الاجتهاد: من الأُمور المهمّة في بحث مجالس العزاء العلمائية هو معرفة الأهداف والدوافع التي دعت هؤلاء العلماء الأعلام إلى أن يُولوا مجالس العزاء الحسيني العناية الفائقة، مع كثرة أشغالهم ووظائفهم التي تفرضها عليهم مكانتهم وزعامتهم الدينية، ولا شكّ في أنّ هناك أهدافاً قد حقّقها علماؤنا من خلال مجالس العزاء الحسيني، التي كان لهم دور كبير في إقامتها.
خلاصة المقال: تناول الباحث في هذا العنوان موضوع مجالس العزاء الحسيني التي يكون المحور فيها ـ بشكل أو بآخر ـ مراجع الدين أو المجتهدين من علمائنا الأعلام، وقد تكوَّن بحثه من مقدمة وثلاث جهات، تحدّث في المقدمة عن أزمة ابتعاد الناس وعدم انفتاحهم على الحقائق الدينية، والتي من أبرزها وضوحاً هو غياب حقيقة المجالس الحسينية عن أذهان الكثير مع شفافيتها وظهورها لكل مَن أراد التعرّف عليها، تلك الأزمة التي ولدت فجوة كبيرة بين الإنسان وبين ربّه.
وبعد هذه المقدمة قسّم بحثه إلى ثلاث جهات مهمّة دخيلة في الإجابة والبرهنة على فرضيات البحث، وهذه الجهات هي:
الجهة الأُولى: هوية مجالس العزاء العلمائية، وقد تناول فيها الانطباقات الثلاثة التي يشملها العنوان وتنساق إلى ذهن القارئ، والتي تتلخص في: تصدي العلماء والمجتهدين لقراءة المجالس الحسينية بأنفسهم، وإقامة مجالس العزاء الحسيني في بيوتهم ومكاتبهم، والحضور في المجالس مع سائر أفراد المجتمع كسائر أفراد الجمهور المتلقّي
وأمّا الجهة الثانية: فقد خُصصت لبيان الدوافع والأهداف التي دعت هؤلاء الأعلام للتصدي لهذه المهمّة مع كثرة انشغالاتهم وتشعب مهامهم الدينية، فوُجِدَت من الأهداف والدوافع ما كان أُخروياً، ومنها ما كان اجتماعياً ومساهماً في ترشيد المجتمع.
لينتهي البحث في الجهة الثالثة إلى معرفة النتائج والآثار المترتبة على تلك المجالس التي تقوّمت بهذا النوع من الحضور النوعي، وقد ذكر الباحث أنّ النتائج التي ترتّبت جديرة بالاهتمام وكثيرة، إلّا أنّ من أبرزها: تصحيح مسار الخطابة الحسينية، وتقديم الخطباء الأكفاء إلى الجمهور الشيعي، ورسوخ المجالس الحسينية في نفوس الجماهير، وضمان الديمومة والاستمرارية لمجالس العزاء الحسيني.
وقد ختم بحثه بتوصية مقترحة لتطوير الفكرة، وتوسعة الموضوع الذي تناوله ليشمل المجالس الحسينية التي يقيمها أو يشارك فيها ممثلو المرجعية الدينية ووكلاؤها ومعتمدوها.
مقدمة
على الرغم من أنّ العصر الذي نشهده هو زمن التطوّر التكنلوجي، وسهولة تحصيل المعلومات المعرفية بطرق وسبل متنوّعة، إلّا أنّنا نعاني من عدم انفتاح الآخر على الحقائق الدينية، التي تُعدّ المفاتيح الأساسية للتعرّف على مناشئ وجذور الأعمال والسلوكيات المنتمية إلى الدين؛ إذ ما زال الكثير من الناس يعيش حالة من الابتعاد عن الحقائق المهمّة التي تكوِّن الجسم المتكامل للدين، ويشكو من الضبابية والغموض في معرفته لبعض الحقائق الدينية الواضحة، وجهله لبعضها الآخر الذي تتوقف معرفته على النظرة المتأنّية، والإحاطة بالجوانب الدخيلة في تفسيرها، فضلاً عن بعض الزوايا والجزئيات المرتبطة بكثير من العبادات والمعاملات، التي اقتصر على معرفة أصل مفهومها فقط، وهو مع ذلك يفسح المجال لنفسه للمناقشة فيها وفق رؤيته غير المكتملة.
ومن بين الحقائق الدينية التي أسهمت عوامل متعدّدة في تغييبها لدى بعضهم هو ما يرتبط بمجالس العزاء الحسيني ـ المفردة التي أُدرجت في عنوان بحثنا ـ إذ مع علنيّتها وبروزها لكلّ مَن أراد الاطّلاع على حقيقتها ـ نتيجة للشفافية التي تمتاز بها مفردات المراسم الحسينية بكلّ أنواعها ـ نجد أنّ عدم اكتمال صورتها لدى العديد من الباحثين قد انعكس في تصويره لها حينما عُني بدراستها وتوصيفها في بعض مؤلّفاته[1]؛ بل وُجِدَتْ جذور هذا التهريج والتشنيع على مَن يُقيم المجالس الحسينية في الأزمنة المختلفة[2]؛ الأمر الذي اضطرّ علماءنا إلى التصدّي لبيان مواضع الخلل في تلك التوصيفات المشوّهة، وإثبات عقلانية هذه الحقائق، فضلاً عن مشروعيّتها، وتأكيد استحبابها، وترتّب الآثار الدنيوية والأُخروية الكثيرة عليها[3].
وتبدو الصورة أكثر وضوحاً للقارئ الكريم فيما لو سلّطنا الضوء على المجالس الحسينية لدى العلماء، أو ما عبّرنا عنه في عنوان بحثنا بـ: (مجالس العزاء العلمائية)؛ إذ إنّ هذه النقطة المهمّة والمحورية في مجال العزاء الحسيني لم تلتفت إليها الغالبية العظمى من الباحثين الذين كتبوا عن ذلك، فضلاً عن عامّة الناس، مع أنّ إبرازها للقارئ وتوضيح معالمها يُسهم إسهاماً كبيراً في معرفة الدور الكبير الذي يقوم به علماؤنا الأعلام في إصلاح الجوانب المحورية للمنبر الحسيني، والأثر الملموس في ديمومة نهضة سيّد الشهداء(عليه السلام) وحفظها في نفوس الجمهور.
الموضوع
إنّ فرضية البحث تبتني على أنّ مجالس العزاء الحسيني قد حظيت بعناية خاصّة وفائقة من قِبل مراجع الدين والعلماء المجتهدين؛ إذ تصدّوا لها، وتولّوا شؤونها بأنفسهم، وهو ما يبرهن على اهتماماتهم البالغة بهذا النمط من المراسم الحسينية أكثر من غيرها، مع إيمانهم بمشروعية معظم النماذج الأُخرى التي شاركوا في بعضها أيضاً، وحثّوا مقلّديهم عليها.
كما أنّ هناك فرضيّتين أُخريين ترتبتا على ما تقدّم، وهما: وجود أهداف ودوافع دعت علماءنا ومراجعنا إلى القيام بهذه الممارسة الهادفة، وأنّ هذه المجالس العلمائية قد حقّقت نتائجها وأعطت ثمارها بالشكل الذي خُطِّط له من قِبَلهم.
وقد تألّف بحثنا من عدّة مسائل دخيلة في معرفة مدى صحّة الفرضيات التي ذُكرت سلفاً، أو أنّها مبتنية على مقدّمات خاطئة لا بدّ من إعادة النظر فيها؛ إذ لا بدّ من تناول المعنى الذي أُريد في هذه الفرضية، والدوافع التي دعتهم إلى ذلك، على أنّ معرفة الآثار والنتائج المترتّبة على هذه المجالس لا تقلُّ أهمّيتها عن معرفة الأهداف والدوافع، إن لم نقل: إنّها تفوقها بكثير؛ ولذا فقد انتظم البحث في جهات، سنذكرها في الصفحات الآتية:
الجهة الأُولى: الصدق المفهومي لمجالس العزاء العلمائية
إذا كان للمفردة التي يراد بحثها أكثر من معنى ينساق إليه ذهن القارئ أو (المتلقّي) حينما يواجه هذه المفردة؛ فمن المتحتّم جدّاً ـ ومن الأساسيات المهمّة في واجهة البحث ـ تحديد النقاط المراد تسليط الضوء عليها، وبما أنّ موضوع بحثنا يحمل هذه الخصوصية؛ فسنتناول الانطباقات المتوقّعة والمرادة في بحثنا هذا، وهي:
الانطباق الأوّل: تصدِّي العلماء لقراءة المجالس العزائية
لم تكن مهمّة قراءة المجالس الحسينية في بداية انطلاقها موكولة إلى طلاب العلوم المنتسبين إلى الحوزات الدينية، فضلاً عن علمائها ومراجعها؛ بل كان الباب مفتوحاً أمام كلّ مَن أراد أن يكون ناعياً للحسين(عليه السلام) وأهل بيته، على المصيبة التي حلّت بهم، وبيان مظلوميتهم؛ ولذا فقد تصدّى لهذه العملية بعض الأشخاص الذين يجيدون نظم الشعر وإلقاءه، أو الذين حفظوا المقطوعات الشعرية والنثرية، بالإضافة إلى النصوص التاريخية المرتبطة بواقعة كربلاء الدامية، وغير ذلك من النصوص التي تساعد في استدرار الدموع[4].
وكانت هذه الشريحة من القرّاء تُعرف بـ (النائحين)[5]، أو (المنشدين)[6]، فقد تعارف في ذلك الزمان إنشاد الشعر على سيّد الشهداء(عليه السلام)[7]، وفي العرف الحوزوي ـ في بعض عصورنا المتأخّرة وفي بعض البلدان ـ بـ(روضه خوان)[8] أو (قارئ العزاء)، وغير ذلك من المسمّيات،
إلى أن تطوّرت المجالس الحسينية، وأصبحت متطلّبات القراءة فيها تستلزم أن يكون القارئ قد اجتاز بعض المراحل العلمية في المجال الديني؛ نتيجة لمتطلّبات العصر، وضرورة المواكبة، إلى جانب الاعتراضات التي وجّهها علماؤنا إلى الأُسلوب التسطيحي ـ الذي يستخدمه بعض الخطباء المنبريين ـ في تعريف نهضة سيّد الشهداء(عليه السلام) للجمهور[9].
حينها تصدى بعض أفراد الحوزة العلمية الذين قطعوا شوطاً طويلاً في تحصيل العلوم الدينية داخل الأروقة العلمية الحوزوية، وأمسكوا بأيديهم زمام المبادرة، ليُحدثوا نُقلةً نوعيةً في تاريخ المنبر الحسيني، كما أنّهم ـ في الوقت ذاته ـ عملوا على تنشئة جيل جديد من الخطباء الذين يحملون مواصفات الخطيب الحسيني الناجح، من خلال إعداد تلامذتهم المؤهّلين للقيام بهذه المهمّة الصعبة وفق الآليات والوسائل المحدودة آنذاك[10]، وكلّ ذلك كان نتيجة طبيعية ومتوقّعة للأصوات التي علت لإصلاح واقع المنبر الحسيني.
إلّا أنّ اللافت للنظر والجدير بالاهتمام أن يجد القارئ أنّ طيفاً من علمائنا الأعلام والمراجع والمجتهدين ـ الذين حازوا على مرتبة الاجتهاد، واشتغلوا بتدريس البحث الخارج ـ قد انضمّوا إلى قافلة قرّاء المجالس الحسينية؛ واشتُهروا بارتقائهم المنبر الحسيني في المواسم التبليغية، أو المناسبات الدينية المهمّة، وقد تركت شخصياتهم التحقيقية والعلمية أثرها الواضح في المجالس التي يلقونها على الجمهور، كما أنّ لدخولهم في هذا السلك الصعب أثره البالغ في تصحيح مسار المنبر الحسيني، ورسوخ الكلمة التي نطقوا بها في نفوس المتلقّين.
ونحن في الوقت الذي نصدّر هذه النقطة بالعنوان المذكور آنفاً، ننوّه إلى أنّنا لا نهدف إلى الانتقاص من سائر الخطباء الذين لم يصلوا إلى مرتبة الاجتهاد، والتقليل من شأنهم العلمي والتحقيقي، كما أنّنا لا نريد أن نصادر جهودهم وإسهاماتهم القيّمة في تحقيق نتائج مهمّة خلال مسيرتهم الطويلة في الطريق المبارك؛ فإنّ منهم مَن وصل إلى مستويات عالية، ومراحل متقدّمة في التحقيق والتأليف، وبقيَ منشغلاً بتدريس مراحل السطوح والسطوح العليا ـ كما يصطلح عليه في الحوزة العلمية ـ وإنّما سلّطنا الضوء في حديثنا على العلماء الذين لم يتركوا مهمّة قراءة المجالس الحسينية رغم انشغالهم وتصدّيهم للإفتاء، أو تدريس البحث الخارج لطلاب العلوم الدينية؛ لمِا لهذا الإسهام القيّم من تأثير مضاعف في نفوس الجمهور.
ولذا نبيّن للقارئ الكريم أنّ مقصودنا من مفردة العلماء في هذا العنوان هو مَن وصل إلى مرتبة جعلته في مصافّ مراجع التقليد، ومتصدّياً للإفتاء، أو حصل على مرتبة الاجتهاد، وأصبح من العلماء البارزين في الأوساط الدينية، واشتغل بتدريس وتأهيل طلبة العلوم الدينية في دروس البحث الخارج، وهو لم يزل يحرص على قراءة المجالس الحسينية.
وهذا المعنى الذي ذكرناه من أوضح المعاني المنساقة إلى الذهن عند مطالعتنا لعنوان البحث؛ إذ يُفهم منه أنّنا في صدد التعريف بالمجالس الحسينية التي يقرأها العلماء الذين توافرت فيهم الخصائص المتقدّمة.
وقد حفظ لنا التاريخ قائمة كبيرة بأسماء العلماء والفقهاء الذين عُرفوا بارتقائهم المنابر لقراءة المجالس الحسينية، أو مقتل الإمام الحسين(عليه السلام)[11] ـ إلى جانب الإسهامات المنبرية الأُخرى التي قاموا بها، كنظم الشعر الحسيني، وكتابة المواضيع التحقيقية التي ترفد الخطيب بالمادّة العلمية التي يريد إلقاءها على الجمهور ـ إلّا أنّنا نهدف في هذه النقطة إلى العلماء الذين قرأوا المجالس الحسينية، وعُرفوا في الأوساط الحوزوية بهذه الوظيفة السامية،
وبما أنّ ذكر أسمائهم هنا يخرجنا عن الاختصار؛ فإنّنا نكتفي بذكر عيِّنات ونماذج من بعض علمائنا الماضين (قدّس الله أسرارهم)، ومن المعاصرين أيضاً:
1ـ فمن أبرز العلماء الذين اشتُهروا بالخطابة الحسينية والوعظ والإرشاد هو آية الله الشيخ جعفر التستري، فقد ذكر العلّامة الأمين(رحمه الله) أنّه: «كان عالماً من أعلام العلماء، فقيهاً، واعظاً، له شهرة واسعة، واشتُهر بالوعظ والخطابة، وكانت تجتمع الأُلوف تحت منبره لسماع مواعظه… [مع أنّه كان:] رئيساً مطاعاً، مرجعاً في التقليد والأحكام، وكتب رسالته المعروفة بمنهج الرشاد بالفارسية، وأخذ في الوعظ في شهر رمضان وغيره، ونبغ في ذلك؛ بحيث لم يُعهد له نظير، وترتّب على وجوده آثار جليلة»[12].
2ـ وأمّا العلماء المعاصرون الذين ننعم ببركات وجودهم وفيوضاتهم، فمن أبرزهم آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني (دامت بركاته)؛ إذ بقيَ سماحته مواظباً على قراءة مجالس العزاء الحسيني طيلة السنين التي أنعم الله تعالى بوجوده على الأُمّة الإسلامية، وقد نتج عن خطابته الحسينية أن تمّ طبع محاضراته القيّمة ضمن مجموعة من الكتب القيّمة،
من بينها كتاب: (مصباح الهدى وسفينة النجاة)، وقد احتوى على سبع وعشرين محاضرة موجِّهاً خطابه فيها إلى: «… علماء الحوزة العلمية وفضلائها، بما فيهم أساتذة الدراسات العليا والفقهاء والمجتهدون؛ من هنا جاءت بعض المطالب متناسبة في بيانها مع هذا المستوى من المخاطبين»[13]، يتحدّث فيها عن مقامات الإمام الحسين(عليه السلام) ومنزلته، وبعض الجوانب المهمّة في معرفة الإمام الحسين(عليه السلام).
3ـ ومن أبرز العلماء المعاصرين ـ الذين عُرفوا في الساحة الخطابية ـ أُستاذنا العلّامة الحجّة آية الله السيّد منير القطيفي الخبّاز (أطال الله في بقائه)؛ فقد عُرف سماحته بقراءة مجالس العزاء والخطابة الحسينية، وما زال مستمراً في نشر فكر أهل البيت(عليهم السلام) عن طريق منبر سيّد الشهداء (سلام الله عليه) بأُسلوبه العلمي، وقراءته المتأنّية للمعارف الدينية، فيقدّمها للمتلقّي بأُسلوبه المفهوم، وبيانه السهل الممتنع، مستثمراً في ذلك المناسبات الدينية التي ينتشر فيها المبلِّغون في البلدان الكثيرة.
الانطباق الثاني: مجالس العزاء الحسيني المقامة في بيوت العلماء
إنّ إصرار مراجع الدين والعلماء المجتهدين وحرصهم على إقامة مجالس العزاء في بيوتهم ـ أو تخصيصهم مكاناً مستقلاً لإقامة العزاء الحسيني ـ بات من الوضوح بمكان لدى كلّ مَن له اهتمام ومتابعة للسيرة الذاتية لعلمائنا الأعلام،
وقد وثّق بعض الباحثين جملة من المجالس الحسينية التي يُقيمها هؤلاء المراجع والعلماء الربّانيون على مدار أيّام السنة، وتحديداً في كلّ أُسبوع مرّة؛ فذكر المجالس التي كان يقرأها بعض الخطباء قائلاً: «وحدّثني ـ وكتب إليَّ في أوليات ترجمته ـ بأنّه كان يقرأ أُسبوعياً في بيوت المراجع ومجالس العلماء، وكان من أبرزها: مجلس المرحوم الميرزا عبد الهادي الشيرازي، مجلس المرحوم السيّد عبد الله الشيرازي، مجلس المرحوم السيّد محمود الشاهرودي، مجلس المرحوم الشيخ آقا بزرك الطهراني، كما قرأ مقدّمة للسيّد كاظم القاضي في دار السيّد الحكيم، بمناسبة شهر رمضان المبارك لعامين متتالين»[14].
كما أنّ بعض العلماء الذين عُرفوا باهتمامهم بمجالس العزاء قد سُجِّل لهم حرصهم على إقامة العزاء في المناسبات المختلفة كافّة مع كثرتها[15]، فضلاً عن مجالس علمائنا المعاصرين الذين حضرناها بأنفسنا في مدينة النجف الأشرف، وهي كثيرة جدّاً.
ونتيجة لكثرة مجالس العزاء العلمائية التي يُقيمها علماؤنا الأعلام في بيوتهم ـ ولشدّة إصرارهم على إقامة العزاء الحسيني ـ فقد توزّعت مجالسهم الحسينية في أوقات مُعيّنة لا يتصادم بعضها مع بعض، كما شهدنا هذا الانتظام في المجالس التي يُقيمها علماؤنا المعاصرون (أطال الله بقاءهم) في النجف الأشرف[16]،
وبعد التتبّع والسؤال عن بعض هذه المجالس الحسينية العلمائية، وجدنا أنّ جذورها ممتدّة إلى أزمنة بعيدة لمراجعنا الماضين (قدّس الله أسرارهم)، وقد حرص العلماء من أبنائهم أو أحفادهم على إحياء ما غرس بذرته الآباء العظماء إلى يومنا هذا[17].
الانطباق الثالث: مجالس العزاء الحسيني التي يحضرها العلماء
بقيت لنا صورة أُخرى يتجلّى العنوان فيها، وينطبق عليها، وإن لم يكن بذلك الوضوح والانطباق الذي تقدّم في النقطتين المذكورتين آنفاً، إلّا أنّ الخواص المشتركة في بعض الجوانب التي كُتب البحث من أجلها ـ وهي تحقّق الأهداف والنتائج ـ جعلنا نسوّغ لأنفسنا ذكرها هنا؛ إذ إنّ حضور العلماء ومراجع الدين في المجالس الحسينية يشجّع الناس على مواظبة الحضور اقتداءً بهم؛ باعتبارهم ورثة النبي(صلى الله عليه واله)، والسائرين على سيرته، وقد أمرنا الله تعالى أن نجعله أُسوة حسنة[18].
وقد حفل هذا النمط من المجالس بحضور المراجع العظام والفقهاء والعلماء، وكذلك سائر أهل الفضل من طلبة العلوم الدينية؛ وفي هذا الصدد يقول بعض الباحثين: «وإن أنسى لا أنسى مجلس العالم الورع السيّد نصر الله المستنبط في طرف البراق، خلف المدرسة الشبّرية، الذي كان يغصُّ بكبار مراجع الدين، وحشود أهل البيت[19]، وسائر المؤمنين؛ فترى الناس تبحث لها عن مكان، حتّى ولو على الشرفات والسلالم المؤدّية إلى الطابق الثاني…»[20].
ولم تغب صورة ذلك الحضور البهي لعلمائنا ومراجعنا الكرام من ذاكرة كبار خطبائنا الماضين والمعاصرين، وهم يحدّثوننا عن مجالسهم العامرة في مدينة النجف الأشرف، تلك الصورة التي كان لها الأثر الكبير في صقل شخصية أُولئك الخطباء، الذين عاشوا حياتهم قامات شامخة في عالم المنبر الحسيني[21]، كما لا تغيب صورة علمائنا الأعلام من مراجعنا المعاصرين (أدام الله بقاءهم)، وهم حاضرون في المجالس التي نحضرها في النجف الأشرف في الأيّام التي لم نوفّق فيها للسفر التبليغي؛ إذ وفّقنا الله(عز وجل) للحضور والمشاركة في مجالسهم المباركة.
الجهة الثانية: أهداف مجالس العزاء العلمائية
من الأُمور المهمّة في هذا البحث هو معرفة الأهداف والدوافع التي دعت هؤلاء العلماء الأعلام إلى أن يُولوا مجالس العزاء الحسيني العناية الفائقة، مع كثرة أشغالهم ووظائفهم التي تفرضها عليهم مكانتهم وزعامتهم الدينية، ولا شكّ في أنّ هناك أهدافاً قد حقّقها[22] علماؤنا من خلال مجالس العزاء الحسيني، التي كان لهم دور كبير في إقامتها،
ومن أهمّها:
1ـ الهدف الديني
يقع في طليعة الأهداف التي دعت علماءنا الأعلام إلى الاهتمام بالمجالس الحسينية ـ قراءةً وإقامةً ومشاركةً ـ هي القراءة المتأنّية والمعمّقة للنصوص الشرعية التي دلّت على أنّ هذه الأنماط الثلاثة هي من أفضل العبادات التي تقرّبهم إلى الله(عز وجل)؛
ويمكننا أن نستشف مستندهم الذي بنوا عليه في النمط الأوّل، وهو الروايات الكثيرة الواردة في وقائع كثيرة ومصادر معتبرة ومتعدّدة، تحدّثت عن ثواب: «مَن أنشد في الحسين شعراً»[23]. كما أنّهم قد تأسّوا بسيرة الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) حينما كانوا يُقيمون مجالس العزاء في بيوتهم، وهو ما يمثّل النمط الثاني من انطباقات عنوان البحث[24].
وأمّا ما يخصّ النمط الثالث فمن المؤكّد أنّهم ناظرون إلى الروايات التي حثّت الشيعة على البكاء لمصائبهم، والمشاركة في إحياء ذكرهم وأمرهم، كما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّ تلك المجالس أُحبّها، فأَحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله مَن أحيا أمرنا»[25]، وقوله(عليه السلام): «مَن ذُكرنا عنده ففاضت عيناه، ولو مثل جناح الذباب، غفر الله ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر»[26]، وغيرها من الروايات الكثيرة التي طالما قرأوها ودوّنوها في كتبهم الروائية، بل استدلّوا بها في بحوثهم الفقهية.
وإلى جانب ذلك؛ فقد أوضح الشيخ التستري(قدس سره) سرَّ تعلّقه بالخطابة الحسينية في كتابه: (الخصائص الحسينية) ـ الذي ذكر فيه مجموعة من خصائص الإمام الحسين(عليه السلام) ضمن مواضيع دينية مرتّبة تصلح للطرح على المنابر الحسينية ـ قائلاً: «إنّي أمعنت النظر في الوسائل المتعلّقة بالأئمّة(عليهم السلام)، فرأيت أجلّها فائدة وأعظمها مثوبة وأعمّها نفعاً… ما يتعلّق بسيّد شباب أهل الجنّة، ووالد الأئمّة السيّد المظلوم أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)…»[27].
2ـ الهدف الاجتماعي
بما أنّ الإسلام دين الاعتدال والوسطية فمن الطبيعي جدّاً أن يوازن علماؤنا الأعلام في أفعالهم بين الدوافع الأُخروية والدنيوية؛ ولذلك تجد الأهداف الاجتماعية قد جاءت جنباً إلى جنب مع الأهداف والدوافع الأُخروية، وإن كانت متأخّرة عنها رتبةً، وقد وجدنا أنّ هذه الأهداف تتجلّى في نقطتين رئيستين، وهما:
أـ تشجيع الجمهور على المجالس الحسينية
هذا الهدف والدافع تشترك فيه جميع الانطباقات الثلاثة التي ذكرناها في الجهة الأُولى؛ إذ إنّ الهدف من جميع الأنماط التي أقاموا فيها مجالس العزاء الحسيني، هو تحفيز طلاب العلوم الدينية على التصدّي لمهمّة التبليغ الديني، والتعاطي مع هذا العمل على أساس أنّه من الوظائف المقدّسة والجديرة بالاهتمام.
فحينما ينظر الطلاب إلى فقيه ومرجع ديني كبير من مراجع الطائفة ـ كآية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني ـ وقد ارتقى منبر سيّد الشهداء(عليه السلام)، متولّياً هذه المهمّة بنفسه، وحينما يرى الطلاب أنّ الأُستاذ الفقيه والعالم الديني يتجشّم عناء السفر والمخاطر التي تحفُّ به، ويقطع المسافات الطويلة؛ لكي يرتقي المنبر الحسيني في بلد من البلدان البعيدة، فلا شكّ في أنّ هؤلاء الطلاب سوف ترسخ في نفوسهم عظمة المنبر الحسيني، ومحوريته المشهود لها بين وسائل نشر علوم أهل البيت(عليهم السلام).
وينطبق هذا الكلام بشكل أوضح ومساحة أوسع على الانطباقين الثاني والثالث؛ إذ إنّ حرص العلماء ومراجع الدين على إقامة مجالس العزاء الحسيني في بيوتهم ـ والسعي إلى المشاركة في حضور مجالس العزاء التي تُقام من قِبل غيرهم ـ يكون من المحفّزات المؤكّدة التي تشجّع طبقات المجتمع كافّة على المنافسة الإيجابية لإقامة مجالس العزاء، والحرص على التواجد المتواصل في مجالس العزاء الحسيني، مهما كانت مكانة الإنسان، وأيّاً كانت الظروف التي يمرّ بها.
ب ـ الإشراف والرقابة المباشران على مسيرة المجالس الحسينية
من أهمّ الأهداف التي دعت مراجعنا وعلماءنا الأعلام إلى التواجد المشهود في مجالس العزاء الحسيني هو الحفاظ على الدور الرقابي والإشراف المباشر على المنابر الحسينية؛ ليكونوا على علم يقيني وإحاطة تامة بما يُطرح من قِبل الخطباء الحسينيين، وفيما لو وجدوا فجوة أو سجّلوا ملاحظة ـ ولو جزئية ـ تستحق التنبيه، يبادرون حينئذٍ لتصحيحها، ومعالجة ما يمكن أن يتركه الخطاب المغلوط.
وقد ترك الحضور المبارك لهؤلاء المراجع والعلماء أثراً واضحاً في نفوس الخطباء؛ إذ كانوا يُعيرون ذلك أهمّية فائقة، ويحترزون أيّما احتراز فيما لو كان حديثهم في محضر مرجع أو عالم من العلماء؛ ومن هنا يقول الدكتور الشيخ أحمد الوائلي(رحمه الله): «وممارسة الخطيب للخطابة بحضور هؤلاء تلزمه بالشعور بمسؤولية الكلمة، والتقيّد بقيود كثيرة،
منها: التأكّد من صحّة ما يرويه، والتحلّي بصفات أهل العلم من المعرفة والاطّلاع… يفرضها وجود هذا اللون من الناس تحت المنبر، وإلّا تعرّض الخطيب إلى النقد اللاذع، وإلى السقوط؛ فكان لوجود هذه النوعية من مجالس الحسين(عليه السلام) أثر كبير في صقل موهبة الخطيب، ودفعه للجدّ والبحث، وإتقان أُصول الفن»[28].
الجهة الثالثة: النتائج المترتّبة على مجالس العزاء العلمائية
لكي لا نُتَّهم من قِبل بعضهم بالمبالغة وتصعيد اللهجة، يلزمنا أن لا نتحدّث ـ في هذه الجهة ـ عن التسديد الإلهي للعلماء ومراجع الدين في هذا السلوك المدروس من قِبلهم، والذي يعتقد به الإنسان المؤمن وفق الأدلّة اليقينية، ذلك التسديد الذي يكون من نصيب الإنسان المؤمن والمتوكّل على الله (عز وجل)؛
إذ لعلّ حديثنا عن هذه المسألة هنا لا يستسيغه مَن يدّعي التنوّر والتقدّم، وإنّما نقتصر على الجانب الملموس والمشهود به لعلمائنا ومراجعنا في مواقفهم المشرّفة، أَلا وهو الحكمة التي امتازوا بها في أفعالهم؛ فننطلق منها لمعرفة النتائج والآثار التي ترتّبت على هذا النمط من المجالس الحسينية،
فبعد التتبّع والتنقيب في النتائج التي يمكن أن تذكر لمجالس العزاء العلمائية وجدنا أنّها تتمحور في النقاط الآتية:
1ـ تصحيح مسار الخطابة الحسينية
لقد أسهم حضور المراجع والعلماء والمجتهدين في المجالس الحسينية في صناعة شخصيات خطابية متألّقة، من أمثال الشيخ محمد علي اليعقوبي(رحمه الله)، والخطيب اللامع السيّد جواد شبر(رحمه الله)، والدكتور الشيخ أحمد الوائلي(رحمه الله)، وقد شهد بعضهم بهذا الدور الكبير والمؤثّر في مسيرته الخطابية الناجحة قائلاً: «… وأنا بالذات مررت بشيء من هذا القبيل؛ لأنّه كان يوفّر لي تعميق مهارتي لا الشهرة، لأنّ حضّاره من كبار رجال العلم الذين يحسب الخطيب لهم حساباً، فيضطرّ إلى الضبط والإتقان، ويعمل على حسن الانتقاء»[29].
ثمّ استعرض بعض التجارب التي مرَّ بها مع كبار مراجع الدين والعلماء حينما كان في مقتبل مسيرته الخطابية، بل حتّى بعد أن اشتُهر في عالم الخطابة، ووُجِّهت له الدعوات الرسمية لارتقاء المنبر الحسيني في النجف، في وقت لم يكن بمقدور كلّ أحد أن يرتقي المنبر في هذه الأروقة المباركة، فذكر بعض المواقف التي صحّح له فيها بعض العلماء والمراجع العظام معلوماته التي ذكرها على منبره بحضورهم، كالموقف الذي مرَّ به مع المرجع الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والشيخ عباس الرميثي، والشيخ محمد حسين المظفر، وزعيم الطائفة السيّد الخوئي (قدّس الله أسرارهم)، وقد كانت تصحيحات بعضهم متنوّعة: بعضها في المجال العقدي، وبعضها الآخر في مجال أُصول الفقه، وموقف ثالث في المجال التاريخي، ورابع في المجال الفقهي[30].
كما ينقل لنا خطيب آخر من الخطباء المعاصرين تجاربه التي مرَّ بها، وهو يقرأ المجالس الحسينية في محضر علمائنا الأعلام، وتصحيحهم بعض معلوماته التي طرحت من قِبله، فيما يخصّ قراءته بعض النصوص، أو الاستفادة والاستنتاج التحليلي من بعض الآيات أو الروايات، بل حتّى ما كان منها على المستوى اللغوي[31].
ومن خلال هذه المواقف ونظائرها ندرك الدور الكبير الذي يؤدّيه حضور المراجع والعلماء في المجالس الحسينية، والنتائج المترتّبة على ذلك، فضلاً عن المجالس التي تُقام في أروقتهم المباركة؛ فإنّ هذا التقويم والترشيد الذي يقوم به مراجعنا للخطباء المنبريين ينتج منه الارتقاء بالمنبر الحسيني، والرفع من مستواه العلمي، بل تصحيح مساره، والحفاظ على استقامته.
كما أنّ حضور العلّامة السيّد محسن الأمين(قدس سره) في المجالس الحسينية ـ حينما كان مُقيماً في دمشق ـ قد رفع من مستوى المجالس الحسينية التي أُقيمت في بلاده، وغيّرت من النمط السائد آنذاك؛ حتّى أصبح(رحمه الله) يراهن على نوعية المواضيع التي تطرح في المجالس التي يحضرها بنفسه، معتبراً الخطباء الذين يرتقون المنابر في محضره ثمرة من أبرز ثمار منجزاته وإسهاماته العلمية والعملية؛ بعد أن عمد إلى إعدادهم وترشيد مستوياتهم العلمية والخطابية بشتّى الطرق المتوفّرة له[32].
ولقد كان لحضور العالم الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(قدس سره) في تلك المجالس الحسينية الدور الكبير في معرفته لمِا يطرح على المنابر الحسينية، وملاحظته لبعض المنابر المبتنية على الخرافات المزيّفة، والأحاديث الملفّقة والمكذوبة على الله ورسوله، من قِبل بعض الذين اتخذوا من المنبر الحسيني وسيلة لمصالحهم الشخصية الضيّقة؛ الأمر الذي دفعه لإصدار فتوى، وإبداء رأيه في هذا النمط من المجالس، مبيّناً الواجب المتوجّه إلى الأشخاص الذين يدعونهم إلى بيوتهم مع علمهم بالمستوى العلمي الذي وصلوا إليه، كما اعتبر الاستماع إلى خطاباتهم المنبرية من الأُمور المحرّمة شرعاً[33].
2ـ تقديم الخطباء الأكْفاء إلى الجمهور الشيعي
من أهمّ النتائج التي اكتُسبت بفضل حضور العلماء والمراجع في مجالس العزاء الحسيني، هو تقديم شخصيات خطابية يُطمأنّ إلى كونها محلّ ثقة واعتماد لدى العلماء، ومؤيّدة من قِبلهم؛ وقد وُصِف بعض الخطباء الحسينيين بأنّه: (خطيب العلماء، وعالم الخطباء)[34]، فيما وُصف بعضهم الآخر بـ: (معتمد العلماء، ومفخرة الخطباء)[35].
وبفضل المجالس التي كان يُقيمها مرجع الطائفة السيّد أبو الحسن الإصفهاني(قدس سره) استطاع الجمهور أن يتعرّف على الخطيب البارع الشيخ محمد علي اليعقوبي، حينما ارتقى المنبر في ذلك المجلس المبارك؛ ما دعاهم إلى الوثوق بما يطرحه عليهم من حقائق دينية، فاتسعت دائرة المجالس العزائية التي يقرأها ذلك الخطيب المتمكّن الذي لم تكن له تلك الشهرة والمعروفية من قبل ذلك[36].
ومع أنّ السيّد صالح الحلّي ـ الخطيب البارع والمعروف في الأوساط الدينية ـ كان يختلف مع السيّد محسن الأمين اختلافاً شديداً في بعض الرؤى والأفكار المرتبطة بمفردات المراسم الحسينية، إلّا أنّ السيّد الأمين(قدس سره) قال في حقّه: «إنّ السيّد صالح الحلّي هو أحسن خطيب عرفته المنابر الحسينية، وأنا أودُّ أن نُعدّ الخطباء على غراره إذا ما أردنا أن نُنبّه الناس ونوقظهم، ونوجّههم توجيهاً صحيحاً»[37]، وما ذلك إلّا لأنّ السيّد الأمين(رحمه الله) ـ نتيجة لحضوره المتكرّر في المجالس الحسينية التي يقرأها هذا الخطيب ـ قد وقف على إمكانات الخطيب الحلّي، ومهاراته التي شهد بها القاصي والداني.
3ـ رسوخ المجالس الحسينية في نفوس الجماهير
سبق أن ذكرنا في الجهة السابقة أنّ أحد الأهداف والدوافع الاجتماعية هو حثُّ الناس وتشجيعهم على مجالس العزاء الحسيني بجميع أنماطه المتقدّمة، كلٌّ بحسب مقدوره ـ فمَن كان لديه القدرات التي تؤهله لقراءة المجالس الحسينية يتحتّم عليه أن يقوم بمهمّته، والذي لديه القدرة المالية والاستعدادات الإدارية التي تمكّنه من تخصيص مكان لإقامة المأتم والمجلس الحسيني بادر إلى ذلك، وإذا لم يكن بوسعه ومقدوره صنع شيء ممّا تقدّم إلّا أنّ بإمكانه الحضور والمشاركة، فلا بدّ له من الانخراط في تلك الجموع الحاشدة التي تُحيي ذكر أهل البيت(عليهم السلام).
وقد عرفنا في حديثنا عن الأهداف الاجتماعية تحقّق هذا الهدف بأتمّ وجه؛ فإنّ طلاب العلوم الدينية يقتدون بمراجع الدين والمجتهدين والعلماء الذين يحرصون على قراءة المجالس الحسينية مع كثرة مهامهم، وهكذا في بقيّة الأدوار الأُخرى التي يقوم بها العلماء؛ ولذا يذكر بعض الباحثين أنّ من أهمّ الدوافع التي شجّعت الناس على الحضور في مجالس العزاء الحسيني، هو تواجد العلماء ومراجع الدين وأهل العلم بينهم، وفي طليعة المجالس التي تقام لسيد الشهداء(عليه السلام)؛ إذ يصف بعضَ المجالس بأنّه: «…كان يغصُّ بكبار مراجع الدين، وحشود أهل البيت، وسائر المؤمنين؛ فترى الناس تبحث لها عن مكان، حتّى ولو على الشرفات والسلالم المؤدّية إلى الطابق الثاني…»[38].
ومن الملاحظ ـ أيضاً ـ أنّ مجالس العزاء العلمائية إذا كان قارؤها عالماً من العلماء فإنّ نسبة الحضور سوف تزداد أضعافاً مضاعفة، كما في المجالس التي كان يرتقي منبرها الشيخ التستري(رحمه الله)، فقد ذكر العلّامة السيّد محسن الأمين(قدس سره) عن حضّار مجالسه قائلاً: «… وكانت تجتمع الأُلوف تحت منبره لسماع مواعظه»[39].
4ـ ضمان الديمومة والاستمرارية لمجالس العزاء الحسيني
من بين النتائج التي حقّقتها مجالس العزاء العلمائية، هو التمكّن من تجاوز الأزمات التي يمرّ بها الموالون، والحفاظ على بقاء العبادات التي تحفظ لحمة المجتمع المؤمن، وتعدّ المجالس الحسينية من أبرز تلك الأعمال والعبادات التي تحفظ لنا تجمُّع المؤمنين ووحدتهم، وقد سعى الحكّام ـ في عصور مختلفة ـ إلى الحدّ من هذه الظاهرة التي تهدّد عروشهم، بل القضاء عليها بالكامل[40]،
إلّا أنّ المجالس المدعومة من قِبل مراجعنا وعلمائنا هي التي وقفت في وجه هذه المحاولات؛ لأنّ ما تركته مجالس العزاء العلمائية من أثر في نفوس المؤمنين جعلهم يحرصون على إقامتها بشتّى الطرق والسبل، حتّى أنّهم (قدّس الله أسرارهم) كانوا يقومون بعملية تحرٍّ حول المدن التي لم يكن فيها بنايات مخصّصة لإقامة المجالس الحسينية (أي: الحسينيات)، فيأمرون ببناء حسينيات فيها، كما كان يعمل مرجع الطائفة السيّد أبو الحسن الإصفهاني(قدس سره) [41].
على أنّ هناك آثاراً ونتائج كثيرة أُخرى تركنا ذكرها روماً للاختصار.
توصية مقترحة
بعد أن تعرّفنا على النتائج الإيجابية المترتّبة على مجالس العزاء العلمائية، نودّ أن نوسّع دائرة الموضوع الذي تناولناه في هذا البحث؛ فنعمل على تطبيق هذه التجربة الناجحة، ليكون العنوان المذكور آنفاً شاملاً لمجالس العزاء التي يُقيمها ممثّلو المرجعية الدينية في المدن والبلدان كافّة، بل حتّى معتمدي المرجعية أيضاً؛
فإنّ المجالس التي تكون تحت إشراف ورعاية وكلاء المرجعية ومعتمديها تكون مختلفة تماماً عن سائر المجالس الأُخرى، من حيث المقبولية، وضمان السلامة الفكرية فيها؛ وذلك لأنّ اختيارات المرجعية الدينية للأشخاص تكون على وفق معايير الكفاءة والنزاهة؛ وهذا ما يجعل من المجالس التي يقيمونها محلّ اعتماد واطمئنان للجمهور المتلقّي ،
كما أن في الأعم الأغلب تكون متطابقة مع الواقع نتيجة التحري والدقة الفائقة في معرفة الخصائص المؤهلة لاختيارهم، وقد شاهدنا تجربة موفّقة ـ وإن كانت جزئية ـ في مدينة (السماوة/ قضاء الخضر)؛ إذ تولّى معتمد المرجعية الدينية العليا سماحة الشيخ راضي الطائي(أيّده الله) رعاية أغلب المجالس الحسينية والإشراف عليها طيلة السنين التي قرأنا فيها في مواسم شهر محرّم الحرام، وقد كانت إدارته لهذه المجالس تمتاز بجدارة كبيرة، ولا يزال على هذا النمط، فلو تمّ العمل على هذا النمط في بقيّة المدن والبلدان الأُخرى لأمكننا تجاوز كثير من العقبات والمصاعب التي يعاني منها كثير من الخطباء والجمهور في المواسم التبليغية.
والحمد لله أوّلاً وآخراً.
فهرست المصادر
* القرآن الكريم.
أعيان الشيعة، محسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ـ لبنان.
إقناع اللائم على إقامة المآتم، محسن الأمين، دار الصفوة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 2009م.
الأمالي، محمد بن علي الصدوق، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1417هـ.
تجاربي مع المنبر، أحمد الوائلي، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1998م.
تراجيديا كربلاء، إبراهيم الحيدري، دار الساقي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1999م.
ثواب الأعمال، محمد بن علي الصدوق، الشريف الرضي، قم ـ إيران، الطبعة الثانية، 1368هـ ش.
الخصائص الحسينية، جعفر التستري، منشورات الشريف الرضي، إيران، الطبعة الأُولى، 1416هـ.
دور المنبر الحسيني في التوعية الإسلامية، محمد باقر المقدسي، دار الكفيل للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 2017م.
الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آقا بزرك الطهراني، دار الأضواء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثالثة، 1983م.
العزاء في مرآة الاستدلال، محمد هادي الحجازي، مؤسّسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية، النجف الأشرف ـ العراق، الطبعة الأُولى، 2016م.
قرب الإسناد، عبد الله بن جعفر الحميري، مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1413هـ.
كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه، مؤسّسة نشر الفقاهة، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1417هـ.
اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر، الميرزا حسين النوري الطبرسي، منشورات دار البلاغة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 2003م.
مجلّة الإصلاح الحسيني، مؤسّسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية، النجف الأشرف ـ العراق، الطبعة الأُولى، 2019م.
المحاسن، أحمد بن محمد البرقي، دار الكتب الإسلامية، طهران ـ إيران، 1370هـ.
المرجعية العاملة، ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين.
مصباح الهدى وسفينة النجاة، حسين الوحيد الخراساني، مؤسّسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية، النجف الأشرف ـ العراق، الطبعة الأُولى، 2019م.
معجم الخطباء، السيّد داخل حسن، المؤسّسة العالمية للثقافة والإعلام، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1196م.
منهاج السنّة، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، جامعة الإمام محمد ابن سعود، الطبعة الأُولى، 1986م.
نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، المحسن بن علي التنوخي، تحقيق: عبود الشالجي الكجامي، 1973م.
النهضة الحسينية والنواصب، محمد حسن الترحيني، منشورات دار الهادي للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 2002م.
هكذا عرفتهم، جعفر الخليلي، المكتبة الحيدرية، الطبعة الأُولى، 1426هـ.
واقعة كربلاء في الوجدان الشعبي، محمد مهدي شمس الدين، منشورات دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الأُولى، 2005م.
وسيلة الوصول إلى حقائق الأُصول، حسن السبزواري الساداتي، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1419هـ.
الهوامش
[1] اُنظر: الحيدري، إبراهيم، تراجيديا كربلاء: ص463.
[2] اُنظر: ابن تيمية، أحمد بن عبد الحلّيم، منهاج السنّة: ج1، ص52. وأيضاً: الترحيني، محمد حسن، النهضة الحسينية والنواصب: ص106. وأيضاً: الحجازي، محمد هادي، العزاء في مرآة الاستدلال: ص17.
[3] اُنظر: الأمين، محسن، إقناع اللائم على إقامة المآتم: ص30.
[4] اُنظر: شمس الدين، محمد مهدي، واقعة كربلاء في الوجدان الشعبي: ص342. وأيضاً: المقدسي، محمد باقر، دور المنبر الحسيني في التوعية الإسلامية: ص24.
[5] اُنظر: التنوخي، المحسن بن علي، نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة: ج2، ص232، وص233.
[6] اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص209.
[7] اُنظر: المصدر السابق.
[8] اُنظر: النوري، حسين، اللؤلؤ والمرجان: ص32. وأيضاً: الطهراني، آقا بزرك، الذريعة إلى تصانيف الشيعة: ج11، ص295.
[9] اُنظر: النوري، حسين، اللؤلؤ والمرجان: ص26. وأيضاً: الخليلي، جعفر، هكذا عرفتهم: ج2، ص24.
[10] اُنظر: الوائلي، د. أحمد، تجاربي مع المنبر: ص90.
[11] ذكر العلّامة الدكتور الشيخ أحمد الوائلي(رحمه الله) طيفاً من أسماء المراجع والعلماء الذين ساهموا في المنبر الحسيني خطابة ونظماً وقراءة للمقتل الحسيني. اُنظر: الوائلي، د. أحمد، تجاربي مع المنبر: ص134.
[12] الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج4، ص95.
[13] الوحيد الخراساني، حسين، مصباح الهدى وسفينة النجاة: ص20.
[14] السيّد حسن، داخل، معجم الخطباء: ج2، ص338.
[15] اُنظر: السبزواري الساداتي، حسن، وسيلة الوصول إلى حقائق الأُصول: ص11.
[16] فمع أنّ المهام التي أُنيطت بالمرجعية العليا المتمثّلة بسماحة آية الله العظمى السيّد علي السيستاني (دام ظلّه الوارف) كثيرة وكبيرة جدّاً، إلّا أنّ سماحته كان يحرص كلّ الحرص على إقامة مجالس العزاء الحسيني في داره المباركة، كما أنّه يحرص على المشاركة والحضور فيها بنفسه.
[17] كما في مجلس أُسرة آل بحر العلوم، ومجلس آل الحكيم في مسجد الهندي، وغيرهما من المجالس الكثيرة التي تقام في النجف الأشرف.
[18] وهو قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). الأحزاب: آية21.
[19] لم يتضح لنا المعنى المراد للباحث من قوله: «وحشود أهل البيت»، ولعلّ المقصود: وحشود الموالين لأهل البيت(عليهم السلام).
[20] السيّد حسن، داخل، معجم الخطباء: ج1، ص290.
[21] اُنظر: الوائلي، د. أحمد، تجاربي مع المنبر: ص136.
[22] من هنا يعرف القارئ الكريم أنّ هناك نقطة تلاقٍ واضحة بين محتوى هذه الجهة والجهة التي سنتحدّث عنها لاحقاً؛ لأنّ من المتيقّن والملموس لدينا تحقّق كثير من الأهداف التي ذكرناها هناك؛ وعليه فإنّها تصلح أن تندرج في الجهة التي خُصّصت للبحث عن النتائج والآثار المترتّبة على مجالس العزاء العلمائية.
[23] اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص208. وأيضاً: الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص205. وثواب الأعمال: ص83.
[24] رُوي عن أبي هارون المكفوف، قال: «دخلت على أبي عبد الله(عليه السلام)، فقال لي: أنشدني. فأنشدته، فقال: لا، كما تُنشدون وكما تُرثيه عند قبره. قال: فأنشدته:
امرر على جدث الحسين
فقل لأعظمــه الزكيــة
قال: فلما بكى أمسكت أنا، فقال: مرْ. فمررت، قال: ثمّ قال: زدني. قال: فأنشدته:
يا مريم قومي فاندبي مولاك
وعلى الحسين فأسعدي ببكاك
قال: فبكى وتهايج النساء…». ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص208.
[25] الحميري، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد: ص36.
[26] البرقي، أحمد بن محمد، المحاسن: ج1، ص63.
[27] اُنظر: التستري، جعفر، الخصائص الحسينية: ص10.
[28] الوائلي، د. أحمد، تجاربي مع المنبر: ص134.
[29] الوائلي، د. أحمد، تجاربي مع المنبر: ص92.
[30] اُنظر: المصدر السابق: ص138ـ 141.
[31] اُنظر: رفيعي، ناصر، المنبر الحسيني.. الخصائص والأُسلوب والآفات، مجلّة الإصلاح الحسيني: العدد25، ص81.
[32] اُنظر: الخليلي، جعفر، هكذا عرفتهم: ج1، ص215.
[33] اُنظر: المصدر السابق: ج1، ص244.
[34] أُطلق هذا الوصف في حقّ الخطيب البارع السيّد صالح الحلّي. اُنظر: السيّد حسن، داخل، معجم الخطباء: ج1، ص59.
[35] ذُكر هذا الوصف في حقّ الخطيب الحسيني القدير الشهيد السيّد جواد شبر. اُنظر: المصدر السابق: ج1، ص292.
[36] الخليلي، جعفر، هكذا عرفتهم: ج2، ص148.
[37] المصدر السابق: ج2، ص214.
[38] السيّد حسن، داخل، معجم الخطباء: ج1، ص290.
[39] الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج4، ص95.
[40] اُنظر: الحسن، ضياء، المرجعية العاملة: ص83.
[41] اُنظر: المصدر السابق: ص85.
المصدر: مؤسسة وارث الأنبياء » مجلة الإصلاح الحسيني » العدد الثامن والعشرون