خاص الاجتهاد: يبدو أن هناك تباينًا في فتاوى المرجعين الكبيرين: فأحدهما يرى هذه المسألة إهانةً، بينما يعتبرها الآخر تهديدًا ومصداقًا للحرب. هذا التباين ينشأ من كون تهديد سماحة القائد المعظم هل هو إهانة فحسب، أم هو حرب مباشرة ومصداق للإفساد في الأرض.
وفقا للاجتهاد، في أعقاب تهديد الرئيس الأمريكي لقائد الثورة الإسلامية في إيران، عُقد لقاء علمي تحت عنوان “تهديد قتل القادة الدينيين من منظور الفقه والقانون الدولي” بحضور الأستاذ حجة الإسلام والمسلمين حميد درايتي في “مدرسة عالي فقاهت عالم آل محمد” بمشهد المقدسة. وقد طرح أستاذ بحث الخارج في الفقه والأصول بحوزة مشهد العلمية في هذه الجلسة بعض المباحث الفقهية والقانونية، وهي:
1. هل مجرد تهديد القائد السياسي أو الديني ممنوع في وثائق القانون الدولي؟
2. هل تهديد القائد الديني يُعدّ “محاربة” أم في “حكم المحاربة”؟
3. هل المحاربة مقتصرة على النزاعات ذات الأساس العقائدي، أم تشمل أيضًا النزاعات غير العقائدية كالاختلافات الحدودية؟
4. هل تهديد القادة الدينيين مصداق لـ”الإفساد في الأرض”؟
5. هل تثبت بفتوى المحاربة وجوب أو جواز الاغتيال؟
6. هل يترتب على فتوى المحاربة تطبيق أحكام “دار الحرب” على أمريكا؟
المرجعية والقيادة السياسية؛ شخصيتان حقوقيتان للقائد الثورة المعظم
أُثير هذا النقاش على إثر التصريحات السخيفة لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، التي أدلى بها بخصوص قائد الثورة الإسلامية، والتي تلتها فتاوى المراجع العظام. من هنا، بدا من الضروري بحث هذه المسألة من الناحيتين الفقهية والقانونية الدولية لتتضح أحكامها بصورة أشمل.
يتمتع مقام ومكانة قائد الثورة المعظم بموقعين خاصين يجب أن تُبحث المسألة من كليهما:
المكانة الأولى: هو مرجع ديني. المرجعية في المجتمع الشيعي هي أكبر ركن اجتماعي في عصر غيبة الإمام المعصوم (عج). هذه مكانة عظيمة جدًا، حيث إن مرجعيته الدينية، بمعزل عن قيادته السياسية، توجب احترام شخصيته الحقوقية والعلمية والدينية لمقلديه، وللمجتمع الشيعي، وعموم المسلمين؛ ولذلك، فإن التعرض له أو تهديده من هذه الجهة يُبحث.
المكانة الثانية: هو قائد سياسي لدولة مستقلة، وتهديده، سواء كان صريحًا أو ضمنيًا، يستتبع تداعيات تهديد قائد سياسي لدولة مستقلة؛ ولذلك، إذا هدد شخصٌ شخصيته، فقد اعتدى في الحقيقة على موقعين حقوقيين، وهذا الاعتداء على هذين الموقعين الحقوقيين يستدعي البحث والتأمل. ويمكن بحث هذه المسألة من منظور القانون الدولي ووثائقه، ومن منظور الفقه الإمامي.
سأشير أولاً إلى المنظور القانوني الدولي، ثم سيكمل الأساتذة الكرام البحث.
من منظور القانون الدولي، يمكن طرح ثلاث قضايا رئيسية في هذا الصدد:
1. تحليل حظر أو جواز مجرد تهديد القائد السياسي أو الديني في وثائق القانون الدولي.
2. واجبات الهيئات الدولية تجاه تهديد القادة السياسيين والدينيين.
3. الحقوق الذاتية أو التعاهدية للبلد والشعب والحكومة الإيرانية فيما يتعلق بهذا التهديد.
تُطرح هذه المقاربات الثلاث في مباحث القانون الدولي: أولاً، حظر هذا الفعل أو عدمه؛ ثانيًا، واجبات الهيئات الدولية؛ وثالثًا، الحقوق التي نعتبرها لأنفسنا في هذا الشأن.
سأقدم في ما يلي نقاطًا حول القضية الأولى وأترك إكمال المباحث للأساتذة الكرام.
حكم تهديد القائد السياسي والديني في القانون الدولي
إن تهديد القائد السياسي أو الديني لا ينسجم مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي. فما يُستنبط من ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يؤكد أن هذه المسألة تتعارض مع المبادئ الجوهرية للقانون الدولي. إضافة إلى ذلك، تنص الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على ما يلي: “يمتنع أعضاء الهيئة جميعًا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة”.
تنص الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على حظر التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة. إن تهديد قائد سياسي لدولة مستقلة، مثل إيران، يُعدّ بحد ذاته تهديدًا لاستقلال تلك الدولة السياسي. وبغض النظر عن طرح مسألة تغيير النظام وما شابهه في بعض تصريحات المسؤولين المختلفين، فإن مجرد تهديد قائدنا هو تهديد للاستقلال السياسي للبلاد، وهذا الفعل محظور بموجب هذه الفقرة الرابعة من المادة الثانية من الميثاق، ولا ينبغي أن يحدث.
في المادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، تُذكر الفقرة التالية: “يُحظر بالقانون أي دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف”. ينطبق هذا الحظر على الجانب الديني للقائد؛ ففي المجتمع الديني، تُعدّ المرجعية في عصر الغيبة أعلى منصب ديني واجتماعي. وبالتالي، إذا قام شخص بمثل هذا التهديد، فإنه في الحقيقة يؤدي إلى إثارة وتشجيع الكراهية الدينية والمذهبية، وهذا محظور في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
إن الميثاق وثيقة مُلزمة، وهذا الفعل (التهديد) ممنوع بموجب القانون الدولي. وقد تم التأكيد على أنه لا ينسجم أساسًا مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان والقانون الإنساني، وهذا بحد ذاته يمكن أن يؤدي إلى زعزعة السلام الدولي؛ لأن جرح مشاعر أمة بأكملها بتهديد قائدها الديني قد يفضي إلى هذه النتيجة أيضًا. على أي حال، هذا الفعل غير صحيح، وشنيع، ومحرم بموجب الوثائق الدولية. القسمان الآخران سيُتركان للأساتذة الكرام لطرح المباحث فيهما.
الحكم الفقهي لتهديد القادة الدينيين
من المنظور الفقهي، قد يُعتبر تهديد القادة الدينيين مصداقًا للمحاربة، وبالتالي يدخل ضمن نطاق الآية الكريمة: ” إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (المائدة/33).
لذا، فإن هذا الفعل ليس محرمًا فحسب، بل إن فاعله يستحق العقوبات المذكورة في آية المحاربة، وهو ما انعكس أيضًا في فتاوى المراجع العظام.
يبدو أن هناك تباينًا في فتاوى مرجعين كبيرين: حيث يعتبر أحدهما هذه المسألة إهانة، بينما يرى الآخر أنها تهديد ومصداق للحرب. هذا الاختلاف ينشأ من تحديد ما إذا كان تهديد القائد المعظم مجرد إهانة، أم أنه حرب مباشرة ومصداق للإفساد في الأرض.
في سياق بحث المحاربة، أثار فقهاؤنا هذا التساؤل: هل تنطبق الآية الكريمة: ” إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ” ومفهوم المحاربة لله ورسوله، فقط عندما تكون الحرب ذات أساس عقائدي، أم أنها تشمل أيضًا القضايا غير العقائدية مثل مجرد النزاع على الأراضي؟
لنفترض أن لدينا نزاعًا حدوديًا، وأن الطرف الآخر يعتقد أننا لا نملك ملكية هذه المناطق، ثم بدأوا حربًا ضدنا. فهل يُعتبر هذا محاربة لله ورسوله؟ من المنظور الفقهي، هناك مباحث متعددة مطروحة في باب المحاربة.
يرى البعض أن تهديد القائد يُعدّ في حكم المحاربة، وذلك استنادًا إلى الآية الشريفة من سورة المائدة: “وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا”. وهنا يبرز تساؤل فقهي: هل سعي الفساد في الأرض هو مصداق ثانٍ للجرم، أم أنه هو ذاته مصداق المحاربة لله ورسوله؟ أي هل المحاربة هي في الحقيقة عين السعي في الفساد؟
يرى جمهور الفقهاء أن المحاربة لله ورسوله هي بحث، والسعي في الأرض فساداً بحث آخر. وفي تحديد مصداق “السعي في الأرض فساداً”، يُشترط إحداث الرعب العام. فتهديد فرد أو فردين لا يُنشئ رعباً عاماً.
لكن في سياقنا الحالي، إذا تعرضت قيادة البلاد للتهديد، فإن أمن البلاد العام سيتعرض للخطر حتماً. وهذا يعني أن المسألة، إضافة إلى كونها محاربة لله ورسوله، تندرج أيضاً ضمن مصداق “السعي في الأرض فساداً”. فالناس يشعرون بالقلق من فقدان قائدهم، وهو قائد محبوب ويتمتع بالسلطة، ولديهم إحساس بأن فراغه لن يملأ. هذا الإحساس بانعدام الأمن العام موجود، ويمكن اعتباره من مصاديق هذه المسألة.
لقد ذكر أن هناك اختلافًا بين “المحاربة” وما هو “في حكم المحاربة”. لست بصدد الخوض كثيرًا في هذا الموضوع، لكن البعض يرى أن تهديد القيادة يقع “في حكم المحاربة”.
الفتوى تثبت حكمًا تكليفيًا، ولا يمكنها تقريبًا أن تثبت تكليفنا في الساحة الدولية؛ ومع ذلك، فإن لهذا الحكم التكليفي آثاره، وهو في الحقيقة نوع من المعاملة بالمثل. ولكن هل يثبت بهذه الفتوى وجوب الاغتيال أو جوازه؟
نحن في الساحة الدولية ملتزمون، لا من باب “أوفوابالعقود”، بل من باب “أوفوا بالعهد” والمسؤولية تجاه المعاهدات والاتفاقيات. هذه الفتوى صادرة عن مرجع ديني، وانعكاساتها وآثارها هي ذات الانعكاسات والآثار التي تحملها أي فتوى دينية. وبما أنها صادرة عن مؤسسة دينية، فلا يتوقع منها أن يكون لها انعكاس رسمي وحكومي. انعكاسها هو انعكاس ديني بحت. أقل ما يمكن أن تفعله هذه الفتوى هو استنكار هذا الفعل وتقبيحه بشدة، والتأكيد على أنه عمل شنيع وخبيث للغاية يجب الوقوف ضده.
لا شك في كون إسرائيل دولة محاربة، وخاصةً مع استمرار الصراع لسنوات عديدة. لكن التساؤل يبرز حول الدول الأخرى التي قدمت لها الدعم، سواء كان دعمًا عسكريًا أو معنويًا، فهل تُعتبر هذه الدول أيضًا محاربة من الناحية الفقهية؟ هذا محل بحث.
لدينا معاهدة صداقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من أنها لم تتحقق أبدًا ولا يمكن الاعتماد عليها كثيرًا. فهل تعني فتاوى المراجع العظام أنه إذا وُجدت معاهدة صداقة، فإن تهديد رئيس تلك الدولة يغير الوضع إلى دار الحرب، وتترتب عليها أحكامها؟ ليس من السهل إطلاق هذا الحكم، فليس بالضرورة أن يكون قصد المراجع العظام اعتبار الولايات المتحدة حاليًا دار حرب. على الرغم من أن حربهم الخفية ضد المسلمين واضحة، إلا أنه يجب أخذ قصد المراجع العظام في الاعتبار بناءً على الظاهر في الوقت الراهن.
إن إعادة قراءة هاتين الفتويين، من الجانبين الفقهي والقانوني، تتطلب المزيد من البحث والتعمق. يبرز التساؤل حول ما إذا كان هذا التهديد يُعتبر محاربة لله ورسوله.
يقوم هذا الاستدلال على أن الرسول يُنظر إليه كشخصية اعتبارية (حقوقية)، ومن ثم فإن الإمام والولي الفقيه يُعدّان نائبين للإمام. وبناءً عليه، إذا حارب شخص الولي الفقيه، فإن ذلك يُعتبر محاربة لله ورسوله؛ لأن الولي الفقيه هو نائب الإمام، والرسول ليس شخصًا طبيعيًا (حقيقيًا)، بل هو شخصية اعتبارية. وبما أن التهديد هنا حقيقي وثابت، فإنه يُعدّ في حكم المحاربة لله ورسوله.
وكما أُشير سابقًا، فإن هذا الفعل (التهديد) يُعدّ محاربة لله ورسوله، ويقع أيضًا ضمن مصداق “وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا”؛ وذلك لأنه يتسبب في إرهاب عام. فبالإضافة إلى جرح مشاعر المسلمين، وهو بحث خاص، فإنه يؤدي إلى نشر الرعب بين عامة الناس.
تداعيات تهديد المرجع الديني: بين إفساد الأرض وأحكام التعامل
كما أُشير سابقًا، لقائد الثورة الإسلامية المعظم حيثيتان وشخصيتان حقوقيتان: إحداهما كـمرجع ديني، والأخرى كـقائد سياسي. ومن حيث كونه مرجعًا دينيًا، فإن تهديده يُعتبر إيذاءً لمشاعر وعواطف الشيعة، وأتباعه، ومقلديه، بل وحتى المسلمين الذين يكنّون له الولاء. ومن منظور حقوق الإنسان، يُعتبر هذا بحد ذاته نوعًا من إيذاء العواطف، وقد يندرج تحت مصداق “وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا”.
ولكن ما هو الأثر والنتيجة المترتبة على هذا الفعل؟ هل يؤدي ذلك إلى اعتبار الدولة المهدِّدة دار حرب؟ هل يترتب عليه وجوب القتل، أو جوازه، أو مجرد تحريم التعاون وأي نوع من التبادل؟ وهل يشمل هذا التبادل المعاملات العسكرية فقط، أم يمتد ليشمل التبادلات الاقتصادية والتجارية؟ إلى أي أبعاد من المسألة يشير هذا بالتحديد؟
إن هذه التساؤلات تستدعي بحثًا فقهيًا وقانونيًا معمقًا لتحديد الآثار المترتبة على مثل هذا التهديد، وتحديد نطاق التعاملات التي قد تتأثر به.
يبدو أن هناك حاجة لمزيد من النقاش حول هذا الموضوع، والوقت الحالي لا يسمح بتغطية جميع أبعاده الفقهية. يجب الأخذ في الاعتبار أن ظروف الحرب والسلم تختلف. فالتصريحات خلال فترة الحرب تحمل معاني مختلفة عما لو قيلت في غير أوقات النزاع.
لكن لا شك أن إسرائيل محاربة لله ولرسوله وللمسلمين ومحتلة لأراضيهم. كما أن اعتداء أمريكا على أراضينا من خلال مهاجمة منشآتنا هو عدوان واضح وصريح لا يمكن تبريره أو الدفاع عنه.
أما الإساءة إلى شخصية المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، والتي تعتبر إهانة للأمة الإسلامية برمتها ويمكن أن تُصنف كتهديد، فقد أفتى العلماء الكرام بأنها في حكم المحاربة لله ورسوله.
وعليه، فإن أي دعم لهذه الحكومات هو دعم باطل وغير صحيح ومحكوم بالحرمة. وعلى أقل تقدير، فإن هذه الفتاوى توضح التكليف الشرعي للأمة الإسلامية.