الاجتهاد: تعدد الزوجات من الموضوعات الإشكاليّة في المجتمعات الإسلاميّة، فما بين مؤيِّدٍ له، بل قائلٍ باستحبابه، وبين منكرٍ له، وقائلٍ بأنّ غاية الحكم الأوّليّ فيه هو الإباحة والجواز. وقد يتبدَّل هذا الحكم، ولكنْ بالعنوان الثانويّ، إلى أحد الأحكام الأربعة الأخرى، وهي: الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة أو الحرمة.
يتمسَّك القائلون بالاستحباب بقوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ (النساء: 3)، حيث إنّ صيغة الأمر ظاهرةٌ في الوجوب، وبما أنّه يُقطَع بعدمه، فلا أقلّ من القول بالاستحباب. وهذا ما يُستفاد من السيد اليزدي في العروة الوثقى، حيث يقول: «مسألةٌ: الاستحباب لا يزول بالواحدة، بل التعدد مستحبٌّ أيضاً؛ قال تعالى: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾. والظاهر عدم اختصاص الاستحباب بالنكاح الدائم أو المنقطع، بل المستحبّ أعمّ منهما ومن التسرّي بالإماء»([1]).
ولكنّ قراءةً متأنِّيةً للظروف التي نزلت فيها هذه الآية، وما أشارت إليه بعض الروايات من أحداثٍ تَلَتْ نزولها، قد يقودنا إلى رأيٍ آخر، وهو القول بالجواز والإباحة فقط لا غير.
فلقد كان تعدد الزوجات منتشراً في جزيرة العرب قبل الإسلام. وقد بلغ حدّاً كبيراً من الفوضى وعدم الانتظام، حتّى أنّ الرجل ليتزوَّج نساءً كثيرات، يبلغ عددهنّ العشرة، أو أقلّ أو أكثر. وهو ما سوف يظهر في الروايات الآتية.
ولمّا جاء النبيّ الأكرم محمد(ص) بشريعته السهلة السمحاء الخالدة، المرتكزة على إقامة العدل ورفع الظلم، فحرَّم كثيراً ممّا كانت تعاني منه المرأة في الجاهليّة:
1ـ فحرَّم وأدَ البنات، والقضاء عليها بهذه الصورة البشعة، فقال تعالى، حكايةً عن فعلهم: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (النحل: 58 ـ 59)، وقال في آيةٍ أخرى: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ (التكوير: 8 ـ 9)، فكان ذلك تحريماً لهذا الفعل الشنيع، البعيد عن كلّ معاني الإنسانيّة والقِيَم الأخلاقيّة.
2ـ ومنع من إرث النساء، حيث كانوا يرثونها كما تورَث البهائم وسائر المتاع، فقال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً﴾ (النساء: 19)، وهي دالّةٌ على ذلك في أحد التفسيرين، كما قال جلَّ وعلا: ﴿وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ (النساء: 22)، وهو دالٌّ على المنع بتحريمه الغاية التي كانوا يسعَوْن إليها من وراء ذلك الإرث المقيت، وهي مقاربة زوجة الأب.
3ـ ومنع من الزواج بالأختين معاً؛ تكريماً للمرأة، ومراعاةً لمشاعرها، وحفاظاً على أحاسيسها وعواطفها، فقال عزَّ من قائلٍ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ…وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ (النساء: 23).
4ـ وفرض للنساء نصيباً من الميراث، بعد أن لم يكن لهنَّ ذلك، بل كنَّ جزءاً من الميراث، كما تقدَّم. فجاء الإسلام ليؤكِّد حقَّ المرأة في أن ترث من التركة، كما هو حقُّ الرجل أيضاً، فقال: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾ (النساء: 7).
أمام هذا الواقع الإصلاحي من الطبيعيّ أن يظنّ أو يعتقد الكثير من الرجال أنّ الإسلام سيُحرِّم عليهم تعدد الزوجات، كما اعتادوا ذلك في الجاهليّة. إذن هم في خضمّ حركة التغيير هذه في مقام توهُّم الحظر والمنع والتحريم، فالأمر بتعدد الزوجات﴿فَانْكِحُوا﴾ حينئذٍ لا يدلّ على أكثر من الإباحة والجواز، وأمّا الاستحباب فيحتاج إلى قرينةٍ إضافيّة، وهي مفقودةٌ في المقام.
وممّا يشهد لكون الرجال في مقام توهُّم الحظر والمنع ما جاء في بعض الروايات من سؤال بعض رجال المسلمين للنبيّ(ص) عمّا يفعلونه بنسائهم المتعدِّدات ـ وكأنّهم كانوا يتوقَّعون في خضمّ تلك الحركة الإصلاحيّة أن يُمنَعوا من الإبقاء عليهنّ ـ فكان الجواب من النبيّ(ص) ـ انسجاماً مع ما جاء في الآية الكريمة: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ بأنّ لكم أن تحتفظوا بأربعةٍ منهنّ فقط لا غير.
فقد قال ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللآلي: ورُوي أن غيلان بن سلمة أسلم على أكثر من أربع زوجات، فقال له النبيّ(ص): «اختر منهن أربعاً وفارق سايرهنّ». وكذا وقع لحارث بن قيس، وعروة بن مسعود الثقفي([2]).
وروى أحمد بن حنبل في المسند، أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبيّ(ص): «اختر منهنّ أربعاً»([3]).
وروى ابن ماجة وأبو داوود في السنن، عن قيس بن الحارث قال: أسلمتُ وعندي ثمان نسوة، فأتيتُ النبيّ(ص)، فقلت ذلك له، فقال: «اختر منهن أربعاً»([4]).
وروى البيهقي في السنن الكبرى، عن عروة بن مسعود قال: أسلمتُ وتحتي عشر نسوة، أربع منهنّ من قريش، إحداهنّ بنت أبي سفيان، فقال لي رسول الله(ص): «اختر منهن أربعاً وخلِّ سائرهنّ»، فاخترت منهن أربعاً منهنّ ابنة أبي سفيان([5]).
وروى البيهقي في السنن الكبرى، عن نوفل بن المغيرة قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة، فسألت النبيّ(ص) فقال: «فارق واحدة وأمسك أربعاً»، فعمدت إلى أقدمهنّ عندي عاقر منذ ستين سنة ففارقتها([6]).
ومن هنا فقد كانت النساء في ذلك الزمان أشدّ فرحاً بنزول هذه الآية من الرجال، حيث اعتبرْنَ أنّ فيها إنصافاً لهنّ، وصيانةً لحقوقهنّ، بحيث يمكنهنّ أن يرَيْنَ الزوج في كلّ أربع ليالٍ ليلةً، وهذا ما لم يكن ليحصل في ظلّ الفوضى القائمة على التعدُّد اللامحدود للزوجات.
وهكذا نصل في قراءةٍ فقهيّة دقيقة، تستفيد من معطيات تاريخ الأمم والشعوب، ومن التراث الحديثيّ عند المذاهب الأخرى، وهو ما لا نجده ـ وللأسف الشديد ـ عند كثيرٍ من الفقهاء والعلماء، إلى أنّ الحكم القرآنيّ الأوّليّ لـ تعدد الزوجات هو الإباحة والجواز؛ إذ الأمر ﴿فَانْكِحُوا﴾ في مقام توهُّم الحَظْر لا يُفيد أكثر من ذلك، وقد يتبدَّل هذا الحكم الأوّليّ؛ بالعنوان الثانويّ، إلى أحد الأحكام الأربعة الأخرى: الاستحباب أو الوجوب؛ حيث تدعو الحاجة الشخصيّة أو الاجتماعيّة إلى ذلك، والكراهة أو الحرمة؛ حيث يكون في هذا التعدُّد تأثيراً سلبيّاً على الأسرة الأولى.