الاجتهاد: في أعقاب التصديق على الدستور الإيراني الجديد لعام ١٩٠٦م، حدث انقسام بين أقطاب المؤسسة الدينية تجاه السلطة الحاكمة والدستور وكيفية تطبيقه، وتراوح الموقف بين متشدد كالشيخ فضل الله النوري، بقدر تعلق الأمر بالتطبيق الصحيح لأحكام الشريعة المقدسة، وموقف مؤيد بتحفظ كالشيخ محمد حسين النائيني، بدعوى أن ما جاء به الدستور من أحكام وإصلاحات لا يتنافى مع الشارع المقدس.
أي بعبارة أخر أن الشيخين “النوري والنائيني” أدركوا تماماً بأن هناك فارقا بين الدستور والشريعة. ففي الوقت الذي أيقن فيه الشيخ النوري بصعوبة المواءمة بين الدستور والشريعة، ذهب الشيخ النائيني الى الاعتقاد بأن قيام الحكومة الدستورية لا يشكل ضرراً من وجهة النظر الدينية. / بقلم: م.د. كاظم دويخ صبي.
الشيخان فضل الله النوري ومحمد حسين النائيني (رحمهما الله) في سطور:
ابتداءً بالشيخ فضل الله بن ملا عباس النوري الطهراني الذي عد الأرفع مقاماً بين المجتهدين الثلاثة في طهران (١). والمولود في الثاني من ذي الحجة ١٢٥٩ هـ في مدينة (نور) التابعة لإقليم مازندران، بدأ الدرس والبحث منذ نعومة أظفاره، ثم هاجر الى مدينة النجف الأشرف، ومنها الى سامراء عند استاذه الميرزا محمد حسن الشيرازي (2).
قفل عائدًا الى إيران بعد إكماله دراسة البحث الخارج عام ١٨٨٦ ليشكل حلقة الوصل بين المرجع الكبير الميرزا الشيرازي وبين طهران مركز المواجهة آنذاك مع بريطانيا، لاسيما في عقود امتياز التبغ (التنباك) (٣)، ومحط انظار الحوزة العلمية والجماهير الايرانية معًا.
كان الشيخ النوري الصوت المجلجل للميرزا الشيرازي في انتفاضة التبغ عام ١٨٩١ ، إذ كان له حضور سياسي متميز، فقد أدرك منذ البداية بأن الاتفاقية لها مداليل سياسية أكثر من كونها اقتصادية، فهي قد تهيء الارضية المناسبة للتدخل البريطاني السياسي في إيران (٤).
كان أحد اقطاب الثورة الدستورية وزعمائها الذين انتفضوا ضد الاستبداد القاجاري، وانظم الى قافلة علماء الدين المعارضين الذين هاجروا الى مدينة قم المقدسة في ١٧ تموز ١٩٠٦ اعتراضاً على سياسة الصدرالأعظم المستبدة، وقدسميت هذه ب ( الهجر الكبرى) (٥).
أدى دورًا كبيرًا في صياغة الدستور الإيراني ليقوم على اساس الشريعة الإسلامية، من خلال الدعوة الى تشكيل لجنة من الفقهاء للإشراف على القرارات الصادرة ومطابقتها مع الشريعة الإسلامية المقدسة وأصدر بهذا الخصوص العديد من البيانات التي تدعو الحكومة الى الأخذ بمبادئ الإسلام المحمدي الأصيل وإجبار مجلس الشورى للتوقيع على لائحة الالتزام به (٦)
هاجم الليبراليين واتهمهم بإضعاف الدين ونشر الفساد وهم من فتح الأبواب أمام ” الفوضوية، والعدمية، والاشتراكية، والمادية، وركزعلى قضية مهمة أخرى وهي قيام البهائيين والبابيين والارمن بتدبير مكيدة لضرب الإسلام من خلال بدع الهرطقة مثل البرلمانات المنتخبة والقوانين العلمانية، والأكثرمن ذلك المساواة الدينية (7).
ذكر السيد محمد مهدي الموسوي في كتابه ( تراجم أحسن الوديعة في مشاهير الشيعة ) بأنه ”من كبار العلماء المجتهدين وأجلاء الفقهاء المحدثين الأدباء البارعين والنبلاء الجامعين ولدين الله من الناصرين وقد صلبه الأشرار بملأ من الناس، ولم يتكلم أحد أبدًا، من دون جرم أو تقصير (8).
أعدم الشيخ النوري بعد محاكمة صورية في ٣١ تموز ١٩٠٩ ، وهو يوم ولادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (9).
أما الشيخ محمد بن حسين بن عبد الرحيم الغروي النائيني فهو الأبرز بين مشاهير العالم الإسلامي في علم الأصول والفقه والنهضة الدستورية.
ولد في مدينة (نائين) أحدى توابع أصفهان ١٨٦١ م، من أسرة عريقة الأصل والمجد والعلم، وأبوه شيخ الإسلام في نائين وكذلك أجداده (١٠).
تلقى علومه الأولى في مدينته على يد أبيه الشيخ عبد الرحيم الى أن أكمل السابعة عشرة من العمر، ثم انتقل الى أصفهان ليلتحق بحوزتها العلمية وينهي دراسة عدد من مناهج دراستها المقررة في الأصول والفقه والفلسفة (١١) .
شد الرحال صوب مدينة النجف عام ١٨٨٥ ليواصل تعليمه على يد أكابر مجتهديها وفقهائها، لكن سرعان ما غادرها الى سامراء للانضمام الى درس الميرزا الكبير الشيرازي (12).
واكب الشيخ النائيني أحداث الحركة الدستورية بكل تفاصيلها، لاسيما الانقسام الذي شهدته المرجعيات الدينية حول مشروعية الدستور من عدمها، والجدل الفقهي الواسع الذي دار بين المؤيدين والمعارضين (١٣)، الأمر الذي جعله يبادر الى تأليف كتابه الشهير ”تنبيه الأمة وتنزيه الملة ” والذي أحدث جدلاَ واسعًا في الأوساط السياسية والحوزوية (14).
كانت له مواقف سياسية مشهودة في تصديه للمشروع البريطاني بعد إخفاق ثورة العشرين، فقد أدى
دورًا كبيرًا الى جانب السيد أبي الحسن الأصفهاني ( ١٥) والشيخ مهدي الخالصي ( ١٦) في رفض المعاهدة الانتدابية البريطانية لعام ١٩٢٢، والإفتاء بحرمة انتخابات المجلس التأسيسي العراقي لعام ١٩٢٤(١٧).
أبعدته وزارة عبد المحسن السعدون بسبب مواقفه السياسية مع بقية العلماء الى إيران، عاد منها بعد قضاء تسعة أشهر للنهوض بالعمل المرجعي وتحمل أعباء المسؤولية ورعاية شؤون الحوزة العلمية (١٨).
الدستورية وبروز دور رجال الدين:
عدت الثورة الدستورية ١٩١١- ١٩٠٥من الاحداث المهمة في تاريخ إيران السياسي الحديث، لتلاحم جميع أطياف وفئات الشعب من جهة وأخرى لما شكلته من تهيئه للأرضية المناسبة للانتقال الى دور الحداثه لاحقًا.
وقد كان لرجال الدين الدور الطليعي في قيادة هذا الحدث التاريخي الى جانب الفئة المثقفة، فقد شكل علماء طهران او ما عرف ب (مثلث طهران) السيد عبدالله البهبهاني، والسيد محمد الطبطبائي، والشيخ فضل الله النوري، غرفة لقيادة الشعب الإيراني في صناعة الأحداث باتجاه الحياة الدستورية.
بعد مقتل الشاه ناصر الدين القاجاري عام ١٨٩٦ ، تولى مقاليد السلطنة أبنه الرابع مظفر الدين شاه، الذي كان ضعيفًا عليل البدن سلّم أمور الدولة الى صهره (عين الدولة) (١٩) الذي عينه صدرا أعظم في أيلول عام ١٩٠٣ (٢٠).
والذي كانت لسياسته الاستبدادية التي مارسها على استغفال وموافقة الشاه مظفر الدين (٢١) دور كبير في إثارة رجال الدين وتصديهم للمشهد السياسي، فضلًا عن الجانب الإجتماعي، وقيامهم بتوجيه الرأي العام واقناع الجماهير الإيرانية بعدم شرعية الحكم بزمن الغيبة، وأن الحكام القاجاريين يعدون مغتصبين للسلطة في غيبة الإمام المعصوم (٢٢).
أسباب النهضة الدستورية
للنهضة الدستورية عدة أسباب ساعدت على قيامها، منها ما هو خارجي كانتصار اليابان الدولة الأسيوية الضعيفة المحدودة الامكانيات على روسيا الدولة العظمى في حرب ١٩٠٤- ١٩٠٥، وثورة الشعب الروسي عام ١٩٠٥، وتنامي الحركة الوطنية في الدولة العثمانية، فضلأ عن التنافس الروسي – البريطاني للسيطرة على المقدرات الاقتصادية للشعب الإيراني. لاسيما بعد انهيار النفوذ البريطاني على أثر انتفاضة التبغ ( التنباك).
فقد حاول الروس زيادة نفوذهم في إيران، الأمر الذي حدا بالبريطانيين الى استغلال موجة الغضب الشعبي العارم تجاه قضية المشروطة ( ٢٣)، لأنها جاءت بالضد من سياسة الشاه مظفر الدين المحسوب على روسيا، ومن ثم فإن الموقف البريطاني من شأنه أن يوازن كفة القوى مع روسيا في إيران، او أن لا يدع روسيا منفردة في صياغة السياسة الإيرانية.
أما الأسباب الداخلية فهي كثيرة لكن يبقى الاهم منها هو قيام المسيو (ناوس) رئيس الكمارك الإيرانية والبلجيكي الجنسية بخدش المشاعر الدينية للشعب الإيراني من خلال لبسه لزي رجال الدين وارتياده للنوادي الليلية ومجالس اللهو والرقص، ونشره للصور وهو على هذه الحال. الأمر الذي أثار حفيظة رجال الدين، وتسبب في موجة غضب عارمة عمت ارجاء مدينة طهران سرعان ما تحولت الى مظاهرات كبيرة ضد الحكومة الإيرانية. وعدّت هذه الحادثة الشرارة الأولى للنهضة الدستورية الإيرانية العظيمة (٢٤).
أما الحادثة الثانية فهي المتعلقة بأزمة السكر، فقد قامت الحكومة بمعاقبة بعض تجار السوق (البازار ) بحجة مخالفتهم للتعليمات الصادرة وجلدهم علنًا في الميادين العامة في طهران (٢٥)، والاهتمام الخاص الذي أولته الجماهير الغاضبة بهذا الحادث، فقد تجمعوا على أثره يدعمهم كوكبة من العلماء الأعلام في مسجد الشاه القريب من سوق البازار (٢٦)، وهي عادة متفق عليها حسب عرف سابق وشائع يسمى ( البست ) اي الاعتصام (٢٧).
ارسل عين الدولة ( الصدر الاعظم) رجال الشرطة والدرك لتفريق المتظاهرين وفك الاعتصام، فوقعت الاشتباكات وسالت الدماء على أرض المسجد، وباتت طهران على فوهة بركان هائج ( ٢٨)، فاضطر العلماء الى ترك طهران والهجرة الى مدينة الري حيث ضريح السيد عبد العظيم، وهي ماتعرف ب (الهجرة الصغرى) والتي أجبرت الحكومة للتفاوض مع العلماء الذين حددوا مرادهم في عدة نقاط اهمها: (29)
۱.عزل حاكم طهران ( علاء الدولة )
۲.طرد المسيو ( ناوس ) من دائرة الكمارك
۳.تطبيق أحكام الشريعه الاسلامية
٤.تأسيس دار للعدالة
أمر الشاه مظفر الدين ( عين الدولة ) بتنفيذ مطاليب العلماء المهاجرين الذين عادوا الى طهران وسط بهجة وسرور كبيرين فرحين بالانتصار المتحقق (٣٠)، لكن مماطلة عين الدولة حالت دون تنفيذ الاتفاق (٣١)، مما حدا بالعلماء الى تصعيد الموقف وتحريك الشارع.
وبالمقابل صعّد عين الدولة من إجراءته القمعية، لاسيما ضد الخطباء، والتي أدت الى مقتل أحد طلاب الحوزة في أثناء محاولة اعتقال الشيخ (محمد الواعظ ) أبرز خطباء طهران اذ عند تشييع جثمان القتيل اصطدم المشيعون بقوات القوزاق (٣٢) التي أطلقت عليهم الرصاص وقتلت عددًا كبيرًا فضلا عن عشرات الجرحى (٣٣).
في ظل الجو المتوتر، وضغط عين الدولة وقسوته التي لم تبد منها أي بارقة أمل، اضطر مثلث علماء طهران (البهبهاني الطبطبائي والنوري) الى مغادرة طهران باتجاه مدينة قم المقدسة في السابع عشرمن تموز عام ١٩٠٦ يرافقهم ألف من التجار والكسبة (٣٤ ) وسميت ب (الهجرة الكبرى). فضلًا عن توجه قسم آخر من المعتصمين الى السفارة البريطانية طلبًا للحماية حسب العرف الشائع الذي تحدثنه عنه سابقاً و هو (البست) (35).
كان وقع هجرة العلماء كبيراً جداً على مستوى الشارع والدولة الإيرانيين، ذلك لأهمية دورهم في مسيرة الحياة اليومية للمؤمنين على صعيد الأحوال الشخصية، وأمور البلاد العامة ( ٣٦ )، فضلاً عن قيام التجار باغلاق البازار، فباتت طهران مع الهجرة وكأنها مدينة اشباح.
ومع ازدياد خطورة امر الهجرة اصبح محالاً على الدولة أن تترك الحبل على الغارب، فدخلت في حوارات كبيرة مع العلماء المعتصمين في قم، والتي جاءت مطالبهم هذه المرة أكثر وعيًا وشمولية من السابق أبرزها: (٣٧)
1- عودة العلماء المهاجرين الى طهران
۲- عزل الصدر الأعظم ( عين الدولة )
۳- افتتاح مجلس للشور
٤- القصاص من قتلة شهداء الوطن
٥- عودة العلماء المنفيين بالخصوص ميرزا حسن رشدية الى محل سكناهم
كان لموقف العلماء الحازم وأصرارهم للضغط على الشاه لحين الاستجابة لمطالبهم دور كبير في امتداد لهيب الثورة الى بقية أنحاء إيران، ففي مدينة شيراز اعتصمت جماهير أمام مبنى القنصلية البريطانية، وفي الوقت نفسه بادر علماء تبريز بارسال سيل من البرقيات الى الشاه والحكومة يطالبون فيها بعودة العلماء المعتصمين في قم وتحقيق كامل مطالبهم (٣٨)، فضلاً عن قيام الاحتجاجات في مناطق أخرى كثيرة مثل “رشت، أصفهان، كرمنشاه، زنجان” (٣٩).
ومما تجدر الاشارة اليه في هذا الصدد ان ولي عهد الشاه ” محمد علي ميرزا ” ولحقده على الصدر الأعظم أظهر تعاطفاً مع المحتجين، وأبرق برسالة الى المفوضية البريطانية ليعلمهم بذلك (٤٠).
لم يكن أمام الشاه من خيار، لاسيما بعد الضغط العلمائي والجماهيري الواسع سوى الانصياع لإرادة المعتصمين، فعزل صدره الاعظم عين الدولة في الثلاثين من تموز ١٩٠٦(41)، وكلف محله ميرزا نصر الله (مشير الدولة) (٤٢) لأنه أكثر قرباً وتفهما للوطنيين الإيرانيين، وقام بإصدار مرسوم خاص بتأسيس مجلس الشورى الوطني) في الخامس من آب ١٩٠٦ الذي عرف آنذاك باسم (فرمان مشروطيت) (٤٣)، وقد قرأ هذا المرسوم على العلماء المعتصمين في قم الميرزا أبوالقاسم ( عضد الدولة ) الذي أرسله مبعوثا مشير الدولة (44).
رفض علماء الدين الذين لم تنطل عليهم أساليب الحكومة المرسوم لأنه جاء غامضاً، ولم يشر فيه الى الصفة الاسلامية للمجلس. كما أن الليبراليين لم يقبلوا به أيضا، لأنه لم يضمن أية أشارة لمفردة ” الأمة الأيرانية ” أو الشعب الإيراني (٤٥).
الأمر الذي ولد ردود أفعال كثيرة لدى الفئات المشاركة في الاعتصام، ومن ثم اجبار الحكومة التي اجتمعت بعد يومين من صدور الفرمان في منزل مشير الدولة، لتدارس الوضع الراهن آنذاك، والخروج بنتيجة مفادها قيام الشاه مضطراً بإصدار فرمان جديد في الثامن من آب ١٩٠٦ أوضح فيه الفرمان السابق ومؤكدًا في الوقت نفسه تأسيس “مجلس الشورى الإسلامي”،
ومما جاء فيه: ” إكمالاَ لما كتبناه في المخطوطه المؤرخة في الخامس آب ١٩٠٦. والذي أصدرنا فيه أمرًا صريحاً بتأسيس مجلس المنتخبين من قبل الشعب، ولكي يقف عموم الاهالي وأفراد الشعب على توجهاتنا الملكية بشكل كامل، نكرر أمرنا السابق ونقرر ونقول إن المجلس المذكور أصبح مفروغاً منه وفقاً لما جاء في مخطوطنا السابق، وبعد أن يتم انتخاب المجلس عليهم أن يجعلوا فصول قانون مجلس الشورى الإسلامي وشروطه طبقاً لما يقرره ويوقع عليه المنتخبون وبما يليق بالشعب والبلاد وقوانين الشارع المقدس، وأن ينال شرف العرض علينا ويوشح بتوقيعنا الملكي وأن يوضع هذا الهدف المقدس موضع التنفيذ طبقا للقانون المذكور (46).
وهكذا فإن صمود وإرادة العلماء المعتصمين في قم وبالتعاون مع الفئات الأخرى المعتصمة في السفارة البريطانية في الوقت نفسه، تمخض عنه نصر ثوري كبير في تحقيق ما كانوا يصبون اليه بعد معركة مريرة مع السلطة القاجارية، ألا وهو تأسيس ” مجلس الشورى الوطني ”، الذي يعد بداية للحكم الدستوري.
رحبت الجماهير الإيرانية بالمرسوم الجديد، وأنهى علماء الدين في قم اعتصامهم، وقفلوا عائدين الى العاصمة التي استقبلوا فيها بشكل مهيب وسط احتفالات كبيرة استمرت يومين، وقد خصص لهم الشاه عربات ملكية تقلهم الى طهران (47).
التقى عدد كبير من العلماء والوطنيين في الثامن عشر من آب ١٩٠٦ ب (مشير الدولة) الصدر الأعظم في قصر كلستان الملكي في اجتماع موسع ضم فضلاً عنه عددا من وزراء الدولة، بهدف وضع الاستعدادات اللازمة لإجراء الانتخابات وقيام المجلس الوطني (٤٨). وقد تم تشكيل لجنة خماسية من نخب الدستوريين لوضع قانون للانتخابات ضمت خمسة أشخاص: (49)
۱.صنيع الدولة صهر الشاه
۲.محتشم السلطنة الدبلوماسي الإيراني الذي عمل سنوات سفيراً في ألمانيا
۳.مخبر السلطنة ” مهدي قلي خان
٤.مشير الدولة ” ميرزا حسن خان ”
٥.مؤتمن الملك ” ميرزا حسين خان ”
أنجزت اللجنة أعمالها في مدة تجاوزت الشهر، وصودق على القانون في التاسع من أيلول ١٩٠٦، وحددت الفئات التي أجيزت لها المشاركة في الانتخابات، بأمراء الأسرة القاجارية، ورجال الدين، والأعيان، وكبار الملاكين، وأصحاب الحرف، ونص القانون على أن تكون العاصمة طهران مكاناً لإجراء الانتخابات (٥٠) .
في الثاني عشر من آيلول ١٩٠٦ جرت الانتخابات، وأفتتح المجلس اعماله في السابع من تشرين الأول ١٩٠٦ في قصر كلستان وبحضور الشاه مظفر الدين وعدد من الوزراء والسفراء والقناصل والكثير من الأعيان، وكانت باكورة أعمال المجلس،(٥١) تشكيل لجنة لكتابة الدستور الذي أعلن عنه في الثلاثين من كانون الأول ١٩٠٦ (51) وصادق عليه الشاه في الحادي والثلاثين من الشهر نفسه، وهو على فراش الموت، كذلك وقع عليه ولي العهد ” محمد علي ميرزا ” (٥٢).
وبهذا تكون المرحلة الأولى للثورة الدستورية قد انتهت، والتي أثبتت على ارض الواقع مدى التلاحم الواضح بين فئات المجتمع الإيراني في رفض الحكم الاستبدادي والاستعمار الخارجي.
وقد كان لفئة رجال الدين الحظ الأوفر في سير تلك الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثورية، والتي أفضت في النهاية الى إعلان المجلس التشريعي، وإقرار أول دستور للبلاد لتحقيق العدالة، وتحويل البلاد من الحكم الملكي المطلق الى الحكم الدستوري، مع ظهور حكومة وطنية تنتقل اليها معظم صلاحيات الشاه، فضلًا عن وضع خطة مستقبلية للإصلاح العام. الأمر الذي يمكن عدّه بداية لمرحله مهمة قادمة يجب على فئة رجال الدين النهوض بها ولعب ادوارها الرئيسة.
الشيخان النائيني والنوري والاختلاف في الروئ بعد كتابة الدستور:
لقد بذل علماء الدين في العراق وإيران جهوداً جبارة من أجل إعلان النظام الدستوري الإيراني، وتحقيق الانتصار الكبير على الاستبداد القاجاري. إلا أن هذا الانتصار كان ينقصه القضاء على تسلط المستعمرين وتحكمهم في الحياة السياسية الإيرانية، ودفعهم لبعض العلمانيين للهيمنة على مقاعد البرلمان على حساب أصحاب القضية ومن لهم الدور الريادي في النهضة الدستورية وهم (رجال الدين).
ولذلك جاء الدستور في الكثير من نصوصه عبارة عن ترجمة حرفية للدستور البلجيكي الصادرعام ١٨٣١ ، والدستور البلغاري لعام ١٨٧٩(53)، فضلًا عن الدستور الفرنسي ( ٥٤)، والتي قامت جميعها على أساس المبادئ الديمقراطية الشائعة في أوربا وقتذاك، مع إجراء بعض التعديلات البسيطة على نصوصها لتلائم حالة المجتمع الإيراني وظروفه وتلبي حاجاته وتطلعاته (٥٥).
دون الدستور ابتداءً ب (٥١) مادة شملت واجبات مجلس الشورى الوطني وأعماله وعلاقاته بالدوائر والمؤسسات الحكومية (٥٦)، أما قوانينه المتعلقة بانتخاب قيادات الدولة، والاخرى التي تحتاج الى تدوين وتصديق فظلت عالقة، ما أوجب تدوين متمم الدستور الذي جاء في ( ١٠٧ ) مادة صيغت على نهج الدستورين الفرنسي والبلجيكي وبأقلام سياسيين موالين للغرب (٥٧) .
شهد الفكر السياسي الشيعي في هذه المدة تطوراً ملحوظاً انطلق بقبول فكرة قيام دولة في عصر الغيبة بناء على نظرية النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي في العهد الصفوي، ومما يضاف لذلك التقارب الذي حصل بين الفكر السياسي الشيعي والأفكارالحديثة التي نادت بها النخبة المثقفة الإيرانية، نتيجة انفتاح إيران على الغرب، وصياغة بعض المفاهيم الحديثة في قوالب إسلامية مما يجعلها محط رضا الشارع الإيراني.
ولدّت كتابة الدستور نوعين من الصراع، الأول بين الإسلاميين والعلمانيين الذين عبروا ومن خلال الحريات الواسعة التي كفلها الدستور عن معارضتهم لجعل الإسلام مرجعاً للدولة، بل ذهبوا الى أكثر من ذلك بشن حملات تسفيه وسخرية ضد الدين الإسلامي والاستهزاء بالعلماء وذلك من خلال الصحف، واعتبار أن الشريعة الإسلامية المقدسة لا تنسجم ومتطلبات الدولة العصرية، الأمر الذي انعكس سلباً داخل الأوساط المتدينة التي طالبت بوضع رقابة على الصحف لمنعها من الإساءة (٥٨).
أما الثاني وهو موضوع بحثنا فكان بين الإسلاميين أنفسهم، فعلى الرغم من أن علماء الدين هم من أول من رفع راية النهضة الدستورية، والجهاد بوجه الاستعمار، نراهم بعد تأسيس المجلس النيابي وصدور الدستور يختلفون في البحث الفكري والسياسي حول النهضة وكتابة الدستور.
انقسام العلماء حول الدستور الإيراني
انقسم علماء الشيعة ومراجعهم بين مؤيد ومعارض للدستور الإيراني بعد صدوره، فقد أيده كل من الآخوند الخراساني، والميرزا حسين خليل، والشيخ محمد حسين النائيني والذين اطلق عليهم أنصار (المشروطة) (٥٩).
فهؤلاء كانوا يرون الحياة الدستورية ضمانًا لتحقيق العدالة وسن القوانين التي تخدم الشعب الإيراني، وأن الحكومة الدستورية لا يمكن لها أن تخالف الشريعة المقدسة بوجود فقهاء عدول بين وكلاء السلطة التشريعية، مهمتهم الإشراف على سن القوانين وبيان مدى مطابقتها من عدمها للشريعة الإسلامية (60).
أما الفريق المعارض فكان السيد كاظم اليزدي، والشيخ فضل الله النوري والذين عرفوا باسم (المستبدة). فهؤلاء يعتقدون أن القيام بسن القوانين المدنية بوجود القرآن الكريم، يعدّ تدخلاً وكفراً وإلغاءً للحكم الإلهي والرسالة المحمدية، بل حتى لو كانت هذه القوانين مطابقة للشريعة المقدسة فهي ليست من صلاحية المجلس (٦١).
وجاءت معارضة هذا الفريق للحياة الدستورية من منطلق معارضة الإصلاح على النمط الغربي وعدم مراعاة خصوصيات المجتمع الإيراني التي لاتتفق والتوجهات الغربية على حد قولهم (٦٢). لكن يبقى الابرز ممن ايدوا وعارضوا هم الشيخان فضل الله النوري، ومحمد حسين النائيني الذين ترجمت مواقفهم عبر كتابات موثقة أثارت جدلاً فكرياً وسياسيًا واسعًا بين الأوساط الحوزوية والسياسية الإيرانية والعراقية.
لاسيما كتاب ” تنبيه الأمة وتنزيه الملة ” للشيخ النائيني، وكتابي ” تذكرة الغافل وارشاد الجاهل ” و ” رسالة حرمة المشروطة ” للشيخ فضل الله النوري، والتي تضمنت جميعها فلسفة كل من الشيخيين حول الدستورية الإيرانية.
كان للشيخين رؤى وافكار تجاه عدة قضايا بعد كتابة الدستور، منها: ”السلطة، الدستور (القانون الاساسي) البرلمان ومبدأ الاكثرية، الحرية والمساواة ”.
ففي حقل السلطة: رأى الشيخ فضل الله النوري بأنها إلهية بحتة، وأكد أسلمتها من خلال فرض رقابة فقهاء الشيعة عليها لتصبح شرعية ( ٦٣)، وقسم السلطة على ثلاثة أنماط: ” مستبدة، ودستورية، ودستورية شرعية ”، وذكر أن تأييد السلطة الدستورية هو إنكار لضروريات الشريعة، ومؤداة الى الكفر والمعصية. من هذا المنطلق لجأ الى تأييد السلطة المستبدة على حساب السلطة الدستورية، ومن هنا عرف هو وأنصاره ب (المستبدة)
في حين رأى الشيخ النائيني السلطة على نوعين: سلطة ملكية مطلقة يكون فيها الاستيلاء على نحو التملك، أي أن السلطان يتعاطى مع المملكة كما يتعامل المالك مع أمواله الشخصية. وهذا النوع من السلطة هو بمنزلة شراكة بين الله والسلطان، والناس تحت مظلة هذا النوع من السلطة عبيد وإماء وأنعام مخلوقة فقط لتلبية رغبات السلطان وشهواته الذي بيده كل شيء فمن شاء قربه ومن شاء ابعده ” لاُيسأل عما يفعل وهم يُسالُون ”، وسلطة مقيدة مستأمنة لاتقوم على المالكية ولا القاهرية ولا الحاكمية بما يريد السلطان، وانما هي نوع من الأمانه، سلوك الحاكم فيها محدود لايتجاوز فيه الأطر المرسومة له، وافراد الشعب شركاء له في جميع مقدرات البلد، ونصيبهم فيها متكافىء وعليه فإن الشيخ النائيني كان يرى شرعية السلطة تتأتى من الشرعية الإلهية والشرعية الشعبية ( ٦٥).
وأن السلطة الدستورية نابعة من رحم الإسلام، وأن السعي لتثبيتها هو بمنزلة الجهاد مع الرسول الكريم (ص) وأن البديل المجاز ( السلطة الغاصبة) في غياب العصمة يتوقف على أمرين: احداهما كتابة دستور، وثانيهما إيجاد جهة ثقافية مشرفة تنظر في جميع القوانين الصادرة على السلطة تناط مهمتها الى مجموعة من الفقهاء الخبراء بالحقوق الدولية، والعارفين بمقتضيات العصر ليقوموا بدور المراقبة والمحاسبة معا تجاه السلطة الحاكمة.
ومشروعية هذا الأمر متحققة بالنسبة للفقه الجعفري، على أعتبار أن أمور العباد في عصر الغيبة موكلة الى النواب العامين (نواب الإمام) (٦٦)
أما في حقل الدستور والقانون: فقد رفض الشيخ فضل الله النوري الدستور، لأنه لايمثل روح الشريعة الإسلامية المقدسة، وأنه كتب على غرار الدساتير الغربية التي لاتتطابق والأحكام الإسلامية، وبدل أن تشرع القوانين الإسلامية الحيوية سنّت القوانين الأوربية التي تعود في محتواها الى الثقافة الغربية، ولم يعط للإسلام أي أهمية ( ٦٧).
اعترض الشيخ النوري أيضاً على مواد الدستور التي قسمت سلطة الدولة الى تنفيذية، وتشريعية، وقضائية، وذكر أن ذلك بدعة وضلالة ( ٦٨ )، ولا يجوز للمسلمين في أي بلد وأينما كانوا أن يقبلوا بالقوانين الوضعية بوجود القانون الآلهي، لأن القوانين الوضعية على خلاف الإسلام، وأن القانون الإلهي شمل جميع مناحي الحياة بما فيها الامور السياسية، وأن أي مساس أو إنكار لسيادة القانون الإلهي هو بمنزلة الخروج عن العقيدة الإسلامية. ومن ثم فعلى الناس في هذا الباب أن يرجعوا الى الفقهاء ( نواب الإمام ) لاستنباط الأحكام من الكتاب والسنة، فهم وحدهم القادرون على ذلك (٦٩).
اعتقد الشيخ النوري أيضا أن الدستور يشكل خطرا على المجتمع الإسلامي الإيراني، لأنه قد يؤدي الى تغيير النظام الملكي واستبداله بالنظام الدستوري الغربي وما يصاحب ذلك من إجراءات وتشريعات تؤدي في النهاية الى فساد المجتمع الإيراني، فتشريع مساواة الرجل بالمرأة، والكافر بالمسلم، وإباحة المنكرات، ماهي إلا دليل على ذلك، وهي أمور يرفضها الشارع المقدس (70).
في حين رأى الشيخ النائيني أن الحياة الدستورية هي ضمان لحقوق الشعوب ورفاهيتها، وأن الدستورهو بقوة الرسائل العملية التي تصدر من العلماء المجتهدين في باب العبادات والمعاملات، الأمر الذي لايمكن تخطيه بسهولة ( ٧١ )، وأنه من الخطأ معارضة سن القوانين في البلاد الإسلامية، لأن البديل عن ذلك سيكون الإستبداد والفوضى وضياع الحقوق، وذكر بأن أولئك الذين ينقادون وراء كلمة الشرعية، وأن تدوين الدستور (بدعة) إنما يغالطون أنفسهم، والذي يدرك حقيقة هذه المغالطات تتداعى له قضية رفع جيش معاوية المصاحف في (حرب صفين)، أو تذرع خوارج النهروان بالقول: ” لاحكم إلا لله ” ( ٧٢ )
ثم يبين الشيخ النائيني بخصوص البدعه بأنها كل ماينسب ماليس للشريعه لها، ويُعد حكماً من أحكام الله (عزو ّ جل)، ويُطلب الإلتزام والإلزام به، سواء شمل ذلك حكما شخصيا أو عنوانا عاما أو مدونة دستورية، أو غير ذلك. أما إذا لم يقرن الحكم بالعنوان المذكور، فأي التزام أو الزام به ليس ببدعة، بل يندرج في باب تنظيم أمور العامة على نحو معين، سواء كان هذا الحكم بموجب اتفاق شفوي أو دستورمدوّن.
كما أن هناك أمورا غير واجبة بذاتها قد تصبح واجبة بموجب نذر أو عهد أو يمين أو الاشتراط ضمن عقد ملزم، كذلك لو توقف أداء واجب على أمرها، فيجب عقلا الإتيان به، لأنه من الضروريات وهو محل اتفاق جميع العلماء ( ٧٣ ).
ويضيف النائيني أن الاقتباس من الدساتير الغربية ليس ببدعة، لانها دساتير مقتبسة بالأساس من القرآن والسنة الكريمة وما أُثر عن أهل البيت (٧٤).
كذلك لا يشترط بصريح العبارة وجود رجال الدين في الهيئة المشرفة على التشريعات الدستورية، إنما من عقلاء الأمة وعلمائها من الخبراء في الحقوق الدستورية والقانونية، والمكونين للمجلس النيابي (٧٥).
أما قيام مجلس الشورى واعتماده على مبدأ الأكثرية: فالاثنان متفقان على انشاء المجلس، غيرأن مكامن الخلاف بينهم تركزت حول عدد من القضايا منها: مطالبة الشيخ النوري بأسلمة المجلس وإضافة كلمة إسلامي ليصبح مجلس الشورى الإسلامي وليس الوطني، والاختلاف حول مبدأ الأغلبية، كذلك الشروط الواجب توفرها للعضوية في المجلس.
فالشيخ النوري يرفض قيام المجلس بمهمة التشريع التي عبرعنها بأنها من اختصاص الفقهاء (نواب الإمام)، لأن وظيفتهم تنحصر في استنباط الأحكام العامة من الأدلة الأربعة الشرعية ونقلها الى عامة الناس، وأنهم المرجع بعد الرسول محمد وأهل البيت (عليهم السلام) ولايجوز لأحد غيرهم التدخل في عملية التشريع، وعلى الحكومة تنفيذ ما يشرّعون لأنها لا تستطيع سن أي قانون بدونهم (٧٦)،وأن ما نسعى اليه هو مجلس شورى إسلامي يتفق مع الشريعة المقدسة والقانون الإلهي، وليس مجلساً يتبنى أسس البرلمان الغربي وقواعده (77).
ثم يضيف النوري إن قيام المجلس بوضع هذه القوانين على الأهواء وغالبية الآراء، هو أمر لايتفق بدون شك مع الإقرار بالنبوة والخاتمية وكمال الدين، أما إذا كان الهدف ترتيبها لتوافق الشارع المقدس، فقطعاً ليس هناك من صلة لهذه الجماعة بالأمر لأنه خارج صلاحياتهم، ثم أنه يدخل في باب الاستحسان العقلي (القياس) وهو محرم (٧٨)..
رأى الشيخ النوري أيضاً ان شرعية البرلمان لا تتحقق الا مع ولاية الفقيه، فبوجودها لا يذهب البرلمان بعيداً عن الإسلام، وهو يرفض الاعتراف بمبدأ الأغلبية، لأن الاعتماد عليه هو امر لا يتماشى وأصول المذهب الإمامي ( ٧٩ )، وأن التصرف بالامور العامة هو شأن خاص بالفقهاء ( نواب الإمام ) لأنهم هم أصحاب الولاية في عصر الغيبة وليس البقالين والبزازين بحسب رأيه (٨٠).
فضلًا عن هذا كله طالب الشيخ النوري بضرورة أن يكون عضو المجلس النيابي مسلما على المذهب الشيعي، وأن يحظى بسمعه طيبة في المجتمع، ويرفض التعامل مع الأجنبي تحت أي ذريعة كانت (81).
في حين رأى الشيخ النائيني أن إنشاء المجلس جاء لضرورات عدة منها:
مراقبة ما يصدرعن الحكام، والقضاء على الانحرافات، وممارسة الوظائف الخاصة بإقامة النظام، وتسيير أمور البلاد والمحافظة على وحدتها، من خلال مشاركة جميع الإيرانيين بما فيهم غير المسلمين عن طريق نوابهم المنتخبين، وليس الهدف إقامة حكومة شرعية، وإصدار الفتاوى وإقامة صلاة الجماعة. والشروط المعتبرة في هذه الابواب الدينية العبادية أجنبية على البحث، وليس لها علاقة عما نحن بصدده.
فبوجود لجنة الفقهاء للإشراف على مشروعية القوانين يكفي للحيلولة دون ظهور مواقف تخالف الشارع المقدس في حال كان العمل بعيداً عن الأغراض الخاصة (٨٢).
ثم ذكر الشيخ النائيني الصفات الواجب توفرها في عضو المجلس والتي منها:
الإطلاع الواسع في فن السياسة والحقوق الدولية، والمعرفة بخفايا الحيل المتداولة بين الدول، والعلم بمقتضيات العصر، كذلك الابتعاد عن المصالح الشخصية الضيقة التي تؤدي بالعملية الى استبدال الاستبداد الفردي بالاستبداد الجماعي وهو أنكى من الأول، فضلا عن الغيرة على دينهم ووطنهم (٨٣).
أما في باب الإنتخابات فإن الشيخ النائيني يجيز دخول غير المسلمين فيها، وذلك لمشاركتهم المسلمين في الأمور المالية، ولكي تأخذ الشورى طابعها الشمولي والرسمي الكامل( ٨٤ )، ولو انتخب أحد من غير المسلمين فإنه غير ملزم بالذب عن الدين، لكنه مطالب بالدفاع عن الوطن والشعب ( ٨٥).
أما مفهوم الأغلبية فيعالجه الشيخ النائيني من خلال ربطه بمبدأ الشورى فيحدد أن اصل الشورى التي نص عليها قائم على الأخذ بآراء الاكثرية عند الدوران، وبأقوى المرجحات، أي أن الأخذ بالطريق الذي أجمع عليه العقلاء ارجح من الأخذ بالشاذ.
فمع الاختلاف فالاراء والتساوي من حيث المشروعية يلزم الأخذ برأى الاكثرية حفظاً للنظام. ثم يستشهد بموقف الرسول عندما أخذ برأي الاكثرية في غزوتي (أحد والأحزاب) على الرغم من مخالفته لرأي أغلب قادة المسلمين. كذلك الإمام علي (ع) الذي وافق رأي الاكثرية في قضية التحكيم في موقعة صفين رغم رفضه لها ( ٨٦)
يعزز النائيني بالقول: إن هناك من الأمور التي لم ترد في القرآن والسنة بنص صريح، وعليه ينبغي اشراك عامة المجتمع والاستعانة بنخبته من المفكرين والعلماء، ولايتأتى السبيل لتحقيق ذلك الإ من طريق البرلمانيين بإعتبارهم ممثلين الشعب، و يُعد ذلك من أهم أسس السلطة الإسلامية ومبادئها (٨٧)
أما فيما يتعلق بمبدأي الحرية والمساواة: فقد اختلفت قراءات الشيخين نحوهما، وأخذ كل منهما يطوّع تلك القراءات بما يتماشى وتوجهاته الفكرية.
فقد وجد الشيخ فضل الله النوري بأن المراد بالحرية في الحكومة الدستورية هي إظهار ورواج للمنكرات والمسكرات، ونسخ للشريعة المقدسة، وهجر للقرآن، وتطاول العلمانيين على الدين (88)، ولو لم تكن الحرية لما تجرأ من تجرأ على الإسلام وأنكرت ضروريات الدين أمام الملأ، وتعرض السلف من العلماء للسب والشتم، ولو لم تكن الحرية لما افتتحت المدارس الخاصة بتعليم النساء لترويج الفاحشة، ولما قيل في الصحف الدستورية لا يكفينا اليوم قانون القرآن، بل نحتاج الى وضع ثلاثين ألف قانون لادارة مجتمعنا ( ٨٩ )، وفي هذا دعوة صريحة لتخطئة القانون الإلهي وتغييره بآخر. ومن ثم يعتبر الشيخ النوري هذا الأصل (الحرية) مخالفًا للإسلام القائم على العبودية.
أما أصل المساواة فقد فسره الشيخ النوري بأنها مساواة بين المسلمين والكفرة، وهذا خلاف الشارع المقدس، لان احكام الإسلام تبنى على تفريق المجتمعات وجمع المختلفات، لا على المساواة، لذلك ينبغي الرجوع الى القانون الإلهي، فنساوي بين من ساوى ونميّز بين الأصناف التي ميز بينها، حتى لانقع في المفاسد الدينية والدنيوية.
أما الشيخ النائيني فهو ينظر الى مبدأي الحرية والمساواة على أنهما أساس السلطة سواء كانت شرعية أو غير شرعية. وفي الوقت الذي يحاول فيه تأصيل هذين المفهومين في النظام الإسلامي، فأنه يرفض الإداعات التي تقول إن الحرية سبب الانحلال والتفسخ كما ينظر اليها في المجتمعات الغربية المسيحية، لأنها مجتمعات لا تتعارض فيها أنماط السلوك مع الديانة (٩٠).
فهناك اختلاف واضح بين الحرية والديمقراطية كفكرة وممارسة من وجهة نظر النائيني. فالحرية هي الخلاص من ربقة الاستعباد والاستبداد، وليس الخروج من ربقة العبودية الإلهية ومغادرة الشريعة المقدسة ومروقا عن المذهب ونزوعا الى مذهب الإلحاد والزنادقة، ولا يدعي بأن الديمقراطية هي دين جديد مبتدع مقابل الدين الإسلامي، وتحول بين المسلمين وبين حرية رقابهم المنشودة. فالاثنتان الحرية والديمقراطية تتخذان شكلهما وطبيعتهما الخاصة وفق معطيات ومخرجات المجتمعات التي تمارس فيهما ( ٩١).
أما المبدأ الثاني ( المساواة ) فيعتبره الشيخ النائيني من أشرف المبادئ المأخوذة عن السياسات الإسلامية، بل هو مبنى العدالة وأساسات وروح جميع القوانين، وتكمن حقيقته في الشريعة المطهرة في وجوب تطبيق أي حكم عام وقانوني بالسوية وبدون تفريق على جميع المصاديق في أي من المواضيع، ولا يلاحظ في تطبيقه أي امتياز فردي، ولا يسمح لأحد بالتدخل في وضع القانون أو تعطيله، أو التهاون في تطبيقه، وتغلق تماما أبواب التجاوز، وأخذ الرشوة والحكم بالأهواء، كما تطبق العناوين الأولية المشتركة بين عامة الناس على الجميع.
وليس المراد من هذا المبدأ هو المخالفة لضروريات جميع الشرائع والأديان، وهي واضحة حتى لدى البهائم حسب قوله، وبعد ما صرح كلا الدستورين ” الشرعي والوضعي ” بتساوي أفراد الشعب في الحقوق أمام القوانين، التي تتكفل ببيان أحكام خاصة لعناوين عامة.
إذن هنا لا تعني المساواة سوى تنفيذ جميع الأحكام المترتبة على كل عنوان عام أو خاص، على جميع الأفراد الذين تشملهم تلك العناوين بالتساوي. وجميع الأمم لا تقصد بالمساواة غير هذا المعنى، وبخلافه سيكون مناقضا وهادما لجميع قوانينها (٩٢).
نهاية المطاف تلاشى هذا الانقسام والسجال الفكري الكبير بين الشيخين دون تحقيق الأهداف، لأن الثورة الدستورية فشلت في المحافظة على مكاسبها، بعد أن تمكن المستعمرون وعملاؤهم من التسلل الى صفوفها والتظاهر بالوطنية، حتى أحكموا قبضتهم على مجريات الأحداث، وتمكنوا من فرض مبدأ ” فصل الدين عن السياسة ” بعد استبعاد العلماء والقادة الوطنيين، والتمكن من تأسيس لعدد من الأحزاب العلمانية والديمقراطية.
الخاتمة:
بعد المصادقة على الدستور الإيراني برز هناك اتجاهان في المؤسسة الدينية الإيرانية.
الأول لا يؤمن بالعمل التدريجي في الوصول للأهداف وتحقيق المكاسب، رافضا الدستور كونه لا يمثل روح الشريعة الإسلامية، والثاني يعتقد بالعمل للتخلص من الحكم الاستبدادي للشاه بأي شكل ممكن، وبضرورة وجود مجلس للشورى يقع على عاتقه تحقيق العدالة وسن القوانين.
فكان هذان الاتجاهان السبب في ظهور مشكلة كانت بداية للصراع بين الإسلاميين أنفسهم والذي شق الحركة الدستورية، بعدما شهد الفكر السياسي الإيراني دخول الكثير من الأفكار والمفاهيم الغربية الى ساحته، والتي ساعدت كثيرا في إعادة بلورته، من قبيل تحديد سلطة الملك بمؤسسات دستورية، وتعزيز الرغبة في الاستعارة من الغرب، والدعوة الى فصل الدين عن الدولة، وتعاليم الفقهاء عن مهام السلطة السياسية.
الأمر الذي دفع برجال الدين وعلى رأسهم الشيخين النوري والنائيني لتقديم الحلول، في محاولة للتوفيق بين الأصالة والمعاصرة وقد بذل كلا الشيخين جهود جبارة في هذا المجال.
ومن وجهة نظري المتواضعة أن مسألة المواءمة بين ما جاء به الدستور الجديد من أحكام ومواد وبين ما موجود في الشريعة الإسلامية لم يفهم فهما جيدا. بدليل الرأي السائد عند علماء النجف آنذاك وهم المرجعية العليا لعلماء إيران، والذي يقول باستحالة التطبيق السليم لإحكام الشريعة في زمن الغيبة، لأن من علامات ظهور الإمام تطبيق القانون الإلهي بشكله الصحيح.
استقر الرأي عند العلماء فيما بعد على الافضل وبحكم الضرورة أنه لابد للحد من استبداد السلطة الغاصبة، واعداد لوائح تشريعية لتنظيم شؤون العامة وقيام مجلس شورى يتولى مراقبة عمليتي التشريع والتنفيذ.
فضلا عن هذا أن الدستور لا يندرج تحت عنوان (البدعة) لأنه ليس هناك من أحد يدعي بأن بنوده هي من عند الله عز وجل، لذلك وجب تدوينه ليتكفل بالحد من سلطة الاستبداد ومحاسبتها ومراقبتها، وضمان حقوق الشعب وفق مبادئ الشريعة الإلهية المقدسة.
الهوامش والمصادر في ملف بي دي اف
.pdf الشيخان فضل الله النوري ومحمد حسين النائيني واختلاف الرؤى حول الدستورية
المصدر: مجلة العميد، السنة العاشرة، المجلد العاشر، العدد الثامن والثلاثون