فقه الميزان

فقه الميزان.. الإنسانية والتوازن المفقود / د. علي محيي الدين القره داغي

الاجتهاد: لابد قبل البدء في بيان الراهن وتجلياته الاضطرابية من تعريف بفقه الميزان وصورته. إنه علم دقيق يقوم على: معرفة أن لكل شيء ميزانه الخاص به، ووزنه الخاص به.

لكل باب من أبواب الشريعة ميزانه، فإذا وزنت به أشياء أخرى، أو بابا آخر يختل الميزان، ولذلك عبر القرآن الكريم عن العدالة المطلقة يوم القيامة بالموازين (جمع كثرة) لأن الله يحاسب المؤمن حسب ميزانه باعتباره مؤمنا، والكافر الظالم المعاند حسب ميزانه باعتباره كافرا ظالما بلغته الدعوة فعاندها، والكافر الذي لم تبلغه الدعوة، فكل واحد حسب ميزانه، وحتى لو ورد لفظ الميزان مفردا فيراد به جنس الميزان الشامل للجمع والمفرد.
لكل حكم شرعي وزنه.
لكل فعل مكلف وزنه.
لكل شخص وزنه.
لكل زمان وزنه.
لكل مكان وزنه.

فوزن سيئات العلماء الربانيين القدوة أثقل من سيئات عامة الناس، والعبادة في شهر رمضان -مثلا- وفي الحرم أثقل من العبادة في غيرهما.

ضوابط منهجية

إذا لم يعط لكل شيء وزنه الخاص اختل الميزان، وبالتالي اختل الحكم والنتيجة.

أمثلة:

ميزان العقيدة غير ميزان أحكام الشريعة، وميزان الغيب غير ميزان المشاهدة، وميزان العبادات غير ميزان العادات، وميزان الجهاد غير ميزان الدعوة، والصلح والتعايش، وهكذا كل شيء ضمن موازين الإسلام. (وكذلك فإن موازين الماديات مختلفة، فميزان الرياضيات غير ميزان الجيولوجيا، وميزان الكهرباء غير ميزان الماء).

وزن الكليات غير وزن الجزئيات.
وزن المقاصد غير وزن الوسائل.
وزن الزنا غير وزن النظر، أو الخلوة.
وزن الشرك بالله غير وزن بقية الكبائر.
وزن الكبائر غير وزن المحرمات.
وزن المحرمات المنصوص عليها غير وزن المكروهات.
وزن الفرض غير الواجب، ووزن الواجب غير وزن المستحب، وهكذا.

ففقه الميزان غير فقه الموازنات وغير فقه الأولويات وإن كانت بينهما علاقات وطيدة، فمعرفته تفتح أبواب التفقه في الإسلام على مصراعيها، وبدونها يكون الخلط والاضطراب، والظلم والتعسف.

ومن جانب آخر فنحن البشر خلقنا من الأرض، وبالتالي نحمل معظم صفاتها، ومن أهم صفاتها أنها زوج يقوم على جناحين وكفتين فقال تعالى: ﴿سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون﴾ (يس 36)

ولذلك يعتمد توازنها عليهما، بل على كل مكوناتها وذراتها، فقال تعالى ﴿.. وأنبتنا فيها من كل شيء موزون﴾ (الحجر 19)

وبناء على ذلك فإن الأرض زوج، والإنسان زوج، ونزلت عليه رسالة تحمل الفكر الثنائي لهذا الكون، القائم على رعاية متطلبات الدنيا والآخرة، والروح والمادة معا، والسلم والحرب، والعدل والإحسان. وهكذا فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿والشفع والوتر﴾ (سورة الفجر 3): فالله وحده هو الوتر، وما سواه شفع.

وبسبب النظرة الأحادية اختلت الموازين، فالماديون لا يعترفون إلا بالمادة والدنيا، فاختل ميزانهم الذي يقوم على كفة واحدة، ويترتب على ذلك طمس معالم الإيمان بالله، واليوم الآخر، وبالقيم الروحية المؤثرة، فعندئذ يتحقق الطغيان، ولا تبقى روادع العقيدة، وكوابح الأخلاق، والخوف من الآخرة. وهكذا الروحانيون اختل ميزانهم الذي يقوم على كفة الروح، فتخلفوا عن الدنيا وركب حضارتها وتقدمها، والعمران، والعلم والابداع.

والفكر هو الأساس في الاختلال والتوازن، فإذا كان ميزانه مختلا لا يقوم على كفتيه بدقة فإنه يكون من آثاره اختلال الآثار والنتائج.

ومن هنا نرى العالم بأجمعه /أو في معظمه يعاني اليوم من الاضطرابات السياسية والفكرية، ومن الإرهاب الفكري والعملي بشكل منذر بشر مستطير، حيث نشاهد أوضاعا مأساوية في معظم بلاد العالم المتقدم، والمتوسط والمتخلف، فلم تعد دولة بمنأى عن الحروب، والكوارث الطبيعية، والإرهاب والترويع، والتفجيرات التي تودي بحياة الآلاف من الأبرياء في العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا وغيرها من بلاد العالم.

ولا يقتصر انتهاك حقوق الإنسان، والاعتداء على أمنه وكيانه، ولا القتل والتدمير على مناطق الحروب التي ذكرناها، وإنما شمل ذلك معظم بلاد العالم، حيث يشاهد العالم انتشار العنصرية في معظم البلاد الديمقراطية، وازدادت جرائم الصهاينة المحتلين ضد الفلسطينيين في القدس والضفة وغزة.

كما نرى في ميانمار (بورما) تطهيرا عرقيا ودينيا للشعب الروهينغي المظلوم الذي صنفته الأمم المتحدة كأكثر شعوب العالم مظلومية وقتلا وتهجيرا على أيدي من ينتسبون إلى الديانة البوذية، بل يتعرض هذا الشعب للإبادة الجماعية والتهجير القسري داخل بلاده، والذين يخرجون من هذا الجحيم يتعرضون لمخاطر الموت والمجاعة، والاعتداء على الأعراض، والبيع والشراء لأعضائهم من قبل سماسرة مجرمين، وكذلك الحال لإخواننا الإيغور في الصين.

كما نشاهد أيضا العدوان المنظم على المسلمين في أفريقيا الوسطى ومحاولة القضاء عليهم بالقتل والحرق، والتهجير القسري ونحو ذلك على أيدي من ينتسبون إلى الديانة المسيحية، كما لا ننسى ما فعله الصرب بالمسلمين من جرائم الحرب التي يندى لها الجبين.

وبالمقابل فإن بعض الجماعات المتطرفة كداعش (تنظيم الدولة الإسلامية) والقاعدة تقوم بالإرهاب، والتفجيرات باسم الإسلام، وهي بعيدة كل البعد عن رحمة الإسلام وأخلاقه وقيمه، وتقتل المسلمين وغيرهم، وتهلك الحرث والنسل والتراث، وتعيث في الأرض فسادا.

فقد طغت لغة العنف والتدمير والتشريد على لغة الحوار والنقاش، والإقناع، كما طغى منطق القوة على قوة المنطق، وسادت لغة الحرب والتهديد والترويع على لغة التسامح، والصلح والتصالح والتعاون على البر والإحسان، وما فيه مصلحة الإنسان.

فهذه المشاكل والحروب والفتن أدت بلا شك إلى حالة من الخوف والقلق وعدم الإحساس بالأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وزاد الطين بلة وجود نسبة كبيرة تتجاوز 35% من سكان العالم تعاني من القلق والاضطراب النفسي والخواء الروحي بسبب غلبة المادة على الروح، والظاهر على الباطن.

وبالإضافة إلى ما سبق فإن العالم بدأ يعاني من النعرات النازية والعنصرية، وانتشار خطاب الكراهية والتشدد والغلو من معظم منتسبي الشرائع السماوية والأرضية، وهذا يعود سببه المباشر إلى عدم تعاون أصحاب الشرائع المعتبرة فيما بينها لعلاج هذه المشاكل التي لا يمكن أن يعالجها علاجا شاملا إلا الأديان، بحيث يجتمع علماؤها ورهبانها وأحبارها على كلمة سواء كما قال الله تعالى: ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون﴾.

ومع كل ما يحدث فإن جميع الشرائع السماوية -في أصولها- متفقة على نبذ العنصرية والشوفينية، والإرهاب المادي والروحي والفكري وإيذاء الإنسان وهدر حقوقه التي منحها الله إياه.

لذلك فإن واجبنا اليوم هو أن يتفق أهل الأديان جميعا على التصدي للعنصرية والإرهاب مهما كان مصدرهما، فالعنصرية في حقيقتها ضد الإنسانية فيجب رفضها ومحاربتها، وأما الإرهاب ففي حقيقته لا دين له، وأنه شارك في صناعتها المخابرات الدولية والإقليمية، كما أنه ظهر بين منتسبي جميع أصحاب الشرائع، حيث رأينا الإرهاب من الصرب وهم مسيحيون أرثوذكس، وممن ينتسبون إلى الكاثوليك في أفريقيا الوسطى، وكذلك الاعتداءات التي حدثت في معظم بلاد أوروبا، وممن ينتسبون إلى البوذية والهندوسية في ميانمار والهند، وممن يدعون الانتساب إلى الإسلام من الجماعات المتطرفة.

