الاجتهاد: قد تستولي على فردٍ أو جماعةٍ عاداتٌ وتقاليد لا صلة لها بالواقع؛ وذلك لأسباب عديدة، مثل سيطرة القوة الواهمة، أو تعطيل التحليل العقلي للأُمور، أو كثرة التصورات غير الشعورية، والجامع لهذه الأسباب هو الخرافة التي تُنتجها القوة المخيلة بنحو ما، أو تحريف بعض الأُمور الواقعية عمّا كانت عليه أوّلاً، وجعلها شيئاً آخر.
ولا أحد من العقلاء وأُولي الألباب يُنكر وقوع ذلك في بعض الموارد، وأمثلته كثيرة ومدونة في كتب السير والتاريخ، إلّا أن هناك مَن تمادى في رمي الكثير من الحقائق والواقعيات بتلك الصفة، ومن بين ذلك بعض الطقوس الدينية المرتبطة بإحياء ذكرى سيد الشهداء؛ حيث نعتت بالخرافة والتحريف، وكأن الداعي لهذا هو ما يُزعم من وجود نحوين من الشعائر:
الأول: ما كان طروه وحصوله نتيجة التلاعب والتحريف من قِبَل المغرضين.
والثاني: ما كان مستنداً إلى سيرة أهل البيت علیهم السلام وأخبارهم.
وقبل النظر فيما ادُّعي وقوعه من تحريف وخرافات في الشعائر الحسينية، ينبغي لنا تسليط الضوء على الخرافة والتحريف في اللغة والاصطلاح.
الخرافة لغة:
الخَرِف ـ بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء ـ صفة مشبهة من خرف الرجل خرفاً من باب تعب، إذا فسد عقله لكبره([1])، وفي لسان العرب: «خرف: الخَرَفُ، بالتحريك: فَسادُ العَقْلِ من الكِبَرِ. وقد خَرِفَ الرجُل، بالكسر، يَخْرَفُ خَرَفاً، فهو خَرِفٌ: فَسَدَ عَقْلُه من الكِبَرِ، والأُنثى خَرِفةٌ، وأَخْرَفَه الهَرَمُ»([2]).
الخرافة اصطلاحاً:
ذكر بعض الباحثين بأن الخرافة هي: «نسبة ما ليس من الدين إليه»([3])، أو: «الكلام الذي لا صحة له»([4])، وتطلق على أيّ شيء وهميّ أو تخيّليّ، أو الذي لا يَمتّ إلى حقيقة واقعية أو حسّيّة، فأيّ شيء يُمليه الوَهم أو تمليه المخيلة من دون أن يكون له مطابق حقيقيّ في الواقع ـ لا عقليّ ولا حسّيّ ـ يُسمّى خرافة.
وقيل في منشأ تسمية هذه الأُمور بالخرافة: إنّ خرافة كان رجلاً من بني عذرة أو من جُهينة، اختطفته الجن ثمّ رجع إلى قومه، فكان يحدِّث بأحاديث عمَّا رأى يعجب منها الناس، فكذَّبوه. فجرى على ألسن الناس وقالوا: «حديث خرافة». وهو من الألفاظ التي لا تدخلها الألف واللام، إلّا أن يُراد به الخرافات الموضوعة من حديث الليل، أجروه على ما يكذّبونه من الأحاديث وعلى كلّ ما يُستملَح ويُتعجَّب منه([5]).
التحريف لغة:
يُطلق التحريف والانحراف في اللغة ويراد منه الميل والعدول، قال الجوهري: «انحرف عنه وتحرّف واحرورف، أي: مال وعدل»([6]).
التحريف اصطلاحاً:
وأمّا التحريف اصطلاحاً، فيُطلق ويُراد منه وجوه مختلفة:
منها: تحريف مدلول الكلام، أي تفسيره على وجه يوافق رأي المحرّف، سواء أوافق الواقع أم لا، والمهم أنه يدعمُ عقيدته، فهو يأخذ بعنان الكلام، ويميل به إلى جانب هواه.
ومنها: النقص والزيادة في الحركة والحرف في كلام الغير؛ لنفس السبب المتقدم.
ومنها: تبديل كلمة مكان كلمة مرادفة لها؛ بحيث يختلُّ كلام الغير ويؤدي إلى معنىً فاسد يتمكن الآخرون من إيراد الإشكال عليه، إلى غيرها من معان ذكرها الأعلام([7]).
تساؤل وجوابه
قد يطرأ سؤال في أذهان البعض، وهو: أنّ الله تبارك وتعالى إنما وهب لنا العقل لأجل تمييز الواقعي عن الوهمي والخرافي، فلماذا تنطلي علينا الخرافات والتخيلات إذن؟! خصوصاً مع ورود النصوص الشرعية المهمة التي فيها دلالة واضحة على قوة العقل وسلطنته، بل وأنه أحب الخلق إلى الله تعالى، كما في قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين علیه السلام : «يا علي، العقل ما اكتسبت به الجنة، وطلب به رضى الرحمن. يا علي، إنَّ أول خلق خلقه الله } العقل، فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. فقال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك، بك آخذ، وبك أُعطي، وبك أُثيب، وبك أُعاقب»([8]).
إلّا أن هذا السؤال يندفع فيما لو عرفنا أنّ ما يحصل للإنسان ليس هو من خطأ العقل الذي يسير وفق الموازين، حتى يرد هذا الإشكال والتساؤل، وإنما هو من خطأ الحس، ومن المعلوم أنّ الحسّ ليس معصوماً على الدوام؛ إذ قد يتطرّق إليه الخطأ، وإن كان الحسّ إجمالاً من منابع البديهيّات، كما وأن العقل منبع جملة من أقسام البديهيّات، فليس كلّ ما لا يُدرَك بالحسّ هو ليس بحقيقة؛ لأنّ كثيراً من الأشياء موجودة وحقيقيّة، مع أنّها لا تُدرك بالحسّ.
وعلى كلّ حال، فاقتناص الحقيقة يكون إمّا بأداة العقل، أو بأداة الحسّ، أو بأداة القلب فيما يُعاينه من العلوم الحضوريّة، وفي قبال هذه الحقائق يوجد هناك خرافات ووهمٌ وخيال؛ فيكون التمييز بينها وبين الحقائق على بعض الأشخاص أمراً صعباً.
دعوى وقوع التحريف في مراسم عاشوراء
بعد أن اتضح لنا معنى الخرافة والتحريف، نقول: إن من بين الأُمور التي حاول أعداء الإمام الحسين علیه السلام ـ ولا زالوا يحاولون ـ تحريفها ورميها بالخرافة هي قضية كربلاء؛ ليتسنّى لهم تشويه النهضة وتضعيفها، وزرع الشك والريب في قلوب أتباع أبي عبد الله علیه السلام ؛ من خلال رمي جانب كبير من جوانب النهضة الحسينية بالتحريف والخرافة، ونذكر فيما يلي نماذج لذلك:
النموذج الأول: الغناء حين تأدية العزاء
لقد حاول البعض أن يرمي العزاء والرثاء الحسيني ـ الذي يؤديه ناعية الحسين بلحن وطريقة خاصةـ بتهمة الانحراف عن الرثاء والعزاء في زمن المعصومين إلى الطريقة الغنائية، وأنّ ما يصنعه روّاد منبر سيد الشهداء علیه السلام داخل في الغناء! وبهذا تترتب النتيجة تلقائياً؛ إذ الغناء محرّم ببديهة الشرع، فصنع لنا قياساً بديهي الإنتاج. ولعل الذي شبَّه على غير المغرضين ممن يدعو لتنزيه الرثاء هو أن الأئمة علیهم السلام لم يقيموا العزاء والرثاء بهذه الكيفية المألوفة في زماننا، وإنما كان مرادهم علیهم السلام الشعر الرثائي على سيد الشهداء علیه السلام ، ولكن بمرور الزمان انحرف المسار من العزاء الذي ندب له أهل البيت علیهم السلام إلى الكيفية الخاصة في زماننا.
وأيّ خرافةٍ أشد؟! وأيّ تحريفٍ آكد من صرف قضية العزاء والرثاء إلى الغناء؟!
وهذه التهمة التي ألصقت بالعزاء الحسيني ليست شيئاً جديداً، بل يعود تاريخها إلى زمان ليس بالقريب، وقد طرقت هذه الأصوات أسماع الموالين من علمائنا، كما سوف يتبين لنا في مقام الإجابة عن هذا الادعاء الباطل.
الجواب عن النموذج الأول
وما نريد قوله في مقام الجواب هو:
1ـ إن المتعارف عن العزاء في زمن الأئمة أنه يُقرأ بطريقة خاصة تختلف عن إلقاء القصائد الشعرية على منصة الشعر، وهذا ما يفيده بعض الأوامر الصادرة عن الأئمة علیهم السلام لبعض الشعراء عندما طلبوا منهم قراءة العزاء؛ كما ورد عن أبي هارون المكفوف، قال: «قال أبو عبد الله علیه السلام : يا أبا هارون، أنشدني في الحسين علیه السلام . قال: فأنشدته، فبكى. فقال: أنشدني كما تُنشدون ـ يعني بالرقةـ قال: فأنشدته:
امرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزكية»([9]).
وهذا الأمر من الإمام علیه السلام دليل ومؤشر واضح على وجود طريقة خاصة غير طريقة الإنشاء المعهود للشعر، وفي الوقت نفسه مغاير للكيفية الغنائية.
2ـ إن هناك فرقاً واضحاً بين الغناء والعزاء لا يغفل عنه أحد من العقلاء؛ إذ إن الغناء له كيفيته الخاصة التي يطرب بها المستمع، كما عرّفه أئمة الفقه([10])، وأما العزاء المتداول بين المؤمنين فلا يحصل منه ذلك، وهذا ما ذكره جملة من علمائنا، فقد ذكر الشيخ جعفر الكبير قدس سره ـ جواباً عن هذه الإشكالية الواهية ـ قائلاً: «والعرف فارق بينهما [بين النائح والنائحة من جهة، وبين المغنّي والمغنّية من جهة أخرى]؛ للفرق بين الأصوات المهيّجة للأحزان لفراق الأرحام والإخوان، وبين ما يهيّج حرق الأشواق ويضرم النار في قلوب العشّاق، أين صرخة المحزون من تطريب العاشق المفتون؟! فلو طرق السمع من داخل الدار أو محلّ بعيد عن الأبصار صوت النداء عُرف أنّه من الغناء أو العزاء. فبعد التأمّل في البين، وظهور الفرق بين القسمين؛ لم يكن من الاستثناء من الغناء…، وهذا هو الذي جرت عليه سيرة الإمامية على مرّ الأعصار متلقّين له بالقبول دون الإنكار…»([11]).
وقريب من هذه العبارة ما ذكره بعض المراجع المعاصرين، حيث يقول: «وقد عرفت أنَّ النياحة المتعارفة في مجالس العزاء لا تدخل في عنوان الغناء؛ لعدم كونها صوتاً لهوياً مناسباً لمجالس أهل الفسوق والعصيان، فكأنهم رأوا للغناء معنى عاماً يشمل كلّ صوت حسن ـ كما يظهر من بعض أهل اللغة ـ فذكروا هذا مستثنى عنه، أو استثناء الحداء وغيره أيضاً من هذا القبيل. وفيه ما عرفت: من أنها ليست كلّ صوت حسن، بل صوت خاص»([12]).
النموذج الثاني: التحريف في أحداث عاشوراء من قبل قرَّاء العزاء
من الموارد التي ادُّعي بأنها طالتها يد التحريف والتشويه، هي الوقائع والمصائب التي جرت على الإمام الحسين علیه السلام وأهل بيته وأصحابه في واقعة الطف، فقد ذكروا أن قراء المنبر الحسيني وأرباب العزاء يتفننون في نقل المشاهد المروعة والمأساوية غير القابلة للتعقل من دون الاستناد إلى مصدر تأريخي، كل ذلك بغية استدرار الدمعة من السامعين، وهل هذا إلّا حرف للحقائق الثابتة، ونقلها للأجيال اللاحقة مقلوبة مزورة؟! ولهذا النموذج مصاديق كثيرة يطول الكلام بذكرها، وقد جمعها بعض المحققين في كتاب مستقل، أصبح محلاً للردّ أو القبول([13]).
الجواب عن النموذج الثاني
إن رمي المؤمن بالتُّهم من الأُمور المحرمة جزماً أيّاً كانت هذه التهمة، فضلاً عن التهمة التي تطعن في الدين والتقوى، ناهيك عن اتهام الرموز الدينية، وحماة نهضة أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، كالخطباء وأرباب العزاء المتكفّلين بإجابة دعوة الإمام الصادق علیه السلام بإحياء أمرهم([14])، وفي مقام الجواب عن هذه الإشكالية نقول:
1ـ إن ما يعتبره المستشكل تحريفاً في النصوص ـ وقلباً للحقائق في مقام إبداء مظلومية أهل البيت علیهم السلام ـ كلها مستندة إلى مصادر تأريخية وغير مبالغ فيها، إلّا أن المستشكل لم يطلع على ذلك، وعدم اطلاعه لا يعني أنهم يتعمدون التحريف في النقل كما يدعي القائل.
2ـ كثير من النقولات التي يعتمدها أرباب المنابر تتصدّرها عبارة توحي إلى الحاضرين بأنها مجرد لسان لحال المرثي، وهو أمر جائز ومسوغ لدى فقهائنا([15])، فإن الخطباء وروَّاد المنبر لا يروون الوقائع التي جرت على الحسين علیه السلام وأهل بيته بما هي عين الواقع الذي جرى على أهل البيت علیهم السلام ، مع أن معظمها مروي في مصادر تأريخية متسالم على النقل منها، وهذا الاحتياط من قبل القرَّاء ينمُّ عن ورعهم وتقواهم.
3ـ لو فرض ـ وفي حالات نادرة جداًـ صدور فعل من بعض المتلبّسين بثوب القرّاء والخطباء، فهذا لا يعني أن نرمي الجميع بذلك، ونشيع في الذين آمنوا الفاحشة، لمجرد حالات شاذة لا تكاد تُذكر.
النموذج الثالث: التمسك بالبكاء على الحسين علیه السلام ونسيان أهدافه السامية
من بين التُّهم التي أُلصقت بالشعائر الحسينية ـ الثابتة بالأدلة الكثيرة والمتواترة ـ هو أن البكاء على الحسين علیه السلام وعرض المشاهد المروعة والمأساوية في ثورته باتت أمراً أساسياً وهدفاً مستقلاً ـ بل منفرداً أيضاً ـ لدى روّاد المآتم؛ فأنتج اعتناؤهم بذلك نسيان المبادئ والقيم السامية التي قاتل الحسين من أجلها؛ بل ولَّد في نفوس الناس حالة من الخنوع والتذلل تحت وطأة الجبابرة، فصار أفيوناً للناس، وهذا أمر لا يرتضيه الإمام باعتبار أنه فاتح رسالي همُّه الرئيس هو نشر أهدافه، ومن أهمها الوقوف بوجه السلطان المستبد.
الجواب عن النموذج الثالث
هذه الشبهة وإن كانت من أوضح الشبهات بطلاناً إلّا أننا نُجيب عنها بأُمور:
1ـ إن الإبكاء والتذكير بالمصائب التي حلت بأهل البيت في واقعة عاشوراء هدف من الأهداف المهمة التي ذكرها الإمام علیه السلام بقوله: «أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلّا استعبر»([16])، بل دعا لذلك الأئمة من بعده أيضاً، كما في قول الإمام الصادق علیه السلام : «اللهم… فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلب على حفرة أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، وارحم تلك الأعيُن التي جرت دموعها رحمةً لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا»([17]).
2ـ إن الكلام الذي ذكره صاحب الشبهة مجرد دعوى بلا دليل، بل إن الدليل على خلافه تماماً؛ إذ إن مجرد الاستماع إلى المنابر وما تطرحه من مواضيع بناءة للمجتمع تُشكِّل لنا صورةً معاكسةً لما يُقال تماماً، فصحيح أن كل منبر يبتدئ بالبكاء ويختم به أيضاً، إلّا أن مجموع البكاء يتخلله الحديث الهادف، والكلمة الحسنة، والموعظة الهادية، والنقد البنَّاء للحالات والتصرّفات السيئة المستشرية في المجتمعات عموماً.
3ـ لو كانت المنابر التي تُقام على سيد الشهداء مدعاة للخنوع والخضوع تحت وطأة حكّام الجور والظلم، لما حوربت من قِبَل المتجبرين على مرِّ العصور، ولما كانت مؤرقةً لهم، فهي التي حفظت لنا شعلة الإصلاح التي أرادها الإمام الحسين علیه السلام على مرِّ العصور، وكل هذا من الواضحات التي لا ينكرها أحد ولا تحتاج إلى إقامة الدليل.
4ـ إن إبداء مظلومية أبي عبد الله علیه السلام هي التي جعلت من كل مصلح يريد القيام بنهضة ضد الظالم والظلم يستعين ويقتدي بها؛ كي ينتصر، كما في قول الثائر الهندي غاندي: «تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر»([18]).
النموذج الرابع: تهمة اختراع بعض الطقوس غير المستندة إلى دليل
تتجاذب ألسنُ المغرضين والغافلين بعضَ الطقوس والمظاهر الصادرة عن بعض الموالين، والتي تُعبِّر عن حزنهم وتضامنهم مع أهل البيت علیهم السلام ؛ فيُرمى كثير منها في حقول الخرافة أو الحقائق المشوهة المعالم، ومن الأمثلة التي تُذكر في المقام هي ما يُسمى بـ (ركظة طويريج)؛ إذّ أنها تصرُّف عفوي صادر عن مجموعة من الناس، ثم تطورت بعد ذلك بعد أن أضفى عليها بعض العلماء مشروعية إبَّان مشاركته فيها، مع أن حالها واضح من حيث المبدأ.
الجواب عن النموذج الرابع
ما نريد قوله في الإجابة عن الشبهة المذكورة هو:
1ـ إن هذه الموارد من الشبهات التي لها نحو عُلقة بما يردده الجموديون من الموسومين باسم الدين؛ حيث يرمون كل شيء لم ينصَّ عليه بتهمة الخرافة، بل يعتقدون بإن بعضها أمر مبتدع موجب لخروج صاحبها عن الدين، مع أنهم غافلون عن كيفية التدرج في السعي وراء الدليل لكل شيء يراد الحكم عليه بالحرمة أو الوجوب، أو السلب والإيجاب، فكل أمر يُراد النظر في مصيره الشرعي يُنظر إلى أدلته الخاصة، وهذا أمر نتَّفق معهم عليه، ولكن ما لم يلتفت إليه المُستشكل في المقام هو مرحلة البحث عن وجود أدلة تشمل ـ بعمومها أو إطلاقها ـ موضوعة البحث، وهي مرتبة متأخرة عما ذكرناه آنفاً، وهذه النكتة المهمة ساعد الالتفات إليها ـ من قبل فقهائنا ـ على إعطاء النتائج الإيجابية في كثير من المسائل التي تُعدُّ مَعْلَماً من معالم الدين وشعيرة من شعائره، وخصوصاً في بعض الشعائر والطقوس الحسينية ـ التي تُرمى من قِبَل بعض دعاة الحداثة والتجدد بالخرافة والتحريف ـ فأفتوا باستحباب الموارد التي تتّصف بالجواز في حدّ نفسها، فيما لو طرأ عليها عنوان الشعائرية وأصبحت مَعْلَماً من معالم الشعائر([19]).
2ـ مع غض النظر عما تقدم في الإجابة الأُولى، فإن أداء بعض الأفعال والطقوس من دون أن ينسبها فاعلها أو المنظّر لها إلى شخص المعصوم مما لا إشكال فيه، فيما لو كان يوصل فكرةً هادفةً إلى المشاهدين أو السامعين، وبما أن كثيراً من الموارد التي تُقام، لم تُنسب للشارع المقدس بصفة دلالة الأدلة الخاصة عليها، فأيُّ مشكلة في أدائها؟ إما على نحو اندراجها تحت مضمون الدليل العام، أو بعنوان كونها مُعبّرة عمّا هو مكنون في ضمير فاعلها من مشاعر تجاه النهضة الحسينية المباركة، فيُبيِّن ـ من خلال أفعاله هذه ـ تضامنه مع إمامه الحسين علیه السلام .
النموذج الخامس: حصول الاختلاط المحرّم بين الجنسين حين العزاء
ذهب بعض إلى أن إحدى مفردات المراسم العاشورائية الخرافية هي خروج مواكب العزاء واللطم؛ حيث تحولت المراسم الحسينية من كونها شعيرةً عباديةً، وفاجعة محرقة للقلوب إلى مسيرة ترفيهية تؤدِّي إلى الاختلاط المحرم بين الرجال والنساء، ولا ينكر ما لهذا الأمر من أثر سلبي ومفسدة للفرد والمجتمع، وقد نهى الشرع المقدس عنه وشدد فيه أيّما تشديد، فعن محمد بن الطيار، قال: «دخلت المدينة وطلبت بيتاً أتكاراه، فدخلت داراً فيها بيتان بينهما باب وفيه امرأة، فقالت: تكاري هذا البيت. قلت بينهما باب وأنا شاب. فقالت: أنا أغلق الباب بيني وبينك. فحوّلت متاعي فيه، وقلت لها: أغلقي الباب. فقالت: يدخل عليَّ منه الروح، دعه. فقلت: لا، أنا شاب وأنت شابة أغلقيه. فقالت: اقعد أنت في بيتك فلست آتيك ولا أقربك. وأبت أن تُغلقه، فلقيت أبا عبد الله علیه السلام فسألته عن ذلك؟ فقال: تحوّل منه؛ فإنَّ الرجل والمرأة إذا خليا في بيت كان ثالثهما الشيطان»([20]).
وكأن المدعي لحصول الاختلاط في مواكب العزاء يعتقد أن هذه المواكب التي تخرج في زماننا لم يكن لها جذور وأساس، فهي خرافة لا مساس لها بالدين.
الجواب عن النموذج الخامس
1ـ إنّنا نسلم بحرمة الاختلاط المحرم بين الجنسين، ولكن ما لا نسلم به ولا نقبله هو دعوى حصول الاختلاط المحرم بين الجنسين في مجالس أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، فكيف يُتفوَّه بهذا الكلام ومجالس العزاء تُبثُّ في هذه الأيام على الفضاء ليلاً نهاراً، ولم نرَ ولم نسمع بهذا الاختلاط المحرم.
2ـ لو فرضنا حصول الاختلاط المحرم ـ في بعض الأحيان ـ من بعض ضعيفي النفوس من الناس، فهذا لا يوجب ترك الشعائر والعبادات؛ وإلّا لزم ترك الكثير من الواجبات والسنن، وقد ورد النهي عن ترك الطاعات والعبادات بسبب ما يصاحبها من المنكر والباطل، فعن زرارة قال: «حضر أبو جعفر علیه السلام جنازة رجل من قريش وأنا معه وكان فيها عطاء، فصرخت صارخة، فقال عطاء: لتسكتن أو لنرجعن. قال: فلم تسكت؛ فرجع عطاء. قال: فقلت لأبي جعفر: إنَّ عطاء قد رجع. قال: ولِمَ؟ قلت: صرخت هذه الصارخة، فقال لها: لتسكتن أو لنرجعن. فلم تسكت فرجع. فقال: امض، فلو أنا إذا رأينا شيئاً من الباطل مع الحق تركنا له الحق لم نقض حق مسلم…»([21]).
3ـ لا أحد ينكر ما يقع من الاختلاط ـ في بعض الأحيان ـ في حج بيت الله الحرام، في الطواف وغيره، فلو كان مجرد الحضور في مكانٍ واحد وبناية واحدة يوجب التحريم، للزم حرمة الطواف والرمي الذي يوجب الاختلاط، بل والتَّماس بين الجنسين في أحيان كثيرة! والحال أنه لا قائل بالتحريم من الفقهاء، ولم يُفت أحد من المسلمين بحرمة الطواف والحج بصورة عامة.
4ـ ليس المناط في تبنِّي فعل من الأفعال الشعائرية أن يكون مدعوماً بدليل خاص في مورده فقط، بل يكفي أن تناله يد العمومات المقررة لشرعنة إحياء أمرهم، والتذكير بالمصائب التي جرت عليهم، كما تقرَّر في محله([22])، شريطة أن تكون سالمة من شوائب الحزازة والمبغوضية التي تودي بها إلى دائرة المحرمات، وهذه النكتة من الأُمور المهمة التي تخفى على دعاة الإصلاح أو يتغافلها المغرض منهم، فيرمي كل مَعْلَم من معالم الدين بتهمة الخرافة أو التحريف، فيما لو لم يظفر بدليله الواضح لعينه المكفوفة.
النموذج السادس: اشتمال العزاء على التمثيل المحرّم
ومن الموارد التي ادُّعي أنها انحرفت عن مسارها الطبيعي، والتي طرأ عليها التحريف؛ لغرض صدّ الناس عن مجالس الذكر ومواساة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بسبطه الحسين علیه السلام ، هو بعض مراسم العزاء التي تشتمل على التمثيل المحرم؛ وفي أغلبها ما يوجب السخرية والاستهزاء بالمذهب الحق والمراسم الحسينية المقدّسة!
الجواب عن النموذج السادس
1ـ إن الحرمة التي يدعيها المُستشكل في هذه الظاهرة غير مستندة على أي دليل ينتصر به لدعواه، بل ما ذكره الفقهاء المسلمون من جواز تمثيل الشخصيات والرموز المقدسة ـ مع الاجتناب عما يعد مسيئاً للشخصية التي يُراد تمثيلها ـ دليل دامغ لدحض دعواه.
2ـ إنّ مجرد الاستهزاء والسخرية بالشعائر والعبادات لم يكن مُبرّراً في يوم من الأيام لتحريم شيءٍ أبداً، وكيف يكون مبرّراً لذلك، وقد سُخر من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، وأهل بيته علیهم السلام ، ولا زال أعداء أهل البيت علیهم السلام يسخرون منا ومن شعائرنا، أفهل يعقل أن نترك شعائرنا لمجرد السخرية والاستهزاء، وقد حثَّ الإمام الصادق علیه السلام شيعته على عدم ترك مراسمهم في جواب شكوى أحد أصحابه من قوم سخروا منه حين زيارته قبر أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، وقد وصفهم الإمام بأنهم شرار الأُمة، كما جاء على لسان جده المصطفى صلى الله عليه وآله ، فقد روى أبو عامر، عن الإمام الصادق علیه السلام ، عن أبيه، عن جدّه عن الحسين علیه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله قال لعلي علیه السلام : «يا أبا الحسن، إنَّ الله تعالى جعل قبرك وقبر وُلدك بقاعاً من بقاع الجنة وعرصة من عرصاتها، وإنَّ الله تعالى جعل قلوب نجباء من خلقه، وصفوة من عباده تحنُّ إليكم وتحتمل المذلة والأذى فيكم، فيعمّرون قبورَكم ويكثرون زيارتها تقرباً منهم إلى الله ومودة منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زواري غداً في الجنة.
يا علي، مَن عمّر قبوركم وتعاهدها، فكأنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومَن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجة بعد حجة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أُمه. فأبشر، وبشّر أولياءك ومحبيك من النعم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ولكن حُثالة من الناس يعيّرون زوّار قبوركم بزيارتكم، كما تُعيَّر الزانية بزناها، أولئك شرار أُمتي لا نالتهم شفاعتي، ولا يردون حوضي»([23]).
3ـ إن السخرية من قِبَل الجهلة والمغرضين حاصلة في بعض الواجبات والفرائض التي فرضها الله تعالى؛ وخير مثالٍ على ذلك هو شعيرة ونُسك رمي الجمرات وغيرها في مناسك الحج والزيارة، ومع ذلك لم ينثن المسلمون قاطبة عن أداء هذا النُّسك، بل لم تُعدّ مبرّراً ولا مسوغاً لتركها على مرِّ العصور.
وهناك نماذج أُخرى لدعاوى الخرافة والتحريف مما يرتبط بعاشوراء الحسين تركناها روماً للاختصار.
الهوامش
[1] اُنظر: الاسترابادي، رضي الدين، شرح شافية ابن الحاجب: ح4، ص156.
[2] ابن منظور، لسان العرب: ج9، ص62.
[3] الكوراني، علي، الانتصار: ج9، ص437.
[4] قلعجي، محمد، معجم لغة الفقهاء: ص194.
[5] اُنظر: إسحاق بن راهويه، مسند ابن راهويه: ج3، ص801.
[6] الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح: ج4، ص1343.
[7] اُنظر: السبحاني، جعفر، موسوعة طبقات الفقهاء: ج1، ص37ـ 38.
[8] الصدوق، محمد بن بابويه، مَن لا يحضره الفقيه: ج4، ص369.
[9] ابن قولويه، كامل الزيارات: ص208.
[10] اُنظر: الأنصاري، مرتضى، كتاب المكاسب: ج1، ص291.
[11] كاشف الغطاء، جعفر بن الشيخ خضر الجناجي، شرح القواعد (كتاب المتاجر): ج1، ص201ـ 202.
[12] الشيرازي، ناصر مكارم الشيرازي، بحوث فقهية مهمة: ص76.
[13] اُنظر: المطهري، مرتضى، تحريفات عاشوراء.
[14] انظر: الحميري، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد: ص32. وأيضاً: الصدوق، محمد بن علي، مصادقة الإخوان: ص32. وأيضاً: الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج10، ص92.
[15] اُنظرعلى سبيل المثال لا الحصر: الخوئي، أبو القاسم، صراط النجاة: ج2، ص443. الموقع الرسمي للسيد السيستاني، في الأسئلة التي طُرحت حول الشعائر.
[16] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص215.
[17] المصدر السابق: ص229.
[18] قول مشهور عنه.
[19] فقد ذكر ذلك ـ مفصلاً ـ الشيخ السند في كتابه الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد، وقد أفاد في صفحة 66 منه قائلاً: «وعمومات إحياء أمرهم التي طُبّق أكثر من واحد منها على العزاء الحسيني، وهي تشمل بإطلاقها المستجدّ منه. وطرق هذه الطائفة من الروايات تربو على العشرين، كما ظهر ذلك لنا في مراجعة سريعة لها».
[20] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج19، ص154، ح1.
[21] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج3، ص140، ح1.
[22] كما تقدم الكلام عنه في الجواب الأول عن النموذج الثالث.
[23] الطوسي، تهذيب الأحكام: ج6، ص22.
المصدر: موسسة وارث الأنبياء قسم مقالات حسينية