تتوالي ردود الفعل الغاضبة علي مؤتمر جروزني لتعريف «أهل السنة والجماعة»، والذي حصرهم في مذاهب الفقه الأربعة «المالكية والشافعية والحنيفية والمعتدلين من الحنابلة»، بالإضافة إلي الأشاعرة والماتريدية وأهل التصوف.
موقع الاجتهاد: جاء الهجوم من جانب الجماعات السلفية، التي رأت أنه تم إقصاؤها من أهل السنة والجماعة، وهو بالفعل ما ذكره المؤتمر في بيانه، الذي أعلن فيه أن المؤتمر نقطة تحول مهمة وضرورية، لتصويب الانحراف الحاد والخطير الذي طال مفهوم أهل السنة والجماعة، إثر محاولات المتطرفين استغلال هذا اللقب الشريف، وقصره علي أنفسهم وإخراج أهله منه.إن المؤتمر قد أعلن القطيعة مع الجماعات المتطرفة، ورفض أن تختطف هذه الجماعات «أهل السنة» وأن تدعي تمثيلهم، وهو ما أكده شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الذي قال إن مفهوم «أهل السُّنَّة والجماعة» الذي كان يدور عليه أمرُ الأمَّة الإسلامية قرونًا متطاولة – نازعته في الآونة الأخيرة دعاوي وأهواء، لَبِسَتْ عِمَامَتَهُ شكلًا، وخرجت علي أصوله وقواعده وسماحته موضوعًا وعملًا، حتي صار مفهومًا مضطربًا، شديد الاضطراب عند عامة المسلمين، بل عند خاصتهم ممن يتصدرون الدعوة إلي الله، لا يكادُ يبِينُ بعضٌ من معالِمِه حتي تَنْبَهِم قوادِمه وخَوَافِيهِ، وحتي يُصبِحَ نَهْبًا تتخطَّفُه دعواتٌ ونِحَلٌ وأهواء، كلُّها ترفع لافتة مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، وتزعم أنها وحدَها المتحدث الرسمي باسمه.. وكانت النتيجة التي لا مفرَّ منها أنْ تمزق شمل المسلمين بتمزق هذا المفهوم وتشتُّتِه في أذهان عامتهم وخاصتهم، مِمَّن تصدَّروا أمر الدعوة والتعليم، حتي صار التشدُّد والتطرُّف والإرهاب وجرائم القتل وسَفك الدِّماء.
هذا هو جوهر الخلاف والسبب الرئيسي في الهجوم الذي يقوده السلفيون علي المؤتمر، والذين سعوا إلي الزج بالمملكة العربية السعودية في المعركة، وقالوا إنها المستهدفة من المؤتمر، الذي سعي إلي إقصاء السلفية، مستشهدين بدعوة المؤتمر لعدد محدود من علماء المملكة، الذين لا يمثلون المؤسسات الشرعية فيها.
لم يتوقف الهجوم علي المؤتمر عند هذا الحد، بل جري وصفه بالمؤامرة السياسية من جانب الرئيس الروسي بوتين، ودليلهم هو عقد المؤتمر في جروزني عاصمة الشيشان، وهي إحدي جمهوريات الاتحاد الروسي، والتي شهدت قتالا بين السلفيين الشيشان والقوات الروسية.الهجوم الذي قاده السلفيون يعمق القطيعة بين السلفيين والمذاهب الفقهية السنية التي حددها المؤتمر، خاصة أن بعضهم سارع بالهجوم علي هذه المذاهب الفقهية، بل كادوا يكفروها، وجاء الهجوم الأعنف من بيان منسوب للدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة أم القري، وتضمن هجوما عنيفا علي عدد من شيوخ الأزهر السابقين.
إن التعريف الذى جاء به مؤتمر جروزني لأهل السنة والجماعة ليس جديدا، وهو نفس التعريف الذي جاء في الموسوعة الحرة «وكيبيديا»، لكن السياق الذي عقد فيه المؤتمر أعطاه تلك الأهمية، فهو يأتي في أتون حروب تحمل راية الإسلام، وتمتد من العراق وسوريا وليبيا واليمن، ولا تكاد تخلو منها أي دولة عربية أو إسلامية، بل وصل شظاها إلي أوروبا ومختلف قارات العالم، وهو ما أثار ردود فعل عنيفة، وكانت أحد أسباب حالة «الإسلامفوبيا» التي أصابت الغرب، وربطت بين الإسلام وتلك التفجيرات والحروب العنيفة، والتي لا يخفي علي أحد أن أصابع دول أجنبية عديدة تحركها لتحقيق أهداف سياسية، والتي كانت أبرز تجلياتها في ظهور تنظيم القاعدة، ودورها في حرب أفغانستان.
وسبق لأعداد كبيرة من رموز المؤسسات الدينية الإسلامية أن أدانت الإرهاب الذي ترتكبه الجماعات المتطرفة المنسوبة إلي الإسلام، والتحذير من خطورة أفعالها علي صورة المسلمين، وتأجيجها للحروب المذهبية والطائفية، فهل ينجح مؤتمر جروزني في وقف كرة النار المتدحرجة، والتي أشعلت المنطقة وتهدد العالم؟…
يمكن أن يقود مؤتمر جروزني إلي حوارات جدية وعميقة تناقش أفكار الجماعات المتطرفة، وأن تبحث في الخلافات بين السلفيين وباقي المذاهب الفقهية، وما يستحق المراجعة والتفنيد والبحث، وأن يكون بداية جديدة للحد من هذه الموجات المتلاحقة من أعمال العنف ذات الطابع الديني، والتي يمكن أن تستمر عجلتها الجهنمية في الدوران لتحرق الأخضر واليابس، لكن ردود الفعل الأولية حول المؤتمر لم تكن هادئة، وإن كان السلفيون يعتبرونه إقصاء لهم من أهل السنة والجماعة، ألا يسألون أنفسهم عن تلك الفروق بينهم وباقي المذاهب الفقهية؟ وهل هم من ذهبوا بعيدا عنها، وحرصوا علي التميز والانفصال والابتعاد عن هذه المذاهب الفقهية، وإن كان جوابهم بالإيجاب، وأن لديهم من الخلافات معها ما يستوجب هذا التميز والابتعاد فهذا يعني أنهم المسئولون عن هذا الانفصال أو الإقصاء، وإن كان جوابهم بالنفي، وأن ليس لديهم خلافات كبيرة مع تلك المذاهب الفقهية فهذا يعني أنهم منها وهي منهم، ولا داعي لكل هذه الضجة والغضب.
مهما تكن التداعيات الناجمة عن عقد مؤتمر جروزني، فإنه وضع يده علي جرح نازف، وحان الوقت لمناقشة العلاقة التي تربط بين الجماعات المتطرفة والإسلام، حتي نتوصل إلي طريق للعلاج، وإن كان هناك من لا يريدون العلاج، بل يسعون إلي زيادة مضاعفات المرض، وتوسيع نطاق انتشاره.ت
هكذا جاء مؤتمر جروزني ليلقي بحجر ثقيل في بحيرة تعج بالخلافات والصراعات التي أخذت طابعا دينيا، لتطفو علي السطح تساؤلات تستحق المناقشة، وأهمها استدعاء التراث.