التصوف

عن التصوف الشيعي في البحرين .. بقلم وسام السبع

ان للشيخ يوسف البحراني (ت 1186هـ/ 1772م) موقف مناوئ للتصوف ، فقد وجّه في كتابه «النفحات الملكوتية في الرد على الصوفية»، نقداً لاذعاً لهم، فقد «ذكر فيه جملة من ترهاتهم وشطراً من خرافاتهم وعَدَّ منهم المولى محسن الكاشاني ونقل عنه مقالات قبيحة وعقائد غير مليحة وردها»

الاجتهاد: كان ظهور التصوف في المجتمع الإسلامي من أبرز خصائص القرن السابع الهجري، الذي انهارت فيه الخلافة العباسية بعد حكم طويل في التاريخ الإسلامي، وظهور طبقة اجتماعية عرفت بـ «المتصوّفة»، وعُرف أصحابها كطبقة علميّة بـ «العرفاء». وكان من أعلام التصوف حينها عمر بن الفارض (ت 633هـ/ 1236م)، ومحيي الدين ابن العربي (ت 637هـ/ 1240م)، وجلال الدين الرومي (ت 670هـ/ 1272م). وقد جاء ظهورهم كردّ فعل مباشر لحالة اليأس الذي عمّ العالم الإسلامي بانقراض الخلافة الإسلامية.

ولقد سافر التصوّف كاتجاه فكري ومنحى أخلاقي وسلوكي، وامتزج بالثقافة الإسلامية والعربية، وكان من الطبيعي أن تتأثر البحرين به. ويمثل الرعيل الأول من عرفاء البحرين في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) الشيخ أحمد بن سعيد بن سعادة البحرانيّ، الذي وضع «رسالة في العلم» التي شرحها الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي (ت 672هـ/ 1274م)؛ إذ يُظهر ابن سعادة في رسالته اهتماماً بمناقشة قضايا الحكمة وعلم الكلام، ومن المعروف أن الحكمة بشقيها العلمي والعملي وثيقة الصلة بالعرفان والتصوف. وللشيخ علي بن سليمان الستري كتاب «الإشارات في الكلام والحكمة»، شرحه تلميذه ابن ميثم البحراني.

وفي نهاية القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) ظهرت رموز شيعية متصوفة، لا نعلم عددها ومدى انتشارها، ويُرجع جان كول في بحثه عن الشيعة الإمامية في البحرين (1300 – 1800م) أنه في تلك الحقبة كانت أعداد الرموز الدينية الشيعية غير المتصوفة أكثر بكثير من الأقطاب، وهم قيادات المجموعات الصوفية. إلاّ أن النقوش التي عثر عليها في البحرين والتي يعود تاريخها لنهاية القرنين الثامن والتاسع (الرابع عشر والخامس عشر الميلادي)، تشير إلى أن الشيعة المتصوفة في البحرين تبوأوا مكانةً كبيرةً ربما وصلت لاستلامهم دفة الحكم. (حسين محمد حسين، «مسجد الخميس»، ص 68)

وقد لاحَظَت بعضُ الدراسات الأجنبية التي عكفت على دراسة النقوش الإسلامية في البحرين ظهور لقب «السيد» و»الشريف»، متزامناً مع فترة ظهور الجماعات الشيعية المتصوفة، التي تزامنت بدورها مع الهجرة الهاشمية للسادة العلويين الشيعة من حضرموت إلى مناطق مختلفة من العالم، ومنها البحرين.

وقد تم العثور على عددٍ من القبور نقش عليها ألقاب خاصة بالجماعات الصوفية، وكان مما يميز تلك النقوش وجود مصطلحات درجت عليها الجماعات الشيعية المتصوفة من قبيل: «قطب، قطب الدائرة، المعلم، المعلم الأعظم، قدوة».

ومع وصول الصفويين إلى سدّة الحكم في إيران، والذين كانوا في الأساس فرقةً صوفيةً، قُدّر للتصوف والعرفان أن يعيش اندفاعة جديدة وهائلة، وصلت تردداتها الفكرية والروحيّة إلى إقليم البحرين، وقد ساهم النفوذ السياسي الفارسيّ في المنطقة في نقل الكثير من الأفكار الثقافية والأعراف والمسلكيات الاجتماعية خصوصاً لدى طبقة المشتغلين بالعلوم الدينية.

ولعل الشيخ سليمان الماحوزي (ت 1121هـ/ 1709م) يمثل أحدّ أبرز العلماء الذين كان لديهم مشرب عرفاني واضح، ويحفل كشكوله «أزهار الرياض» بالكثير من المقتطفات التي تعكس هذا الميل من خلال الكمّ الهائل من الشواهد الشعرية والأدبية التي يوردها حول الصوفية، باللغتين العربية والفارسية، ناهيك عن المصادر والكتب التي ينقل عنها وتُعد من أمّهات مصادر التراث الصوفي. ويتجاوز الأمر حدود الوقوف على أدبيات ومنابع الفكر الصوفي؛ فشعره الكثير المبثوث في كشكوله يعكس ذوقاً عرفانياً يظهر فيه الشيخ الماحوزي شفافية روحيّة عالية ونزعة انعزالية ظاهرة. ومن شعره الذي تظهر فيه ملامح ميل عرفاني:

إلهي بحار الجود منك رواشح

تفيض على الطلاب يا مفزع الشكوى

أرى الكل عاموا في عطاياك جهرةً

فما لي في اللأواء مرتمساً رهوا

أجلك عن تعذيب نفس تولّهت

بذكرك يا كنز الوجود ولا غروا

ولقد وضع الصوفية، أو وضعتهم السياقات الاجتماعية والتاريخية للمجتمعات الإسلامية، في مقابل الفقهاء، ويرى الفقهاء أن هناك وراء الشرعية (الأحكام والمقررات الإسلامية) مجموعة من المصالح هي بمنزلة العلل وروح الشريعة، وأن العمل بالشريعة هو السبيل الوحيد لنيل تلك المصالح.

أما العرفاء فيرون أن المصالح والحقائق الكامنة في تشريع الأحكام هي من نوع المنازل والمراحل التي توصل الإنسان إلى مقام القرب الإلهي وبلوغ الحقيقة، ويرون أن باطن الشريعة هو «الحقيقة»؛ أي التوحيد الذي يحصل عليه العارف بعد فناء ذاته وتجرده عن أنانيته، وبذلك فإن العارف يعتقد بثلاثة أشياء هي: الشريعة والطريقة والحقيقة؛ وأن الشريعة وسيلة الطريقة، وأن الطريقة وسيلة إلى الحقيقة.

وكان للشيخ يوسف البحراني (ت 1186هـ/ 1772م) موقف مناوئ لهذا الاتجاه، فقد وجّه في كتابه «النفحات الملكوتية في الرد على الصوفية»، نقداً لاذعاً لهم، فقد «ذكر فيه جملة من ترهاتهم وشطراً من خرافاتهم وعَدَّ منهم المولى محسن الكاشاني ونقل عنه مقالات قبيحة وعقائد غير مليحة وردها». وكان من أوائل من سارع في ردّ هذه التهمة عن الفيض الكاشاني الشيخ عبد الله السماهيجي؛ إذ كتب يقول: «وكان هذا الشيخ فاضلاً، علامة محققاً، مدققاً، محدثاً، صالحاً، ثقةً، طُعن عليه بالتصوف، وهو بريء منه، فإن كتبه تشهد بخلافه، لاسيما الكلمات الطريفة. نعم له في بعض تصانيفه كأصول الكافي وغيره كلمات دقيقة، وعبارات عميقة، ولا ينبغي حملها إلاّ على حسن الظن به».

وكان من رموز هذه الاتجاه العلمي والمساهمين فيه في البحرين الشيخ محمد بن أبي جمهور الأحسائي (كان حياً 906هـ/ 1501م) حيث أقام في البحرين فترة تقارب السنتين بين عامي (886 – 888هـ/ 1481 – 1483م)، وصنّف خلالها رسالته «البوارق المحسنية تجلي الدرة الجمهورية» الذي أملاه إلى عدد من طلابه، وهو ردّ على مناوئيه ومعارضيه ممن يقول بعدم لزوم وجود المجتهد الحي، وجواز تقليد الفقيه الميت، ولكن بلغة عرفانية أخلاقية ومعالجة اجتماعية، حيث كان مركز قوتهم وتواجدهم في البحرين.

ومن شخصيات هذا الاتجاه الشيخ علي بن أحمد بن عبد السلام البحراني (ت 1120هـ/ 1708م)، يقول الشيخ ياسين البلادي في رجاله: «وأنا لحقت زمانه ووقت تدريسه، وكان من الفضلاء المعاصرين، غلب عليه الحكمة والعرفان كأبيه، وفي سنة 1109هـ/ 1698م رحل إلى أصفهان فصار له مكاناً عليّاً بين علماء الأعيان، له كتاب في الحكمة». (العصفوري: الذخائر، ص 111).

على أن التصوف والاتجاه العرفاني الذي سلكه عرفاء التشيع بعد القرن العاشر الهجري لا يعني بالضرورة انخراط أصحابه في سلك كبرى الطرق والجماعات الصوفية، إذ حدث وأن تخصص البعض في العرفان النظري الذي شاده ابن عربي على رغم عدم انتسابه إلى أيّ واحدة من سلاسل التصوف. فمثلا؛ إن صدر المتألهين (ت 1050هـ/ 1640م)، وتلميذه الفيض الكاشاني (ت 1091هـ/ 1680م)، لم ينتسبوا إلى أي واحدة من سلاسل التصوف، إلا أنهم أكثر استيعاباً لعرفان ابن عربي النظري ممن عاصرهم من أقطاب المتصوفة، وقد استمر الوضع على هذا المنوال حتى عصرنا الحاضر كما يقول مرتضى مطهري (اغتيل 1979م).

وبشكل عام، منذ أن أقيمت أسس العرفان النظري في عصر ابن عربي كان للعرفان طابع فلسفي، إلاّ أنه بعد ذلك انفصمت عرى هذا الكيان؛ إذ تجد أكثر المتخصصين في العرفان النظري في القرن العاشر لم يكونوا من أهل العرفان العملي والسير والسلوك والطريقة، وإذا كانوا من أهله فإنهم لم ينتسبوا رسمياً إلى أي واحدة من سلاسل الصوفية المعروفة. ليس هذا فحسب، بل ربما لم يحفلوا بها وعارضوها وأبطلوها جملةً أو تفصيلا.

ومن خصائص هذه الجماعة التي هي من أهل الفقاهة أيضاً، أنها لاءمت ووافقت بين آداب السلوك وآداب الفقه. وإلى هذه الفئة ينتمي جُلّ من عُرف بالتصوف من علماء البحرين، بدءًا من القرن السابع الهجري حتى مطلع القرن الرابع عشر الهجري. إلاّ أن الموضوع يفتح باباً واسعاً أمام الباحثين ليقدّموا قراءات أكثر دقةً وشموليةً عن واقع التصوف في البحرين، وأبرز من عُرف بهذا المشرب، والملابسات التي اكتنفت الصراع الذي قاده الفقهاء في محاولاتهم مواجهة تمدده واتساعه.

 

المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky