاّ بعنوان النهضة ضدّ النظام الحاكم.
غير أنّ هيئة القافلة التي خرج بها الإمام الحسين، وشكل الحركة التي اتّخذها، تدلّ على أنّه تحرَّك وهدفُه القيام بعمل آخر. ولم يكن ذلك العمل فراراً ولا انزواءً، ولا خضوعاً ولا استسلاماً، ولا اعتزالاً للكفاح السياسي بُغيةَ الخوض في النضال الفكري والعلميّ والفقهيّ والأخلاقيّ والقيام بالأعمال الخيريّة، ولم يكن كذلك عملاً عسكريّاً([19]).
على الرغم من أنّ الإشكال المذكور مثيرٌ للتأمّل، ويحتاج إلى دراسة أعمق، لكنْ بإمكاننا القول بأنّ الدعوى لا ترتبط بمسألة أنّ الإمام الحسين كان قاصداً منذ البداية ـ أي من حين خروجه من المدينة متوجّهاً إلى الكوفة ـ تأسيس نظام للحكم؛ لكي يرد عليها ذلك الإشكال ـ الذي مفاده أنّه في هذه الحالة لماذا لم يلجأ(عليه السلام) إلى التكتُّم على جهوده ومساعيه؛ من أجل تحقيق هدف من هذا النوع ـ؛ إذ إنّ دعوى قيام الإمام ببعض الإجراءات في سبيل إقامة الحكومة ترتبط بالمرحلة التي تلقّى فيها رسائل من الكوفيّين. وبما أنّه في هذه المرحلة لم يبقَ أيُّ مجال لإخفاء العمل، حيث كان الإمام قد طوى في الواقع قسماً من الطريق بصورة علنيّة، فلن يتمكَّن(عليه السلام) ابتداءً من هذه المرحلة فما بعدها أن لا يبقي على علنيّة حركته.
وبعبارة أخرى: يكفي أن نتصوّر الوضعيّة التي كان عليها الإمام الحسين في مكّة لكي نُذعن بعدم تهيّؤ الظروف له(عليه السلام) من أجل العمل السرّي والتحرُّك السياسي الخفيّ. ومن جملة هذه الظروف مرافقة الأهل والأولاد للقافلة، واطّلاع عامّة الناس ـ ومنهم الموالون لحكومة يزيد ـ على خروجه(عليه السلام). ويبدو أنّ الظروف في هذه المرحلة لم تكن تستدعي من الإمام الحسين(عليه السلام) التخطيط للعمل السياسيّ السرّي والخفيّ.
2ـ نظريّة النزوع نحو الشهادة
تبنَّت العديد من الشخصيّات نظريّة النزوع نحو الشهادة، مع فارقٍ، وهو أنّ كلّ واحد من هذه الشخصيّات نظر إليها من منظار خاصّ. نعم، توجد نقطة مشتركة بين هذه الآراء، وتكمن في ادّعائها جميعاً بأنّ هدف الإمام كان الشهادة.
وسنسعى من جهتنا لاستعراض هذه النظريّات في ما يلي:
أـ نظريّة اللهوف
يعتقد ابن طاووس بأنّ الإمام الحسين كان على علم بعاقبة أمره، وإنّما كان يتعبّد بهذا الموضوع؛ أيّ إنّه كان يرى نفسه مكلَّفاً بما قام به([20]).
ب ـ نظريّة فداء النفس، في سبيل العفو عن ذنوب الشيعة
تعتبر هذه النظريّة بأنّ شهادة الإمام الحسين هي علامة على تضحيته بنفسه في سبيل العفو عن ذنوب الشيعة، وبأنّها تُشكِّل فديةً عن الخطايا التي سيرتكبها أتباعه في المستقبل. وتعتمد هذه النظريّة على نوعٍ من الفهم نعثر على نظيرٍ له في الفكر المسيحي، حيث يُقدّم العديد من المسيحيّين تفسيراً لمسألة صلب عيسى(عليه السلام)، يُشبه إلى حدٍّ بعيد التفسير الذي قدَّمته هذه النظريّة.
ج ـ نظريّة طلب الشهادة، في إطار حركة وأهداف تاريخيّة
ويعدّ شريعتي هو مَنْ طرح هذه النظرية، حيث سعى من منظار علم الاجتماع التاريخي، ومن خلال تقديم مخطَّط عن الأوضاع الاجتماعيّة الحاكمة على ذلك العصر، إلى حصر هدف الإمام الحسين من الشهادة في التنديد بالظلم([21])، وفضح ممارسات يزيد، وضخّ دم جديد من الحياة والجهاد في عروق الجيل الثاني من الثورة النبويّة([22]).
وتوضيحاً لرأيه يُحاول الدكتور شريعتي تقديم مخطَّطٍ عن الأوضاع الاجتماعيّة السائدة في عصر الإمام الحسين، من خلال إلقاء نظرة على المسيرة التاريخيّة للمواجهة بين الحقّ والباطل.
ولإثبات مدّعاه، القاضي بأنّ الإمام الحسين كان يهدف من انتخابه لطريق الشهادة إلى فضح يزيد، يُشير إلى أنّه حتّى لو فرضنا بأنّه(عليه السلام) لا يمتلك علم الغيب، ولم يكن مطَّلعاً على خيانة الكوفيّين في طريق المواجهة، فإنّ القرائن والشواهد المتوفّرة في ذلك الوقت، علاوةً على النظام السلطوي لإمبراطورية بني أميّة، الذي كان متماسكاً إلى درجةٍ كبيرة، كلّ ذلك كان سيدفعه من وجهة نظر سياسيّة ـ وبغضّ النظر عن علم الغيب ـ إلى التسليم بعدم وجود أيّ فرصة للظفر على الأمويّين بهذه العُدّة القليلة وهذا الجيش المعدود. وبالتالي فإنّه كان يعدّ الشهادة مبدأً أساسيّاً وهدفاً نهائياً([23])، وليس كهدفٍ مال إليه في منتصف الطريق.
إنّ الرؤية التي قدَّمها شريعتي عن نهضة الإمام الحسين تُشكِّل قسماً من مشروعه الكبير حول تاريخ التشيُّع وفلسفته. فشريعتي هو من المعتقدين بأنّ التشيّع ـ على خلاف المذاهب الأخرى ـ يعتمد على فلسفة التاريخ([24])، التي تتبلور وتصل إلى مرحلة الفعليّة إثر التحوُّلات المتعاقبة والمتسلسلة التي تحدث بمرور الأيّام. وقد قام باستعراض حادثة كربلاء في إطار فلسفة تاريخ التشيّع. وعليه، ومن جهة دائرة المخاطَبين، فإنّه لا يقتصر على ربط الآثار والأصداء التي خلّفتها حادثة كربلاء بنطاق عصرها، بل يُعدّي ذلك ليشمل نطاقاً أوسع من تاريخ التشيّع والتحوّلات الطارئة عليه.
ومن جهة أخرى فإنّه يُعطي للإمام الحسين دوراً واعياً ومنسجماً مع النتائج المتوقّعة على ضوء هذه الفلسفة. ومن هنا فإنّ الإمام الحسين، وبالنظر إلى الدور الذي أُنيط به عبر التاريخ، أقدم على العمل بمضمون الرسالة التي تحدَّثت عن عاقبة أمره. وفي الواقع فقد كان يسير في طريق واضح المعالم، نحو هدفٍ معلوم، وبنتائج محدَّدة.
فمن وجهة نظر شريعتي تؤسّس العلاقة الجدليّة القائمة بين هذين الأمرين للتحوّلات الطارئة على المجتمع، وتنفخ فيها الروح، وتمدّها بالدافع، وتجعلها في الأخير قابلةً للتقييم. وعليه لا يكون الفعل صحيحاً إلاّ إذا كان موافقاً لمنهج التوحيد. وفي نفس الوقت يُشير شريعتي إلى صعوبة هذه المسألة وتعقيدها، ولا يعدّها بسيطة، ولا سطحيّة. وفي اعتقاده أنّ الشرك يتلبّس بلباس التوحيد في العديد من المواقع، فيصعب علينا بذلك اكتشافه، والتعرّف عليه.
ويرى بأنّ التوحيد يُشكّل روح التحوّلات الاجتماعيّة الإيجابيّة والتقدّمية، وينزعج كثيراً من الظاهريّين، الذين صيغ وجودهم في جوهره على أساس الشرك. وتمثِّل حادثّة كربلاء من منظار شريعتي مظهراً خالصاً، بدون رتوش، وبعيداً كلّ البعد عن أيّ شائبة من التظاهر، للحرب القائمة بين الشرك والتوحيد. وكربلاء ـ بحسبه ـ هي رواية صادقة وخالصة، تحكي عن الصراع الدائر بين التوحيد والشرك.
فما عرفته كربلاء من اصطفاف حقيقي، وبُعْد عن المظاهر الخدّاعة بجميع أنواعها، كان سبباً في ارتفاع معيار الإخلاص التوحيدي في هذه الحادثة إلى درجةٍ صارت معها وإلى الأبد محكّاً لتمييز الحقّ من الباطل. وتزداد الأهمّية التي تحظى بها كربلاء من ناحية أنّها في عين حصولها على رقم قياسي يأبى التكرار في الصفاء والإخلاص فإنّها تحتشد في مقابل الشرك، الذي يرى نفسه خليفة الله، ومظهراً للتوحيد.
فأخذ هذين القطبين الأساسيّين للتوحيد والشرك ـ أي الشرك ذو المظهر الخدّاع والتوحيد الخالص ـ بعين الاعتبار هو الدليل الذي جاء به شريعتي لاعتبار كربلاء تُمثّل قمّة المواجهة بين الشرك والباطل، وذروتها.
وما يلفت نظرنا حول شريعتي هو مستوى تحليله للأمور. وخلافاً للعديد من المنظِّرين الذين خاضوا في البحث حول حادثة كربلاء من الداخل، ومن خلال مجرى التحوّلات الطارئة عليها، فقد كان ينظر إلى كربلاء من خلال موقعها في وسط التاريخ، وكفرع من فروع فلسفة تاريخ الشيعة. وقد منحه هذا المستوى من التحليل قدرةً جنَّبته الالتهاء بجزئيّات الواقعة، ومكَّنته من عرض رؤيته الخاصّة لكربلاء، في مقابل الدور الذي لعبته الجزئيّات، والتي مثّلت أحياناً الهمّ الأساسي للنظريّات الأخرى.
كما أنّ هذه النظرة المتعالية والواسعة قد وهبته القابليّة للبحث حول ماهيّة الحوادث في ضمن الهدف النهائي للتاريخ. ونظراً لأنّ طبيعة وماهيّة كلّ حادثة جزئيّة من هذه النهضة لا تجد معناها إلاّ في إطار هدف نهائي فإنّه يلجأ وبكلّ بساطة إلى تفسيرها من خلال رؤيته التاريخيّة الخاصّة. وبناءً عليه فإنّه يعدّ مغادرة مكّة في أثناء مراسم الحجّ واقعةً يعلن الإمام من خلالها بأنّ الهدف والغاية قد تبدَّلا بتبدُّل النظام، ليُعاض عن ذلك ـ مع فقدان القيادة ـ بجسدٍ فاقد للروح([25]).
د ـ نظريّة الشهرستاني
ومفادها أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان يعلم بأنّه سيُقتل، سواءٌ بايع أم لم يُبايع، مع فارقٍ، وهو أنّه إذا بايع فإنّه سيقتل بالإضافة إلى اندثار مجده وآثار جدّه، بينما إذا لم يُبايع فسيقتل فقط، لكنْ مع تحقُّق آماله، وحفاظه على الشعائر الدينيّة، وحصوله على الشرف الأبدي([26]).
هـ ـ نظريّة الدكتور آيتي
سنسعى إلى توضيح نظريّة آيتي من خلال استعراض بعض كلماته، حيث يقول في موضع من كتابه: يريد أن يقول: إنّ تقييمي للمسألة ـ بصفتي أنا الحسين بن عليّ ـ هو أنّه بدون شهادتي أنا وأصحابي لا يُمكن الوصول إلى أيّ نتيجة، ولا القيام بأيّ عمل مفيد ونافع وإيجابي([27]).
ويقول أيضاً: إنّ هذا الانحراف الشديد الذي تعرَّض له نظام الخلافة الإسلاميّة في المرحلة الأولى، ثمّ تغلغل بعد ذلك في جميع الشؤون والنواحي الاجتماعية للمسلمين، لا علاج له إلاّ بالشهادة والفداء والثورة العارمة والجادّة([28]).
ويقول كذلك في موضع آخر: لم يُغادر الإمامُ مكّة فراراً من القتل، بل غادرها لكي يستفيد الإسلام إلى الأبد من شهادته إذا ما قُتل([29]).
ويقول آيتي أيضاً: فمن خلال عبارة: «خُطَّ الموتُ على وُلد آدم» يُشير الإمام إلى أنّ إصلاح الفساد الاجتماعي والديني ـ ولو كان على يد شخصٍ مثل ابن بنت رسول الله ـ لا يتيسّر إلاّ عن طريق الموت والشهادة. وقد كان كلّ حديثه في هذه الخطبة التي ألقاها قبل مغادرة مكّة يدور حول الشهادة والموت، والوقوع فريسةً لذئاب كربلاء الجائعة([30]).
مقارنة عامّة بين مختلف الآراء المطروحة حول نظريّة النزوع نحو الشهادة
بحسب تقسيمٍ عامّ وكلّي يُمكننا أن نصنِّف الآراء المنطوية تحت لواء هذه النظريّة إلى مجموعتين:
الأولى: وهي المجموعة التي تعدّ الشهادة بمثابة الهدف من النهضة، بالنحو الذي يكون فيه قتلُه× بحسبها أمراً قطعيّاً وحتميّاً؛ ومثال ذلك ما تمّ طرحه في نظريّتَيْ ابن طاووس والشهرستاني.
الثانية: وهي المجموعة التي ارتأت وجود خيارات أخرى أمام الإمام، مع اعتقادها بأنّه× قد مال إلى الشهادة من بين جميع هذه الخيارات. ومثالها يتجلّى في نظريّة كلٍّ من: شريعتي؛ وآيتي.
وأمّا النقطة التي تشترك فيها كلتا المجموعتين فتكمن في إيمانهما معاً بأنّ الإمام الحسين قد اختار الشهادة هدفاً لنفسه.
وبلحاظ آخر يُمكننا تقسيم المعتقدين بنظريّة «النزوع نحو الشهادة» إلى طائفتين: طائفة ركّزت على الجوانب النفسيّة والفرديّة لكربلاء؛ وطائفة أخرى اهتمّت بالانعكاسات الاجتماعيّة لتلك الواقعة، وبمستويات أعمق من الجوانب الفرديّة.
وتسعى كلّ واحدة من هاتين الطائفتين إلى ربط المجالات التي تهتمّ بها ببعض الانعكاسات الخاصّة التي خلّفتها حادثة كربلاء.
وبإمكاننا تقسيم هاتين الطائفتين الرئيسيّتين إلى مجموعتين: القدماء؛ والمعاصرين.
القدماء: وهم الذين لم يهتمّوا ـ عند اعتبارهم الشهادة بمثابة هدف ـ بالانعكاسات التي خلّفتها شهادة الإمام الحسين ـ نظير صاحب اللهوف ـ، واكتفوا بمجرّد عرض الشهادة كهدف؛ أو أنّهم اهتمّوا بذلك، لكنّهم اقتصروا على بحث انعكاسات هذه النهضة بلحاظ الروايات التي جعلت فضلاً كبيراً للبكاء على الإمام الحسين. ويعتقد هؤلاء بأنّ هذه الشهادة الدامية والمأساوية خلقت بعض الأوضاع التي فتحت للناس ـ عند التوسّل بها، والبكاء عليها ـ أبواب المغفرة إلى الأبد.
وهَمُّ هذه المجموعة هو الحصول على العفو والغفران الإلهي، من خلال عرض وقائع مأساوية، وباعثة على البكاء، كما أنّهم يُركِّزون بشكلٍ أساسيّ على الدور الذي لعبه البكاء على الإمام الحسين عبر التاريخ. ويعتقد هؤلاء بأنّ البكاء على الإمام الحسين هو نافذةٌ مفتوحة على الجنّة.
المعاصرون: ويقف هؤلاء في مقابل القدماء؛ حيث يرون بأنّ الانعكاسات التي خلّفتها واقعة كربلاء تشمل بشكلٍ أساسيّ دائرة المجتمع، أكثر من استيعابها لدائرة الفرد. وينتمي إلى هذه الفئة أفرادٌ من قبيل: شريعتي، وآيتي، والشهرستاني. ويرى المعتقدون الجدد بنظريّة «النزوع نحو الشهادة» بأنّ المخلَّفات الأساسيّة لحادثة كربلاء تكمن في تشكُّل طيف من الأحداث المختلفة، التي من جملتها موت يزيد، والثورات الدمويّة، وتبلور بعض المسيرات الإصلاحية عبر تاريخ التمييز بين الحقّ والباطل، وخلق نموذج مثالي ومثل أعلى يفصل بين هذين الاثنين، والقيام بإصلاحات، و… وقد حاول كلّ واحد من هؤلاء المفكِّرين التمسّك بأحد العوامل السابقة، أو ببعضٍ منها، وكذلك ببقيّة العوامل الاجتماعيّة لواقعة كربلاء.
ويُركِّز قدامى المعتقدين بنظريّة «النزوع نحو الشهادة» على دور البكاء والجوانب الفرديّة. وحتّى إذا ما ترقَّوْا وأبدعوا في مجال البحث حول كربلاء من ناحية الآثار الاجتماعيّة فإنّ غاية ما يُشيرون إليه هو تشكيل المجالس العموميّة عبر التاريخ، واستمرار هذا المسار في دائرة الحياة الاجتماعيّة الشيعيّة. بينما يُركِّز المعتقدون الجُدد بنظريّة «النزوع نحو الشهادة» بشكلٍ أساسي على الهموم الاجتماعيّة، ويرَوْن بأنّ معيار تأثير كربلاء هو أعلى من أن تنحصر قيمتُه في إحياء المناسبات الفرديّة.
الإشكالات المشهورة على نظريّة «كون الشهادة هي الهدف»
إذا كان هؤلاء الأشخاص يرَوْن بأنّ علم الإمام الحسين بالمستقبل بمثابة دليل يُجوِّز لهم تبنّي هذه النظريّة فينبغي أن يُقال ـ جواباً لهم ـ بعدم وجود أيّ تلازم بين العلم بالشهادة واتّخاذها هدفاً. وبتعبير أفضل: إذا كان من المفروض أن يُستشهد الإمام الحسين فهذا لا يعني بأنّه سيتّخذ الشهادة هدفاً سياسيّاً له.
وعلاوة على ذلك تحكي لنا دراسةُ ردود أفعال الإمام الحسين، والقرارات التي تبنّاها في مختلف المواقف، عن سعيه نحو طرح برنامج سياسيّ، يضمن له الحضور الفعّال على الساحة السياسيّة. ويكتسب هذ الموضوع أهميّته بلحاظ أنّ مسألة طرح برنامج وخطّة في العمل السياسيّ تُعبّر عن التمتُّع بهدفٍ يحتاج بلوغُه إلى التخطيط.
الإشكال الأوّل: عند مُتابعة مسيرة الأحداث والتقدُّم لخطوات في اتّجاه الأيّام القاسية سيبرز أمامنا سلوكٌ مُغاير صدر عن الإمام(عليه السلام)، لا ينسجم كثيراً مع المواقف التي اتّخذها في المقطع المبحوث عنه. فعندما منع الحُرُّ ومِن بعده ابنُ سعد، الإمامَ الحسين(عليه السلام) من المسير، طلب منهم أن يسمحوا له بالرجوع إلى محلّ إقامته في المدينة([31]).
ومن الطبيعي أن يكون التعبير بمثل هذا الكلام متناقضاً مع النزوع نحو الشهادة، بحيث قد يُعدّ ذلك في إطار التبرير لمسألة الرغبة في الحكم.
وجواباً عن هذا الإشكال يُمكننا القول بأنّ الإمام كان يريد إقامة الحجّة.
لكنّ هذا الجواب يحتاج إلى دراسةٍ وتحقيق أكثر.
الإشكال الثاني: إنّ الشواهد التي أتَيْنا بها سابقاً من أجل دعم نظريّة «النزوع نحو الحكم» ـ والتي من أهمّها أخذ البيعة، وإرسال مسلم ـ تُمثّل في حدّ ذاتها أشهر الإشكالات المطروحة على نظريّة «النزوع نحو الشهادة».
وعند هبة الدين الشهرستاني كلامٌ حول الجواب عن هذا الإشكال، يحتاج إلى بحثٍ وتحقيق. وسنسعى من جهتنا للخوض فيه؛ لمجرّد فتح الباب أمام دراسات مستقبليّة إذا ما أُتيحت الفرصة لذلك لاحقاً.
ينظر هبة الدين الشهرستاني إلى كربلاء من زاوية مختلفة، ويرى أنّ توجّه الإمام(عليه السلام)نحو الكوفة كان في سبيل إقامة الحجّة.
وفي تفسير هذا الكلام وتحليله يُمكننا القول بأنّه ينبغي عدّ المطالبات المتراكمة لأبناء عليّ× عاملاً مهمّاً في وقوع حادثة كربلاء. فلو أنّ الإمام الحسين لم يستجِبْ لدعوة الناس لأدّى ذلك إلى انتشار اليأس الاجتماعيّ والسياسيّ بين الذين دعوه للمجيء وعامّة الناس؛ لأنّه قد مرّت سنوات طوال دون أن يستجيب أهل البيت لدعوة الناس لإقامة الحكومة.
ومن خلال الاستجابة لدعوة الكوفيّين فإنّ الإمام الحسين، مضافاً إلى إبراز مدى التزامه بمسألة تأسيس نظام جديد للحكم، سعى إلى إتمام الحجّة عليهم. وقد بيَّن(عليه السلام) أنّ أهل البيت وأبناء الإمام عليّ لم يمتنعوا عن الاستجابة لدعوة الناس؛ بسبب قلّة سعيهم، بل إنّ ذلك نتيجةٌ لعجز الناس، وفتور همّتهم، وتقلّبهم.
إذا ما درسنا نظريّة إتمام الحجّة، التي جاء بها الشهرستاني، بشكلٍ أعمق فإنّنا سنقف على التوقُّع الثنائي الذي تبلور من خلال هذه الحادثة؛ فمن جهة أولى لو أنّ الأئمّة لم يستجيبوا لدعوة الناس لأدّى ذلك إلى ظهور إحساسٍ وفهم كاذب بينهم، وهو ما يعني في الواقع إقامة الحجّة على الأئمّة؛ ومن جهة أخرى فإنّ الإمام الحسين سعى إلى إقامة الحجّة على الناس من خلال الرضا بالشهادة، ولو أنّه(عليه السلام) لم يفعل أيّ شيء فإنّ ذلك سيترك ـ مضافاً إلى الإحباطات الاجتماعيّة ـ انطباعاً لدى الناس بأنّ الأئمّة كانوا يرفضون دعوتهم في كلّ مرّة بنحوٍ من الأنحاء، وسيؤدّي ذلك إلى تبلور أحكام خاطئة في أذهان الناس عن أدائهم^، وجعل الظروف الاجتماعيّة المساعدة على اتّخاذ مواقف سياسيّة من قِبل الأئمّة باهتة وضئيلة.
فبالإضافة إلى ما قام به الإمام الحسين ـ عندما اختار طريق الشهادة ـ من إعادة تشكيل لذهنيّة الكوفيّين فقد قام بتمهيد الأرضيّة المناسبة لبقيّة أعضاء أهل البيت من أجل اتخاذ إجراءات سياسيّة في المستقبل. وبذلك سعى الإمام الحسين عن طريق إتمام حجّته إلى تجفيف منابع التشاؤم التاريخي، الذي تشكَّل قسمٌ منها في زمان صلح الإمام الحسن. فلو لم يتَّخذ الإمام الحسين أيّ موقف فمن المحتمل أن لا تتهيّأ أيّ فرصة مناسبة لباقي الأئمّة بشكلٍ مطلق.
الإشكال الثالث: كان الإمام الحسين يصرّ على الرجوع بعد عرقلة الحُرّ وابن سعد إيّاه، وهو ما لا ينسجم مع فكرة كون الشهادة هي الهدف بالنسبة إلى الإمام.
ويُمكننا القول، جواباً عن ذلك: إنّما عبّر الإمام عن ميله إلى العودة بعد ممانعة الحُرّ وابن سعد من دخول الكوفة؛ لعدم إفضاء ذلك إلى حصول أيّ انعكاسات أو آثار سلبيّة، ممّا عدَّدناه سابقاً في مرحلة الاطّلاع على خبر شهادة مسلم، نظير: نقض الأهداف، وتقوية حكومة يزيد اللاشرعية. وها هو الإمام الحسين قد سعى حثيثاً حتّى شارف أبواب الكوفة، وبقي ثابتاً على مواقفه، على الرغم من تلبُّد آفاق المواجهة. ومضافاً إلى ذلك فقد سُلب منه في تلك الظروف الطارئة عنصر الاختيار، وسُدّ في وجهه طريق الكوفة بشكل عمليّ.
وفي هذه الحالة لن تكون عودته اختياريّة، بل ستكون إجباريّة، وشاهدةً على لجوء اليزيديّين إلى استعمال العنف. اللهمّ إلاّ أن نعدّ فعل الإمام شكلاً من أشكال إقامة الحجّة في تلك الظروف.
3ـ نظريّة الهروب من الموت
توجد أيضاً بعض الآراء التي تعتقد بأنّ هجرة الإمام الحسين لم تكن بهدف معانقة الموت، بل كانت هروباً منه. فبحسب هذا الرأي كان الإمام الحسين(عليه السلام) يُعاني في المدينة من بعض الأوضاع التي أدّت في النهاية إلى استشهاده؛ ولهذا السبب اختار(عليه السلام) الهجرة إلى الكوفة.
ويمكن الدفاع عن هذا الرأي بالإشارة إلى تشتُّت الموالين للإمام الحسين، الذين كانوا بشكل عامّ في الكوفة، بحيث إنّ المدينة كانت تفتقد مثل هذه المكانة. فبالنظر للظروف التي كان يعيشها من المنطقي جدّاً أن يُفضّل الإمام الكوفة على المدينة. ويقول أحد المعاصرين: لقد كان خروج الإمام الحسين(عليه السلام) من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة باتجاه العراق؛ من أجل المحافظة على روحه، ولم يكن تمرّداً، ولا ثورةً، ولا حرباً ضدّ العدوّ، ولا بهدف إقامة نظام للحكم([32]).
الإشكال الموجَّه إلى هذه النظريّة
لأوّل وهلة تبدو نظريّة الفرار من الموت مسألة غامضة. ويكمن هذا الغموض في أنّه بإمكاننا عرض الموت بنحوين: الأوّل: موتٌ باهت، وذو أثر ضعيف، والثاني: موتٌ مؤثِّر، ومقارن لتحوّلات اجتماعيّة عميقة. فإذا كان المقصود من الموت هو النحو الأوّل فإنّ الشواهد التاريخيّة، التي بين أيدينا، تحكي بشكلٍ واضح عن إهمال هذه النظريّة وضعفها؛ حيث إنّ الإمام الحسين سعى في حالات معيَّنة إلى الهروب من هذا النوع من الموت.
وكمثال على ذلك: السياسة الواضحة التي تبنّاها في المدينة، والتي كان الهدف منها الفرار من الموت الهادئ والمكتوم على يد يزيد. ومن الجدير بالذكر أنّ هذا النحو من الفرار يُعدّ جزءاً من مشروع أكبر كان يسعى من خلاله الإمام الحسين إلى بلوغ أهداف أخيرة، قد يكون أحدها عبارة عن موتٍ نبيل، ذي آثار بالغة، أو تأسيس حكومة.
بحسب هذا التفسير لنظريّة الهروب من الموت ستعاني هذه النظريّة من التعارض الداخلي والانغلاق؛ لأنّه لا يمكننا بحالٍ من الأحوال أن نعدّ هذا النحو من الفرار من الموت هدفاً للثورة، وأن نفسِّر نهضة الإمام الحسين ـ من خلال الإصرار على هذا الأمر ـ بأنّها كانت سعياً وراء الموت «التملُّصي».
وهذا النوع من الفرار والهروب إذا لم يكن في حدّ ذاته ممهِّداً لموتٍ أوسع دائرة وأكبر تأثيراً فقد كان ـ على الأقلّ ـ وسيلة للوصول إلى أهداف أخرى، من قبيل: تأسيس الحكومة.
وأمّا إذا كان المقصود من الموت هو النحو الثاني فينبغي علينا التأمّل في المسألة بشكلٍ أكبر. وتدلّ المشاهد المهمّة من واقعة كربلاء، والعديد من المواقف التي اتّخذها الإمام الحسين، على طلبه وسعيه للشهادة. ويبدو أنّه تمّ التركيز على رغبة الإمام الحسين في الفرار من الموت العَبَثي. هذا على الرغم من حضور ثقافة استشهاديّة غنيّة على مستوى كربلاء. لكنّ هذا لا يعني بأنّه(عليه السلام) كان يسعى بالضرورة نحو الشهادة. فما يظهر من ذلك هو مجرّد أنّ الإمام الحسين لم يكن في صدد الهروب من موتٍ نبيل، وذي أثرٍ بالغ، مع أنّه من الممكن أن يكون قاصداً إحدى هاتين الحالتين: إمّا الشهادة ـ التي تقف في مقابل ما تهدف إليه نظريّة الفرار من الشهادة ـ؛ وإمّا إقامة الحكومة.
4ـ نظريّة الأهداف المتوازية (نظريّة الشهيد مطهّري)
في الوقت الذي يمكننا تصنيف النظريّات المطروحة حول حادثة كربلاء من خلال التركيز على النقاط المشتركة بينها، فإنّ نظريّة مطهّري تفتح آفاقاً جديدة أمام دراسة عاشوراء. وقبل أن يكون مطهّري عالم اجتماع، مؤرِّخاً، فقيهاً، وباحثاً في القضايا الدينيّة، كان فيلسوفاً، ينظر إلى المسائل الاجتماعيّة بذهنيّة فلسفيّة، وبالاستفادة من قدرات تحقيقيّة هائلة، وعموماً كان يُخضع نظرته تلك إلى إطار منضبط ومنظَّم.
هذا السعي الدائم من قِبَل مطهّري نحو الاهتمام في مختلف المجالات بالمعارف المرتكزة على المنطق والعقل أدّى به على مستوى التحليل لنهضة الإمام الحسين(عليه السلام) إلى القيام بدراسة جذريّة حولها، وإنجاز تحقيق لم ينحَزْ فيه إلى أيّ نظريّة من النظريّات الأخرى، وإلى عرض الإشكاليّات العامّة المطروحة على تلك النظريّات.
فبعد أن يُبيِّن العديد من الاحتمالات المطروحة حول تحليل واقعة كربلاء ـ والتي يشتمل عليها قسم مهمّ من النظريّات الأخرى ـ يُشير مطهّري إلى الخلل الرئيسي الذي تُعاني منه جميع هذه النظريّات.
والنقطة الأساسيّة التي يتعرّض لها مطهّري تكمن في عجز هذه النظريّات عن التوفيق بين المبادئ التي تؤمن بها وبين حقيقة حادثة كربلاء؛ حيث اكتفت كلّ واحدة منها بالإشارة إلى أجزاء الواقعة التي تحكي عن صحّة دعواها، من غير أن تعطي صورةً كاملة عن الواقعة بتمامها. وقد برز ضعف النظريّات المطروحة حول عاشوراء حين تمّت مقابلتها مع مختلف الشواهد المستخلَصة من تلك الحادثة.
ففي الوقت الذي شكَّلت فيه هذه الشواهد نقطة قوّة، ومرتكزاً أصليّاً لإحدى النظريّات، عُدّت علامةً على ضعف نظريّة أخرى وعجزها.
ولهذا السبب اهتمّ قسمٌ من المساعي التي بذلها مطهّري ببيان هذا النوع من الضعف الذي عانت منه النظريّات السابقة(33). ومن خلال تجاوز مسألة النزوع في عاشوراء نحو هدفٍ مطلق فقد سعى مطهّري إلى استبدال الهدف الواحد بمجموعة من الأهداف.
وفي اعتقاده فإنّ عاشوراء لم تنتج من خلال السعي نحو هدفٍ واحد، بل هي حصيلة لاستقصاء مجموعة من الأهداف المتوازية والمتعدّدة، التي من الممكن أن يختلف مجال عملها وظرف تأثيرها. فبعض هذه الأهداف عاجلٌ جدّاً، ولإسكات الناس، أو حتّى المرافقين للإمام الحسين([34])، وبعضها للتأثير في الأوضاع السياسيّة المعاصرة([35])، وبعضها لإحداث آثار تاريخيّة وطويلة الأمد([36]).
عرضٌ وتحليل لنظريّة الشهيد مطهّري
عند القيام باستعراض نظريّة الشهيد مطهّري وتحليلها يجدر بنا الالتفات إلى النقاط التالية:
أـ لا يعني تعدّد الأهداف عند مطهّري الإيمان بأهداف بديلة، كما اعتقدت بذلك بعض النظريّات السابقة. فالأهداف التي يُؤمن بها مطهّري هي في الواقع ليست أهدافاً تتحقّق في مرحلة معيّنة، ومقاطع زمانيّة منفصلة، وإنْ أمكن مشاهدة تأثيرها في مقاطع معيّنة. وقد سعت النظريّات التي تعتقد بالأهداف البديلة ـ وخصوصاً نظريّة صالحي النجف آبادي ـ إلى الخوض في بيان التضادّ الحاصل بين الأحداث والتحوُّلات من جهة والإجراءات والمواقف التي اتّخذها الإمام الحسين من جهة أخرى. وعليه يكون الإمام الحسين عند اتّخاذه للقرارات ـ بحسب نظريّة الأهداف البديلة ـ متأثِّراً بالظروف، وواقعاً تحت تأثير التحوّلات الطارئة، ومنفعلاً بها، شأنه في ذلك شأن أيّ فاعلٍ حكيم آخر.
وأمّا من وجهة نظر مطهّري فالإمام الحسين (عليه السلام) هو في منتهى الفعاليّة. وإذا ما وُجدت شواهد على خلاف ذلك فلأنّه كان عازماً منذ البداية على تحقيق أهداف مختلفة، لا أنّها نشأت مع الأحداث وتغيُّر الأوضاع.
ويعتقد الشهيد مطهّري أنّ الإمام الحسين كان يصبو في واقعة كربلاء نحو تحقيق أهداف ثلاثة، وهي:
أوّلاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يعتبر الشهيد مطهّري أنّ أوّل أهداف الإمام الحسين وأهمّها وأبرزها هو العمل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثانياً: التملّص من مبايعة يزيد: كان مطهّري يرى بأنّ التهرّب من مبايعة يزيد هو أحد الأهداف التي سعى إليها الإمام من الهجرة إلى مكّة؛ لأنّ أجواء البيعة والرضوخ لسلطة يزيد كانت هي الحاكمة على المدينة في ذلك الوقت.
ثالثاً: الاستجابة لدعوات أهالي الكوفة: يعتقد الشهيد مطهّري بأنّ ثالث تلك الأهداف يكمن في استجابة الإمام الحسين لدعوة الناس([37]). وفي الواقع فإنّ هذا الهدف يُبرز الدور العرفي الذي يلعبه الإمام الحسين في المجتمع.
وتحتوي نظريّة مطهّري على نوعٍ من المقارنة بين الأهداف، حيث تُقيّم هذه الأهداف الثلاثة بطريقةٍ يكون فيها الهدف الأوّل أهمّ من الثاني، والثاني أهمّ من الثالث.
ب ـ يعتقد مطهّري ـ كما أشرنا ـ أنّ من أهداف الإمام التمرّد على بيعة يزيد. ويبدو أنّه من الممكن الاستعانة بأحد هذين الدليلين من أجل الإثبات المنطقي لهذه الدعوى:
الأوّل: تُعدّ مسألة مغادرة مكّة، والاستعجال في الخروج منها، علامة واضحة على التمرّد على أمر يزيد بالمبايعة؛ إذ إنّ يزيد كان قد طلب من حاكم المدينة أن يرسل له واحداً من اثنين: إمّا رأس الإمام الحسين؛ وإمّا عقد بيعته. وحين يصدر أمر بهذه الصراحة من الطبيعي أن يُعدّ الخروج عن دائرة طاعة ممثِّل الخليفة دليلاً واضحاً وعلامةً بيِّنة على رفض البيعة. فمن خلال هذا العمل قام أعداء الإمام بتوفير المبادرة اللازمة لصنع الوضعيّة التي يرغبون فيها.
وبيان ذلك: إنّ يزيد ـ خلافاً لمعاوية ـ لم يكن مطَّلعاً على التعقيدات السياسيّة، ولم يكن يسعى إلى تحقيق أهدافه من خلال وضع برامج مرحليّة؛ ولهذا السبب كان يتصرَّف بسطحيّة في أغلب قراراته السياسيّة، دون أن يفكّر في عواقب ذلك وتبعاته.
الثاني: لم يكتفِ الإمام الحسين من خلال مغادرته للمدينة، وتوجّهه إلى مكّة ـ وخصوصاً عندما تحرّك باتّجاه الكوفة ـ، بردِّ بيعة يزيد، بل أقدم كذلك على الثورة ضدّ حكومته. وفي الوقت الذي طلب يزيد البيعة من الإمام الحسين خطا الإمام خطوة نحو الأمام، فإضافة إلى عدم إجابته إلى البيعة قام بطلب البيعة لنفسه، وأعلن الخروج على حكومة يزيد.
وعلى هذا فقد كان خروجه× من المدينة خروجاً على الحاكم المستبدّ وحكومته، بحيث شكّل ذلك الخروجُ مَظهراً لرفضه بيعة يزيد. والأمر الذي يحوز على أهميّة قصوى في مثل هذه الظروف هو التمرُّد ضدّ حكم يزيد، لا مغادرة المدينة. هذا مع أنّ الخروج من المدينة يُعدّ الشرارة الأولى التي أشعلت نار التمرُّد على أوامر يزيد وإرادته.
ج ـ عندما نتحرّك على مسار الأهداف التي تعرّض لها الشهيد مطهّري نصطدم بحصول تغيّر ملموس من الحالة الوظيفيّة إلى الحالة الإجرائيّة، إلاّ أنّ هذا لا يمنع من أن تتمتّع الأهداف الأولى ـ من حيث القيمة ـ بأهمّية أكبر بالنسبة إلى الأهداف اللاحقة.
وبيان ذلك: إنّ الهدف الأوّل يحتوي على جنبة تصوُّرية واعتقاديّة صرفة، في الوقت الذي يتلاءم فيه الهدف الثاني بشكلٍ أكبر مع العمل في إطار العرف وظروف الحياة السياسيّة. وتبلغ أهميّة هذا العامل درجتها القصوى على مستوى الهدف الثالث، حيث يُنظر إلى الإمام الحسين ـ بغضّ النظر عن معتقداته السياسيّة ـ بمثابة عنصر فاعل على الساحة السياسيّة. ومع هذا كلّه فلا يخلو الهدف الأوّل بدوره عن بعض الجوانب العمليّة؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان يمتلك باستمرار نتائج وأدواراً اجتماعيّة.
5ـ مواجهة حالة الانغلاق السياسي السائدة في عصر يزيد
الفرضيّة الأخرى التي يمكن طرحها في هذا المجال([38]) هي التي ترى بأنّ الهدف الأساسي للإمام الحسين يكمن في مواجهة حالة الانغلاق السياسي وانسداد الأفق في عهد يزيد. وبحسب هذا الرأي فإنّ الإمام الحسين كان يعلم بأنّه سيسقط شهيداً على يد يزيد، سواءٌ كان ذلك في المدينة أو في مكان آخر، غاية الأمر أنّه(عليه السلام) سعى إلى إحياء نهج المقاومة ضدّ يزيد في المجتمع، من خلال سحب مشهد شهادته إلى ساحة المجتمع.
وفي هذا الإطار يستطيع المؤيِّدون لهذا الرأي الاستناد إلى المصير الذي آلت إليه حكومة يزيد إثْرَ شهادة الإمام الحسين(عليه السلام). وقد تأثَّر هذا المصير بصورةٍ واضحة بتفاقم قدرة المجتمع على الثأر ومعاقبة المتسبِّبين في شهادته(عليه السلام).
وخلافاً لمعاوية الذي كان يمتاز بالتأنّي والبرمجة، واللجوء إلى الكرّ والفرّ، والتقدّم ببطء وهدوء، فإنّ يزيد كان يفتقد لحسّ الاطّلاع على الأوضاع، والمرونة في التخطيط. وما كان يتطلَّب من معاوية سنواتٍ طوالاً، مليئة بالمشقّة والصبر والتأنّي، كان يراه يزيد سائغاً في ليلة واحدة. وتتضافر عوامل مختلفة ـ من جملتها: الروحيّة المتعجرفة، وعدم امتلاك الفطنة اللازمة لمعرفة الظروف ـ لتشكِّل الأصل والسبب في النظرة الأحادية التي كانت عند يزيد.
وعلى أيّ حال، عند السعي نحو الحكم ـ مع أنّه هدف فوق الطاقة والاستعداد ـ، والخطأ في تقدير القدرات والإمكانيّات، فإنّ ذلك يمهّد الأرضيّة لحصول اختناق اجتماعيّ وسياسيّ. وقد حصل فعلاً هذا الاختناق في عهد يزيد، حيث دعا الجميع إلى مبايعته والتسليم له. وفي نفس الوقت الذي كان يتصرّف فيه علناً بشكلٍ مناف للدين والأوضاع السائدة في المجتمع كان يُحبّ أن يطلق عليه اسم (أمير المؤمنين).
كلّ هذه الأمور أدّت إلى رسوخ شكلٍ من أشكال السنن الخاطئة، وشيوعها في المجتمع. ومع أنّ العديد من التجارب المــُضنية قد حلّت بالمجتمع بعد وفاة الرسول|، إلاّ أنّ أحداً لم يكن يعتبر نفسه أميراً للمؤمنين مع احتسائه العلنيّ للخمر.
ووفقاً لهذا التحليل ينبغي النظر إلى مسألة إزالة حالة الاحتقان، وإظهار حالة العجز الواقعي التي يعاني منها حكم يزيد، بمثابة هدفٍ نهائيّ للإمام الحسين. وقد كان الإمام يسعى إلى فضح حكومة يزيد، التي تشكَّل بناؤها الداخلي على أساس الظلم؛ لينقلب بذلك تهوُّر هذه الحكومة وبالاً عليها. ونتيجةً لهذا الأمر فإنّ أيّاً من الحكومات التي جاءت بعد يزيد لم تستطع تحطيم الرقم القياسي الذي وصل إليه حكمُه، ولم يُرغَب في ذلك، مع أنّ العديد منها قد سلك سبيل الغيّ والضلال.
وتدلّ عبارة «على الإسلام السلام» على الهدف النهائيّ الذي كان يصبو إليه الإمام الحسين. وقد كان الإمام الحسين يخشى من استمرار السياسات المبتنية على الانغلاق، كما بذل قصارى جهده في سبيل كسر شوكة خطّ الانغلاق، والقضاء على قدراته. فرغم أنّ الخطوات التي قام بها الإمام الحسين لم تُؤمّن الإسلام تاريخيّاً من بروز أجواء الاختناق السياسيّ والاجتماعيّ، لكنْ من المتيقّن أنّها ضمنت محافظة الحكّام اللاحقين على درجة معيَّنة من الظاهر، واستجابتهم لمطالب الناس العامّة.
ومضافاً إلى ذلك، إذا كنّا لا نروم الخوض في تقييمات بعيدة المدى، وكتابة وصفة جاهزة للتاريخ، أو حتّى طرح آراء مغايرة لهذا النوع من الرؤى، ينبغي علينا أن نعدّ تفادي حصول الانهيار الاجتماعي كأحد الأهداف التي سعى إليها الإمام الحسين. وفي الواقع فإنّ الإمام(عليه السلام) تمكَّن بهذا العمل من إنقاذ مجتمعٍ كان يسير في اتّجاه الانهيار، وحدوث أزمات إقليميّة، وانفصال الفئات الاجتماعية عن بعضها البعض في نهاية المطاف. ويشهد التاريخ بأنّ الطالبين بثأر الإمام الحسين هم وحدهم الذين سحقوا يزيد وحكومته.
الإشكال المشهور على هذه النظريّة
تشير الأوضاع التي تبلورت من خلالها حادثة كربلاء، والمجتمع الذي نمت وبرزت فيه هذه الواقعة، إلى ظهور مجتمع منغلق، قد انحدر من الناحية السياسيّة إلى عصر الاختناق. ومع أنّ هذا الاختناق والانغلاق له سابقةٌ من نوعه، قبل إمساك يزيد بأزمّة الحكم، لكنّ حكومة يزيد هي الحكومة الوحيدة التي دفعت به إلى أعلى مستوياته، وأدّت إلى إصابة المجتمع بهزّات عنيفة، ومعاناته من الاحتقان السياسي، وذلك من خلال إلغاء الجوانب الظاهريّة التي كانت تتَّصف بها حكومة معاوية. وعليه مع إثمار هذه الحركة الاجتماعيّة والتحوّل السياسي فقد اتَّجهت حالة الاحتقان نحو الانخفاض إلى أن اضمحلّت.
في الحقيقة، وضمن نتيجة عامّة وكليّة، بإمكاننا دراسة الأوضاع المتقدِّمة على واقعة كربلاء، والمتأخِّرة عنها، في علاقتها مع حالة الانغلاق السياسيّ، وبيان أنّ التخفيض من مستوى الاحتقان يُعَدّ على الأقلّ من أهمّ الآثار التي نتجت عن هذه الحادثة.
لكنّ الكلام هنا في أنّه إلى أيِّ حدٍّ يُمكننا اعتبار النضال من أجل الوصول بهذه الوضعيّة إلى حالة الإثمار أحدَ الأهداف ـ أو هدفاً محوريّاً ـ لحادثة كربلاء؟ وبعبارة أخرى: هل أنّ الخروج من حالة الاحتقان، وإيجاد انفراج فيها، هو ـ مبدئيّاً ـ من أهداف تلك الواقعة، بحيث كان يُسعى لتحقيقه بصورة واعية، أم لا؟
وجواباً عن ذلك ينبغي القول: إنّ دراسة الشواهد التاريخيّة تحكي عن عدم امتلاك أيّ دليل ـ أو أدلّة ـ على كون الخروج من حالة الانغلاق هدفاً للإمام(عليه السلام). وبالتالي يجب عدّ هذا الأثر المهمّ من جملة الآثار التي تحقَّقت ضمن تحقُّق أهداف الإمام الحسين الأخرى. وإلى جانب هذه الرؤية يمكننا فتح آفاق جديدة من البحث، نستطيع ـ إذا ما أخذناها بعين الاعتبار ـ أن نعدّ الخروج من حالة الانغلاق هدفاً منظوراً، وذلك على الرغم من عدم وجود شواهد خاصّة على هذا الأمر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآفاق الجديدة من البحث تعتمد في داخلها على رؤية كلاميّة، مفادها أنّ الأئمّة؛ وبسبب امتلاكهم لعلم الغيب، ووقوفهم على الآثار التي تخلِّفها التحرّكات والمبادرات السياسية وغير السياسيّة الصادرة عنهم، فإنّهم يتَّخذون من هذه الآثار هدفاً وغاية، وهم يتصرَّفون بطريقة مدروسة بدقّة، وعن وعي بجميع الانعكاسات والآثار المحتملة، خلافاً لعامّة الناس، الذين تتميَّز طريقة عملهم بنحوٍ من الفوضى.
6ـ نظريّة الأهداف ذات المستويات المتعدِّدة (نظريّة جديرةٌ بالبحث)
عند استعراضنا لهذه النظريّة سنسعى بشكلٍ أكبر إلى تحديد الإطار الخاصّ، الذي يعطي تفسيراً لمعنى نهضة الإمام وفقاً لهذه النظريّة، وسنغضّ الطرف عن الخوض في الجانب التاريخيّ المرتبط بتلك النهضة. وبطبيعة الحال لو تمّ التوافق على هذا الإطار فإنّ الجوانب التاريخيّة ـ التي مرّت معنا عند عرض النظريّات السابقة ـ ستحتلّ مكانها المناسب فيه، بحيث لن تفتقر بعد ذلك لأيّ توضيحٍ زائد.
وفي ما يلي سنتعرّض لبيان هذه النظريّة:
في بعض الأحيان تكون أهداف الأئمّة^ في مستويَيْن: ظاهر؛ ومستور. وقد تخفى علينا المستويات السفلى من هذه الأهداف، مع أنّها تترك تأثيرها على طريقة تفكيرنا أو منهجنا في الفهم أو أسلوب حياتنا الدينيّة. وبعبارة أفضل نقول: إنّه أحياناً قد نتنفّس في داخل أجواء ناتجة عن جهود الأئمّة ومساعيهم، مع أنّنا لا نملك أدنى اطّلاع على ماهيّة هذه الجهود وطبيعتها.
إنّ التعرُّف على هذا النوع من الأساليب، التي كان يتَّبعها الأئمّة في عملهم، لا يتسنّى لنا إلاّ من خلال القيام بعمليّة تشريح للفهم التاريخي، ودراسة التطوّرات التي عرفها الفكر التاريخي. فإذا لم تترافق نظرتنا إلى الماضي مع بعض الاستنباطات التأويليّة فمن المتيقَّن أنا سنسقط في انحرافات وأخطاء في الفهم.
وكمثال على ذلك: قد نواجه أحياناً بعض تصرّفات الأئمّة التي لا تنسجم من جهة مع علمهم بالغيب، ولا تتلاءم من جهة أخرى مع سيرة بقيّة الأئمّة. ففي مثل هذه الموارد علينا أن نربّي أنفسنا على القيام بدراساتٍ أعمق عند التعامل مع الواقع، وأن نسعى إلى الكشف عن العلاقة والتوازن الداخلي الحاصل بين النتائج طويلة الأمد والنتائج الآنية ـ أو الأهداف الظاهرة ـ المنبثقة عن المواقف التي كان يتخذها الأئمّة(عليهم السلام).
وإذا أمعنّا النظر في العبارات المستعملة في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) سنقف على حقيقة مفادها أنّ هدف الإمام يتألّف من مستويين: ظاهريّ ومكشوف؛ وباطني ومستور. فالمستوى الظاهري هو ذلك الأسلوب الذي تمّ طرحه على شكل سياسة إعلاميّة، وفي إطار السعي نحو هدفٍ مطلوب ومرغوب.
وكمثال على ذلك: يُمكننا اعتبار دعوة الإمام الحسين(عليه السلام) إلى عزل يزيد، وإقامة نظامٍ عادل للحكم، بمثابة مستوى ظاهريّ لبعض المواقف، التي خُتمت في الأخير بعاشوراء.
وأحياناً قد يكون التاريخ وحده القادر على كشف النقاب عن تلك المستويات الباطنيّة. ولذلك فقد كشفت لنا عاشوراء في هذا العصر عن خصوصيّاتها.
ولتوضيح هذه النظريّة بشكل أكبر يجدر بنا الالتفات إلى مسألتين:
الأولى: بإمكاننا أن نعدّ نظريّة «الأهداف ذات المستويات المتعدِّدة» جسراً يربط بين نظريّة الأهداف المتوازية ـ للشهيد مطهّري ـ ونظريّة الأهداف المرحليّة ـ التي تبنّاها صالحي النجف آبادي وعدّة آخرون ـ. فعلى الرغم من أنّ هذه النظريّة تمتلك هويّة مستقلّة عن كلتا النظريّتين، غير أنّه يمكننا اعتبارها نقطة اشتراكٍ بينهما؛ وذلك بسبب قربها من بعض العناصر التي تؤلِّف النظريّتين.
فباعتقاد نظريّة «الأهداف ذات المستويات المتعدّدة» وجودَ أهداف جليّة، وأخرى خفيّة، في صلب الواقعة تكون قد اقتربت من نظريّة الأهداف المتوازية لمطهّري، والتي تعتقد بتعدُّد الأهداف أيضاً. لكنْ، وخلافاً لنظريّة الأهداف المتوازية، لم يأتِ الحديث في هذه النظريّة عن أهداف صمدت حتّى النهاية في وجه التحوُّلات البديلة. فالإيمان بحدوث التغيير على مستوى الأهداف ـ وخصوصاً في المراحل الأخيرة لحادثة كربلاء، وبالأخصّ بعد مواجهة الحُرّ ـ يفضي إلى حصول تقارب أكثر بين نظريّة «الأهداف ذات المستويات المتعدِّدة» وفكرة «الأهداف ذات المراحل المختلفة».
ومع هذا، وخلافاً لنظريّة صالحي النجف آبادي، فقد تمّ التأكيد هنا على أنّ الاعتقاد بالأهداف المتوازية هو شكلٌ من أشكال التنوّع في الأهداف.
الثانية: تركِّز نظريّة «الأهداف ذات المستويات المتعدِّدة» على التعامل مع الأهداف بشكلٍ عملي. وتوضيحاً لهذا الأمر ينبغي لنا أن نقول بأنّ من الممكن اعتبار أسلوبين: التفصيل العملي بين الأهداف؛ والتعامل العملي مع الأهداف.
ومرادنا من الأسلوب الأوّل هو أن نعيِّن لكلّ هدف مجالاً وإطاراً خاصّاً، كان الإمام الحسين(عليه السلام) يأمل من خلاله في الوصول إلى الآثار والنتائج المرجوّة.
ومقصودنا من الأسلوب الثاني هو أن نصوِّر تلك الأهداف بحيث تكون في خدمة بعضها البعض، ويكمّل بعضُها البعض الآخر. ووفقاً لهذا الرأي يُنظر إلى كلّ هدف يحوز على أهمّيةٍ أقلّ بين الأهداف كممهِّد أو مساعد على تحقُّق الهدف الأعلى أو الهدف الأساسي.
وفي هذا الصدد نستطيع أن نُخفّض مسألة استجابة الإمام الحسين لدعوة الكوفيّين من مستوى الأهداف الواقعيّة إلى مستوى الأهداف الاستراتيجيّة أو الخطط التنفيذيّة. وبالتالي لو كان الحسين(عليه السلام) يملك أمامه استراتيجيّة أو خطّة تنفيذيّة أخرى؛ من أجل بلوغ أهدافه، لاستعان بها. وبعبارة أخرى: تُعتبر مسألة الاستجابة للكوفيّين مجرَّد شكلٍ من أشكال الاستفادة من الظروف الاجتماعيّة؛ في سبيل تهيئة الأرضيّة المناسبة للوصول إلى الأهداف المهمّة والرئيسيّة، ولا تحظى بأهمّية ذاتيّة في وقوع حادثة كربلاء.
وهكذا فإنّ كلّ هدفٍ من الأهداف لا يُلغي الشواهد التي تسعى للعثور على أهدافٍ أخرى في قلب الحادثة، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإنّ كلّ هدفٍ يحمل على عاتقه جزءاً من مسؤوليّة تمهيد الأرضيّة لتحقيق أهداف أعظم وأهمّ.
وأمّا مطهّري فلم يتحدَّث حول هذا الموضوع، وبالتالي ينبغي علينا أن نرى أيّ واحدٍ من الأسلوبين يُمكننا حمل كلامه عليه، وهو ما يتطلَّب دراسةً أعمق.
الهوامش
(*) أستاذٌ وباحث في الحوزة العلميّة.
(**) كلّ المقالات المتعلِّقة بملفّ العدد قد تمّت ترجمتها بالتنسيق مع مكتب الإعلام الإسلامي في قم ـ إيران (دفتر تبليغات).
([1]) الطوسي، تلخيص الشافي 4: 182.
([2]) المصدر السابق.
([3]) الصالحي النجف آبادي، شهيد جاويد (الشهيد الخالد): 11.
([4]) المصدر السابق: 246 ـ 340.
([5]) الخميني، صحيفة النور 1: 174.
([6]) المفيد، الإرشاد 2: 39؛ ابن الأعثم، الفتوح 5: 30.
([7]) تاريخ الطبري 4: 257.
([8]) المصدر السابق: 286.
([9]) المصدر السابق: 257.
([10]) مجموعة من المؤلِّفين، موسوعة كلمات الإمام الحسين: 448.
([11]) المسعودي، مروج الذهب 3: 54.
([12]) الإرشاد 2: 36.
([13]) المصدر السابق 2: 38.
([14]) من المحتمل أن يكون الإمام الحسين في هذه المرحلة مطّلعاً على أنباء وأخبار جعلت من الصورة العامّة لشهادته أكثر وضوحاً وجلاء، وهي أخبار وأنباء قد تكون خافيةً عن الكثير من النخب. وعليه، مع أنّ النـزوع نحو الحكم كان حتّى الآن هو الهدف الأوّل للإمام الحسين، لكنْ ابتداء من هذه المرحلة ستحتلّ الشهادة ـ كأحد الخيارات الأساسيّة ـ مكانةً مهمّة في تفكيره (عليه السلام) . وببيان أوضح: إنّ الأوضاع السياسيّة كانت إلى ما قبل هذه المرحلة تؤيّد الشواهد الدالّة على نجاح المساعي المبذولة من أجل تأسيس الحكومة.
ومن المحتمل أن تكون التقارير التي وصلت إلى الإمام بعد الجهود المكثّفة التي بذلها بنو أميّة في الكوفة قد نجحت في تكدير أجواء النصر. ولهذا السبب لن يكون بمقدور الإمام الحسين(عليه السلام) من جهة أولى أن يُدير ظهره للطريق الذي اختاره بنفسه، ويتخلّى عنه؛ ومن جهة أخرى؛ وبسبب مواجهته لحشد من الأنباء المريرة، فإنّه سيعمل على إحداث تغيير على مستوى أدبيّات الثورة عند إلقائه للخطبة المذكورة. والشاهد على هذه الدعوى أنّ العديد من المشفقين والناصحين تحدّثوا في تلك الأيّام عن حالةٍ من الاضطراب والإخفاق تعيشُها الكوفة.
وتحكي شواهد من هذا القبيل على أنّ الأياّم الأخيرة للإقامة في مكّة كانت علامةً على تبلور أوضاع مختلفة. لكنّ إثبات هذه الفكرة هو مسألة تحتاج إلى دراسة تحقيقيّة وتاريخيّة، وطرحُها في هذه المقالة يقتصر على المهتمّين بالدراسات التحقيقيّة الجادّة فقط. وسنخوض من جهتنا في بيان وتحليل مثل هذه الاحتمالات من دون إصرار وتأكيد؛ وذلك لمجرّد فتح فصل جديد من البحث والتحقيق.
([15]) ويقول أيضاً: فمن خلال عبارة: «خُطّ الموتُ على وُلد آدم» يُشير الإمام إلى أنّ إصلاح الفساد الاجتماعي والديني ـ ولو كان على يد شخصٍ مثل: ابن بنت رسول الله ـ لا يتيسّر إلاّ عن طريق الموت والشهادة. وقد كان كلّ حديثه في هذه الخطبة التي ألقاها قبل مغادرة مكّة يدور حول الشهادة والموت، والوقوع فريسةً لذئاب كربلاء الجائعة. (محمد إبراهيم آيتي، بررسي تاريخ عاشورا (دراسة حول تاريخ عاشوراء): 84).
([16]) علي شريعتي، الحسين وارث آدم: 152.
([17]) تلخيص الشافي 4: 187.
([18]) مع أنّه لم يستعرض هذه المسألة بهذه الكيفيّة.
([19]) الحسين وارث آدم: 153.
([20]) ابن طاووس، اللهوف: 18.
([21]) الحسين وارث آدم: 224.
([22]) ويقول في هذا الصدد: …يثور ليموت؛ إذ أنّه لا يملك سوى الموت سلاحاً يتسلَّح به من أجل المواجهة، وفضح العدوّ، وتمزيق أقنعة المكر والخديعة، التي أخفت الوجه الكريه للنظام الحاكم، ومن أجل ضخّ دماء جديدة من الحياة والجهاد في الجسد الميّت لهذا الجيل، الجيل الثاني من ثورة النبيّ محمّد. إنّه وحيدٌ أعزل، لا يملك سلاحاً ولا قوّة، وفي ذات الوقت مكلَّفٌ بالجهاد، فلا سلاح له إلاّ الموت، ولا مناص له من اختيار الموت الأحمر. (الحسين وارث آدم: 192).
([23]) ومن هنا فإنّ شريعتي كان يعدّ الهجرة من المدينة إلى مكّة، والهجرة من مكّة إلى الكوفة، في ضمن مخطّط واحد. (راجع: الحسين وارث آدم: 152).
([24]) المصدر السابق: 237.
([25]) المصدر السابق: 248.
([26]) هبة الدين الشهرستاني، نهضة الحسين: 42.
([27]) بررسي تاريخ عاشورا (دراسة حول تاريخ عاشوراء): 85.
([28]) المصدر السابق: 79.
([29]) المصدر السابق: 83.
([30]) المصدر السابق: 84.
([31]) الإرشاد 2: 78؛ ابن كثير، البداية والنهاية 8: 184.
([32]) علي پناه اشتهاردي، هفت ساله چرا صدا در آورد؟ (لماذا استصرخت السنوات السبع؟): 193 ـ 194.
([33]) الشهيد مطهّري، مجموعة الآثار 17: 671 ـ 703.
([34]) المصدر السابق 17: 146 ـ 152.
([35]) المصدر نفسه.
([36]) المصدر نفسه.
([37]) المصدر السابق 17: 141 ـ 146.
([38]) لم أرَ حتّى الآن أنّ أحداً قد تعرَّض لطرح هذه الفرضيّة. وما يوجد في هذا المجال هو مجرَّد تعليقات أوردها أحد العلماء في المقدِّمة التي كتبها على كتاب (بررسي تاريخ عاشورا)، من تأليف الدكتور آيتي، حيث من الممكن أن نعدّ بعضاً من هذه التعليقات قريبةً من تلك الفرضيّة.