خاص الاجتهاد: المرجع الديني آية الله نوري الهمداني: يجب أن يتجه شأن ومكانة الحوزة العلمية نحو الاستدلال والبرهان. للأسف، نرى ونسمع في بعض الأحيان أن البعض يتسرعون في الحكم ويقومون بالتشهير والتجريح بغير حق، بغض النظر عن طبيعة الاختلاف، فإذا كان الاختلاف في المسائل السياسية، يتهمون الآخر بأنه معارض لهذا الطرف أو ذاك، أو بأنه متطرف. وإذا كان الاختلاف علمياً، يتهمونه بـعدم الكفاءة العلمية. إننا نتوقع من الحوزة أن تقدّر العمل القيم وأن تتحلى بالإنصاف في الكتابة والكلام.
وقال آية الله نوري الهمداني في اجتماع عقده مع نخبة من علماء الحوزة العلمية، مشيراً إلى حالة الحوزة العلمية: إنّ ساحة الحوزة العلمية اليوم قد تغيرت، وتنوّعت فيها الأفكار والآراء، وانخفض مستوى التسامح لدى البعض. لذا، يجب رفع مستوى التحمل للاختلاف، ووجب أن تتجه الحوزة نحو الاستدلال والبرهان. للأسف، نرى ونسمع في بعض الأحيان أن البعض يتسرعون في الحكم ويقومون بالتشهير والتجريح بغير حق، بغض النظر عن طبيعة الاختلاف، فإذا كان الاختلاف في المسائل السياسية، يتهمون الآخر بأنه معارض لهذا الطرف أو ذاك، أو بأنه متطرف. وإذا كان الاختلاف علمياً، يتهمونه بـعدم الكفاءة العلمية. إننا نتوقع من الحوزة أن تقدّر العمل القيم وأن تتحلى بالإنصاف في الكتابة والكلام.
“الفقه التقليدي’ يواكب التطورات
وأكد آية الله نوري الهمداني على أهمية الحفاظ على التراث الفقهي الإسلامي، ورفض ادعاءات البعض حول عجز الفقه التقليدي عن مواكبة التطورات الحالية. مشدداً سماحته على ضرورة البناء على الأسس الفقهية التقليدية، مع ضرورة تجديد الرؤية وتوظيفها في الواقع المعاصر. وقال سماحته: “إنني أؤمن بأن فقهنا التقليدي وفقهنا الجواهري وتراث علمائنا يجب أن يحفظ، وأعتقد أنه من الممكن البناء عليه وتطويره لمواجهة تحديات العصر، وأقرأ في بعض المقالات أن العصر تغير وأن الفقه التقليدي لم يعد صالحاً، وأرى أن هذا الكلام غير صحيح.
وأكد سماحته على ضرورة الاستعانة بخبراء متخصصين في شتى المجالات المعاصرة، خاصة في القضايا الحديثة مثل العملات الرقمية والذكاء الاصطناعي والبورصة. ودعا سماحته الحوزة العلمية إلى الانخراط في هذه المجالات والاستفادة من خبرات المتخصصين فيها، مشيراً إلى أن الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال سيفتح آفاقاً جديدة، وأن البورصة تمثل مجالاً مهماً يجب على الحوزة أن تتفاعل معه.
وشدد المرجع الديني نوري الهمداني على ضرورة أن تكون الحوزة العلمية مؤسسة ديناميكية تتطلع إلى المستقبل، مؤكداً على أهمية مواكبة التطورات العلمية والمعرفية. ونقل سماحته تجربته الشخصية مع المرجع الديني الكبير آية الله البروجردي، حيث أشار إلى أن الأخير كان حريصاً على أن يتعلم طلاب العلم العلوم الحديثة مثل الرياضيات والفيزياء والفلك واللغات الأجنبية.
وقد وصف سماحته أهمية تدريس العلوم الحديثة في الحوزة العلمية، مضيفين: في بداية الثلاثينيات، طلب مني المرحوم آية الله العظمى البروجردي (رضوان الله تعالى عليه) في يوم من الأيام بعد الدرس أن أزوره. ذهبت إليه فقال لي: إنّ أحد كبار علماء طهران طلب مني أن أبعث بعض طلابي إلى طهران خلال فترة إجازة الحوزة ليتعلموا بعض العلوم الحديثة. فسألته: ما هي هذه العلوم؟ فأجاب: مثل الفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء واللغة الإنجليزية. في ذلك الوقت، تم اختيار حوالي عشرة منا، وقضينا صيفين نتلقى دروساً يومية ما عدا يوم الجمعة من أساتذة كبار في هذه المواد. ربما لم يكن أحد يدرك أهمية ذلك في ذلك الوقت، لذلك لم يحضر البعض، وترك البعض الآخر الدورة قبل نهايتها، ولكن تبين فيما بعد مدى أهميتها. وكمثال على ذلك، في مسألة الإرث، إلى أي مدى يؤثر علم الرياضيات في فهم الموضوع؟ أو في مسألة رؤية الهلال في بداية الشهر، ما مدى تأثير علم الفلك وحساب طول وعرض البلدان؟ لقد سافرت إلى أوروبا عدة سنوات ولاحظت مدى أهمية معرفة اللغات. أرى أن الحوزة العلمية حية وتستشرف المستقبل لخمسين ومائة عام قادمة.
على الحوزة العلمية أن تكون مستعدة للرد على الشُّبهات على مختلف المستويات
وأضاف سماحته: “إن دراسة العلوم الحديثة لا تتعارض مع دراسة العلوم الدينية، بل إنها تساهم في إثراء الفهم الديني وتوسيع آفاقه.
وقال سماحته إن من أهم واجبات الحوزة العلمية مواجهة الشُّبهات والرد عليها، سواء كانت هذه الشُّبهات صادرة عن داخل الحوزة نفسها أو خارجها، فالعالم الديني يجب أن يكون مستعدًا دائمًا لمواجهة هذه التحديات. وأضاف سماحته: لقد شاهدتُ مؤخرًا كيف ردَّ سماحة آية الله فاضل اللّنكراني (رحمه الله) بشكل علمي وهادئ على بعض الشُّبهات التي طرحها أحد العلماء المعاصرين، وهذا يدل على مستوى الوعي العلمي لدى علمائنا. كما أن المناظرات التي يخوضها علماء كالشيخ علي دوست هي أمرٌ محمودٌ جدًّا، ويُظهر مدى استعداد الحوزة لمواجهة الأفكار المخالفة. يجب علينا أن نعمل على تخريج علماء قادرين على المناظرة والحوار، وقد شهدنا في هذا المجال علماء أجلاء أمثال آية الله مصباح اليزدي (رحمه الله) الذي كان بارعًا في هذا الفن. إن تدريب العلماء على المناظرة هو نهجٌ اتبعه أهل البيت (عليهم السلام) في نشر الإسلام
إن الفقيه ليس شخصًا يُصنع أو يُشكل بالدعاية والترويج
وأضاف سماحته قائلاً: إن الحوزة العلمية تواجه اليوم أعباءً جسيمة، وأريد أن أوضح أن التأثير في هذه المسائل التي ذكرتها يتطلب وجود فقهاء، والفقيه ليس شخصًا يُصنع أو يُشكل بالدعاية والترويج. لا أنسى في آخر أيام استاذي الجليل، آية الله العظمى سلطاني الطباطبائي (قدس سره)، حينما طرح موضوع المرجعية، أظن ذلك كان بعد وفاة آية الله الأراكي. جاء إلى منزلي في صباح باكر، وقد شعرتُ بخجل شديد منه لأنه كان أستاذي، وكنتُ أحرص على زيارته. كان رحمه الله رجلًا يربي الفقهاء، وكان كثير من العلماء الكبار يحضرون دروسه. في خضمّ الحديث عن المرجعية، قال لي: “يا فلان، هذا المنصب منصب الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وهو المنصب الوحيد الذي لا يمكن للإنسان أن يسعى إليه. ربما يستطيع الشخص أن يتولى هذا المنصب لفترة، ولكن لا يُعلم ما سيحدث بعد ذلك. ففي تاريخنا، هناك من لم يطلب المرجعية ولم يسع إليها، ومع ذلك جاءت إليه.
وشدد سماحته على أهمية الإخلاص في الفقاهة، مؤكدًا أن الفقيه الحقيقي يتعرف به علمه وتأليفه وتلاميذه. وأضاف أن تكوين الفقيه يتطلب جهدًا كبيرًا ودراسة متعمقة، ولا يمكن اختصاره بتغييرات سريعة وغير مدروسة في المناهج الدراسية. وأكد على ضرورة الحفاظ على الكتب الأساسية في الفقه، وعدم استبدالها بكتب أخرى دون تقييم دقيق. وشدد على أهمية اختيار الأساتذة المؤهلين لتدريس الفقه، مؤكدًا أن أي تدخل عشوائي في هذا الأمر سيؤثر سلبًا على جودة الخريجين.
فقهاءنا الكبار كانوا سياسيين بارعين
وقال المرجع الديني سماحة آية الله نوري الهمداني: لقد أكدت مرارًا وتكرارًا أن التوقعات على الحوزة العلمية ازدادت بشكل كبير بعد الثورة الإسلامية. ورغم اختلاف البعض، إلا أن الحقيقة هي أن هذه الثورة قامت بقيادة فقيه وفيلسوف بارع، ولا يزال الفقيه هو قائد النظام. لذلك يجب أن ندرك أن الحوزة العلمية هي أحد الأركان الأساسية لهذا النظام.
وأضاف سماحته: هناك من يحاول أن يزرع فكرة مفادها أن الفقيه السياسي لا يمكن أن يكون عالماً في الفقه، وأنهم يريدون بذلك عزل العلماء. هذه فكرة خاطئة تمامًا، ففي الحقيقة كان فقهاؤنا الكبار سياسيين بارعين، ولكنهم كانوا يستمدون منهجهم السياسي من سيرة أهل البيت (عليهم السلام). وقد تعامل كل فقيه مع الظروف التي مر بها بطريقته الخاصة وحكمته، فالإمام الخميني (قدس سره) كان له أسلوبه، والمرجع الخوئي كان له أسلوب آخر، وكذلك السيد الصدر وحاج الشيخ عبد الكريم الحائري. وقد تمكنوا جميعًا من الحفاظ على الحوزة العلمية في مواجهة التحديات التي واجهوها، وكانوا هم من أخرج لنا قادة مثل الإمام الخميني.
واليوم نرى كيف يؤثر المرجع السيستاني في العراق، رغم كل الظروف الصعبة التي يمر بها. لذلك، فإن السياسة والفقه لا يتعارضان، ولكن التطبيق العملي يختلف من حالة إلى أخرى.