نحو علم انسان اسلامي: ان الدعوة لـ(اسلمة المناهج العلمية) ليس بالأمر المستحيل ولا الصعب ولا البعيد المنال، لذا تعد الإنجازات العلمية للسيد محمد باقر الصدر(قدس سره) من الأسس الرئيسة في هذا المضمار، وقد تجلى ذلك واضحا في مؤلفاته فلسفتنا واقتصادنا، فضلا عن محاولات الشيخ مرتضى المطهري(رحمه الله) أيضا، ومن الواجب علينا ان نجعل من هذه المحاولات ركائز لحركة علمية هدفها (أسلمة العلوم والمعارف)
الاجتهاد: لا بدّ للباحث العلمي او من يريد تأصيل علم ما ان يراعي امورا عدة تمثل عقبات قد تقف في وجه التطور العلمي، وقد أسّس لهذه العقبات شريحة من (النخب المثقفة).
وقد انصبّ هذا الأمر في مجال (العلوم الإنسانية) على الوجه الأعم بقصد او من دونه، وهو أمر يحدث بدافع التقليد والتأثر بثقافة الأمم القوية، فضلا عن السلوك الذي تُحكَم به الأمم الضعيفة والمغلوبة حضاريا.
ومن هذه العقبات: يكون دافع التقليد في تبني أيديولوجيات غربية أو شرقية على اعتبارها حلولا جاهزة، ويتزعم هذه الايديولوجيات تياران رئيسان هما (التيار الماركسي) و(التيار الليبرالي)، ومن ثم يأتي المقلّد بشيء مقارب او موافق او مطابق لإحدى هذه الايدلوجيات وكأنه جاء بشيء جديد، في حين انه يضع حلولا ليس لها علاقة بواقع المشكلة، فـ(مما يؤسف له ان الكثير من النظريات والمفاهيم التي تولت دراسة مجتمعاتنا لم نقم بها، بل نعول فيها على غيرنا ومدارسنا التي تعتمد على الجاهز، وليس على توظيف رأس المال الحقيقي)(الاسلام والانثروبولوجيا، ابو بكر احمد باقادر: 40).
والنقطة الثانية هي مراوحة أو جمود (العالم) أو (المنظّر) أو (صاحب الاختصاص) او (المعلم والتدريسي) على المنهج الذي درسه نفسه، من دون ان يظهر أي عنصر ابداعي او تجديدي متمخض عن فهمه للعلوم التي نالها في وطنها الأم، لذلك يصبح أسلوب النقل والتفريع (الاجترار) من المدارس والنظريات الأخرى(القديمة)، وقولبتها في قوالب معدة مسبقا، هي في الحقيقة بعيدة كل البعد عن الواقع وعن التطور الزماني والمكاني والحضاري، فضلا عن عدم وجود تيار ثقافي يهتم بدراسة مُثل وقيم المجتمع الإسلامي الحقيقي، بل نرى استعمالا مفرطا للمناهج الغربية بما فيها من قيم وآراء بعيدة كل البعد عن واقع المجتمع الإسلامي ومبادئه وأسسه وأعرافه، بل ان هناك الكثير من الآراء، والمعتقدات الموجودة في المجتمع الغربي هي وليدة ظروف معينة لا يوجد لها مثيل او مطابق في مجتمعاتنا الإسلامية لكي نأتي بها.
المنهج العلمي الإسلامي:
ان الدعوة لـ(اسلمة المناهج العلمية) ليس بالأمر المستحيل ولا الصعب ولا البعيد المنال، لذا تعد الإنجازات العلمية للسيد محمد باقر الصدر(قدس سره) من الأسس الرئيسة في هذا المضمار، وقد تجلى ذلك واضحا في مؤلفاته فلسفتنا واقتصادنا، فضلا عن محاولات الشيخ مرتضى المطهري(رحمه الله) أيضا، ومن الواجب علينا ان نجعل من هذه المحاولات ركائز لحركة علمية هدفها (أسلمة العلوم والمعارف) وفي هذا الصدد لا بد لنا من ان نعلم بان (علم الإنسان الإسلامي) غير موجود في عالمنا واننا نفتقر الى دراسات رصينة في مجال (الانثروبولوجيا).
يقول الأستاذ تقي زاده مسؤول مركز الدراسات الشيعية: (ان مسألة المعتقدات مثلا تدرس، لكن باسلوب اجتماعي علمي بل في مضمار كلامي، وهنا يكمن النقص في ذلك، كذلك الحال بالنسبة للمطالعات في الفقه والحديث والفلسفة والعرفان، لكن هناك مجالات مفتقدة كعلم الاجتماع مثلا او علم الإنسان (الانثروبولوجيا) الشيعية فلا يوجد لها حيز في الحوزة اطلاقا، وليست الحوزة وحدها، بل في جميع مؤسسات البلد، وبعد عامين أو أقل وصلت الى نتيجة تقول: انه لا يوجد أي بلد يمارس هذا العمل اساسا)(مجلة المنهاج، العدد 39).
فالواجب على اصحاب الاختصاص واصحاب القرار ان يقدموا علم انسان اسلامي من خلال النظرة الإلهية لهذا الكائن، والمتجسدة بكتاب الله القرآن الكريم، وعلى علماء الإنسان المسلمين ان يقدموا هذا العلم بنظرة ومنهجية قرآنية، قوامها تكريم الإنسان ورفع مكانته، فهو خليفة الله في ارضه وحامل الأمانة الإلهية، وسيد جميع المخلوقات والمتسلط على جميع الموجودات.
ويعد علم الإنسان من الأدوات المهمة في دراسة المجتمع الإسلامي فيمكن لهذا العلم ان يقدم المساعدة الكبيرة في فهم المشكلات الاجتماعية وانعكاساتها على الجوانب الأخرى ووضع الحلول لها.
مكامن خطر الأنثروبولوجيا:
نرجع ونقول ان علم الإنسان «الانثروبولوجيا» لم يلقَ الاهتمام في الدوائر العلمية والبحثية العربية كما هو الحال في المؤسسات العلمية الغربية وباحثيها، سواء في البحوث الميدانية التطبيقية ام في الدراسات الأكاديمية الفلسفية والنفسية والتربوية.
إن نظرية النشوء والارتقاء وكون «الانثروبولوجيا» أداة من الأدوات المهمة التي خدمت الاستعمار في طريقه التوسعي وأسباب اخرى هي التي شكلت الحساسية من هذا العلم، لذا فلا بد من ان يدرس الإسلام في المجتمع العربي باعتباره موضوعا للمعرفة «الانثروبولوجية»، وأنه تراث متعدد الأوجه يرتبط بترسيخ الأخلاق في النفوس، بتلاؤم الناس او اختلافهم وبانتاج معارف مناسبة.
ان مجال علم الانسان «الانثروبولوجيا» واسع سعة الحياة، ويشمل الكثير من مظاهر الحياة الفكرية باتجاهاتها وتياراتها ومذاهبها العديدة، وهو الأمر الذي لم يفهمه الكثيرون من «الانثروبولوجيين» في العالم العربي، ممن ضاقت افكارهم بحيث انحصرت في عدد من الموضوعات التقليدية لا يكادون يخرجون عنها، دون أن يجدوا في انفسهم الجرأة الكافية على ارتياد ميادين المعرفة المتباينة، وقد يكون ذلك راجعاً الى ضعف في الإعداد العلمي والتكوين الثقافي، وعدم ادراك مدى اتساع البحث، ولكنه يرجع ـ بلا شك ـ وفي المقام الأول الى قصور في ملكة التخيل والى الخوف من المبادرة.
وعلى الرغم من اعتراف بعض مفكري أوربا بتأثير التراث الحضاري العربي الإسلامي في الحضارة الغربية، الا انه ساد اتجاه منكر لهذه الحقيقة التاريخية من خلال السعي نحو طمسها او التقليل من شأنها، وقد دعمت هذا الاتجاه حركة الاستعمار الأوربي للعالمين العربي والإسلامي، مؤكدا عجز العرب والمسلمين عن الابتكار والابداع، والإسهام في ركب الحضارة الإنسانية، لتثبيت فكرة أن التغريب أمر ضروري لمواكبة تطورات العصر الحديث.
وهذا ما يؤكده أستاذ التاريخ العالم الانكليزي(ج. هرنشو): (فكذلك الصليبيون، خرجوا من ديارهم لقتال المسلمين فإذا هم جلوس عند اقدامهم يأخذون عنهم أفانين العلم والمعرفة..) (علم التاريخ، هرنشو: 31).
ومن كل ما تقدم فلا بد لنا من العمل على صياغة وتأسيس علم للإنسان اسلامي بامتياز، يكون بعيدا عن المؤثرات السلبية ونابعا من رحم الدين الإسلامي الأصيل، اساسه القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، والتطبيق العلمي لحياة المعصومين (عليهم السلام).
المصدر : مجلة الولاية – تصدر عن العتبة العلوية المقدسة – العدد 79