الشهيد الصدر

الشهيد الصدر (قدس سره) وإبداعاته الفقهية والأصولية .. آية الله السيد كاظم الحائري

الاجتهاد: من هذا القسم ـ سيرة العقلاء، وسيرة المتشرّعة ـ بحثه القيّم عمّا أسماه بنظريّة التعويض، وقد بحثه الشهيد الصدر في ضمن مباحث حجّيّة خبر الواحد وإن كان أقرب إلى فن البحوث الرجاليّة منه إلى الاُصول، ووضّح فيه كيف أنّنا نعوّض أحياناً المقطع السنديّ المشتمل على الضعف البارز في سند الحديث بمقطع آخر غير بارز لدى الناظر بالنظرة الأوّليّة.

تتميّز الأبحاث العلميّة لاُستاذنا الشهيد الصدر من سائر الأبحاث العلميّة المألوفة بالدقّة الفائقة، والعمق الذي يقلّ نظيره من ناحية، وبالسعة والشمول لكلّ جوانب المسألة المبحوث عنها من ناحية اُخرى، حتّى إنّ الباحث الجديد لها قلّما يحصل على مَنفذ للتوسيع أوالتعميق الزائدين على ما أتى به الاُستاذ.

إضافةً إلى كلّ هذا نرى من مميّزات اُستاذنا العلميّة أنّ أبحاثه لم تقتصر على ما تعارفت عليه أبحاث العلماء في النجف الأشرف ـ وقتئذ ـ من الفقه والاُصول، بل شملت سائر المرافق الفكريّة الإسلاميّة: كالفلسفة، والاقتصاد، والمنطق، والأخلاق، والتفسير، والتأريخ، وفي كلّ مجال من هذه المجالات ترى بحثه مشتملاً على نفس الامتيازين الملحوظين في أبحاثه الاُصوليّة والفقهيّة: من العمق والشمول.

ففي علم الاُصول نستطيع أن نعتبر المرحلة التي وصل إليها مستوى البحث الاُصوليّ على يد الاُستاذ الشهيد الصدر عصراً رابعاً من العلم وتطوّراته التي مرّ بها علم الاُصول على وفق مصطلحات اُستاذنا في كتاب (المعالم الجديدة للاُصول) حيث قسّم الأعصر التي مرّ بها علم الاُصول من المراحل التي بلغ التمايز النوعيّ فيما بينها إلى ما ينبغي جعله حدّاً فاصلاً بين عصرين، قسّمها إلى ثلاثة أعصر:

الأوّل : ما أسماه بالعصر التمهيديّ، قال: «وهو عصر وضع البذور الأساسيّة لعلم الاُصول، ويبدأ هذا العصر بابن أبي عقيل، وابن الجنيد، وينتهي بظهور الشيخ ».

والثاني : ما أسماه بعصر العلم، قال: «وهو العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور وأثمرت، وتحدّدت معالم الفكر الاُصوليّ، وانعكست على مجالات البحث الفقهيّ في نطاق واسع. ورائد هذا العصر: هو الشيخ الطوسيّ، ومن رجالاته الكبار: ابن إدريس، والمحقّق الحلّي، والعلاّمة، والشهيد الأوّل، وغيرهم من النوابغ».

والثالث : ما أسماه بعصر الكمال العلميّ، قال: «وهو العصر الذي افتتحته في تأريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الاُستاذ الوحيد البهبهانيّ، وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدّمته من جهود متظافرة في الميدانين: الاُصوليّ والفقهيّ».

ثُمَّ قسّم العصر الثالث من عصور علم الاُصول إلى ثلاث مراحل، بإمكانك أن تراجع تفصيل ذلك في المعالم الجديدة، قال : «ولا يمنع تقسيمنا هذا لتأريخ العلم إلى عصور ثلاثة إمكانيّة تقسيم العصر الواحد من هذه العصور إلى مراحل من النمو، ولكلّ مرحلة رائدها وموجّهها، وعلى هذا الأساس نعتبر الشيخ الأنصاريّ ـ المتوفّى سنة (1281 هـ ق) ـ رائداً لأرقى مرحلة من مراحل العصر الثالث، وهي المرحلة التي يتمثّل فيها الفكر العلميّ منذ أكثر من مئة سنة حتّى اليوم».

وقد بيّن كلّ هذا بعد توضيح أنّ بذرة التفكير الاُصوليّ وجدت لدى فقهاء أصحاب الأئمّة منذ أيّام الصادقين .

أقول: إنْ كان الفارق الكيفيّ بين بعض المراحل وبعض حينما يعتبر طفرة وامتيازاً نوعيّاً في هويّة البحث يجعلنا نصطلح على ذلك بالأعصر المختلفة للعلم،

فالحقّ إنّ علم الاُصول قد مرّ على يد اُستاذنا الشهيد الصدر بعصر جديد، فلو أضفناه إلى الأعصر التي قسّم إليها فترات العلم في المعالم الجديدة، لكان هذا عصراً رابعاً هو عصر ذروة الكمال، ترى فيه من الأبحاث القيّمة والجواهر الثمينة والدرر المضيئة ما يبهر العقول، وهي تشتمل على مباحث فريدة في نوعها، وفيها ما تكون تارةً جديدة على الفكر الاُصوليّ تماماً، أي: إنّها لم تبحث من قبل.

واُخرى تكون مغيّرة لما اختاره الأصحاب في أبحاثهم السابقة ببرهان قاطع واُسلوب فائق.

وثالثة تكون معدّلةً لنفس ما اختاره الأصحاب، ومُصلحةً له ببيان لم يسبق له نظير.

فمن القسم الأوّل: ما جاء به من البحث الرائع لسيرة العقلاء، وسيرة المتشرّعة، فقد تكرّر لدى أصحابنا المتأخّرين ـ م ـ التمسّك بالسيرة لإثبات حكم ما، ولكن لم يسبق أحد اُستاذنا ـ فيما أعلم ـ في بحثه للسيرة، وإبراز أسس كشفها، والقوانين التي تتحكّم فيها، والنكات التي ينبني الاستدلال بها على أساسها، باُسلوب بديع، ومنهج رفيع، وبيان متين.

ومن هذا القسم ـ أيضاً ـ بحثه القيّم عمّا أسماه بنظريّة التعويض، وقد بحثه في ضمن مباحث حجّيّة خبر الواحد وإن كان أقرب إلى فن البحوث الرجاليّة منه إلى الاُصول، ووضّح فيه كيف أنّنا نعوّض أحياناً المقطع السنديّ المشتمل على الضعف البارز في سند الحديث بمقطع آخر غير بارز لدى الناظر بالنظرة الأوّليّة.

وهذا الأمر وإن وجدت بذوره لدى من تقدّم على الاُستاذ لم أر أحداً قبله يتعرّض له على مستوى البحث العلميّ، ويدقّق في اُسس هذا التعويض وأقسامه.

ومن القسم الثاني : بحثه البديع في حجّيّة القطع الذي أثبت فيه أنّ رأس الخيط في البحث إنّما هو مولويّة المولى وحدودها، وانحدر من هذا المبدأ إلى الآثار التي تترتّب على ذلك، وانتهى إلى إبطال ما بنى عليه المحقّقون جيلاً بعد جيل من (قاعدة قبح العقاب بلا بيان)، وآمن بمنجزيّة الاحتمال، وأنّ البراءة التي نؤمن بها هي البراءة الشرعيّة، أمّا البراءة العقليّة، فلا.

ومن هذا القبيل إبطاله لحكومة الاُصول بعضها على بعض حينما تكون متوافقة في النتيجة، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة، أو الأصل السببيّ على الأصل المسبّبيّ الموافق له، وكذلك إبطاله لحكومة الأمارة على الأصل لدى توافقهما في النتيجة.

ومنه ـ أيضاً ـ إبطاله لما اشتهر من جريان أصالة الطهارة في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله.

ومنه ـ أيضاً ـ بحثه البديع في الوضع، وإبرازه لنظريّة القرن الأكيد.

ومن القسم الثالث: بحثه الرائع عن حقيقة المعاني الحرفيّة، حيث يوافق فيه على أصل ما اختاره المحقّقون المتأخّرون: من كون المعاني الحرفيّة هي المعاني النسبيّة، والمغايرة هويّة للمعاني الاسميّة، ولكن مع إدخال تعديل وإصلاح جوهريّين على ما أفاده الأصحاب رضوان الله عليهم.

ومن هذا القبيل بحثه الذي لم يسبق له نظير في الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة، حيث اختار نفس ما أثبته المحقّقون من إمكانيّة الجمع بينهما، وعدم التنافي والتعارض فيما بينهما، ولكن مع التعديل الجوهريّ لطريقة الاستدلال، وكيفيّة الجمع.

وقبل أن أترك هذه النقطة لايفوتني أن اُشير إلى أنّ من أبحاثه البديعة ـ أيضاً ـ أبحاثه عن الترتّب، وعن التزاحم، وعن قاعدة لاضرر التي تعارف البحث عنها في الاُصول على رغم أ نّها قاعدة فقهيّة.

وهو إضافة إلى ما لديه من تحقيقات جديدة، ومطالب فريدة في نوعها في علم الاُصول من أوّله إلى آخره، كانت له محاولتان جديدتان في اُسلوب عرض علم الاُصول على الحوزة العلميّة، وتربية الطلاّب عليها:

الاُولى : التغيير في ترتيب مباحث الاُصول، وتبويبها، والتقديم والتأخير فيما بينها، وطريقة تقسيم الأبحاث، وهذا ما انعكس عملاً في كتبه الموسومة بــ (دروس في علم الاُصول)، وفيما كتبه تلميذه السيّد محمود الهاشميّ تقريراً لبحث الاُستاذ، وهو الكتاب المسمّى بــ (تعارض الأدلّة الشرعيّة)، وذلك إيماناً منه بأنّ الترتيب الذي تعارف لدى السابقين لمباحث علم الاُصول ليس ترتيباً فنّياً قائماً على أساس نكات طبيعيّة لتقديم وتأخير الأبحاث، فانتهج هو منهجاً جديداً في ترتيب علم الاُصول راعى فيه نكات فنيّةً للتقديم والتأخير.

والثانية : صياغة علم الاُصول فيما يسمّى بالسطح العالي في حلقات مترتّبة على وفق المراحل التي ينبغي أن يمرّ بها الطالب; إذ كان يعتقد أنّ ما درجت عليه الحوزات العلميّة من دراسة عدّة من الكتب الاُصوليّة كتمهيد للوصول إلى ما يسمّى ببحث الخارج كان صحيحاً،

ولكن ما تعارفوا عليه من انتخاب كتب متعدّدة تمثّل مراحل مختلفة من العصور الماضية لعلم الاُصول ليس على ما ينبغي، والطريقة الفضلى هي: أن يصاغ آخر التطوّرات العلميّة في ضمن مراحل متدرّجة; لتنمية الطالب وتعليمه، كما هو الاُسلوب المتعارف في المناهج الحديثة لسائر العلوم، وهذا ما جسّده في كتبه المسمّاة بــ (دروس في علم الاُصول) الممنهجة على ثلاث مراحل تحت عنوان الحلقات.

وفي علم الفقه ترى إبداعات الشهيد الصدر لاتقلّ عن إبداعاته في علم الاُصول، وقد طبع من أبحاثه الفقهيّة أربعة مجلّدات باسم (بحوث في شرح العروة الوثقى) فيها من التحقيقات الرشيقة ما لاتحصى ممّا لم يسبقه بها أحد، واُشير هنا كمثال إلى بحثين من أبحاثه التي ينبهر بها الفقيه الألمعيّ:

أحدهما : بحثه الرائع في تحقيق نكات قاعدة الطهارة الوارد في المجلّد الثاني من البحوث المشتمل على عمق وشمول لاتراهما في أبحاث اُخرى عن تلك القاعدة.

والثاني : بحثه القيّم في مسألة اعتصام ماء البئر عن كيفيّة التخلّص من الروايات الدالّة على الانفعال. وهو وارد ـ أيضاً ـ في المجلّد الثاني من البحوث، حيث ساق البحث باُسلوب فائق لم أره لدى باحثي المسألة قبله.

ولم يوفّق لكتابة الكثير عن الفقه المستدلِّ ما عدا المجلّدات الأربعة في الطهارة، وما درّسه من الفقه المستدلِّ أكثر ممّا كتبه، كما قد درّس قسماً من أبحاث الخمس وغير ذلك.

والذي كان يصبو إليه هو تطوير بحث الفقه من عدّة جوانب، وفّق لبعضها بمقدار ما كتب أو درّس، ولم يوفّق للبعض الآخر. وتلك الجوانب هي ما يلي:

1 ـ تعميق دراسته بنحو لم يسبق له مثيل، وقد وفّق لذلك بمقدار ما كتب أو درّس.

2 ـ تبديل النزعة الفرديّة والنظرة الموضعيّة إلى النزعة الاجتماعيّة والنظرة العالميّة في البحوث التي تتطلّب ذلك. وهاتان النظرتان أو النزعتان لهما الأثر البالغ في كيفيّة فهم القضايا الفقهيّة.

فمثلاً: أخبار التقيّة والجهاد تُفهم بإحدى النظرتين بشكل، وبالنظرة الاُخرى بشكل آخر، وأدلّة حرمة الربا قد تفهم بإحدى النظرتين بشكل يمكن معه تحليل نتيجة الربا ببعض الحيل، وتفهم بالنظرة الاُخرى بشكل آخر لايؤدّي إلى هذه النتيجة. وما إلى ذلك من الأمثلة الواسعة في الفقه.

3 ـ توسيع اُفق البحث الفقهيّ لشتّى أبواب الحياة بالشكل الملائم لمتطلّبات اليوم، وباُسلوب يتجلّى به أنّ الفقه يعالج كلّ مناحي الحياة، ويواكب الوضع البشريّ الفرديّ والاجتماعيّ حتّى النهاية، وبشكل يتّضح أنّ البحث الفقهيّ متحرّك يواكب حركة الحياة. وقد شرع في رسالته العمليّة المسمّاة بــ (الفتاوى الواضحة) لتجسيد هذا الجانب، إلاّ أنّ استشهاده قد حال بينه وبين إكمال الكتاب.

4 ـ تطوير منهجة عرض المسائل، وتبويبها بالشكل المنعكس في مقدّمة الفتاوى الواضحة.

5 ـ وكان عازماً على أن يبحث فقه المعاملات بشكل مقارن بين فقه الإسلام والفقه الوضعيّ; كي يتجلّى أنّ الفقه الإسلاميّ هو الجدير بإدارة الحياة، وإسعادها دون غيره، وقد حالت جريمة البعث الكبرى بينه وبين إتحافنا بهذا البحث القيّم.

 

المصدر: کتاب : الشهيد الصدر سموّ الذات وسموّ الموقف المؤلف : آية الله السيد كاظم الحائري الجزء : 1 صفحة : 73

 

رابط قراءة الكتاب

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky