الإمام الخميني

مباني النظرة العقلائية للإمام الخميني “قدس سره” إلى المعاملات

الاجتهاد: هل هدف الشارع المقدس هو التدخل في باب المعاملات بطريقة يحول فيها دون كل أشكال التطور والنمو في مستوى معيشة الناس، أم لا بدّ من أن نستكشف من النصوص الدينية أنه لا يخالف التطور في مستوى معيشة البشر؛ ذلك أن هذا الاستنباط والاستنتاج الأول غير ملائم لحكمة الشارع؛ ومنه يتبين عدم صحة مثل هذا الاستنباط؛ إذ لا يمكن أن يكون كاشفا عن الحكم الإلهي.

ما معنى النظرة العقلائية إلى المعاملات؟ لإيضاح المراد من “النظرة العقلائية” يمكن الاستفادة من المعنى المقابل لها، والمعنى المقابل للعقلائي هو “التعبدي”.

ومن أهم خصائص “التعبدي”، إدراك مراد المعبود ومقصوده عن طريق البيان الصادر منه، ولا حجة فيه للاستدلالات العقلانية والتحليلات العقلائية.

وفي المقابل، يمكن فهم الأمر العقلائي بواسطة الطرق العقلانية والعقلائية؛ إذ لا ينحصر فهمه بالبيان الصادر عن المعبود بصورة صريحة أو عن طريق الظهور. وثمة اختلافات بين الفقهاء القائلين بالتعبد في المباحث غير العبادية وبين أولئك القائلين بالنظرة العقلانية في هذا المجال، تتجلى في المباني والمناهج وضوابط الاستنباط.

وتتوقف هذه الاختلافات کمّاً وكيفاً على مدى الابتعاد عن تلك المباني والضوابط والمناهج في دائرة الأحكام غير العبادية أو الاقتراب منها؛ فلا يتساوی بطبيعة الحال الفقهاء الذين يلحظون مزيداً من المباني والضوابط والمناهج التخصصية في دائرة الأحكام غير العبادية مع الفقهاء المقلّين منها، ومن البديهي كلما كانت هذه الأمور أكثر اختصاصاً وقرباً من العقل ازدادت النظرة العقلائية إلى الفقه والاستنباط.

مباني النظرة العقلائية إلى المعاملات

تبتني نظرة الإمام الخميني (قده) إلى باب المعاملات وغير العبادیات على سلسلة من المباني، سنشير هنا إلى اثنين منها:

أ- حكمة الشارع

إن حكمة الشارع الإسلامي المقدس من الصفات التي تؤدي دوراً كبيراً في الاجتهاد؛ ولذا غالباً ما يستند الأصوليون إلى هذه الصفة في صياغة قواعدهم الأصولية؛ بل اعتمد بعضهم على هذه الصفة في استنباطاتهم الفقهية أيضا.

وفي هذا السياق، استفاد الإمام الخميني (قده) من هذه الصفة كثيراً في بحوثه الفقهية والأصولية، غير أن براعته تمثلت في توظيفه هذه الصفة في الاستنباط بطريقة مغايرة لاستفادة باقي الفقهاء.

فنظرته الخاصة إلى مباحث المعاملات منبثقة من اهتمامه الكبير واستفادته المناسبة من هذه الصفة الإلهية، بمعنى هل هدف الشارع المقدس هو التدخل في باب المعاملات بطريقة يحول فيها دون كل أشكال التطور والنمو في مستوى معيشة الناس، أم لا بدّ من أن نستكشف من النصوص الدينية أنه لا يخالف التطور في مستوى معيشة البشر؛ ذلك أن هذا الاستنباط والاستنتاج الأول غير ملائم لحكمة الشارع؛ ومنه يتبين عدم صحة مثل هذا الاستنباط؛ إذ لا يمكن أن يكون كاشفا عن الحكم الإلهي(1).

قال الإمام رداً على رسالة من تلميذه العضو في مكتبه للاستفتاءات:

“ينبغي أن أعرب عن أسفي حول تفسيرك للأخبار والأحكام الإلهية، فطبقاً لما ورد في كتابك لا تجب الزكاة إلا لمصارف الفقراء وسائر الأمور المذكورة، ولا مجال لصرفها في موارد أخرى وإن بلغت مصارفها اليوم المئات.

كما يختص “الرهان» و «السبق» و «الرماية » بالمقلاع و سباق الخيل وأمثالها مما كان يستعمل في الحروب سابقاً، فلا تستعمل اليوم إلا فيها.

وكذا «الأنفال» التي جرى تحليلها للشيعة، فيستطيع الشيعة اليوم استخدام الوسائل المتنوعة للقضاء على الغابات دون أي مانع، وتدمير ما يحافظ على سلامة البيئة، وتهديد أرواح الملايين من الناس، ولا يحق لأحد الحيلولة دون ذلك.

ولا ينبغي هدم المنازل والمساجد وأمثالها مما يقع في مشاريع شق الطرقات لحل مشاكل الازدحامات المرورية والحفاظ على أرواح آلاف الناس.

وعموما،ما يستنبطه جنابك من الأخبار والروايات يقضي بتدمير الحضارة الجديدة تماما،وإعادة الناس إلى السكن في الأكواخ أو الصحاري إلى الأبد(2).

ومجمل الكلام: إن الأساس المقوم لنظرة الإمام إلى مباحث المعاملات بمعناها الأعم، بما فيها المصاديق المذكورة في كلامه، والفارق بينه وبين سواه، يكمن في الجملة الأخيرة، وهي أن الشارع الحكيم لا يرغب بالقضاء على الحضارة الإنسانية ولا يحول دون تطور الحياة البشرية، فضلا عن أن يكون بصدد إعادة الإنسان إلى الوراء ليعيش حياة متخلفة (3).

كما أكد مرارا في بحوثه الفقهية والأصولية على أن أهداف الشارع وأحكام الشريعة لا تهدف إلى إيجاد خلل في الحياة؛ ولذا نرى أن حياة الناس لم تختل بنزول الآيات على الرغم من التغييرات التي أحدثها الشارع في الأحكام الاجتماعية؛ بل إن أحد الأسباب المهمة لتغيير الآداب والرسوم وأحكام العصر الجاهلي بصورة تدريجية هو الحيلولة دون اختلال الحياة الاجتماعية للناس (4).

2 – الدور الإصلاحي للشارع

إن للشريعة في بعض الموارد نظير العبادات دوراً تأسیسيّاً، ومقتضى ذلك أن المشرّع يأخذ على عاتقه بيان كل ما يرتبط بالتشريع، من ماهية وكيفية وأجزاء وشروط ومعوقات، ولا يأبى عن بيان جميع الجوانب والحيثيات.

في حين أن الشريعة ليست مؤسسة في بعض الموارد الأخرى غير العبادات؛ بل إن الأمور غير العبادية أمور وضعها الناس لتنظيم حياتهم وتمشية أمورهم في مجتمعات مختلفة وأزمنة متباينة، فتم تداولها بين المجتمعات من مجتمع إلى آخر، وطالتها بعض التغييرات أحيانا بما يناسب المتطلبات الزمانية والمكانية والثقافة السائدة، فحُذفت بعض خصائصها تارة وأضيفت إليها خصائص جديدة تارة أخرى، وفي النهاية أجريت عليها بعض الإصلاحات والتعديلات قبل استخدامها.

والشريعة الإسلامية أيضا قامت بدور إصلاحي وأجرت بعض التعديلات الجزئية غالبا عند مواجهة الآداب والرسوم والقوانين في عصر البعثة، وخاصة في الجزيرة العربية؛ ولكن مع فارق أن إصلاحات الشريعة الإسلامية كانت ترمي إلى تأمين الأهداف العليا للشريعة ذات التوجهات الأخروية في أغلب الأحيان، بينما تهدف الإصلاحات والتعديلات في المجتمعات العرفية إلى تنظيم الأمور في عالم الدنيا عادة.

أما رأي الإمام الخميني (قده) بشأن المعاملات بالمعنى العام للكلمة فهو أنه ليس للشارع، غالباً دور تأسيسي في هذا المجال؛ بل دوره اصلاحي وتعديلي؛ وهذا ما يُفهم من ثنايا كلماته وإن لم يصرح بذلك ولم يذكره بصورة مستقلة.

فعلى سبيل المثال، ذكر في تحليله لمفاد آية الأنفال أن الاحتمالات فيها كثيرة، وأورد خمسة منها، ذاهبا إلى أن الاعتبار العقلائي من أهم الأدلة على رد تلك الاحتمالات، ثم بين استنباطه حول ولاية الله ورسوله للأنفال، مؤكدا أنها ولاية تصرف، مستشهداً على ذلك بالاعتبار والارتكاز العقلاني، وقال:

“هذا أحسن الوجوه المطابق للاعتبار العقلائيّ، الموافق لبناء الدول، من كون الأراضي الموات والعامرة من غير معمِّر هي ملك للدولة، والإسلام في هذه الأمور السياسية ونحوها لم يأتِ بشيء مخالف لما عند العقلاء إلا في ما فيه مفسدة.

فإذا كان مفاد الآية الشريفة (5) كذلك، تنحلّ العقدة في الأخبار أيضاً؛ فإنّها – علی کثرتها- لم تأتِ بشيء مخالف للآية ” (6)

وقال بشأن الأرض العامرة بالأصالة التي تعد من مصاديق الأنفال:

“المتفاهم من مجموع روایات الباب أن ما للإمام (ع)، هو عنوان واحد منطبق على موارد كثيرة، والملاك في الكل واحد؛ وهو أن كل شيء أرضا كان أو غيرها، إذا لم يكن له رب، فهو للوالي، يضعه حيث شاء في مصالح المسلمين.

وهذا أمر شائع بين الدول أيضا… والدول أولياء أمورها لمصالح الأمم، والإسلام لم يأتِ في ذلك بشيء جدید، مغایر لهذا الأمر الشائع بين الدول .(7)

وفي بحث مقتضى الأصل في الأراضي الموات، قال لحل مشكلة أن استصحاب عدم السبق المأخوذ في عنوان الروايات لا يثبت عنوان «السبق إلى ما لا يسبقه” (8).

الأمور العقلائية الثابتة من أول الأمر، لا أحتباج في تثبيتها إلى جعل إلهيّ وتشريع، ولو ورد من الشارع شيء لكان إمضاءً لها لا تأسیساً، ولا شك في أن ما عند العقلاء ليس سببية الحيازة أو الإحياء للتملّك، ولا الملازمة بينهما ونحو ذلك؛ بل بناؤهم على تملّك من أحيا شيئاً أو حازه» (9)

كذلك قال في بحث شرط الاختيار في المتعاقدين:

« البيع الواقع عن إكراه وجبر لا يكون في محيط العرف وفي المحاكم العرفية لازم الوفاء، ولا يرى العقلاء البائع المكره ملزماً بالوفاء بقراره وعقده وشرطه، ومع هذا الارتكاز، تكون الأدلة العامة مثل قوله تعالى: (و أوفوا بالعقود) (10) وقول النبي (ص): “المؤمنون عند شروطهم” ونحوهما، تكون منصرفة عن بيع المكره؛ بل لعلّ تلك الأدلة إمضائية تنفيذية، لا تأسيسية تعبّدية”.(11)

 

الهوامش

(1) فعلى سبيل المثال، ذكر في تفسيره لمفاد حدیث ” نهى النبي عن بيع الغرر” أن الغرر هو الجهالة، ثم قال: «فلا ينبغي الإشكال في أنه لا يعمّ الجهالة بالقيمة… بحيث لو كان الشرط في اليع العلم بالقيمة، اختلّ نظام السوق، أو وقع نوع المعاملات باطلاً؛ لأن الجهل بالقيمة أمر شائع، قلّما يتّفق التحرّز عنها (روح الله الخميني، کتاب البيع، ج 4، ص 471_473).

(2) روح الله الخميني، صحیفه امام، ج 21، ص 150- 151.

(3) أشار إلى هذا الأمر في خطاباته و حواراته مراراً وتكراراً، منها: «في أي موضع من القرآن، في أي موضع من أحكام القرآن، في أي موضع من الأحكام التي بحوزة رجال الدين، مثل هذا الكلام الذي يفيد أننا مناهضون لمظاهر التجدد؛ نحن مخالفرن لمظاهر الانحراف” (المصدر نفسه، ج4، ص 54). «إن الإسلام لا يخالف أي حضارة… فالأنبياء يقبلون جميع مظاهر الحضارة، لكن بصورة مفيدة وغير مطلقة (المصدر نفسه، ج 8، ص517 – 516). نحن نرفض التقدم والحضارة اللذين يفرضان علينا مدّ أيدينا للأجانب؛ بل نبتغي الحضارة القائمة على أساس الشرف والإنسانية، والقادرة على الحفاظ على السلام). (المصدر نفسه، ج 15، ص340).

(4)انظر: روح الله الخميني، تنقيح الأصول، ج 3، ص 127 و193؛ روح الله الخميني، المكاسب المحرمة، ج 2، ص 360؛ روح الله الخميني، کتاب الطهارة، ج1، ص232؛ ج3، ص 53 و 547، روح الله الخميني، الخلل في الصلاة، ص 480؛ روح الله الخميني، کتاب البيع، ج 3، ص590.

(5) سورة الأنفال: الآية 1.

(6) روح الله الخميني، كتاب البيع ، ج 3 ، ص 24.

(7) المصدر نفسه، ص 41

(8) المصدر نفسه، ص 56

(9) المصدر نفسه، ص 58

(10) سورة المائدة : الآية 1.

(11) روح الله الخميني، كتاب البيع ، ج 2 ، ص 113 – 114.

 

المصدر: كتاب: الإمام الخميني منهجه في الاجتهاد ومدرسته الفقهية – للشيخ سعيد ضيائي فر

 

فهرس محتويات الكتاب

الإمام الخميني منهجه في الاجتهاد ومدرسته الفقهية

تحميل الكتاب

الإمام الخميني منهجه في الاجتهاد ومدرسته الفقهية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky