الإمام علي [ع] والقضاء على الفقر

الإمام علي [ع] والقضاء على الفقر / الشيخ فارس الجبوري

الاجتهاد: من الرجال ما يصعب وصفهم والحديث عنهم، والاحاطة بشخصيتهم.. ومنهم من يبلغ الحديث عنه صعوبةً حد الاستحالة؛ لأنهم، وان كان الرجل منهم هو شخصاً واحداً،

إلا أنه بمواصفاته وامكاناته و روحه، يكون بمثابة أمة، بل أمم، فهو مجمع القيم المُثلى، وفي هؤلاء تتجلّى آيات الله في عظمة إلانسان ومنزلته.. ومن هؤلاء؛ إمامنا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، فكيف يمكن وصفه وهو القرآن الناطق؟ وكيف يوصف وهو القائل في حقه رسول الله صلى الله عليه وآله: «يا علي.. ما عرف الله إلا أنا و أنت، وما عرفني إلا الله و أنت، وما عرفك إلا الله وأنا».

ولا يسعنا في ذكرى ولادته العطرة، إلا أن نتحدث عن اشعاع بسيط من نور سيرته الوضاءة، وفي جانب وحقل من حقول الحياة، ألا وهو اهتمامه بفقراء المسلمين وتحسين معيشتهم ومواساتهم بماله، وبنمط حياته، وعدله بين الرعية في العطاء، راجين أن تكون هذه الإضاءات وسيلة لنا تساعدنا على تحقيق حلم الفقراء وجميع افراد المجتمع، بالقضاء على الفقر.. هذه الوصمة الاجتماعية السيئة، حيث يقول الحديث الشريف: «الفقر سواد الوجه في الدارين».

* العطاء العادل وسيلة القضاء على الفقر

انتهج أمير المؤمنين عليه السلام، سياسة اقتصادية تنتهي بالأمة الى العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، وتبعدها عن الفقر والمسكنة، من دون ظلم لأحد، ولا مصادرة مال أحد.

وقد بنى هذه السياسة على قواعد متينة منها: التساوي في العطاء، بعد ان طبق بعض ممن سبقه سياسة التمييز في العطاء، والتي أدت الى ظهور نمط فاحش من الطبقية، فقام إلامام عليه السلام، بإزالة هذه المشكلة، فوضع حلاً أساسياً للوضع الاقتصادي المتدهور، فاتبع سياسة سليمة في الحريات الاقتصادية والعطاء، وهي السياسة نفسها التي اتبعها من قبل، رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد بين أمير المؤمنين عليه السلام، فحوى ذلك في خطبة له عليه السلام: «ألا لا يقولن رجالٌ منكم غداً غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجروا الانهار وركبوا الخيول الفارهة واتخذوا الوظائف الروقة.. اذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه و أصرتهم الى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن ابي طالب حقوقنا، ألا أيما رجل من المهاجرين والانصار من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، يرى ان الفضل له على من سواه لصحبته، فان له الفضل النير غداً عند الله وثوابه و أجره على الله… فانتم عباد الله والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية لا فضل فيه لاحد على احد…». (بحار الانوار: ج32 /ص17 /ب1 /ح7).

* البدء بالأقرباء

من واجبات الحاكم ان يعدل حتى مع اقربائه و أصدقائه ومن هو منسوب اليه، فلا تفاضل بين الناس لأجل القرابة على حساب الحق، فقد روى هارون بن سعد ان عبد الله ابن جعفر بن ابي طالب عليه السلام، قال للامام علي عليه السلام: يا أمير المؤمنين لو أمرت لي بمعونة او نفقة فو الله مالي نفقة إلا ان ابيع دابتي؟ فقال الامام: «لا والله ما اجدلك شيئا إلا ان تأمر عمك يسرق فيعطيك» (بحار إلانوار: ج29 /ص479).

و أخرج الشيخ الجليل المفيد في «الاختصاص» حديثاً مطولاً جاء فيه: دخلت عليه اخته ام هانئ بنت ابي طالب فدفع اليها عشرين درهماً فسألت: مولاتها الأعجمية: كم دفع إليك أمير المؤمنين؟ فقالت: عشرين درهماً فانصرفت مسخطة. فقال لها علي: انصرفي – رحمك الله- ما وجدنا في كتاب الله فضلاً لإسماعيل على إسحاق. (الإختصاص: ص151)

و روى المؤرخون «انه بُعث الى أمير المؤمنين من البصرة من غوص البحر بتحفة لا يدرى ما قيمتها، فقالت له ابنته ام كلثوم: أتجمل به ويكون في عنقي؟ فقال عليه السلام، لخازن بيت المال أبي رافع: «يا ابا رافع ادخله الى بيت المال. ثم قال لابنته: ليس الى ذلك سبيل، حتى لا تبقى إمرأة من المسلمين إلا ولها مثل ما لك. (بحار إلانوار: ج40 / ص106 /ح117).

كانت هذه من السمات البارزة له عليه السلام، حتى ورد في عدد صفاته النادرة في بعض زيارته: «القاسم بالسوية والعادل بالرعية». (بحار إلانوار: ج97 /ص364 /ب5 /ح6). وعندما عارضه طلحة والزبير في سياسته الاقتصادية القائمة على المساواة في العطاء قال عليه السلام: فو الله ما انا و أجيري هذا إلا بمنزلة واحدة». (المناقب: ج2 /ص110).

فقد طبق عليه السلام، العدالة على نفسه وأسرته فقد ساوى بينه وبين افقر الناس في معيشته ومسكنه وكان يواسيهم،فعاش في بيت متواضع لايختلف عما يسكنه فقراء الأمـة،وكان ياكل الشعير الذي تطحنه زوجته او يطحنه بيده،وكان يجالس الفقراء وقد شابه في ملبسه افقر الناس فكان يلبس اخشن لباس وابسطه ومبدؤه في ذلك قوله: “… ألا وان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصية، … فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا ولا ادخرت من غنائمها وفرا ولا اعددت لبالي ثوبي طمرا ولا حزت من ارضها شبرا ولا اخذت منه إلا كقوت اتان دبرة…» (نهج البلاغة: الكتب: 45 من كتاب له الى عثمان بن حنيف إلانصاري)

* ممتلكات الحاكم

روي انه عليه السلام، خرج يوما الى السوق ليبيع سيفه فقال: من الذي يشتري مني هذا، فو الذي نفس علي بيده لو كان عندي ثمن ازار ما بعته» (بحار إلانوار: ج41 /ص136 /ب107)

وعن الأصبغ بن نباتة قال: قال علي: «دخلت بلادكم باشمالي هذه ورحلتي وراحلتي ها هي، فان انا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فانني من الخائنين». (المناقب لابن شهر آشوب:ج2 /ص98).

وعن ابي جعفر الباقر عليه السلام قال: «ولقد ولي أمير المؤمنين عليه السلام، خمس سنين وما وضع آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا اقطع قطيعا ولا أورث بيضاً ولا حمرا». (المناقب: ج2 /ص95)

وعن سويد بن غفلة قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام، يوماً وليس في داره سوى حصير صغير رث، وهو جالس عليه، فقلت يا أمير المؤمنين.. بيدك بيت المال ولست أرى في بيتك شيئاً مما يحتاج اليه البيت. انت ملك المسلمين والحاكم عليهم وعلى بيت المال وتأتيك الوفود، وليس في بيتك سوى هذا الحصير؟! فبكى عليه السلام، وقال: «يا سويد ان اللبيب لا يتأثث في دار النقلة، ولنا دار قد نقلنا اليها خير متاعنا، وإنا عن قليل اليها صائرون». (ارشاد القلوب: ج1ص /157 /ب48).

كل ذلك؛ وكان للإمام علي عليه السلام، وارد شخصي مما زرعه وغرسه يُقدر بحدود الف دينار من الذهب في العام، وكانت هذه إلاموال توزع بين المسلمين وفي سبيل الله، فما كان الامام يستلم من بيت المال شيئا وفي هذا عبرة ودرس للحكام في ان تكون رواتبهم ومميزاتهم بما يتناسب ووضع البلد، لا ان تفوق رواتبهم حتى رواتب وزراء ونواب البلدان الكبرى.

كما لم يكن الامام عليه السلام، يوفر المال لنفسه أو حتى لاحبته او لعماله او غيرهم، بل كان يقسمه بين جميع المسلمين. وقد ذكر الحَكَم: شهدت عليا عليه السلام، أتي له بزقاق من عسل، فدعا اليتامى، وقال: ذوقوا والعقوا، حتى تمنيت اني يتيم، قسمه بين الناس وبقي منه زق فأمر ان يسقاه اهل المسجد. (أنساب الاشراف، للبلاذري: ص136 /ح122).

* لا للمحسوبيات

لعل من ابرز المشكلات التي يعانيها مجتمعنا اليوم، وآفتنا الكبرى وخراب بلادنا تكمن في المحسوبيات والتي تؤدي الى وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، مما يؤدي الى خراب البلاد والعباد وشيوع الطبقية والفقر والحرمان، وهذا ما حاربه امامنا في حكمه اذ كتب عليه السلام، الى عامله مصقلة الشيباني، متوعداً إياه في شيء بلغه عنه: «بلغني عنك أمراً، ان كنت فعلته فقد اسخطت إلهك وعصيت امامك؛ انك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم و أريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من اعراب قومك.. ألا وان حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء، يردون عندي عليه، ويصدرون عنه». (نهج البلاغة، الكتب:43).

وهكذا مثلت سيرة أمير المؤمنين عليه السلام، الاسلام العظيم بكل ابعاده بعمق وشمول، وضرب الرقم القياسي، و أصبح انموذجا يُحتذى به، وينبغي بالحكام ان يسيروا وفق سيرته الوضاءة ويصححوا سياستهم وفق سياسته الرشيدة في كل الاصعدة، اذا ما ارادوا عمران بلدانهم والقضاء على الفقر والحاجة والعوز والحرمان.

 

المصدر: مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky