اهم الاسباب التي تدخلت في نشوء الفكر الارهابي هو تضييع بوصلة القيم المعرفية اليقينية ومن ثم الركون الى مقتضيات الظنون والشبهات التي هي لواقح الفتن مما يستدعي تدخل السنن التاريخية ذات العلاقة بالدوال المرتبطة بنوع السلوك الأممي او النخبوي فتتداخل وقائع الامتحان والابتلاء بوقائع الانحراف والتراجع وكما روي عن النبي (ص)قوله: (كيفما تكونوا يولى عليكم). بقلم: ..الشيخ عدنان الحساني
الاجتهاد: ان ملاحقة الاصول الفكرية لأية جماعة او طائفة تشكل مطلبا معرفيا مهما لا يمكن ان نزويه في هوامش الاهتمامات وذلك باعتبار ان البحث التاريخي في مسيرة الفكر والسلوك يكشف عن مدى مشروعية تلك الاصول من حيث المناطات الجدلية التي واكبت نشوء تلك الجماعة او تلك الطائفة..
وبما إن الكشف عن جذور الإرهاب والتكفير ومعرفة أسبابه جدير بالتعاطي المعرفي باعتباره يؤشر على مشكلات الحضارة وتحديات العصر ومعركة البقاء خصوصا ونحن نعيش مرحلة مفصلية من مراحل الصراع الكوني بين الحق والباطل فإننا مطالبين تاريخيا بالتأشير على القيم والمبادئ التي رافقت كينونة النواة الاولى لهذه الجذور ومدى تأثير وتأثر هذه القيم بالسنن الكونية العامة لحركة التاريخ والطبيعة .
من هنا نستطيع ان نحدد العلل والاسباب الأولى التي ادت الى تنامي تيارات التكفير والارهاب في العالم الاسلامي فإن أسباب نشأة هذا الفكر متعددة ومتنوعة، فقد يكون مرجع هذا الفكر أسبابًا فكرية أو نفسية أو سياسية أو اجتماعية أو يكون الباعث عليه دوافع اقتصادية وتربوية.. إلخ.
وبالنظرة الشاملة المتوازنة نستطيع أن نجزم بأن الأسباب متشابكة ومتداخلة،ولهذا لا ينبغي أن نقف عند سبب واحد فالظاهرة التي أمامنا ظاهرة مركبة معقدة وأسبابها كثيرة ومتداخلة.
ولكن حتى نخرج عن دائرة هذا التعقيد ونبسط المركبات الفكرية المتراكمة نعود الى الاسباب ذات البعد التاريخي ليس في حدود وقائعه الأولى فحسب وانما من خلال قراءة قوانينه الفلسفية التي اثرت في تحولاته الاجتماعية والسياسية .
انواع السنن التاريخية في القرآن
القاعدة العامة في السنن التاريخية على شرط القرآن هو الثبات … وذلك لان فلسفة الزمان كقاعدة اولية تأبى ان تتعلق بحلقة مختلة من سلسلة الوقائع والعلاقات التكوينية لأنها موزونة بميزان دقيق بمقتضى فلسفة الموازين وسننها لاحظ ان السنن احدها يكامل الاخر من جانب اخر الزمان يرتبط بالمكان بمقتضى قانون الزوجية قانون الزوجية يرتبط بقانون التوالد الطبيعي وهذا القانون سيال في الماديات وفي الفلكيات وفي المعنويات لان الزمان والمكان يولدان الحركة والحركة تولد الحدوث والحدوث يولد الوقائع والوقائع هي العنصر الاساس لصناعة التاريخ… واذا كانت فلسفة الزمان تفسر علاقة المطلق بالنسبي فان فلسفة التاريخ تفسر علاقة السلوك الفردي والاجتماعي بخارطة الاحداث والوقائع ضمن تخطيط توفيقي بين الاضطرار والاختيار وصولا الى الغاية المطلوبة في سياق عملية امتحان بشري كبرى…
في حين ان السياق الطبيعي ينبغي ان يكون وفق التخطيطات المنسجمة مع كلية القانون الوحدوي للتاريخ.. وليست هناك عائدية حضرية و عائدية ريفية او بدوية كما ذهب ابن خلدون حيث يقول(ان الانسان ابن عوائده ومألوفة لا ابن طبيعته ومزاجه فالذي الفه في الاحوال حتى صار خلقا وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة) بل ان العائدية طبيعية فطرية وذلك لان الفطرة المنسجمة مع مدركات العقل العملي في تنقيح الحسن والقبح في الافعال هي التي تحقق مقولة العدل والذي هو الحد الأوسط في جميع العائديات البشرية نعم بسبب نوازع الانسان وتطرفه يمينا وشمالا عن ذلك الحد الاوسط اختلفت عائدياته وفق اثارات المحيط البيئي والمواضعة الاجتماعية للحضارات المنحرفة والا لو كانت هذه العائديات اصيلة فما كان لسنن التاريخ الاستثنائية من العذاب والتدمير ان تجري وفق حكمة السماء وتخطيطها..
نعم لا ينبغي التنكر للتأثير البيئي والعرفي الاجتماعي بالمطلق في تكوين شخصية الفرد وبالتالي التأثير على حركته في التاريخ لكن ذلك يعتبر بالنسبة الى الرؤية الاسلامية انثيالا سلبيا مع معطيات الخرائط العامة للتخطيطات الالهية سواء على المستوى العام او على مستوى التخطيط الخاص وهذا الانثيال في حد كونه سلبيا الا انه اقرب الى الضرورة في تحقيق مستوى معين من مستويات النضوج التصاعدي نحو اليوم الموعود لذا كان للعرف مدخلية كبيرة في تقنين الاحكام الشرعية في ظروف استثنائية خالية من النموذج المعصوم وخالية من المحددات التي تشير الى رأي المعصوم السابق حول حادثة او جزئية في موقف شرعي معين.
هذا وينبغي ان ندرك ان القرآن الكريم اشار الى تنوع اضطرادي وانعكاسي في السنن التاريخية والكونية التي عالجها ومن اهم هذه الانواع هي:
أ- السنن الارتباطية: …العنصر التاريخي فيها هو ربط العلل والاسباب… كما في قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف : 96] وقوله تعالى :{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة : 66] ب- السنن الحتمية: العنصر التاريخي فيها ربط العقل الجمعي بالمستقبل من خلال دالة الوعد كما في قوله تعالى :{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء : 58]..وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور : 55]…. وقوله جل وعلا :{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص : 5]
ت- السنن الاعتبارية: العنصر التاريخي فيها ربط العقل الجمعي بالماضي من خلال دالة العبرة كما في قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء : 11]..وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران : 137].. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم : 9] وقوله عز من قائل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد : 6]
ث- السنن الامتحانية: العنصر التاريخي فيها ربط الحاضر بالماضي من خلال دالة التمحيص المشترك كما في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة : 214].. وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف : 94]..
ج- السنن الانتكاسية: العنصر التاريخي فيها ربط الفهم المجتمعي بأسباب التراجع الحضاري كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص : 59] وقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف : 34] وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس : 49] وقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس : 24] وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل : 112]
والرابط المشترك بين كل هذه السنن هو تحديد دالة المثل الاعلى .. فالمثل الاعلى هو العنصر الخلاق الذي له الحق في وضع محددات الهوية التاريخية للحضارة وفق سياقات فكرية وايدلوجية وخارطة طريق منهجية .. فاذا ما اخطأت الامة تشخيص مثلها الاعلى او اضاعت بوصلة تحديده في مرحلة من المراحل فإنها ستبتلى بالارتباك والتداخل القيمي الناتج عن انتكاسة المعرفة وتحريف منطق الفهم.
اذن نفهم من ذلك ان اهم الاسباب التي تدخلت في نشوء الفكر الارهابي هو تضييع بوصلة القيم المعرفية اليقينية ومن ثم الركون الى مقتضيات الظنون والشبهات التي هي لواقح الفتن مما يستدعي تدخل السنن التاريخية ذات العلاقة بالدوال المرتبطة بنوع السلوك الأممي او النخبوي فتتداخل وقائع الامتحان والابتلاء بوقائع الانحراف والتراجع وكما روي عن النبي (ص)قوله: (كيفما تكونوا يولى عليكم).