ولذلك فإن واجبنا نحن العلماء أن نبين للناس ما يأتي:

أن هذا الإرهاب لا دين له، ولا يجوز تحميل أي دين مسؤوليته أو اتهامه به.
وأن نفضح حقائق هذه الجماعات الإرهابية بأن نبين أن قياداتها مخترقة من المخابرات الدولية والإقليمية، وأن هؤلاء الشباب هم الوقود والضحية، ولذلك يجب علينا أن ننقذهم من هؤلاء الإرهابيين.

أن تسعى القيادات الدينية لجميع الأديان لتحقيق مزيد من التعاون والتنسيق لكشف مخاطر الإرهاب، وبعده عن الدين، وبيان حقائق الدين، وأن قتل الأبرياء لا يجيزه أي دين، ولا ضمير ولا قانون.

أن نسعى جميعا جاهدين لإزالة أسباب الإرهاب الديني من الظلم والاستبداد، والفقر والبطالة، وألا يقتصر علاجنا على الجانب الأمني والعسكري فقط، بل الأهم هو الجانب الديني والفكري، فالمثل العربي يقول: لا يفل الحديد إلا الحديد، وكذلك لا يفل الفكر إلا الفكر.
أثبتت التجارب فشل علاج الفكر المتطرف بالقوة وحدها، وفشل علاجه بفكر متطرف آخر، فلا يمكن أن يعالج الفكر الديني المتطرف بفكر علماني متطرف.

ومن جانب آخر فإنه لا بد أن يعلم الجميع أن هناك صحوة إسلامية كبرى في العالم الإسلامي، فلا يمكن كبتها والقضاء عليها، وإنما يجب علينا جميعا ترشيدها، ودعم الجماعات المعتدلة لتملأ هذا الفراغ، وإلا ستزداد المنطقة اشتعالا.

ومن المعلوم للجميع أن الجماعات الإرهابية خف نشاطها وقلت حركتها عندما انتصرت ثورة الربيع العربي في تونس ومصر، ونحوهما، إذ أن الشباب زال عنه الإحباط بالنجاح الذي شاهدوه، ولكن عندما أطيحت بالثورة والشرعية عادت القوة للجماعات المتطرفة، وظهرت داعش التي هي أكثر تطرفا ودموية حتى من القاعدة.

نحن اليوم أمام مفترق الطرق إما أن تستفحل الأزمات العالمية بأنواعها، أو يتعاون العقلاء والحكماء لعلاج هذه المشاكل بالحكمة والتحاور والجدال بالتي هي أحسن، وعلاج الفكر بالفكر، ووضع الحلول الجذرية لمشاكل الشباب، بل إن الحل الجذري الحقيقي هو إصلاح النظام السياسي بحيث يكون للشعوب المسلمة الحرية في اختيار من يحكمها، وأن يحكمهم أناس يخافون الله تعالى، ولا يتورطون في الفساد المالي والإداري والاجتماعي، بل يمنعون الفساد بكل أنواعه من خلال فصل السلطات، ووجود رقابة فاعلة، وحينئذ تصرف أموال الشعوب لمصالحها فقط، وإذا تحقق ذلك ووجدت خطة تنموية شاملة فحينئذ تنتهي حدة الفقر والبطالة، أو تخف على الأقل، وبالتالي سيساهم ذلك في تجفيف منابع الإرهاب، بالإضافة إلى حل القضية الفلسطينية التي هي المصدر الأساسي لإثارة الأمة العربية والإسلامية، فالإرهاب الصهيوني وممارساته الإجرامية في الأراضي المحتلة مصدر الإرهاب في العالم الإسلامي.

اختلال الميزان لدى هؤلاء

فالدواعش اختل ميزانهم الشرعي بأن قصروا الإسلام على القتال، وركزوا على كفة الحرب بناء على مجموعة من الآيات التي تتحدث عن القتال، وسمي بعضها بآية السيف التي نسخت 124 آية للسلام والصلح ونحوهما، في حين أن هذه الآيات كلها واقعة في كفة منع العدوان، أي ميزان الحرب، وأن بقية الآيات الآمرة بالبر والإحسان مع غير المسلمين واللين والقول الحسن هي الكفة الثانية التي تسمى ميزان السلم والدعوة والتعايش.

والعنصريون من غير المسلمين اختلت أيضا موازينهم الإنسانية، بالإضافة إلى اختلال ميزان الإيمان والأخلاق والقيم.

 

د. علي محيي الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

المصدر: الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky