الاجتهاد: ولد الشيخ محمد علي المامقاني المعروف بـ الشيخ محيي الدين في الرابع من شهر صفر سنة 1341 هـ في النجف الأشرف في أسرة عرفت بالفقاهة والقداسة، فوالده آية الله العظمى الشيخ عبد الله المامقاني صاحب الكتب الموسوعية الكبيرة، وجده المباشر آية الله العظمى الفقيه الشيخ محمد حسن المامقاني (قدس سرهما).
توفي والده وهو في سن العاشرة من عمره، وقد ناله فقر شديد بعد ذلك بعد أن ترك له والده أربع أخوات ووالدة (إلا أنه لم يثنه ذلك عن مواصلة دربه في خدمة المذهب الحق والمتمثل بالمنهج الحوزوي الأصيل وعدم استبداله بما يوفر له الناحية المادية من فرص العمل المختلفة والمتنوعة آنذاك)
دراسته الحوزوية:
بدأ في سن مبكرة في دراسة العلوم الدينية، فدرس المقدمات على يد جملة من أفاضلها، ومنهم العلامة الشيخ صادق التنكابني والحجة الشيخ محمد علي المدرّس الأفغاني (قدس سره) ثم درس الرسائل والكفاية والمكاسب وشيئاً من الفلسفة على يد سماحة آية الله الشيخ عبد الحسين الرشتي (قدس سره) شارح الكفاية والذي كان من تلامذة الآخوند الخراساني (قدس سره).
كما أكمل الفلسفة على يد آية الله الشيخ فاضل اللنكراني الكاظمي (قدس سره) حيث أخذ عنده شرح المنظومة، وآية الله الشيخ صدرا البادكوبي (قدس سره) حيث أخذ عنده مقداراً من كتاب الأسفار.
ثم حضر الأبحاث العالية على جملة من أساطين الحوزة النجفية، وهم:
1-المرجع الكبير الفقيه المقدّس آية الله العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي (قدس سره) (المتوفى سنة 1382 هـ) حضر لديه في أبحاث خارج المكاسب.
2 -مرجع الطائفة آية الله العظمى السيد محسن الطباطبائي الحكيم (قدس سره) (المتوفى سنة 1390 هـ) حيث حضر عليه في العديد من أبواب الفقه على ضوء العروة الوثقى.
3- سماحة آية الله العظمى الميرزا باقر الزنجاني (قدس سره) (المتوفى سنة 1394 هـ) حضر لديه في علم الأصول.
وكان منذ شروعه في الدراسة الحوزوية يدرّس ما قرأه لجملة من التلاميذ من بعده، واستمر في ذلك حتى تمحض في تدريس المكاسب والرسائل والكفاية وشرح التجريد لسنوات عديدة. وشرع بعد إخراجه من النجف الأشرف واستقراره في طهران في تدريس خارج الفقه والأصول.
ثم إنه أعرض عن الإقامة في طهران واستقر في قم المقدسة وانكب على الكتابة والتحقيق –كما سيأتي- وترك التدريس.
مؤلفاته:
فقد المترجم له من هجرته من النجف الأشرف جملة من مؤلفاته وكتاباته.
ومؤلفاته على ثلاثة أقسام:
الأول: تقريرات دروس مشايخه.
الثاني: كتاباته الخاصة من تأليف وتحشية، وله من هذا القسم: حاشية كشف المراد، وحاشية فرائد الأصول، وحاشية مفصلة على مكاسب الشيخ الأعظم (قدس سره).
الثالث: تحقيقه وتعليقه واستدراكه على كتب والده العلامة المامقاني (قدس سره) وهي كالتالي:
أولها وأهمها: حواشيه على كتاب (تنقيح المقال في علم الرجال)، وطريقته في العمل في الكتاب هي جمع كل ما قيل في الراوي من كتب الفريقين الرجالية والتاريخية، وما جاء عنه في الروايات بحيث يجمع عن الراوي أكبر قدر ممكن من المعلومات، كل ذلك مع تمحيص وتحقيق، كما تعرّض لكثير من الإشكالات الموردة على المؤلف ممن تأخر عنه وأجاب عنها، ثم يذكر بعد هذا الجهد -من التتبع والدراسة- نتيجة البحث وما يصل إليه من تقييمٍ للراوي.
وهو بهذا الجهد قد أراح الباحث الرجالي عن التنقّل بين الكتب والتفتيش عن المعلومات، جزاه الله خير الجزاء.
يقول بعض أهل العلم: أضاف إليها الكثير الكثير مما لا تستطيع القيام به إلا المؤسسات القائمة على العمل الجماعي، وقد أدهش عمله كل من طالع الموسوعة في ثوبها الجديد، من حيث قوة التتبع والتدقيق وضخامة الاستدراك.
وقد أنجز (قدس سره) ثلاثين مجلداً ثم توفاه الأجل.
وكان كل ذلك بمشاركة ولده الشيخ محمد رضا المامقاني دامت بركاته، حيث كان المسؤول عن المستدركات غالباً، ولذا أمر بضم اسم ابنه من بعد المجلد العشرين من التنقيح، إلا أنه يُكتب إلا بعد وفاة الشيخ (قدس سره) في المجلد الثلاثين ولعله من باب التأدب من الشيخ مع والده.
ثانيها: تحقيق كتاب (مرآة الكمال لمن رام درك مصالح الأعمال) والتعليق عليه، فقد حقق مصادره وخرّج آياته وأحاديثه وذكر نصوص الأحاديث المنقول بعضها أو المنقولة بالمعنى أو المشار إلى مضمونها إجمالاً، وقد ذكر (قدس سره) في وجه ذلك: (كل ذلك لإتمام الفائدة ولأن في كلامهم (عليهم السلام) حلاوة وتأثيراً ليسا في غيره، ولا غرو فإن كلامهم فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق جلّ شأنه).
كما علّق عليه بتعليقات كثيرة مفيدة، وبعضها فقهية استدلالية موجزة، وقد ذكر في وجه ذلك: (ولما كان المرتوي من منهل هذا التأليف من مختلف مجتمعنا –ومنهم ذوو الفضيلة وأعلام الأمة- رأيت أن أعلّق على بعض الفروع الفقهية بذكر الأقوال فيها مع الإشارة إلى أدلتها إجمالاً وبيان الرأي المختار لدي مع الإشارة إلى الدليل، كل ذلك على طريق الإشارة والتنبيه لكي تتم الفائدة للمراجع ولا يخرج الكتاب عن موضوعه).
وقد صدر الكتاب في ثلاثة مجلدات.
ثالثها: تحقيق كتاب (مرآة الرشاد في الوصية إلى الأحبة والذرية والأولاد) والتعليق عليه. والعمل فيه كالعمل في الكتاب السابق، إلا أن التعليقات الفقهية نادرة بسبب قلة ما يقتضي ذلك في المتن.
وقد صدر الكتاب في جزء واحد.
كما قام بإعادة طبع بعض كتاب والده ككتاب تحفة الصفوة في أحكام الحبوة، ومناهج المتقين في فقه أئمّة الحق واليقين.
صفاته وأخلاقه:
يقول السيد أحمد الأشكوري حفظه الله ما ملخصه: كان يتقيّد في أحاديثه مع مجالسيه بالآداب الإسلامية والمقتضيات الاجتماعية، فلا يؤذي صاحبه ولا يقول ما يزعجه، متين يلتزم الوقار في سلوكه، لا يرفع صوته عند التكلم ولا يتسابق في الكلام، خطاباته مع المتحدثين معه مليئة بالعطف والتودد، تعلو أساريره البشر، صبور عند الشدائد فلا يشكو ولم يجزع إذا نزلت به الملمات بل يواجهها بسعة صدره ويتحملها بروحه الكبيرة وكأنه لم تصبه شدة ولا نالته معضلة.
كان حافظاً لكثير من الأحاديث والروايات التوجيهية المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يستشهد بها عندما يتحدث إلى من يحضر لديه وخاصة الشباب منهم. انتهى.
وقال الشيخ محمد هادي الأميني في معجمه: عالم جليل مجتهد محقق، من أساتذة الفقه والأصول، حفظ شؤون بيته وسار بسيرة والده، ويمتاز بسيرة حسنة وخلقه الرفيع إلى جانب وقار ورزانة وتواضع وورع وحلم….وفي عام 1391 هـ عند توخم السياسة الهوجاء في العراق ترك النجف … فتوجه إلى مدينة طهران وأقام بها فترة ثم توجه إلى بلدة قم وواصل فيها جهاده العلمي والثقافي، ولم يزل مجلسه موضع اختلاف العلماء والأفاضل في آناء الليل وأطراف النهار تتداول فيه مسائل علمية ومواضيع أدبية.
وقال أيضاً: كان من النفر الذين يعتمد عليهم السيد الحكيم ويشاوره ويأخذ برأيه في القضايا الاجتماعية والدينية. انتهى.
ويعجبني أن أقتطف مما كتبه أحد الفضلاء بعضَ اللمحات المشرقة من حياته (قدس سره) :
-كان رغم أتعابه وشيخوخته لا ينقطع عن زيارة السيدة المعصومة كل يوم ماشياً على قدميه، حتى أعجزه المرض في سنيه الأخيرة.
-كان آية من آيات التواضع التي قلَّ نظيرها، فقد تشرفتُ بزيارته عدة مرات، وكان يأبى إلا أن يهيأ الشاي بنفسه، ويقدمه للضيوف مباشرة من غير مساعدة أحد مهما كثر عدد ضيوفه.
-حضرتُ مجلسه الشريف عدة مرات، فما كان يطال أحداً بكلمة سوء أبداً، ولم أسمع منه في تلك الجلسات إلا ما يرضي الله تعالى، فهو حقاً كان مصداق العالم الذي تذكرك الله رؤيته .
– كان رغم شيخوخته مثال الهمة والنشاط في التتبع والتحقيق، فلا أتذكر أني دخلتُ عليه مرة – إذا كان بوحده – إلا والكتب والأوراق والقلم بين يديه، فكان يسعى بكل ما أُوتي من قوة لإنهاء عمله الموسوعي الكبير، وهو تحقيق وتتميم أكبر موسوعة رجالية عند الشيعة، المسماة ب (تنقيح المقال) التي هي موسوعة والده المعروف بالعلامة الثاني الشيخ عبد الله المامقاني (رضوان الله عليه).
– وإِنْ أعجبُ لشيء في حياة هذا الرجل، فلستُ أعجب إلا لبعدهِ عن كل مظاهر الدنيا وزخارفها، وترفعه عن بريق حطامها، رغم جميع ما كان يمتلكه من المؤهلات الكافية لوصوله إلى أعلى ما يريد غيره الوصول إليه من المواقع والمناصب .
حقاً لقد مات كما عاش طاهرَ الثوب نقيَ الذيل، فلم يعرف كبراً ولا حسداً ولا غروراً ولا حقداً ولا كسلاً ولا توانياً، بل كان رجلاً ملؤه التواضع والزهد والورع والتقوى والعلم وعلو الهمة ورفيع الأدب، لقد كان الرجل ملائكياً بكل ما للكلمة من معنى.
–من وصاياه: وصيته بالاستغاثة بالسيدة المظلومة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الحاجات الدنيوية من خلال المداومة على ذكر (يا مولاتي يافاطمة أغيثيني)، والاستغاثة بالإمام الحجة المنتظر (عجل الله فرج مقدمه الشريف) في الحاجات المعنوية والأخروية.
-لو أردتُ الحديث عن روحه الولائية وعمق علاقته بالمعصومين (عليهم السلام) فإنَّ القلم ينكسر عند ذلك، إذ الرجل لعمق علاقته بالسادة المعصومين (عليهم السلام) يُشعرك بقوةٍ بأنه مصداق كامل لمن خلقت طينته من طينتهم حتى أنك لو جعلتَ قلبه قرطاساً ودمه حبراً وعظمه قلماً، لم يقبل الأول ولم ينسكب الثاني ولم يكتب الثالث إلا حب أمير المؤمنين وعترته المعصومين (عليهم السلام) فحبهم قد خالط لحمه ودمه وعظمه وروحه، وبمقدار ذلك كان بغضه لأعدائهم (زادهم الله لعنةً وعذاباً)
فأنتّ دعكَ من التزامه بزيارة السيدة المعصومة (عليه السلام) كل يوم ماشياً على قدميه رغم شيخوخته وإنهاكه، ودعكَ من إقامته لعزاء سيد الشهداء (عليه السلام) كل ليلة جمعة، ودعكَ من التزامه بالحضور في كل مجلس عزاء حسيني يُدعى إليه، صغيراً كان أم كبيراً، من غير أن يرضى لأحدٍ أن ينوب عنه .
دعكَ من كل ذلك، مع أنَّ كل ذلك عظيم، وتعالَ إلى كلماته وألفاظه التي تجري على لسانه الشريف عند الحديث عن أئمته الطاهرين (عليهم السلام) فهو ينتقي أدق الألفاظ وأليقها بشأنهم وخصوصياتهم، ليشعرك ذلك بأنَّ حلاوة حبهم وولائهم تسيطر حتى على لسانه وأنفاسه، وإني لأتذكر – كشاهدٍ على ذلك – أنه كان لا يرضى لنفسه ولا لغيره، أن يعبّر عن سيد الموحدين ويعسوب الدين (عليه السلام) إلا بلقب (أمير المؤمنين)، وكان شديد التألم عندما يسمع شخصاً يذكر أمير المؤمنين بإسمهِ مجرداً عن كل ألقابه الإلهية .
عقبه:
اقترن بكريمة الحجة الجليل الشيخ محمد رضا كاشف الغطاء (قدس سره) وهو نجل الفقيه الشيخ هادي كاشف الغطاء (قدس سره) صاحب المقبولة الحسينية- وأنجب منها أربعة من البنين: الدكتور عز الدين، والشيخ محمد رضا دامت بركاته وقد ترجمتُ له ترجمة مفصلة منشورة فراجعها، والمرحوم حسين، وعبد الله.
وعدة إناث، منهن: عقيلة السيد محمد باقر الحكيم (ره) نجل مرجع الطائفة السيد محسن الحكيم (قدس سره) وعقيلة الشيخ عبد الرضا الكفائي حفظه الله وعافاه وهو حفيد المحقق، الخراساني (قدس سره) صاحب الكفاية.
وفاته:
ارتحل شيخنا المقدّس محيي الدين المامقاني إلى جوار ربه الكريم في السادس من شهر جمادى الآخرة سنة 1429 هـ في مدينة قم المقدسة بعد معاناة مع المرض، وقد شُيّع بعد تغسيله وتكفينه تشييعاً حافلاً جليلاً حضره الفقهاء والعلماء والفضلاء والمؤمنون وذلك من منزله إلى حرم السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) وصلى عليه المرجع الكبير آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني دام ظله الشريف.
وبعد إقامة مجلس الفاتحة ليلاً نُقل جثمانه إلى النجف الأشرف، ودُفن في جوار صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام) كميل بن زياد (ره).
وقد أرّخ رحيله العلامة الأديب السيد عبد الستّار الحسني (ره) بقوله:
حوزة العلم خبا مصباحها — واعترتها في انبلاج الصبح ظلمه
وبفقد (الشيخ) أرخّت: أجل — ثُلم الدين بمحي الدين ثلمه
فرحم الله من قرأ سورة الفاتحة وأهدى ثوابها إلى تلك الروح الطاهرة.
أعدّها: محمد جعفر الزاكي، وتمت مع التصحيحات عصر يوم الجمعة السادس من شهر جمادى الآخرة سنة 1444 هـ.
وقد تمت الاستفادة مما كتبه البحّاثة الجليل المحقق السيد أحمد الأشكوري حفظه الله.