الثابت والمتغير في الشريعة

حوزة النجف وتاريخها والتحديات التي تواجهها.. حوار مع آية الله الموسوي الجابري (1)

  • مرّت على النّجف فترات صعبة جداً؛ بسبب الاضطهاد خاصة من قِبَل الدولة العثمانية، ومن قبل بعض السلاطين العثمانيين المتعصبين.
  • اعتقلت من قبل النظام الصدامي ونقلوني إلى الشعبة الخامسة، وقد ذقت ألوان التعذيب التي لا توصف، ثم حُكِم عليَّ بالسجن المؤبد من قبل محكمة الثورة وأودعت سجن أبي غريب قسم الأحكام الخاصة.
  • لازالت الحوزة العلمية تحاول دائماً تنظيم وتهدئة الأمور، والأخذ بيد القادة السياسيين إلى ما يجنّبهم ويجنّب الشعب العراقي والبلد الكثير من الفتن. لكنّ المخطط الاستعماري لم ينتهِ بعد.
  • من المهم الإشارة الى ان التحديات التي تواجه الحوزة لم تنتهي بانتهاء فصل الاحتلال أو الحرب الطائفية أو الدواعش، وإنما أخذنا نخوض تحدياً وصراعاً جديداً متمثلا بالحرب الثقافية والعقائدية.
  • المشكلة في حوزة النجف أنها تفتقر للتنظيم وتفتقر للحركة المؤسساتية, فهي قائمة على أساس أن تكون حرة ومفتوحة.
  • الجانب التعليمي في معهد الإمام الحسين (ع) للدراسات القرآنية التخصصية في النجف الأشرف فإننا نروم فتح مراكز علمية بحثية متميزة ومهمة ولا يوجد لها نظير في النجف، أمثال مركز الإعجاز القرآني، ومركز الدراسات الاستشراقية والإستغرابية للقرآن الكريم، والموسوعة القرآنية الشاملة، والمركز الإقرائي للقرآن الكريم وغير ذلك.

خاص الاجتهاد: آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري من مواليد البصرة، خريج حوزة قم المقدسة واستاذ البحث الخارج في الفقه والأصول والتفسير في حوزة النجف الاشرف. عميد معهد الامام الحسين (ع) للدراسات القرآنية التخصصية في النجف الاشرف وله الكثير من المؤلفات في التخصصات المختلفة كالفقه والأصول والتفسير. نشاطاته التبليغية والعلمية داخل العراق وخارجها في الإعلام المرئية والمقروءة وفي مختلف المعارف الإسلامية والفكرية خير شاهد على مكانته العلمية في الأوساط الحوزوية.

وقد كان لنا مع فضيلته هذا اللقاء في النجف الأشرف، حاولنا أن نثير فيه بعض النقاط التي بحاجة إلى الحوار فيها، من حوزة النجف والفترات الصعبة التي مرّت بها، والمشاكل والصعوبات التي تواجهها، إلى المناهج الحوزوية والحلقة المفقودة بين الطالب والأستاذ في الحوزة بشكل عام، وأخيراً الدواعي لإنشاء مؤسسة باقر العلوم (ع) للبحوث والدراسات الإسلامية.

وفي ما يلي نقدم لكم الجزء الأول من هذا الحوار وسيأتي الثاني قريباً بعون الله تعالى.

* سماحة السيد نرجو بيان نبذة عن تاريخ حوزة النجف الأشرف؟

حوزة النجف الأشرف كما تعلمون حوزة عريقة بدأت منذ تاريخ هجرة الشيخ الطوسي رحمه الله من بغداد إليها، أثر حدوث الاختلافات الشديدة بين السنة والشيعة، وتبدل الأوضاع السياسية، وانتقال الحكم من آل بويه الذين كانوا شيعة إلى السلاجقة السنيين، فكانت هناك جملة من الأحداث التي وقعت والنزاعات المذهبية التي أدت إلى حرق مكتبة الشيخ الطوسي، واضطهاد الشيعة في تلك الحقبة.

جاء الشيخ الطوسي رحمه الله إلى النجف الأشرف التي كانت عبارة عن قرية صغيرة فيها مرقد أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، وبعض العوائل التي تحيط بذلك المرقد الشريف؛ لخدمة الزوار، وكسب لقمة العيش من خلال العمل في الخانات والمطاعم والمتاجر وغير ذلك. أما النجف كمدينة فيمكن القول بأنها تأسست بتأسيس الحوزة العلمية، بينما معقل الشيعة تاريخياً كان في الكوفة التي تبعد عن النجف فرسخاً واحداً، وكما تعلمون فان النجف هي ظهر الكوفة.

وحينما أسس الشيخ الطوسي قدس سره الحوزة الشريفة في النجف الأشرف بدأت فيها حركة علمية جيدة ونشطة، واستمرت هذه الحركة العلمية بالتواصل والإطّراد، الأمر الذي أدى الى استقطاب الكثير من طلاب العلم والفضيلة من شتى أرجاء العالم الاسلامي، فكانوا طلبة مجدّين ومثابرين، فتخرّج منها الفقهاء والمجتهدون الذين انتشروا في بقاع الأرض؛ ليخدموا دينهم ويخدموا مذهب أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام.

ومرّت على النّجف فترات صعبة جداً؛ بسبب الاضطهاد خاصة من قِبَل الدولة العثمانية، ومن قبل بعض السلاطين العثمانيين المتعصبين، ثم بعد ذلك تعرضت الى الهجمات التي كانت من قبل الوهابية قبل حوالي القرنين من الزمان، وهي هجمات عاتية أدت إلى قتل وتشريد الكثير من الناس الأبرياء في كربلاء والنجف على حدٍّ سواء.

وتمّ بناء سور النجف الذي يحيط بالمدينة القديمة بمحلاتها الأربعة الحويش والعمارة والمشراق والبراق؛ لأجل حماية النجف، وكانت تسكن في داخل السور عوائل معيّنة تحيط به. بعد ذلك جاءت الحكومات المتعاقبة بعد العثمانيين وبعد الاحتلال الانكليزي إلى العراق، وكان للنجف الأشرف الدور الكبير في استنهاض الأمة، والوقوف في وجه الاحتلال الإنكليزي وقيادة الثورات المتعددة والتصدي لذلك الاحتلال، منها ثورة العشرين التي كانت ثورة كبيرة و مميزة جداً، وحصل الشعب على امتيازات بعد الثورة. كل ذلك كان بسبب الدور الكبير للفقهاء والعلماء، الذين تصدوا ميدانياً وليس فقط عن طريق الفتاوى وإنما القيادة العسكرية والشعبية لهذه النهضة والجهاد ضد قوى الكفر والاحتلال.

على كل حال، تعاقبت على العراق بعد ذلك حكومات قوميّة واشتراكية وبعثية، وكانت هذه الحكومات المتعاقبة تضطهد الحوزة العلمية دائماً، للقضاء عليها أو للحدّ من حركتها الاجتماعية في قيادة الناس إلى ما هو أفضل، والوقوف في وجه الظلم وتحدّي الظالمين، وإعطاء الشعب الحرية واسترجاع حقوقه.

كما ان هذا الأمر قد حصل في ايران أيضا، فقد قامت الحوزة هناك بنفس العمل بلا فرق، لأن المبادئ التي تنطلق منها كلا الحوزتين واحدة، مبادئ الإسلام قرآناً وسنة، ومنهج أمير المؤمنين (ع)، ومنهج الإمام الحسين (ع) في عدم الرضوخ للظالمين والإصلاح في الأمة وما شابه ذلك.

نعم قد تختلف التفاصيل بين بلد وبلد، بسبب طبيعة النظام وبسبب تركيبته الاجتماعية والقومية والسياسية، إلا أن المنطلق واحد والهدف أيضاً واحد.

وكذلك تختلف الطرق بحسب الظروف الموجودة أي الزمان والمكان والعوامل الذاتية والعوامل الموضوعية، فمثلا حينما كان الإمام الخميني قدس سره في النجف الأشرف، وكان من المفترض أن يبدأ مشروعه الثوري التغييري من العراق، ثم ينفتح على بقية دول العالم الشيعي، ثم ينطلق الى افق العالم الاسلامي. ولكنّ الظروف التي كان العراق يمرّ بها حالت دون ذلك.

فقد حدثني بعض المطلعين: بأن السيد الإمام الخميني رحمه الله قام بالتشاور مع السيد الحكيم رحمه الله في ذلك الزمان حول الانطلاق من العراق قبل إيران لإقامة الثورة الإسلامية. الا أن السيد الحكيم قدس سره الذي كان خبيراً جداً بشئون المجتمع العراقي بشكل تفصيلي، وكان اجتماعياً ومنفتحاً على مختلف طبقات المجتمع، و يعرف طبيعة المجتمع العراقي وطبيعة التركيبة العراقية، فأخبره أنّ العراق غير مهيئ في الوقت الحاضر لإقامة الجمهورية الإسلامية التي تحكم وفق مبادئ الإسلام، وبالفعل كان غير مهيئ؛ لأن اقامة دولة اسلامية تحتاج إلى مقدمات عديدة وهي غير متوفرة في المجتمع العراقي.

فقال لسماحته: ركز جهودك على إيران وإن شاء الله ستكون الأمور جيدة. وبالفعل صبّ السيد الإمام الخميني “قدس سره” كل جهوده على المجتمع الايراني، و قد نجح نجاحاً باهراً في ذلك ولله الحمد، وأقام الدولة الاسلامية المباركة التي أصبحت نموذجاً يقتدى به، وسنداً لكل الشيعة والمسلمين ولجميع المظلومين في العالم.

واذا عُدنا الى موضوع اضطهاد الحكومات المتعاقبة، وجدنا ان نظام صدام حسين والنظام البعثي عموما قد مارس سياسة تختلف عن سياسة الحكّام الذين سبقوه، وهي عبارة عن سياسة تهجير العلماء غير العراقيين من النجف الأشرف، لكي يفرغ النجف الأشرف من قادتها ومن علمائها ومن أساتذتها، و بالتالي يحجّمها تحجيماً كاملاً. ولقد استطاعت هذه السياسة أن تؤتي ثمارها وتؤثر أثراً فادحاً في أداء وإنتاج الحوزة النجفية.

فقبل مجيئ المجرم صدام كان هناك المئات من الأساتذة والفضلاء والعلماء وطلاب البحث الخارج، نعم كانت النجف تعجّ بدروس البحث الخارج وكان هناك العديد من المنتديات والجلسات العلمية والادبية في بيوت المراجع، وفي الدواوين وفي الاماكن العامة والخاصة، كل هؤلاء قد مورس بحقهم التهجير أو الاعتقال والسجن أو الإعدام بتُهم ملفّقة ومختلفة.

بشكل عام كانت الحوزة العلمية تعيش اضطهاداً حقيقياً، وأصبحت قليلة العدد بسبب تلك السياسة، حتى العراقيين الذين يريدون الالتحاق بالحوزة العلمية لا يسمحون لهم بذلك، باستثناء بعض أولاد العائلات أو بعض الأشخاص الذين عندهم استثناءات خاصة أو بعض المدسوسين.

واستمر هذا الحال الى زمان تصدي السيد محمد الصدر “قدس سره” للمرجعية وإقامته لصلاة الجمعة حيث استقطب الكثير من الشباب للدخول الى الحوزة العلمية؛ وذلك بعد أن انفرجت الأوضاع قليلاً من خلال سياسة جديدة استعملتها السلطات البعثية وهي ما تسمى بالحملة الايمانية فدخل إثر ذلك المئات من الشباب من المحافظات الجنوبية الى الحوزة العلمية.

السيد فاضل الجابري الموسوي

* سماحة السيد هل كنتم في العراق خلال فترة حكم صدام؟

لقد عشنا في العراق الى سنة 1991م ثم هاجرنا الى الجمهورية الاسلامية الإيرانية بعد الانتفاضة الشعبانية، وحينما كنت في العراق كنتُ أعيش في اضطهاد وخوف! فقد اعتقلت من قبل النظام وأخذوني الى مديرية الأمن العامة ثم نقلوني الى الشعبة الخامسة، وقد ذقت ألوان التعذيب التي لا توصف، ثم حُكِم عليَّ بالسجن المؤبد من قبل محكمة الثورة وأودعت سجن أبي غريب قسم الأحكام الخاصة، وبقيت هناك الى نهاية سنة 1988م حيث أصدر صدام عفواً عن السجناء السياسيين بمناسبة انتهاء الحرب العراقية الايرانية، وبقيت متخفياً عند أخوالي في جنوب العراق الى ان تمكنت من الخروج من العراق في أعقاب الانتفاضة الشعبانية.

ان الاضطهاد هو الذي جعلنا نهاجر الى الجمهورية الإسلامية، وهذا الإضطهاد هو الذي جعل الكثير من طلبة الحوزة العلمية العراقيين يهاجرون إلى الجمهورية الاسلامية أيضا، من أجل المحافظة على أنفسهم وعلى عوائلهم، أو بسبب كونهم مطاردين من قبل النظام ولا يستطيعون البقاء هناك؛ لأنه بمجرد أن يعتقلونهم أو يمسكونهم يقومون بإعدامهم بشكل مباشر.

النتيجة أصبحت الحوزة النجفية بسبب هذه الظروف الصعبة منطوية على نفسها، وبالكاد تحافظ على ما تبقّى من تراث أهل البيت عليهم السلام. وهذه بالضبط كانت سياسة السيد الخوئي رحمة الله عليه، حيث كان يؤكد بأنه من الواجب على الحوزة في هذه المرحلة هو الحفاظ على تراث أهل البيت عليهم السلام من الاندثار، أي إبقاء الحد الأدنى من وجود حوزة النجف؛ لكي لا ينطفأ هذا المشعل، ولا يندرس هذا التراث الفقهي والأصولي والديني عموماً الذي ورثناه من أسلافنا فقد كانت معركة بقاء ووجود، ولا شك بانه في تلك مرحلة لا نستطيع أن نطور فيها الدراسات الفقهية، ولا نستطيع أن نطور الدراسات الأصولية وبقية التخصصات الدينية، ولكن كل ما نريده المحافظة على ما هو موجود.

هذه هي سياسة ومشروع السيد الخوئي عليه الرحمة والغفران وكانت بالفعل سياسة صحيحة وناجحة، بدليل أن بعض العلماء مثل السّيد محمد باقر الصدر رحمه الله، حينما تصدّى و أراد أن يحرك الشعب العراقي نجد أن صدام حسين واجهه بالقمع الشديد وساقه إلى الإعدام هو وثلّة كبيرة جداً من الفضلاء وطلاب العلم، فضلاً عن المؤمنين والمثقفين وأساتذة الجامعات، وغيرهم من طبقات المجتمع المختلفة الذين استجابوا لهذه الدعوة بالنهوض والحراك ضد النظام البعثي. ولكن كان مصيرهم القتل والتنكيل والتهجير وظلم السجون والمطامير.

وبقي الأمر هكذا إلى أن توفّي السيد الخوئي وهو في وضع مزرِ حقيقةً ومؤلم، وبعد ذلك تصدى السيد السيستاني حفظه الله للمرجعية وقد اتبع نفس السياسة التي مارسها أستاذه السيد الخوئي. ولكن بعد مدّة تصدّى السيد محمد الصدر عليه الرحمة – الذي هو تلميذ السيد محمد باقر الصدر- لإقامة صلاة الجمعة ومحاولة إعادة الحركة الحوزوية إلى الميدان، وإعادة الحركة الحوزوية إلى الشارع لتأخذ دورها عند الناس. أي اتخذ سياسة مختلفة عن سياسة السيد الخوئي والسيد السيستاني وبقية المراجع.

وكانت هذه الحركة بعد التسعينات وبعد الانتفاضة الشعبانية بعدة سنوات، وبعد احتلال الكويت وحرب الكويت، وكان هناك ردود أفعال من قبل الشعب، والحرب كما تعلم قد ولّدت سخطاً جماهيرياً، والجموع تحتاج إلى قيادة دينية، والجميع ينتظر من الحوزة أن تقوم بهذا الدور، وبالفعل قام هذا العالم وحرّك المجتمع العراقي ولكن سرعان ما قمعوه وقتلوه هو وأولاده أيضاً، ولاقى نفس مصير السيد محمد باقر الصدر قدس سره، وبالتالي سرعان ما انتهى ذلك الحراك الجماهيري وخمد ذلك الصوت الحوزوي.

وهكذا عادت الحوزة العلمية إلى ما كانت عليه أيام السيد الخوئي، للمحافظة على ما تبقّى منها، وإلا سوف تنتهي بشكل كامل، ويتم خسارة هذا العدد القليل الذي يحافظ على تراث أهل البيت عليهم السلام. فكان ما قام به السيد السيستاني وبقية المراجع حفظهم الله جميعا حكيماً جداً.

إلّا أن الله سبحان وتعالى نصر عباده على يدي أعدائه حيث جاء الأمريكان واحتلوا العراق وقضوا على النظام السابق وأعادوا شيء من الحرية إلى الشعب العراقي، حرية ليست كاملة طبعاً في جميع الجوانب ولكن بالنتيجة تغيرت الأوضاع السياسية والإجتماعية والعلمية وما إلى ذلك، وأتاحت هذه الظروف الفرصة أمام كل طلبة العلوم الدينية الذين كانوا يعيشون خارج العراق في حوزة قم وسوريا ومشهد للعودة إلى النجف الأشرف، ومحاولة ترميم وتطوير الحوزة العلمية وإعادة تنظيمها من جديد.

وهكذا فُتحت دروس الخارج ودروس السطح والمقدمات، والمدارس والمؤسسات، وانتشرت حركة التبليغ الإسلامي بشكل كبير جداً والحمد لله، ونتيجة لهذه التغييرات كان للحوزة الدور الفاعل في كثير من القضايا الموجودة في المجتمع العراقي سواء على المستوى الفكري والتوعوي أو على المستوى السياسي والاجتماعي.

نعم واجهت الحوزة وكل المجتمع العراقي مشاكل جديدة وفترة عصيبة جداً لا تقلّ ألما وظلماً عن الفترة السابقة التي كان فيها صدام حسين, و لكن مشاكل من نوع آخر؛ وهو الإرهاب والحرب الطائفية والإحتلال الأمريكي وغير ذلك من المشاكل الكثيرة، أمثال الخلافات ما بين طوائف الشعب العراقي المختلفة، وكيفية تنظيم هذا الوضع خشية ظهور مشاكل تؤدي بالشيعة إلى حالة من العراك الداخلي فيما بينها يعني بين الشيعة والشيعة أولاً، وبين الشيعة وبقية الطوائف الأخرى كالسنّة والأكراد وما شابه ذلك.

ولازالت الحوزة العلمية تحاول دائماً تنظيم وتهدئة الأمور، والأخذ بيد القادة السياسيين إلى ما يجنّبهم ويجنّب الشعب العراقي والبلد الكثير من الفتن. لكنّ المخطط الاستعماري لم ينتهِ بعد، فجاؤوا بالدواعش ليحتلوا نصف العراق تقريباً، وفي الحقيقة وصلوا إلى مشارف بغداد، و تدخلت الحوزة العلمية في الوقت المناسب فأصدر سماحة السيد السيستاني حفظه الله فتوى الجهاد الكفائي وحصل إجماع من قبل الحوزة على ذلك تقريبا، وصدر خطاب موحد من قبل جميع المراجع وشخصياتها وأساتذتها لوجوب التصدّي لهذه الهجمة الصهيونية الإمبريالية السلفية الوهابية التي هي عدوة للتشيّع ولأهل البيت عليهم السلام، وتريد الفتنة والقضاء على مذهب أهل البيت عليهم السلام ، بل على الاسلام برمّته.

والحمد لله وجدنا استجابة كبيرة من قبل الشعب، والتفافاً كبيراً حول هذه الفتوى المباركة، إلى أن تمكن الشعب العراقي بمساندة الخيّرين من الجمهورية الإسلامية ومن غيرها بالدعم المادي والتسليحي واللوجستي وغيره من الانتصار على هذه الطغمة السوداوية الغاشمة، وتمكّن الشعب العراقي من خلال الحشد الشعبي والقوات الأمنية والشرطة من الإنتصار على فلول الدواعش بشكل جيد وتحرير كل الأراضي المغتصبة.

إذن استطاعت الحوزة العلمية مرة اخرى أن تتخطى هذه التحدّيات، وتقوم بالدور الذي كان منتظراً منها بمجرد أن أتيحت لها الفرصة، وبمجرد أن استرجعت عافيتها من خلال وجود الأساتذة والشخصيات العلمية والطلبة الذين رفدوها من كل مكان، فالحوزة اليوم غير أمس من جميع الجهات، فمثلاً كان عدد الطلاب العلم حوالي خمسة آلاف في زمن النظام السابق ولكن العدد اليوم يربو على عشرين ألف طالب، وهي مقارنة نوعية حيث ازداد العدد خلال هذه الفترة القصيرة أكثر من خمسة عشر ألف طالب. يعني ازداد ثلاثة أضعاف.

ومن المهم الإشارة الى ان التحديات التي تواجه الحوزة لم تنتهي بانتهاء فصل الاحتلال أو الحرب الطائفية أو الدواعش، وإنما أخذنا نخوض تحدياً وصراعاً جديداً متمثلا بالحرب الثقافية والعقائدية, حيث أخذ العدو يمارس الآن ما يُسمى بالحرب الناعمة، والحرب الثقافية، حيث أنّ قوى الإستكبار والقوى الإستعمارية شخصّت بأنّ قوة الشيعة تكمن في التفافها حول حوزتها، وحول علمائها ومراجعها، وأنهم رهن إشارتها ورهن فتواها، فعرفوا هذا السرّ، سرّ القوة الموجود عند الشيعة في كل مكان.

و أن من طبيعة الشيعة وفطرتهم أنهم ببركة منبر الحسين (ع)، ومنبر التثقيف الحسيني يلتفّون حول العلماء والمراجع. فحاولوا هذه المرة من خلال الحرب الثقافية والحرب الناعمة أن ينشروا بعض الأفكار والعقائد المنحرفة التي تُضعف هذا الرابط الموجود بين المجتمع الشيعي والحوزة العلمية والعلماء، من خلال موجة التشكيك بوجود الله عز وجل المتمثل بالحركة الالحادية المنتشرة الآن بين الشباب وبين أساتذة الجامعات وطلاب الجامعات والمثقّفين.

تقصد سماحتكم أن تلك الموجة موجودة في العراق؟

نعم هي موجودة في العراق عموماً، وهي تنتشر بسرعة وتحتاج الى جهود كبيرة وتصدي حقيقي من قبل رجالات الحوزة العلمية، كما تصدوا للمد الشيوعي أيام الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

كذلك هناك أفكار وعقائد منحرفة أخرى منتشرة، حيث تنصب هجمتهم التي يراد منها فصم عرى الارتباط مع المؤسسة الدينية من خلال نشر فكرة: أنه لا حاجة للتقليد ولا يجوز التقليد في الدين، والتقليد مذموم من قبل الأئمة عليهم السلام ويجب علينا أن نرجع للأئمة عليهم السلام بشكل مباشر وأن لا نوسط بيننا وبين الائمة رجال الدين من مراجع وفقهاء.

مثل هؤلاء الأشخاص ومثل هذه الحركة موجودة في المجتمع، يشوشون على الناس باعتبار أنهم إذا رجعوا في التقليد إلى المراجع فإنهم بالطبع سيسمعون كلامهم ويتّبعون الفتاوى التي تصدر منهم؛ لذلك نراهم يقولون أنه لا يوجد تقليد، ولا يجوز اتّباعهم ويصورون للناس أنّ العلماء حجر عثرة أمامهم، وأنهم يفصلون بينهم وبين الإمام المعصوم (ع)، يقولون يجب أن نتصل بالمعصوم بشكل مباشر ولا حاجة لأن نوسّط العلماء بيننا وبينهم، فهم في الحقيقة حجب ظلمانية بيننا وبين الإمام (ع).

السيد فاضل الجابري الموسوي

*هل تقصدون حركة اليماني أم غيرها؟ وهل أثّرت تلك الحركات في الناس؟

لا بكل تأكيد، فهؤلاء غير اليمانية، هي حركة أخرى تسمى بالمولوية. إنها حركة منتشرة الآن من دون أن تكون لها قيادة معروفة. يعني أفكار تنتشر هنا وهناك مثل الإلحاد أو من يشكك في أصل وجود الدين، ومن يحاول حرف الناس من خلال الدين. أمّا بالنسبة لتأثيرها على الناس فأنت تعرف أنّ هناك العوام والبسطاء من الناس، ممن لم يتسلحوا بسلاح الثقافة والمعرفة بما يكفي فلا شك يكون لها تأثيراً ولو بمقدار محدود وضيق.

على كل حال، الحوزة لم تقف مكتوفة الأيدي حول هذه الشبهات، بل ارتأت أنه من الضروري مجابهة هذه الحركات الإنحرافية والعقائدية بطريقة فكرية وأيديولوجية حتى تفوت الفرصة عليهم للنيل من العقيدة، كما فعلت مع الحركات المسلحة كداعش في مواجهتها العسكرية، فهؤلاء طابور خامس ومنافقون يتحرّكون باسم الدين، ويأتون من حيث لا نحتسب وينطبق عليهم عنوان “المرجفون في المدينة” الذين كان النبي ’ يقاتلهم، وحركة النفاق كما كانت في زمن النبي ’ تكون في كل زمان، ولا شك بان خلفهم أيادي خبيثة تريد القضاء على الاسلام من الداخل بعد أن عجزت عن تدميره والقضاء عليه من الخارج.

على كل حال هناك تصدّي الآن على مستوى أساتذة البحث الخارج، على مستوى الخطباء، على مستوى الكتّاب، على مستوى البرامج التلفزيونية، على مستوى الندوات والمحاضرات الميدانية، هناك تصدي مناسب لهؤلاء، وطبعاً نحن من بين من يتصدّى بشكل كبير جداً لهذه الأمور، و ننتقل من مكان إلى مكان من أجل ذلك، وعندنا علاقات مع الجامعات والمراكز الثقافية والتجمعات الاجتماعية الكبيرة.

وكذلك يأتي إلى زيارتنا في هذه المؤسسة العديد من الوفود من الجامعات والتجمعات فنقوم بإلقاء المحاضرات التوجيهية والثقافية التي تساهم في توعية الحاضرين ورفع الشبهات والاشكالات التي تثيرها هذه الحركات الهدامة. وذلك من خلال طرح هذه الأفكار وتحليلها والرد عليها بشكل علمي ومنطقي. إذن الحوزة العلمية تلعب الآن دوراً كبيراً في الوقوف أمام هذه الهجمات.

* سيدنا الجليل، تفضلتم أنّ الحوزة قد شخّصت هذه التحديات وقامت بمواجهتها. فهل كان ذلك التشخيص منظّماً أم لا. وهل هناك أشخاص يمثّلون الحوزة قاموا بذلك التشخيص؟

لا أستطيع أن اقول أنّه منظّم، لأنه في حوزة النجف لا يوجد تنظيم، نظامها عدم النّظام كما يقال. في الواقع نحن نتصدّى كأفراد وشخصيات علمية مختلفة في الحوزة العلمية، أما كشيء منظم وعقد اجتماعات خاصة وبالتالي تشخيص المشكلة وتقديم الحلول والآليات فهذا غير موجود. يعني هذا المستوى غير موجود. المشكلة في حوزة النجف أنها تفتقر للتنظيم وتفتقر للحركة المؤسساتية, فهي قائمة على أساس أن تكون حرة ومفتوحة.

لقد كان في حوزة النجف سابقاً مؤسسات وتنظيمات على الأقل في زمن السيد الحكيم “رحمه الله” وجماعة العلماء وغيرهم. فقد شخّصوا أنّ هناك ضرورة لهذا الأمر. كذلك نحن رأينا أنّ هناك ضرورة لتجمّع علمائي وتُطرَح من خلاله المشاكل وكيفية حلول هذه المشاكل، وتناقش بشكل جيد وبالتالي وضع برامج خاصة لهذا الأمر.

حوزة النجف لازالت تفتقر إلى هذا الجانب بسبب المشاكل الموجودة فيها. هناك مشاكل كثيرة طبعاً، وأنا لست بصدد بيان هذه المشاكل ولكنها مشاكل كثيرة وموجودة بالفعل. هناك تكتلات موجودة في الحوزة النجفية وهناك خلافات وتقاطعات، وهي بطبيعة الحال تؤثّر وتضعف الحوزة.

حوزة قم تجاوزت هذه المرحلة بحمد الله، ولا يوجد أية تكتلات في حوزة قم ولا في حوزة مشهد. نعم قد يوجد مثل هذه التكتلات ولكن على مستوى خفي وبسيط ولا يوجد شيء بصورة واضحة وصريحة. هذا الأمر يعود إلى طبيعة الحوزة في قم التي تمنع وتعرقل حدوث مثل هذه الأمور، لكن في النتيجة فإن التصدّي من قبل الحوزة موجود؛ لأن الكثير من الشخصيات قد أخذت على عاتقها التصدي لهذه القضية بمؤسساتها وأفرادها وكل ما لديها.

فتلك الشخصيات لديها طلاب ومريدين وتحت أيديهم بعض الإمكانيات والمؤسسات، مثل المدارس أو المراكز أو ما شابه ذلك، ويعملون في ظل هذه الامكانيات.

وأريد أن أضرب لك مثالاً وهو أني الان حينما أقول لك أنّ عندنا طلاباً يحضرون دروسنا في البحث الخارج وعددهم اكثر من مئة وخمسين طالباً يأتون كل يوم الى هذه المؤسسة، وكذلك عندنا في المعهد أكثر من مئتين وخمسين طالبا، هؤلاء من دون شك أنا أستفيد منهم، أربعمائة طالب يعملون تحت نظري، أنا أوجه هؤلاء وأعتني بشؤونهم وأتابع برامجهم وأحثهم دائما للتصدي للانحرافات وهداية الناس وإرشادهم وتثقيف المجتمع ومشاركته في مشاكله المختلفة وأنت ترى بأن هذا عمل كبير فكل واحد من هؤلاء الطلبة لديه مساحة كبيرة في المجتمع يغطيها بنشاطه التبليغي، وهكذا بقية الأساتذة والمراجع الكرام.

* سيدنا الجليل نحن في هذه الفترة نواجه مشاكل بسبب الإنفتاح والحرب الناعمة، فيأتي بعض الأشخاص ويؤسسون مؤسسات. ما هي المؤسسات التي هي الآن فعالة بشكل حقيقي وما هي أدوارها، بأي مهمة من هذه المهمات المتعددة قد قاموا، وهل يمكن أن نلقي لمحة سريعة على تلك المؤسسات الموجودة؟

بغض النظر عن التسميات، فان هناك العديد من المؤسسات وهي تعمل تحت مظلة بعض المرجعيات أو الشخصيات العلمية.

هناك مؤسسات فكرية تُعنى بالقضايا الفكرية والثقافية، وهناك مؤسسات اجتماعية وتربوية، وهناك قنوات فضائية ومراكز علمية وثقافية، وهي تقوم بدورها بشكل لا باٍس به، ولها نشاطات على مستوى الندوات والبرامج والدورات أو التأليف ونشر الكتب أو المجلات بل وحتى الراديو والتلفزيون اي الجانب الاعلامي، بل تعدّت الى فتح معارض الرسم والخط والفعاليات الاخرى, كل هذه تعمل بشكل جيد ولها حضور متميز سواء على مستوى النخبة أو عموم الناس وهي تطرح أفكاراً جيدة ولها تأثير لا بأس به عموما.

وكذلك هناك بعض المؤسسات القرآنية الجيدة جداً والفاعلة، كما هو حال معهدنا الذي يربي فضلاء الحوزة العلمية على التخصص في مجال المعارف القرآنية في النجف الاشرف، مضافاً الى مدرسة الشيخ الجوادي الآملي حفظه الله، والمعهد القرآني التابع للعتبة العلوية، وغيرها من المؤسسات القرآنية في النجف الاشرف. وفي كربلاء أيضا هناك مؤسسات عديدة تعمل في المجال القرآني تابعة للعتبة الحسينية أو العتبة العباسية.

* هل العتبات المقدسة عموماً تقوم بدور جيد في هذا المجال؟

نعم في الأعم الأغلب هكذا، الا أن العتبة الحسينية بالذات لها بصمات وآثار واضحة جداً، ولها دور كبير في تثقيف المجتمع العراقي والتصدي لكل الشبهات، وأنا أشكر سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي على اهتمامه ودعمه لهذه النشاطات، فجزاه الله خير الجزاء.

وأما بقية العتبات فتتفاوت فيما بينها بحسب رؤية وهمة القائمين عليها، حيث تأتي العتبة العباسية بالمرتبة الثانية بعد العتبة الحسينية، ثم العتبة العلوية في المرتبة الثالثة، بينما لم نلحظ نشاطاً واهتماما كبيراً للعتبة الكاظمية والعتبة العسكرية. كذلك هناك مؤسسات متعددة تابعة للمراجع الكرام، تقوم أيضاً بنشاطات لا باس بها، وهي تتفاوت أيضاً فيما بينها كماً وكيفاً.

ولكن اريد ان أوكد بأن كل تلك المؤسسات الدينية التي أشرنا إليها لا تشكل إلا نسبة (5%) من الحاجة الفعلية للمجتمع, فالحوزة لم تصل الى الحد الأدنى من الاهتمام بقضايا المجتمع وتثقيفه وصيانته من الشبهات, ومواجهة هذه الحرب الثقافية والعقائدية الكبيرة المستعرة، سواء على مستوى الدين أو المذهب، أو على مستوى الفكر أو السلوك.

المشكلة الأساسية في حوزة النجف أن رجالاتها يهتمون بالفقه والأصول أكثر من اهتمامهم بأي شيء آخر؛ لأنهم يعتقدون أن الحوزة قائمة على أساس الفقه والأصول، وبالتالي كل شيء عداهما يعتبر ثانوياً. وبما أنه ثانوي فإذن لا يُعطى الأهمية الكبيرة، ولا يستحق إنفاق الأموال الكثيرة عليه. ومن هنا كان هناك إهمال كبير في المجالات الدينية الأخرى أمثال العقائد ومعارف القرآن الكريم، بل وعلم الحديث والرجال أيضاً. هذه مشكلة موجودة في بنية الحوزة النجفية.

السيد فاضل الجابري الموسوي

* هل هناك استعداد الآن لإيجاد علاقات مع قم وإيران بشكل كامل؟

على مستوى ضعيف ليس الا، وسبب ذلك محاولة الاحتفاظ بالاستقلالية الخاصة والمتميزة باعتبارها هي الحوزة الأم والرئيسية، وان المرجعية العليا يجب ان تنحصر فيها دون غيرها. مضافاً الى ان هناك تخوف من قبل بعض الشخصيات الحوزوية في النجف الأشرف من سيطرة الحوزة القمية – بتبعيتها السياسية المبنية على أساس الايمان بولاية الفقيه- على الحوزة النجفية، التي لا تؤمن بالولاية المطلقة للفقيه، وإنما بخصوص الولاية الحسبية.

* وما هو الموقف بالنسبة للمؤسسة التي أنشأها هنا الشيخ جوادي الآملي؟ وكذلك بالنسبة الى جامعة المصطفى؟

هناك تحسس كبير تجاه جامعة المصطفى؛ لأنها تمارس أسلوباً اكاديمياً في الدراسة الحوزوية، وتمنح شهادات أكاديمية. وهذا في نظر العديد من فقهاء النجف تخريب للحوزة العلمية، وضياع لعمقها العلمي والمعرفي، وانصهارها في بوتقة الدراسات الاكاديمية.

وعلى هذا الأساس فانه من غير الممكن -في الوقت الراهن على الاقل- لجامعة المصطفى من العمل في النجف، ولذا كان اختيار مدينة بغداد لعملها مناسباً جداً.

وأما مدرسة الشيخ الآملي حفظه الله ورعاه فهي وإن كانت أقل تحسساً من جامعة المصطفى، إلا أن ثمة تحفظات عليها من قبل بعض أطراف الحوزة أيضاً، وسبب ذلك طبيعة الشخصية العلمية للشيخ جوادي التي ترتكز على جانب الفلسفة والعرفان في اطارها العام، وهنا في النجف يوجد تحفظ كبير على الفلسفة والعرفان، وكل طالب أو استاذ يتعاطى هذه المعارف سوف يواجه موقفاً رافضاً جداً، بل قد يصل الى المقاطعة بشكل كامل، هذه هي جوهر المشكلة في نظري، مضافاً الى ان هذه المدرسة ارادت من طلابها اخذ شهادة الماجستير، وهذا عامل آخر للتحفظ عليها، لما ذكرنا سابقاً بأن حوزة النجف لا تريد أن تتحول الى منهج ونمط أكاديمي، فان لها خصوصيتها العلمية المتميزة التي تريد الاحتفاظ بها، بل ولا تعتقد بأن الدراسة الأكاديمية شكلاً أو مضموناً ملائمة للدراسات الدينية.

* نريد الكلام عن تجربتكم الشخصية في هذا الاطار. جئتم إلى النجف برغبة إعطاء ثماركم التي حصلتم عليها في حوزة قم في فترة حضوركم وقبلها في النجف وقمتم بتأسيس المعهد والمؤسسة والدرس. وقمتم بدور منظّم على حد قدراتكم. ماذا وجدتم من الأرضيات التي ترشدكم أو توجهكم إلى هذه الجهة؟ وكيف كانت إقامة المعهد والمؤسسة؟ وما هي الصعوبات التي واجهتكم؟ ولماذا اخترتم مسألة الدراسات القرآنية والفقهية؟

طبعا عندنا هنا في الحوزة عملين مختلفين تماماً:

العمل الأول: هو العمل في معهد الامام الحسين (ع) للدراسات القرآنية.

والثاني: العمل في مؤسسة باقر العلوم (ع) للدراسات والبحوث الاسلامية.

فحينما رجعنا من قم إلى النجف وجدنا أن حوزة النجف غير مهتمة بشكل كامل في معارف القرآن الكريم. حيث لا يوجد درس في التفسير، لا يوجد درس في علوم القرآن أبدا، لا يوجد درس في أي مستوى من مستويات المعارف القرآنية. حتى في المدارس التي يدرس فيها الطالب المقدمات والسطوح لا يوجد درس قرآني. وإلى الآن لا يوجد شيء من هذا القبيل الا في نطاق محدود.

في سنة 1434هـ عدت إلى النجف الاشرف. فلاحظت هذا الوضع في حوزة النجف، تفاجأت حقيقة! لأني لم أكن أتصور أنه يمكن أن يكون هناك بُعد عن معارف القرآن إلى هذه الدرجة.

في السابق كانت هناك العديد من الدروس القرآنية والاهتمام بهذه الأمور ولو على مستوى معين. مثلاً السيد محمد باقر الصدر رحمه الله كان عنده محاضرات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، وقد كتب في علوم القرآن، وكان يرسل السيد محمد باقر الحكيم رحمه الله لإلقاء محاضرات في علوم القرآن في كلية أصول الدين في بغداد حيث كانت تحت نظر السيد المرتضى العسكري رحمه الله وقبله كان السيد الخوئي رحمه الله حيث كان يلقي محاضرات في التفسير وعلوم القرآن. وقبله كان الشيخ البلاغي والسيد القاضي وطلابهم أمثال السيد الطباطبائي والسيد عبد الاعلى السبزواري رضوان الله عليهم جميعا وغيرهم.

كل أولئك الأساتذة الكبار وغيرهم كان لهم دروس في التفسير وعلوم القران، وكانوا يحثون الطلاب على الاهتمام بالمعارف القرآنية. أما اليوم فلا يوجد مثل هذا الاهتمام, نعم يوجد نشاطات فردية وضعيفة جداً، أما على مستوى مركز او مؤسسة علمية أو تعليمية مهتمة بالقرآن فلا يوجد من هذا القبيل شيء، لا على مستوى البحوث، ولا على مستوى التدريس، ولا على مستوى التبليغ.
وأمام هذا الواقع رأينا أن هناك حاجة حقيقية لسد هذا الفراغ ومعالجة هذا الخلل.

نحن – بحمد الله – لم تكن اهتماماتنا ودراساتنا مقتصرة على الفقه والأصول فحسب، وانما كان لنا باعاً طويلاً في معارف القرآن الكريم، وعلم الكلام الاسلامي أيضا. ومن هنا قمنا في سنة 1435هـ بالتنسيق مع العتبة الحسينية المباركة – التي كان لنا محاضرات فيها في تفسير القرآن الكريم في الصحن الحسيني الشريف كل يوم خميس -وتمت مفاتحة الأمين العام للعتبة سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في ذلك الوقت، وقد استجاب مشكوراً لطلبنا في تأسيس معهد الإمام الحسين (ع) للدراسات القرآنية التخصصية في النجف الأشرف.

و هذا المعهد أخذ على عاتقه تربية الطلاب وتدريسهم الدراسات التخصصية في التفسير وعلوم القرآن. وكانت المناهج منتخبة والتدريس مكثف جداً، لمدة أربع الى خمس سنوات يترقى الطالب فيها من المرحلة الأولى الى المرحلة الخامسة، بشرط أن لا يتعارض ذلك مع الدرس الاعتيادي للطالب، ولذا جعلنا وقت الدرس من العاشرة إلى الثانية عشر ظهراً، حتى يتمكن كل طالب من حضور الدروس الاعتيادية في الفقه والأصول والعقائد وغيرها في الصباح ثم بعد ذلك يلتحق بالمعهد لإكمال دراسته في مجال المعارف القرآنية.

* يعني الطالب لا يجرد من دروس الحوزة الأخرى؟

ابداً. نحن لا نقبل بهذا أصلاً، ونرفضه رفضاً قاطعاً، بل إذا لم يأتِ الطالب في كل عام بوثائق تثبت أنه مستمر بالدراسة لا نقبله في المعهد. فإننا لا نريد أن نجعل الدراسة في المعهد بديلاً عن دراسة العلوم الحوزوية الاخرى، وانما نريد جعلها مكملة لها، وهدفنا في ذلك أن نجعل الطالب متكاملاً من جميع النواحي الدينية.

ومن هنا اشترطنا على كل طالب يدخل في المرحلة الأولى أن يكون قد أنهى المقدمات وشيء من السطح، حتى يكون مؤهلاً للدراسة التخصصية؛ لأننا لا نقوم بإعطائه معلومات بسيطة وثقافية، بل نعطيه معلومات مكثفة ومعمقة، فهي دراسة علمية تخصصية تحتاج الى مؤهلات، فاذا لم تتوفر عند الطالب لا يمكن ان يحقق الغاية من الدراسة في المعهد، ولا شك بان اللغة العربية والمنطق والاصول وغيرها مما يتوقف عليه فهم الطالب للقواعد التفسيرية او المناهج أو رد الشبهات أو نفس عملية التفسير بقسميه التجزيئي والموضوعي.

ولا يفوتني ان اذكر باننا استفدنا من تجربة بعض الأساتذة في حوزة قم كالشيخ رضائي أصفهاني، وهو مسؤول لجنة القرآن الكريم في مدرسة الامام الخميني وجامعة المصطفى، حيث ساعدنا كثيراً في هذا المجال، وكذلك غيره من الأساتذة المرموقين هناك ساعدونا كثيراً في العديد من المجالات.

وعقدنا أيضاً اجتماعات مع الأخوة في مشهد وفي قم لاسيما بيت العلامة الطباطبائي الاستاذ قدسي نجفي، أو المجمع العالي للتفسير مع السيد ميركتولي، والاخوة في مؤسسة الشيخ القراءتي، والسيد النقيب في دانشكاه علوم ومعارف قران وغير هؤلاء الاعلام والشخصيات الكبيرة في قم، ممن تعاون معنا كثيراً في التواصل وتبادل الخبرات على مستوى المناهج والبرامج والدروس والأبحاث وغير ذلك.

* يعني أتيتم بالتجربة التي اكتسبتموها من وجودكم في قم؟

نعم أتينا بالتجربة المكتسبة من هناك، إضافة إلى الاستشارة والتجربة، لقد قدّمنا عدة استشارات وسافرنا إلى مدينة قم عدّة مرات، وتناقشنا حول كيفية ترتيب هذا الوضع، وبنينا هذا المعهد و أسسّناه بجهدٍ جهيد وكان هناك تأييد وتشجيع من قبل المراجع الكرام حفظهم الله، وكذا من اساتذة البحث الخارج وفضلاء الحوزة العلمية.

وكان هناك اقبالاً منقطع النظير من قبل الطلاب، حيث لم يسع المكان استيعاب أعداد الذين تقدموا للدراسة في المعهد، الامر الذي يكشف مدى التعطش عند طلاب الحوزة للتعرف على الاسس التي تقوم عليها معارف القران الكريم.

ومضافا الى الجانب التعليمي في المعهد فإننا نروم فتح مراكز علمية بحثية متميزة ومهمة ولا يوجد لها نظير في النجف، أمثال مركز الإعجاز القرآني، ومركز الدراسات الاستشراقية والإستغرابية للقرآن الكريم، والموسوعة القرآنية الشاملة، والمركز الإقرائي للقرآن الكريم وغير ذلك، وخطتنا هي تجنيد أساتذة المعهد وطلبته الذين تخرجوا منه لهذه المهمة.

* حبّذا لو تخبرنا عن مراحل المعهد ومناهجه؟

نعم بكل تأكيد, فان الطالب الذي يدرس في المعهد سوف يتلقى جملة من الدروس والمناهج العلمية في مجال المعارف القرآنية ويستغرق اكمال المناهج المقررة من أربع الى خمس سنوات موزعة على خمسة مراحل دراسية. وهي كما يلي:

المرحلة الاولى: –التي تعتبر مرحلة تمهيدية- فإن الطالب يدرس فيها المواد التالية:

1. علوم القرآن الكريم.
2. ومدخل الى علم التفسير.
3. أحكام التلاوة.
4. منهجية كتابة البحث.

المرحلة الثانية: فيدرس الطالب المواد التالية:
1. دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية.
2. قواعد تفسير القران.
3. مدخل عام لدراسة فقه القران المقارن.

المرحلة الثالثة: فان الطالب يدرس فيها:
1. المدخل الى التفسير الموضوعي.
2. إعجاز القرآن الكريم.
3. شبهات حول القرآن الكريم.

المرحلة الرابعة: فإن الطالب يدرس فيها:
1. تلخيص التمهيد في علوم القران.
2. الاستشراق قراءة نقدية في تاريخ القران.
3. تاريخ القرآن.

المرحلة الخامسة: فإن الطالب يدرس فيها:
1. دروس تطبيقية في التفسير التجزيئي.
2. دروس تطبيقية في التفسير الموضوعي.
3. ا دروس تطبيقية في تفسير آيات الأحكام

 

 

آية الله الاستاذ السيد فاضل الموسوي الجابري.

• المواليد: البصرة 1968م.
• التحصيل الاكاديمي: بكالوريوس الفقه والمعارف الإسلامية, ماجستير علم الكلام الاسلامي.
• التحصيل الحوزوي: استاذ الدروس العليا (البحث الخارج) في الفقه والأصول والتفسير في حوزة النجف الاشرف. كانت معظم دراسته في حوزة قم المقدسة وحصل على العديد من اجازات الاجتهاد من كبار فقهائها منهم: آية الله العظمى السيد محمد مفتي الشيعة، وآية الله العظمى السيد محمد باقر الشيرازي، وآية الله العظمى الشيخ محمد حسن فقيه يزدي، وآية الله العظمى الشيخ بيات زنجاني، وآية الله العظمى الشيخ مصطفى دوستي. مضافاً الى تأييد اجتهاده من قبل جملة من مراجع وأعلام حوزة قم المشرفة.

الوظيفة: عميد معهد الامام الحسين(ع) للدراسات القرآنية التخصصية في النجف الاشرف. وأستاذ التفسير في العتبة الحسينية المقدسة.

• المؤلفات: له الكثير من المؤلفات في التخصصات المختلفة:

1. الفقه:
أ‌- مقارنة المذاهب في الفقه (كتاب استدلالي في الفقه المقارن يقع في مجلدين).
ب‌- تنقيح المناط في جواز الاجتهاد والتقليد والاحتياط.
ت‌- القول المعتبر فيما يحل اكله من حيوان البحر.
ث‌- لمحات في احكام الشريعة الاسلامية.
ج‌- موسوعة اهل الكتاب في الشريعة الاسلامية. يشتمل على سبعة أجزاء يتناول كل ما يرتبط بأحكام أهل الكتاب في الشريعة المقدسة.
ح‌- بحوث استدلالية في صلاة المسافر.
خ‌- قيمومة الرجل على المرأة في الفقه الاسلامي.
د‌- بحوث استدلالية في القواعد الفقهية.
هـ – بحوث استدلالية في أحكام المضاربة.
و- اللؤلؤة الغروية في أجوبة المسائل الروحانية.

2- علم الكلام الاسلامي (العقائد):

أ‌- وسطع نور الحقيقة. دورة كلامية كاملة بأسلوب قصصي جذاب.
ب‌- البيان السديد في عقائد الصدوق والمفيد. دراسة نقدية معمقة في منهج العلمين الكلامي.
ت‌- لمحات في أصول العقيدة الاسلامية.
ث‌- النزعة الدينية بين الإلهيين والماديين.
ج‌- الإسلام في مواجهة التحديات الإلحادية.
ح‌- وجوب النظر والمعرفة في العقل والكتاب والسنة.
خ‌- إنكار الضروري بين العقل والنقل.
د‌- التوحيد الصفاتي في العقل والكتاب والسنة.
هـ – إرهاصات عصر الظهور الميمون.
و – العلمانية في مواجهة التوحيد.

3- التفسير:

أ‌- تفسير سورة الفاتحة.
ب‌- تفسير النور المبين: تفسير الجزء الثلاثين من كتاب الله المجيد. يقع في عشر مجلدات.

4- الأصول:
لباب العقول في علم الأصول. المجلد الأول والثاني.

5- علم الاجتماع:
العدالة الاجتماعية في الإسلام.

6- الأخلاق:
أ‌- التوبة أو رجوع العبد الى الله.
ب‌- الذنوب وأثرها في الدنيا والآخرة.

• النشاطات العامة

أ‌- له العشرات من البرامج التلفزيونية في الكثير من القنوات الفضائية.
ب‌- أشرف على ثلاثة مؤتمرات علمية في جامعة البصرة.
ت‌- له العشرات من المحاضرات والندوات في مختلف المعارف الإسلامية والفكرية.
ث‌- نشرت له العديد من الدراسات والبحوث والمقالات في مختلف المجلات التخصصية.

 

 

 

عن ظاهرة التمرجع وانحسار الفقاهة… حوار مع آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري(2)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky