الاجتهاد: حظيت جمعية منتدى النشر بدعم العديد من المراجع والعلماء وبعض الأسر العلمية المعروفة في النجف مثل آل یاسین وآل بحر العلوم وآل مشکور وآل الصافي وآل الصدر، الذين أرسلوا أبناءهم للدراسة في مدارس منتدى النشر وكلياتها تأييدا لفكرة الإصلاح الدراسي، فضلا عن دعم المرجعية العليا زمن السيد أبي الحسن الأصفهاني (1868 – 1946 ) الذي أيد الجمعية في فتح المدارس في النجف، وحرص على أن تفتح الجمعية مدارس في مدن أخرى.
وكذلك أجاز صرف الحقوق الشرعية لصالح الجمعية، هذا إلى جانب الدعم المادي والمعنوي الذي حظيت به الجمعية أحيانا من مرجعية السيد محسن الحكيم (1888 – 1970)، الذي خلف السيد أبو الحسن الأصفهاني في تسنم المرجعية العليا في النجف الاشرف.
تمكنت المؤسسات التعليمية والثقافية لمنتدى النشر، في ظل دعم المرجعية والطبقة المتنورة وجهود القائمين على أمر الجمعية، من تخريج الآلاف من حملة شهادة البكالوريوس في اللغة وعلوم الشريعة أكمل عدد كبير منهم الدراسات العليا فضلاً عن تخريج المئات من علماء الدين الأكاديميين الواعين، الذين رفدوا المكتبة العربية والإسلامية بدراساتهم وبحوثهم ،
واستطاعت تلك المؤسسات تحقيق نقلة في الخطاب الحوزوي بدفعه إلى المعاهد الأكاديمية داخل العراق وخارجه ، وبذلك تمكنت من كسر الطوق الذي أحيط بنشر أفكار الجامعة النجفية الكبرى ، فضلاً عن إتاحتها الفرصة أمام بعض رجال الوسط الحوزي في اقل تقدير للاطلاع على العلوم الأخرى في المجتمع في مجالات السياسة والتاريخ والفلسفة والرياضيات وغيرها من العلوم ،
وإذا كان لجمعية منتدى النشر بمدارسها وكلياتها ان تفتخر بشئ من انجازاتها التي قدمتها للمجتمع فيكفيها فخراً تقديم ثلاثة أعلام عدّوا من مشاهير المفكرين الإسلاميين ، إذ تجاوزت شهرتهم محيط العراق وما زالت كثيراً من كلماتهم ملئ الآذان ، هم المفكر والفيلسوف الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر ، والعالم العامل المرجع الكبير السيد محمد محمد صادق الصـدر والعالم والخطيـب البارز المعـروف بعمـيـد المنـبـر الـحسيني الدكتور الشيخ احمد الوائلي .
هذا مع الأخذ بـنـظر الاعـتبـار تـفاوت تأثـير جمـعية منتدى النشر في ثقافة الشخصيات المذكورة لصالح الثاني والثالث أكثر من تأثيرها على التكوين الفكري للأول ، الذي دخل مدارس الجمعية في مراحلها الأولى فقط .
لم تبقَ المؤثرات الإصلاحية لجمعية منتدى النشر حبيسة مدينة النجف الاشرف ، بل امتدت إلى مدن أخرى ، إذ تم افتتاح فرع للجمعية في الحلة عام 1943 وفي البصرة عام 1945 وفي مدينة الكاظمية المقدسة عام 1943 ،
والظاهر أنّ هذا الفرع قد افتتح قبل حصول الموافقة الرسمية بعام أو أكثر ، وقد صادقت وزارة الداخلية على نظام فروع جمعية منتدى النشر في عام 1946 بحسب كتاب قائمقامية النجف ذي الرقم ( 2156 ) في 29 / 4 / 1946 . وفضلاً عن مؤثرات الجمعية داخل العراق امتدت مؤثراتها إلى مراكز شيعية أخرى خارج العراق ، وقد المحنا إلى هذا الأمر سابقاً .
ومع ما حظيت به جمعية منتدى النشر من تأييد المرجعية وبعض الأوساط المثقفة ، إلا أنها في مقابل ذلك جابهت عدة عقبات وعراقيل حالت دون تحقيق كامل أهدافها المرسومة . وعلى الرغم مما قدمته الجمعية من خدمات للمجتمع العراقي ،
إلا ان نظرة المعارضة والرفض من المجتمع بشكل عام والوسط الحوزوي بوجه الخصوص اتجاه الجمعية لم يطرأ عليها تغيير ملموس حتى أواسط الستينيات من القرن العشرين بعد ان رأى المجتمع الثمار الحقيقية للتجربة الإصلاحية التي نهضت بها الجمعية، حين ازداد عدد العلماء والشعراء والخطباء والمثقفين من خريجي منتدى النشر ، وجاء ذلك بعد مضي قرابة الثلاثين عاماً على التأسيس كانت مليئة بالمعارضة والصدود.
وعلى الرغم من مراعاة جمعية منتدى النشر مسألة عدم مفاجأة الرأي العام وإتباع اسلوب التدرج في الإفصاح عن أهدافها ، إلا ان مجافاة طلبة المنتدى كان طابعاً عاماً في الوسط الحوزوي،
ذلك الوسط الذي يحتاجه طلاب المنتدى في التدريب على أساليب المناقشة والجدل العلمي ،غير أنـّهم كانوا يواجهون بعدم الاعتناء واللامبالاة ، بل بالاستنكار والتصدي في بعض الأحيان ، ولا ينكر وجود بعض الاستثناءات ، لكنها كانت قليلة ،
وربما يعود سبب ذلك إلى ان بعض أساتذة المنتدى ومنهم الشيخ المظفر كانوا كثيراً ما يرتادون المجالس والأندية النجفية مستصحبين معهم عدداً من الطلاب مع إفساح المجال لهم لعرض المسائل العلمية … ويسود الجدل العنيف بينهم وبين عدد من فضلاء الحوزة ، الأمر الذي يثير بعض النفوس فكانت المشاكل تتوالد وتتراكم على غير ما هو متوقع.
كانت قناعة الشيخ المظفر بضرورة الإبقاء على بعض الأعضاء المنتمين إلى البيوتات النجفية المعروفة من الأسباب المهمة التي أدت إلى عدم تقدم مشروع الجمعية بخطوات سريعة ، وذلك لكثرة اعتراضات أو مخالفات أولئك الأعضاء ولجاجتهم ناهيك عن إصرارهم على فصل بعض الأعضاء فصلاً نهائياً مما حرم الجمعية من بعض العناصر المفكرة ، هذا فضلاً عن عدم استناد الجمعية على جهة معينة في تمويلها.
شغلت المساعدات حيزاً كبيراً في حجم واردات الجمعية ، ففي ميزانية السبع سنوات (1949 – 1955) شكلت المساعدات أكثر من نصف واردات الجمعية البالغ مجموعها ( 9249 ) ديناراَ و( 892 ) فلساَ ، أسـهـمـت الـمـسـاعــدات فيـها بـما مجموعه ( 4998 ) ديناراً و(599) فلساً .
بينما بلغت نـفـقـات الجـمعية خلال المدة نفسها (11734) ديناراَ و(86) فلساَ والعجز واضح في الميزانية ؛ إذ بلغ(2484) ديناراَ و (194) فلساَ، فلم تكن واردات الجمعية، المتأتية من إيجارات عقاراتها وبيع مطبوعاتها ورسوم اشتراكات الأعضاء تكفي لسد نفقاتها فتلجأ إلى القروض؛ لذا شكل العجز المالي عائقاً آخر أمام تـطور الجمـعية التي تعتمـد على المساعدات بشكل كبير، وإذا ما علمنا أن تـلـك المساعدات غير ثابتة فـهي بين مد وجزر بحسب الظروف ، أدركنا مدى الصعوبات المالية التي كانت تعانيها الجمعية .
كـانت المواقف السـياسـية من جمـعيـة مـنتدى النـشــر ، وبـخـاصة بـعد الـعام 1968 ، العائق الأكبر أمام تحقيق الجمعية كامل أهدافها التي أرادت تتويجها بإنشاء جامعة منتدى النشر ،
بيد ان الوضع السياسي بات يهدد وجود الجمعية بالكامل وذلك بتأميم مؤسساتها التعليمية كافة كما مر بنا . أعقبها القضاء على وجود الجمعية نهائياً نظراًً للظروف السياسية الساخنة والزاخرة بالإحداث التي شهدتها النجف في عقد السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن العشرين .
لم تكن جمعية منتدى النشر هي الجمعية الإصلاحية الوحيدة في النجف الاشرف ، بل كانت هنالك جمعيات أخرى إلا أنها كانت اقل تأثيراً ؛ لأنها لم تكن قادرة على تحقيق أهدافها الكبيرة ، فظلت تراوح في مكانها ،
وهذا الأمر ينطبق على جمعيتي الرابطة الأدبية والتحرير الثقافي على اختلاف مستوى الفاعلية بينهما لصالح جمعية الرابطة الأدبية ، التي أسسها عام 1932 مجموعة من الأدباء على رأسهم الشاعر المعروف محمد علي اليعقوبي ، لتربط بين الشعراء والأدباء ، وهي أول مؤسسة ثقافية أدبية في تاريخ النجف الحديث، ويقع ضمن أهدافها كذلك العمل على إيجاد حلقة وصل بين رسل الثقافة في العالم العربي وجامعة النجف العلمية .
أسهمت الجمعية مساهمة فاعلة في بعث الحركة الأدبية في النجف ، وكانت رائدة النهضة الأدبية الحديثة فيها ، عٌرفت أيضاً بندواتها ومجالسها الأدبية بجانب قيامها بنشر بعض الكتب الأدبية والدينية مثل ديوان الشبيبي والفلسطينيات وجهاد المغرب العربي والقرآن الكريم والطب الحديث ولمحات من حياة الشيخ اليعقوبي ، وإصدار سلسلة أدبية بعنوان في الرابطة الأدبية .
شهد نشاط جمعية الرابطة الأدبية تراجعاً مطلع الخمسينيات من القرن الماضي ، ولم يكن نشاطها بالسعة التي كان عليها نشاط جمعية منتدى النشر ذات الفاعلية الأقوى في مختلف أوجه النشاط الاجتماعي . وبالمقابل اقتصر نشاط جمعية الرابطة الأدبية على المجالات الأدبية،
الأمر الذي أدى إلى خلق جفوة ونوع من المنافسة بين الجمعيتين على حد تعبير الشيخ باقر شريف القرشي ، احد الأعضاء البارزين في جمعية الرابطة الأدبية . ويبدو أنّ تلك المنافسة قد وصلت إلى حد الخصومة في بعض الأحيان ، والى شيء قريب من هذه المعاني يشير جعفر الخليلي.
أما جمعية التحرير الثقافي التي أسست عام 1945 ، من بعض طلاب الحوزة العلمية وغالبيتهم من طلاب الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، وكانت الجمعية تهدف إلى محاربة الأمراض الاجتماعية ، والسعي لنشر المبادئ الخلقية السامية للإسلام وخدمة اللغة العربية والسعي لنشر العلم والثقافة .
فتحتْ جمعية التحرير الثقافي عام 1946 مدرسة ابتدائية وما لبثت ان فتحت مدرسة ثانوية . كانتا من بين المدارس التي أُممت عام 1970 . وقد راعت الجمعية في مدارسها مسألة تدريس العلوم الدينية بجانب العلوم الحديثة ،
وأصدرت الجمعية عام 1957 مجلة النشاط الثقافي التي عُرفت باهتماماتها الثقافية والأدبية ، وقد حظيت الجمعية بدعم وتأييد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء .
أكد مؤسسو جمعية التحرير الثقافي تأثرهم بأنشطة جمعيتي الرابطة الأدبية ومنتدى النشر ، لكن جمعية التحرير الثقافي كنظيرتها الرابطة الأدبية لم تبلغ ما بلغته منتدى النشر من الأهمية والتأثير ، ولم تكن قادرة هي الأخرى على تحقيق أهدافها الكبيرة لذا بقيت تراوح في مكانها .
جزء من مقالة بعنوان: جمعية منتدى النشر في النجف.. صفحات ثقافية لامعة للدكتور رحيم عبد الحسين العامري ، في صحيفة المدى.