علي-المدن - الاجتهاد

العملية الاستنباطية عند الشيعة ومصطلح ” الاجتهاد ” / بقلم: علي المدن

الاجتهاد: ما زال موضوع تطور الفقهُ الشيعي الإمامي يحتاج إلى دراسات منهجية موسعة، تتمتع، إلى جانب الدراية التفصيلية الشاملة بمصنفات وأعلام هذا المذهب، بحس تاريخي فطن ومتحرر من المصادرات الكلامية التي تغذيها الروح المذهبية.

فإنه بالرغم مما شهدته العقود الخمسة الأخيرة من صدور جملة من الكتابات في هذا الشأن (نظير ما كتبه علي كاشف الغطاء وهاشم معروف الحسني ومحمد مهدي الأصفي وعبدالهادي الفضلي ومحمد باقر الصدر ومحمود البستاني وحسين مدرسي طباطبائي وجعفر سبحاني وأبو القاسم كرجي واخرون) فإن هذا الحقل يخلو من وجود دراسة معمقة يمكن اعتبارها حائزة على الشروط المنهجية الصارمة للتحليل التاريخي الصرف، بل هي في الغالب دراسات مكتوبة بهاجس الرد على الخصوم والدفاع عن المذهب، وفيها الكثير من الالتباسات في فهم بعض المسائل الجوهرية ذات الصِّلة بتاريخ الفقه الإسلامي عامة، كما هو الحال مع مسألة القول بالرأي أو العمل بالإجماع أو مفهوم الاجتهاد أو مفهوم العقل أو الاستحسان أو المصالح المرسلة أو تنقيح المناط وتحقيقه أو علاقة المدارس الفقهية بالسياسة … إلخ.

ومما يزيد من حاجتنا لهذه الدراسات ما نواجهه غالبا عند من يدرسون الفقه ويتخصصون فيه من قلة اطلاع على تاريخ هذا الفرع المعرفي الخطير والكيفية التي تشكَّلت داخله الآراء والأقوال والمفاهيم والمصطلحات والاتجاهات الفقهية، وسياقاتها التاريخية والاجتماعية، وعلاقة الفقه بغيره من العلوم الإسلامية، لاسيَّما علم الكلام وأصول الفقه والتفسير، وبالتالي التفكير بحجم التغييرات الهائلة التي طرأت على تلك الأسس المولِّدة والموجهِّة لفكرنا التشريعي.

هذا ناهيك عن فهم المناحي الأسلوبية لكل فقيه، والكشف عن مصادره وأفقه، وارتباطها بأفق عصره وسلفه، معرفياً وسياسياً واقتصادياً … إلخ.

يمكنني مثلا أن أذكر هنا واحدة من الدراسات التي كتبها الراحل محمود البستاني كمقدمة لكتاب ابن المطهر الحلي (منتهى المطلب في تحقيق المذهب) كأنموذج على ذلك، فهذه الدراسة وإن عكست دراية كاتبها بآراء الحلي وبعض أنماط استدلالاته، إلا أنها بقيت حبيسة النقاش التقليدي في الصناعة الفقهية (عرض الدليل ونقضه)، ولم تعتنِ بإيضاح: لماذا اختار الحليُ ما اختاره؟ وكيف قال ما اختاره؟ وفرْقه عن سلفه؟ وعلاقة ذلك ببيئته وعصره؟،

لم يكشف البستاني عن علائقية الحلي، وعياً ومعرفة، بزمنه، ومديونيته لمعارف وقته. لم تبين محدوديته وتاريخيته في الموضوعات التي كتب فيها بالقياس إلى عصرنا الحالي … إلخ. والبستاني وإن حذف، كما أخبرني شخصيا بذلك، جزءا مهما من دراسته نتيجة لتبرم القائمين على نشر الكتاب من النقود التي سجلها على الحلي، إلا إن علمنا بكونها من نفس سياق ما نشر، يحملنا على عدم تغيير رأينا في قيمة دراسته.

في هذا الصدد أرى، على العكس مما هو شائع، أن الأبحاث التي كتبها الصدر بخصوص التاريخ الإمامي الفقهي تحتاج إلى مراجعة نقدية حقيقية؛ وذلك لما لها من تأثير واسع على أذهان الكثير من الدارسين، لاسيّما أولئك المنتمين منهم للمعاهد الدينية في النجف وقم وغيرها من الحواضر الشيعية في العالم.

وحيث إنني الآن لست بصدد تقييم ونقد تلك الأبحاث فسأكتفي بذكر مثال واحد تلك الالتباسات:

ذهب الشهيد الصدر إلى أنه لا خلاف عند الإمامية في مسألة “جواز” عملية “الاستنباط” الفقهي! وأن الإلتباس في جوازها نشأ من استخدام السنة لفظ “الاجتهاد” للتعبير عنها، وحيث أن الاجتهاد ما هو الا “التفكير الشخصي وما يرجح فيه من تشريع”، وهو ما منع الاماميون العمل به، فقد جاء منعهم عن هذا اللون من الاستنباط تحت اللفظ العام الذي استخدمه السنة، لفظ الاجتهاد، واستمر الامر على ذلك حتى ميز المحقق الحلي بين الاجتهاد كبذل للجهد في تحري الحكم الشرعي والاستدلال عليه وبين التفكير الشخصي، فاخرج الثاني من الاجتهاد عند الامامية ومنع منه، فصار القول بأن الإمامية يمارسون الاجتهاد أمرا مقبولا! وإلا فإن الإماميون لا يشكون قبل ذلك في جواز الاستنباط.

ملاحظات

والواقع أن هذا الكلام إشكالي إلى حد ليس بالقليل، وفيه من “اللبس المركب” ما يستدعي تفكيكه بأكثر من دراسة مستقلة!، ومع هذا فينبغي التنبيه على عدة أمور:

أولا: ما لم يحدد تحديدا تاريخيا دقيقا جملة من المصطلحات الموظفة في هذا النص فإن النقاش يبقى عقيما! وعلى رأس أهم تلك المصطلحات ما يأتي: (الاستنباط، الاجتهاد، الرأي، أهل الحديث).

ثانيا: القول بنفي الخلاف حول جواز ممارسة “الاستنباط” عند الإمامية ليس صحيحا، بل الصحيح أن هناك فريقاً واسعاً من الإمامية أنكر هذا اللون من العمل الفقهي واعتبره خرقا لروح التسليم للنص. وهذا هو صلب الخلاف المتأخر بين الأخباريين والأصوليين من الإمامية.

وما ذهب إليه الصدر من أن العودة بجذور الأخبارية إلى عصر الأئمة هو مجرد “زعم” من المحدث الأسترابادي لا دليل عليه، وأن الأخبارية القديمة ما هي إلا مستوى من مستويات الفكر الفقهي، وليست مذهبا من مذاهبه.

أقول إن ما ذهب إليه الصدر في ذلك: هو لبس تاريخي آخر بعيد عن التحقيق. فإن وجود هذا التمييز بين التيارين (وليس المستويين من التفكير أحدهما متقدم زمنيا والآخر متأخر) مما تشهد به نصوصُ الكثيرِ من العلماء المتقدمين على ابن المطهر الحلي (بل هذا واضح في المدونات الروائية أيضا)، ولم يرد فقط في عبارة ابن المطهر التي استشهد بها الأسترابادي والتي حاول الصدر اختزال النقاش في رده عليه بتفسير معناها وتأويلها.

ومن يتأمل عبارات الشيخ المفيد (في “أوائل المقالات” بنحو خاص) يعرف أن الإمامية كانوا، حتى ذلك العصر، على ثلاثة اتجاهات: 1. أهل الفقه والاعتبار، 2. أهل الحديث والآثار، 3. أهل الكلام والنظر. وأن الخلافات المنهجية مستمرة بين هذه الاتجاهات الثلاثة، وَإِنْ كان الغالب تقارب الاتجاهين الأول والثالث فقها وكلاما.

ثالثاً: استكمالا لما ورد في النقطة السابقة يجب التنبيه على أن من أهم أسباب غياب الفهم التاريخي السليم لتيارات المذهب الإمامي في القرن الرابع الهجري وما قبله هو الالتباس الحاصل في معرفة وفهم المصطلحات الرئيسية في ذلك المشهد الفكري، كما هو الحال مع مفهوم (الاعتبار)!! فإن هذه المفردة تعني (رد الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه، ومنه سمّي الأصل الذي ترد إليه النظائر عبرة) (كشاف: 1/ 277، دستور العلماء: 1/ 98).

وهذا المصطلح يشمل عدة مفاهيم كانت سائدة في ذلك العصر، هي: (أ) “الاتّعاظ”، وهذا الكلمة مأخوذة من الآيات القرانية التي تحث على الاتعاظ. و (ب) “القياس العقلي”، وهو غير القياس البرهاني الأرسطي الذي صُرف لفظ القياس إليه لاحقا بفضل توغل المنطق والفلسفة في العلوم الإسلامية، وإنما المقصود به ما يسمى عند المناطقة بـ”التمثيل”، وقد كان المتكلمون يطلقونه على طريقتهم في (قياس الغائب على الشاهد) في قضايا العقيدة، فإن تجاوزوا في استخدامه إلى حقل الشرعيات قيل عنه: القياس الشرعي. و (ج) “القياس الشرعي” هو ذاته “التمثيل” المعروف لدى المناطقة، وهو ما توقف “أغلب” (وليس جميع) الإماميين عن العمل به في مجال الشرعيات.

وهكذا إذا عرفنا أن مفهوم “الاستنباط” الذي راج استخدمه عند متأخري الإمامية في حديثهم عن عملية استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها هو ذاته ما يعبر عنه القدماء بمصطلح “الاعتبار”، تبين لنا أن حديث الصدر عن بداهة جواز “الاستنباط” عند متقدمي الإمامية ليس صحيحا على إطلاقه، وستكون جميع النصوص الوارد في تراث المفيد والمرتضى والطوسي وابن ادريس وغيرهم التي تتحدث عن تيار إمامي رافض لاستخدام “الاعتبار” في الشرعيات تصريحا منهم بأن عملية “الاستنباط” كانت محل رفض عند ذلك الفريق المشار إليه تحت عنوان “أهل الحديث والآثار”، والذي كان ابن بابويه القمي من أشهر ممثليه في القرن الرابع الهجري.

وفي كل مرة نجد في نصوص هؤلاء مقابلة في مجال الفقهيات بين (أهل الاعتبار والنظر) من جهة، و (أهل الحديث والآثار) من جهة أخرى، نعلم أن خلافهم يتمحور في الحقيقة حول جواز أو عدم جواز ما بات يسمى لاحقا بـ “الاستنباط” أو “الاجتهاد”.

رابعاً: الصحيح أنه لا يوجد من القائلين بالاجتهاد والرأي من يفسر الاجتهاد بـ”التفكير الشخصي” بالمعنى الذي شرحه الصدر في عبارته المتقدمة، وانما نسب ذلك لهم خصومهم من أهل الحديث، السنة والشيعة على حد سواء.

وأهل الحديث ينكرون كل محاولة لتأويل النص أو النظر فيه أو الاعتبار به أو الاستنباط منه (وهذه كلها تسميات اصطلاحية “خاصة” تعني أمرا واحدا، وهو: الاجتهاد)، ورأيهم أن الصحيح هو التمسك بمداليل النص وظواهره المباشرة فقط. نعم، هم يهتمون ب “فقه الحديث” والذي يعني تحليل مداليل النص وشموله لموارده من باب تطبيق الخطاب العام على “مصداقه” الخاص.

خامساً: عرفنا أن قدماء علماء المسلمين (والإماميون ضمنهم) يصطلحون على عملية استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها بـ”الاعتبار”، وأنهم اختلفوا في جوازه وحرمته، وعليه فإن محاولة الصدر تأرخة عملية الاستنباط عبر مصطلح (الاجتهاد) كان فيها اختزال تاريخي مخل؛ فإن ما ذكره من أن تحول الإمامية في تداول اصطلاح (الاجتهاد) من مجاله الممنوع وترحيله إلى المجال الجائر كان على يد المحقق نجم الدين الحلي غير صحيح أيضاً، فقد سبقه إلى ذلك المرتضى في “الذريعة” عند تأويله لخبر معاذ الشهير (الذريعة: 2/ 776)، وعند الباب الذي عقده للكلام عن الاجتهاد، فقال: (الاجتهاد الذي لا تتميز الامارات فيه، وطريقه غلبة الظن كالقبلة وما شاكلها، فعندنا أن الله تعالى قد تعبد بذلك زائدا على جوازه في العقل) (المصدر: 2/ 792). وهو ما فعله أيضاً الطوسي في الموضعين من “العدة”، والكراجكي في كتابه “كنز الفوائد” (2/ 207، 208) في المجلس الذي عنونه: (ذكر مجلس جرى في القياس مع رجل من فقهاء العامة اجتمعت معه بدار العلم في القاهرة).

على أن ما قام به نجم الدين الحلي بخصوص مصطلح “الاجتهاد” قد سبق لابن ادريس أن قام بمثله في مصطلح أكثر تداولا وأشد التصاقا بعملية استخراج الاحكام الشرعية، وهو مصطلح “الاعتبار”.

فبعد نقله ما حكاه الطوسي عن المتقدمين من أقوال في مسألة “ميراث المجوس” وتعليق الطوسي بقوله: (وما ذكره أصحابنا من خلاف ذلك ليس به أثر عند الصادقين عليهم السلام، ولا عليه دليل من ظاهر القرآن، بل إنما قالوه لضرب من الاعتبار) قال ابن إدريس: (ثم قوله (رحمه الله) وشناعته: “بل إنما قالوه بضرب من الاعتبار”، إن أراد بالاعتبار هاهنا القياس، فهو كما قال إنه باطل عندنا، وأي قياس هاهنا حتى يشنعه؟! وإن أراد بالاعتبار استخراج الأدلة والنظر فيها وما يقتضيه أصول المذهب، فهذا لا نأباه نحن ولا هو رحمه الله، وأكثر استدلالاته في مسائله على خصومه وغيرهم).

نتائج

على ضوء ما تقدم يتضح لنا ثلاث نتائج تخالف ما ذهب إليه الصدر:

الأولى: أن العملية الاجتهادية لم تكن سائغة لدى جميع قدماء الإمامية، بل إنهم كانوا منقسمين بين مؤيد ورافض لها. والأخباريون القدماء لم يكونوا عبارة عن مستوى فكري تم الانتقال عنه لاحقا، بل هم اتجاه فكري فقهي يقابل اتجاه الفقهاء واهل النظر والمتكلمين.

الثانية: أن تفسير الاجتهاد ب”التفكير الشخصي” لا يقول به أحد من الذاهبين للاجتهاد، بل هو النظر في الأدلة والمقايسة بينها وترجيح بعضها على بعض.

الثالثة: أن الاسم الشائع لعملية الاستنباط لم يكن خاصا بلفظ “اجتهاد”، وإنما كان يُعبّر عنها (ولاسيما عند المعتزلة) ب”الاعتبار”؛ ولذا فإن تسويغ العملية الاستنباطية عند الشيعة تحت لفظ “الاجتهاد” كان قد سبقه تسويغ اخر تحت لفظ “الاعتبار”، وليس صحيحا قصر تأرخة تطور العملية الاستنباطية على لفظ الاجتهاد كما فعل الصدر.

علي المدن: كاتب وباحث عراقي متخصص في الفلسفة الإسلامية والفكر الديني، درس في جامعة المصطفى العالمية وله عدة مقالات وكتب.

المصدر: صحيفة العالم الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky