خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
الرئيسية / موقع الاجتهاد و جميع المواضيع / جميع الأبحاث والأحداث / حوارات ومذکّرات / 55 مذكرة خاص / تنبيه الأمة: كيف فكك النائيني أسطورة النهضة الأوروبية قبل قرن؟

تنبيه الأمة: كيف فكك النائيني أسطورة النهضة الأوروبية قبل قرن؟

خاص الاجتهاد: اختتمت فعاليات المؤتمر الدولي الذي حمل عنوان “الميرزا النائيني: عمود الفقاهة، والمعنوية والسياسة” الأسبوع الماضي (‫السبت , 3 جمادی الاولی 1447 / 25 أكتوبر 2025)، حيث استضافته الحوزة العلمية في خراسان.

وقد نُظّم هذا الحدث بمشاركة فاعلة من الحوزتين العلميتين في قم والنجف. وفي لقاءٍ جمع أعضاء المجلس العلمي لهذا المؤتمر بقائد الثورة المعظم، أشار سماحته، إلى جانب تناوله لمواضيع مختلفة، إلى القيمة الكبيرة التي يحملها كتاب النائيني “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”.

اشتهر كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”، الذي صدر عام 1327 هـ (الموافق 1909 م)، في الأوساط التاريخية بتركيز الميرزا النائيني على الحركة الدستورية (المشروطة) ودفاعه عنها في مواجهة الحكم المطلق. ومع ذلك، فإن أحد الأوجه الأقل تسليطاً للضوء عليها في هذا العمل، هي مقدمته التمهيدية التي تتناول فكرة “أسباب نهضة الأوروبيين وتأخُّر وتخلف الشعوب الإسلامية”.

إن مفهوم النهضة أو التقدّم المهم، يقع في صلب النقاشات الدائرة في تلك المرحلة، ليس فقط في كتاب الميرزا النائيني، بل في معظم “البيانات والمقالات الدستورية” أيضاً. وبهذا الاعتبار، فإن مفاهيم مثل سنّ القوانين، والنظام الدستوري، ومقاومة الاستبداد، والمفاهيم السياسية الأخرى السائدة في صراعات الحقبة الدستورية، تُعتبر جميعها تابعةً لتقييمها بناءً على ما إذا كانت تقدّمية أو رجعية.

إن فكرة التقدم (Progress)، التي كانت محط بحث المُنظّرين الغربيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، هي المفهوم الأبرز في فلسفات التاريخ الخاصة بالحداثة والتجديد الغربي. ورغم تباين روايات هذه الفكرة، فإن مفهومها المشترك في هذه الفترة يشير إلى أن العالم الإيماني والديني هو حقبة تنتمي إلى المرحلة البدائية والساذجة للبشرية، وأن الإنسان، في سيرورة تطورية، كلما ازداد تقدماً وتكاملاً، ابتعد عن الدين والمعارف الوحيانية، واقترب من الفهم الحسي والآني والدنيوي والعلماني للعالم. التقدم هو عينه التطور من المعنوية إلى المادية المحصورة في هذا العالم.

كلما بلغ الإنسان درجة أعلى من التكامل، زاد ابتعاده عن المرتكزات الدينية وأدرك حقائق الحياة الدنيا بنظرة أكثر حسّية ومادية. وقد سعى كل من كونت، وهيغل، وفولتير وأمثالهم إلى صياغة هذا المفهوم، وعبر هذه النظريات أُسست مبادئ ما عُرف لاحقاً بنظريات التنمية الرأسمالية والاشتراكية الغربية. وعليه، فإنه بالرغم من أن الممالك الشرقية كانت تعيش في توازٍ زمني ظاهري مع الأمم الغربية، إلا أنها، من حيث الزمن التنموي والتقدمي، كانت تُصنّف على أنها تنتمي إلى حقب تاريخية منصرمة. واستناداً إلى الصياغة التي تفرضها فكرة التقدم على الزمن، كانت الأمم والممالك الأوروبية تقع في مقدمة أو ذروة حركة التاريخ البشري؛ فقد كانت تلك الأمم مُتطورة، بينما اعتُبرت الأمم الأخرى غير متطورة أو في طور التنمية.

في زمن كان فيه الذهول والدهشة يسيطران على العالم الإسلامي بأسره، وحيث كان عباس ميرزا القاجاري، ولي عهد فتح علي شاه، حائراً بشأن أسباب تخلّف الإيرانيين وسباتهم، يبحث عن حلّ من جوبر الفرنسي، نجد الميرزا النائيني يواجه فكرة تقدم الأوروبيين مواجهة عميقة ومدهشة.

عندما سأل عباس ميرزا جوبر الفرنسي: لا أعرف ما هي هذه القوة التي سلّطتكم (أيها الأوروبيون) علينا، وما هو سبب ضعفنا وتقدمكم؟، وطلب منه الإجابة قائلاً: تكلّم أيها الأجنبي! قل لي ماذا يجب أن أفعل لأوقظ الإيرانيين؟؛ كان (عباس ميرزا) يعاني من حيرة جعلته يرى أن سبيل الخلاص الوحيد لإيران يكمن في استشارة واستعمار (طلب العمران) أولئك الفرنسيين والإنجليز أنفسهم.

أما الميرزا النائيني، فقد قدّم رواية مختلفة لتاريخ البشرية وتوصل إلى حل مغاير. فقد أضفى في كتابه “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” تنبُّهاً تاريخياً على الإيرانيين، بل وعلى المسلمين أيضاً. وكانت الخطوة الأولى في هذا التنبيه هي أن نُقِرّ بأننا، نحن المسلمين، قد نقع أيضاً في الغرور، والطغيان، والأَسْر، وأن الكفار، إذا ساروا على المسار الصحيح، فإنهم يتقدمون. إن الميرزا النائيني، وخلافاً لكثير من التقليديين الصمّ والبكم، لم يُغمض عينيه عن تقدم الأوروبيين وتخلُّف المسلمين في تلك الحقبة من التاريخ. لقد شاهد الواقع، لكنه في تفسير هذا الواقع، لجأ إلى تفسير مختلف للتاريخ.

إن تقدّم الأوروبيين، من وجهة نظر الميرزا النائيني، حقيقة لا يمكن تجاهلها، لكنه يرى أن جذر هذه الحقيقة المتقدمة يكمن في اقتراض الأوروبيين من تطوّر المسلمين قبل الحروب الصليبية. فما أدى إلى تقدّم الغرب هو نتاج اقتباسهم من المسلمين وعملهم بتعاليم الأولياء الإلهيين.

لقد علم المطّلعون على تواريخ العالم أن الأمم المسيحية والأوروبيين، قبل الحروب الصليبية، كانوا محرومين من جميع فروع الحكمة العملية، وكذلك كانوا بلا نصيب من علوم التمدن والحكمة العملية والأحكام السياسية، إما لعدم تشريعها في الشرائع السابقة، أو بسبب تحريف الكتب السماوية وعدم توفرها لديهم… لقد اقتبسوا أصول التمدن والسياسة الإسلامية من الكتاب والسنة والأوامر الصادرة عن شاه الولاية (الإمام علي) وغيرهم، واعترفوا بذلك بإنصاف في تواريخهم السابقة، وأقرّوا بقصور عقل النوع البشري عن الوصول إلى تلك الأصول، وأرجعوا كل ذلك التقدّم الاستثنائي الذي تحقق في أقل من نصف القرن الأول إلى متابعة هذه الأصول والعمل بها.”

إن الحالة التي أدركها الميرزا النائيني بخصوص تقدّم الأوروبيين كانت نتاج ممارسة الغربيين للتعاليم التي تلقّوها من المسلمين، بينما كان سبب تخلّف المسلمين وأسرهم هو الوقوع في الغفلة والطغيان.

ولكن، حُسن ممارسة ومزاولة الغربيين وجودة استنباطهم واستخراجهم للتشريعات والأصول، وعلى العكس من ذلك، السير التقهقري ووقوع المسلمين في ذل الرق والعبودية لطواغيت الأمة وإعراضهم عن الكتاب والسنة، أدت بالطرفين إلى هذه النتيجة المشهودة والحالة الراهنة. حتى أن المبادئ التاريخية السابقة نُسيت تدريجياً، واعتُبِرَ خضوع النفوس الأبية للمسلمين لمثل هذا الأسر والعبودية الوحشية من لوازم الإسلام.

من هذا المنظور، فإن تقدّم الأوروبيين هو نتاج وامتنان لتطور المسلمين، على الرغم من أن الغربيين والأوروبيين أنكروا هذا الاقتراض لاحقاً، وسكّوا التقدم والتطور باسمهم، وقدّموا المسلمين على أنهم مُمثلو التخلّف.

إن الحالة التي أدركها الميرزا النائيني بخصوص تقدّم الأوروبيين كانت نتاج ممارسة الغربيين للتعاليم التي تلقّوها من المسلمين، بينما كان سبب أسر المسلمين وتخلّفهم هو الوقوع في الغفلة والطغيان. “ولكن، حُسن ممارسة ومزاولة الغربيين وجودة استنباطهم واستخراجهم (للأصول)، وعلى العكس من ذلك، السير التقهقري ووقوع المسلمين في ذل العبودية لطواغيت الأمة وإعراضهم عن الكتاب والسنة، أدت بالطرفين إلى هذه النتيجة المشهودة والحالة الراهنة. حتى أن المبادئ التاريخية السابقة نُسيت تدريجياً، واعتُبِرَ خضوع النفوس الأبية للمسلمين لمثل هذا الأسر والعبودية الوحشية من لوازم الإسلام.” من هذا المنظور، فإن تقدّم الأوروبيين هو نتاج وامتنان لتطور المسلمين، على الرغم من أن الغربيين والأوروبيين أنكروا هذا الاقتراض لاحقاً، وسكّوا التقدم والتطور باسمهم، وقدّموا المسلمين على أنهم مُمثلو التخلّف.

هذه اللحظة التي يشرحها الميرزا هي تحديداً “لحظة ميلاد” فكرة التقدم؛ حيث يتم فيها عكس سردية التطور الديني القائمة على أن تطور البشرية يتجه من المادية والبدائية نحو معنوية أكبر. ووفقاً للتطور التكامل في نزول الأديان الإلهية، فإن المادية والبدائية كانتا متلازمتين، والتكامل هو نتاج زيادة معنوية الأديان الإلهية. كل دين جاء ناسخاً للأديان السابقة قد كمّل المعنوية والمادية معاً، وفي الدين الخاتم، بلغ هذا المسار التكاملي أوجه. في المقابل، في الرواية الأوروبية للتطور والتقدم، فإن البدائية هي ذاتها المعنوية، والتقدم والتكامل متطابقان مع نفي المعنوية والدين. ينبّه الميرزا النائيني في هذه المقدمة الوجيزة والمهمة إلى أن هيمنة النظرة الغربية للتقدم والتكامل أدت إلى اعتبار “أحكام الإسلام، التي هي منبع التقدم والتطوّر والعدالة، مُنافية للتمدن ومُخالفة لضرورة العقل المستقل، واعتبروا الإسلام هو أساس الخراب”.

ومن هذا المنظور، فإن الميرزا النائيني، وخلافاً لـ “المثقفين المستنيرين” مثل آخوند زاده ومالكوم خان، يقدّم إدراكاً مغايراً للتجديد الغربي؛ إذ في الوقت الذي يقر فيه بالوضع الحضاري المتردي للمسلمين وانحطاطه في الماضي القريب من زمنه، ويُسلّم بالتقدم الفعلي للأوروبيين، فإنه يجد الحل لهذه الحالة المعقدة ليس في طلب العمران والبناء من الغربيين والأوروبيين، بل في إحياء ما كان لدينا من قيم. وهذا الإحياء ممكن من خلال تنبيه الأمة لوضعها وتنزيه الملة من الخرافات.

هذا التأطير المختلف لتاريخ الميرزا النائيني، أنقذ تاريخ إيران والإسلام من ورطتين مدمّرتين. هذا الموقف التاريخي الدقيق والمنفتح، أولاً، كان نافياً للرؤية التي ترفض أي تقدم أوروبي وغربي أو استعباد للمسلمين من منطلق مُعاداة الغرب، وتُضفي تأييدها على غفوة العصر القاجاري. وثانياً، كان يقف في مواجهة الرؤية التي، بالتركيز على التخلّف الذاتي للإسلام والمسلمين – لا الطارئ والعَرَضي منه – سلكت طريق التقليد التام والكامل للحداثة الغربية.

الميرزا النائيني، متكئاً على علمه التاريخي العميق والسامي، رسم انفتاحاً تاريخياً لم يتحقق في نهضة المشروطية بسبب عدم تَنَبُّه الأمة و تَنزِيه المِلة، ولكنه انبثق كطائر الفينيق في الثورة الإسلامية الإيرانية، من بين أكوام خرافات وهجوم الحداثة الغربية، بفضل وعي المسلمين والإيرانيين بوضعهم التاريخي.

مهجورية كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” في مستقبل نظام الجمهورية الإسلامية

إن فهم اللحظات التاريخية، بمصداق الرواية المشهورة: “العَالِمُ بِزَمَانِهِ، لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِسُ”، هو من مقتضيات العلماء وأهل العلم، وبالنظر إلى الجوانب التاريخية للإنسان، يُعدُّ إدراكها من أصعب الأمور. أن يتمكن الإنسان المنخرط في متطلبات العيش في التاريخ ولحظاته وآناته المتغيرة، أن يبتعد عن هذه المقتضيات ويبلغ إدراك ما هو منخرط فيه يومياً، يتطلب قدراً كبيراً من تهذيب النفس والتخلية الروحية.

الميرزا النائيني، في “تنبيه الأمة”، يرسم لنا نموذجاً لهذا العالِمِ بزمانه. فهو يتجاوز المشهورات التاريخية ليذهب إلى أفق يتجاوز تاريخ زمنه؛ ليبدأ حواره الذي يُنَبِّهُ الأمة ويُنَزِّهُ المِلّة مع “المُطَّلِعِينَ على تواريخ العالم”، لكي لا يكتفي بإطلاع المسلمين على وضعهم الذي استُعبِدُوا فيه، بل ليحررهم أيضاً من حيرة المستنيرين المُتغرِّبين.

هذا المسار تكرر لاحقاً على يد علماء آخرين أيضاً. فقد تتبع آية الله شاه آبادي أيضاً، في كتابه “شذرات المعارف”، علل تخلف المسلمين في غلبة خصلتين مذمومتين هما: “اليأس” و”غرور الحقانية”، وهذا يمثل نوعاً من التنبيه والتنزيه.

إذا نظرنا من هذا المنظور إلى تاريخ إيران المعاصر وأحداثه، سندرك أن العلماء الحقيقيين لتاريخ إيران المعاصر كانوا جميعاً مشغولين بتنبیه وتنزيه الأمة والمِلة بالنسبة للزمن والعصر. ومن هذا المنظور، فإن أهم فعل سياسي يقوم به رجل الدين المعاصر هو وعيه بمتطلبات عصره وموقعه في التاريخ.

“حُسنُ السؤال نصفُ العلم”، والسؤال الصحيح يحمل في طياته الإجابة الصحيحة. هذه الأسئلة والإجابات أدت إلى تنَبُّه شامل للأمة وتنزيهها من الخرافات حينما بزغت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني (قدس سره).

اتفاقيات إبراهيم و “تنبيه وتنزيه” الميرزا النائيني

لنعد إلى البداية؛ إن إحياء ذكرى الميرزا النائيني، وبغض النظر عن أي تقصير في طريقة إقامته، بمجرد إحيائه للحوار بين الحوزات العلمية الثلاث: خراسان، قم، والنجف، يمكن أن يشتمل على عملية “تنبيه وتنزيه” (إيقاظ وتطهير)، خاصة في الظروف الراهنة لمنطقة غرب آسيا.

دول منطقة غرب آسيا، خلافاً لماضيها المعادي للكيان الصهيوني، قد رضخت للتطبيع ضمن المشاركة في “اتفاقيات إبراهيم”، ونسيت القضية الفلسطينية. إن تطبيع العلاقات ليس إلا بسطاً للقيم الغربية في هذه المنطقة. لقد ظهرت جميع مظاهر الثقافة الغربية المبتذلة، وخاصة في مجال الشؤون الجنسية أو الاستثمارات الاقتصادية، في ظل تطبيع العلاقات، حتى في دول مثل السعودية.

إن تطبيع العلاقات هو وجه آخر لـ”التغرّب”، ولهذا السبب، فإن ترامب يسعى إليه أكثر من سعي نتنياهو. فحكومات المنطقة، المندهشة من التطورات التكنولوجية الغربية والمتحيرة بـ”مُتَع” الليبرالية الجديدة المهيمنة على نمط الحياة الغربي، تمضغ تاريخها وتعمل على اضمحلاله.

لقد قامت قطر، والإمارات، والكويت، وحتى السعودية، بإذابة قيمها الدينية، حتى “حج إبراهيم”، فجعلته مضمحلاً في قيم هذه الدنيا والتيارات الدنيوية، وأصبحوا يقيمون حفلات غنائية بحضور مغنيات غربيات، برفقة الرقص وغيره من المحرمات، بين شعائر الحج السياسية-العبادية.

إن الأساس الجوهري لعملية تطبيع العلاقات، كما أشار قائد الثورة المعظم، هو نزع الدور الحضاري المستقبلي للإسلام في الصراعات العالمية.

لقد خطت حزب الله والسيد الشهيد بالدفاع عن غزة والجهاد من أجل المسجد الأقصى وتوجيه الضربة للكيان الغاصب والظالم، خطوة في طريق خدمة حيوية للمنطقة بأسرها والعالم الإسلامي كله. إن اعتماد أمريكا وشركائها على الحفاظ على أمن الكيان الغاصب هو غطاء لسياسة مهلكة هدفها تحويل هذا الكيان إلى أداة لهم للسيطرة على جميع موارد هذه المنطقة واستخدامها في الصراعات العالمية الكبرى. سياستهم هي تحويل الكيان إلى بوابة لتصدير الطاقة من المنطقة إلى العالم الغربي واستيراد السلع والتكنولوجيا من الغرب إلى المنطقة، وهذا يعني ضمان وجود الكيان الغاصب وتبعية المنطقة بأكملها له. إن السلوك الوحشي وغير المبالي للكيان تجاه المقاومين نابع من الطمع في الوصول إلى وضع كهذا. هذه الحقيقة توضح لنا أن كل ضربة تُوجَّه للكيان من قبل أي شخص أو أي مجموعة، هي خدمة للمنطقة بأسرها، بل وللإنسانية جمعاء.

ووفقاً لهذا التحليل، فإن استمرار تطبيع العلاقات يضع جميع موارد المنطقة، سواء كان النفط أو المقومات الهوياتية لهذه الأرض التي هي أرض الأنبياء الإلهيين، تحت تصرُّف الحضارة الغربية، وينزع الدور الحضاري للإسلام والمسلمين منهم.

وبحق، أي دور حضاري في مستقبل التاريخ ستحظى به قطر أو الإمارات أو المملكة العربية السعودية، أو أي بلد أو أمة أخرى تقبل بـ “اتفاقيات إبراهيم” وتطبيع العلاقات؟ هل نجد اليوم في هذه البلدان مكونات هوياتية حضارية للإسلام يمكنها الاعتماد عليها لتلعب دوراً في الحضارة الإسلامية الحديثة؟

إن هذه النقطة التاريخية الغامضة والمعقدة، التي تتجلى في قضايا مثل الحجاب والسفور والتبرج، وجيل زد (Generation Z)، وانتشار تقنيات الاتصال والمعلومات كالذكاء الاصطناعي، وتغير مكونات نمط الحياة، وحتى في مجالات الرياضة والترفيه والتسلية وأوقات الفراغ، تُشبه إلى حد كبير المرحلة التاريخية المعقدة للميرزا النائيني.

في هذا المنعطف، لا يمكن غض الطرف عن التطورات التكنولوجية والتحولات المتعلقة بالمرأة والأسرة، كما أنه لا يمكن الانخراط بتقليد أعمى وبدون تفكير في عجلة الحضارة الغربية واتفاقيات إبراهيم الخاصة بها. وهنا تحديداً، يجب على المطلعين على التواريخ أن يكتبوا مرة أخرى “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”.

لقد أشار قائد الثورة المعظم في بداية التحليل أعلاه الذي قدمه بمناسبة استشهاد السيد حسن نصر الله في خطبة صلاة الجمعة العصرية، إلى نقطة تاريخية هامة. ووفقاً لـ الكاتب، فإن المطلعين على التواريخ يدركون أن: نحن الإيرانيين نعرف لبنان وميزاته منذ زمن بعيد؛ فأشخاص مثل الشهيد محمد بن مكي العاملي، وعلي بن عبد العال الكَرَكي، والشهيد زين الدين العاملي، وحسين بن عبد الصمد العاملي، ونجله محمد بهاء الدين المعروف بالشيخ البهائي، وغيرهم من رجال العلم والدين، قد أغنوا إيران ببركات علمهم الغزير في حقبتي دولة السربداران والدولة الصفوية في القرون الثامن والعاشر والحادي عشر الهجري.

من هذا المنطلق، فإن الاحتفاء بالميرزا النائيني، وبغض النظر عن أي قصور في التنفيذ، يُعتبر مُمهِّداً لـ “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” من الخرافات التي تتمسك بها حكومات المنطقة في إطار “اتفاقيات إبراهيم”، وذلك بمجرد إيجاد حوار بين الحوزات العلمية في خراسان وقم والنجف.

إن إحياء اسم الميرزا النائيني، أو التذكير بالتعاون التاريخي لعلماء جبل عامل مع إيران، يُمدّد المسار التاريخي الذي يُبيّن أنه حتى لو نظرنا من منظور الحسابات العقلانية، فإن الاعتماد على إمكانيات التاريخ والحضارة الإسلامية هو طريق أكثر جدوى اقتصادياً بكثير من الرضوخ لاتفاقيات إبراهيم، التي لن تُبقي شيئاً من هوية وثقافة وتاريخ هذه الحضارة الإلهية العريقة.

إن دول المنطقة تقف الآن عند مفترق طرق مُشابه، أحد طرفيه هو الخضوع لاتفاقيات إبراهيم واللهاث وراء لاعبي كرة القدم والمغنين والتقنيين الغربيين والأمريكيين والإسرائيليين، والطرف الآخر هو الالتفات إلى تنبيه الميرزا النائيني واعتماد طريق التقدم العزيز المصحوب بالمقاومة.

يُؤمَل أن تسمع دول المنطقة هذه الرسالة التاريخية للميرزا النائيني بآذان صاغية: “إلى أن، في هذا الجزء من الزمن الذي بحمد الله تعالى وحُسن تأييده، انقضى فيه دور السير التقهقري للمسلمين إلى النقطة الأخيرة، ووصلت نوبة عبوديتهم تحت الإرادات الشهوانية للجبابرة إلى نهايتها، وانتهى عمر هذه العبودية المشؤومة والملعونة؛ (حيث) اطّلع عامة المسلمين، بحُسن دلالة وهداية أئمة رجال الدين، على مقتضيات دينهم وشريعتهم، وأدركوا أن حريتهم الإلهية قد قُرنت بذل العبودية لفراعنة الأمة، وتوصّلوا إلى حقوقهم الوطنية المشروعة ومشاركتهم ومساواتهم في جميع الأمور مع الجبابرة، ولم يترددوا في خلع نير العبودية للطغاة واسترداد حقوقهم المغصوبة، فلم يخشوا خوض بحار النار، بل اعتبروا إراقة دمائهم الطاهرة في سبيل هذا الهدف من أعظم موجبات السعادة والحياة الوطنية، واقتبسوا إيثارهم التلطخ بالدماء على الحياة تحت أسر الظالمين من قول سيد المظلومين (الإمام الحسين)، الذي قال: ‘نفوس أبِيَّةٌ مِنْ أَنْ تُؤْثِرَ طَاعَةَ اللِئَامِ عَلَى مَصَارِعِ الكِرَامِ’. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *