الاجتهاد: تعتبر قضية الغلو وخطاب التطرف ذات جذور سياسية واجتماعية وثقافية في المجتمعات الإسلامية وتاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية، وقد قدمت الكثير من الآراء والنظريات حول منشأ هذه الظاهرة وجذورها من قبل علماء الاجتماع وعلماء النفس و.. .
لقد كان الغلاة أخطر الجماعات التي ظهرت في عصر الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) وقد أدي هذا التزامن في الظهور مع الإمامين الباقر والصادق أن يقوم الإمام جعفر الصادق وأبيه الإمام الباقر بمواجهة هؤلاء الغلاة والتصدي لأفكارهم المنحرفة.
وكما توضح سيرة الإمامين فإن أكثر الجماعات التي تعرضت لنقد ومهاجمة الإمامين هي جماعة الغلاة والمتطرفين، وهذا بحد ذاته يبين دور الغلاة في حرف وتشويه عقائد المسلمين.
الغلو يعني الافراط وتجاوز الحدود في أمر معين (الراغب الاصفهاني: ٣٦٥)، ورغم إن التعدي يعني الإفراط أيضا إلا إننا وإذا أردنا القول أن التعدي والإفراط وصل إلى مرحلة مرتفعة فاننا نستخدم مفرد الغلو بدل التعدي (ابن المنظور: ١١٣/١٠).
قال الشيخ المفيد رحمه الله الغلو في اللغة هو [ التجاوز عن الحد والخروج عن القصد. قال الله تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا على الله إِلَّا الْحَقِّ ) الآية. فنهي عن تجاوز الحد في المسيح وحذر من الخروج عن القصد في القول وجعل ما ادعته النصارى فيه غلوا لتعديه الحد على ما بيناه.
والغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذريته إلى الألوهية والنبوة ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد وخرجوا عن القصد وهم ضلال. (المفيد: التصحيح الاعتقادات الاماميه، ۱۳۱ ومضمون الآية في النساء / ۱۷۱) .
لماذا مال البعض إلى الغلو في تقديس أهل البيت (عليهم السلام) ؟
إن الضغط والاضطهاد في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية الناتج عن سياسات الخلفاء العباسيين مهّد بشكل طبيعي إلى تكوين ظاهرة الغلوة والتطرف في المجتمع.
من هذه السياسات نذكر:
۱- سياسة سبّ ولعن الإمام على بن أبي طالب: قد ظهرت هذه السياسة في عهد معاوية وغيره من الخلفاء الأمويين وبعد ذلك استمرت وازدهرت في عهد العباسيين (اليعقوبي: ١٥٢/٢، ١٦٢؛ المسعودي: ٣٦/٢).
٢- تبرير الظلم والاضطهاد التي يتعرض له الشيعة وأتباع الائمة المعصومين: قد كان الشيعة لا يعتقدون بمشروعية أي حكومة في زمانهم، ولهذا فهم يعرفون موقفهم ونضالهم تجاه السلطة السياسية وهذا ما أدي إلى قلق الكثير من الحكام لاسيما الخلفاء.
رغم أن الحكام والخلفاء قد نسبوا هذه الأفكار والفرق إلى الشيعة إلا أن المعارضين السياسيين للشيعة يحاولون أن يتمسكوا بأي ذريعة من أجل تشويه هذا التيار المناضل في التاريخ الإسلامي، بعبارة أخرى فإن الكثير من الفرق الغالية والمتطرفة كانت صنيعة الحكام والسلطة السياسية في زمن الأئمة وكانت الغاية من ذلك هو تشويه المذهب الشيعي الذي كان يكافح السلطة الحاكمة آنذاك، وبربط الغلو بالشيعة قاموا بإجراء محاكمات أتباع آل البيت (عليهم السلام) واعتبروا أفكارهم وعقائدهم مخالفة للدين الإسلامي وهكذا يقومون بحجج واهية كالغلو والرفض باعدامهم وقتلهم.
كان عمال وولاة بني أمية الذين يعتبرون أنفسهم ممثلين للدين وخلفاء للنبي الأعظم يقومون بإبعاد أصحاب الأئمة الحقيقيين وتهميشهم بعد أن رأوا أنهم يقفون بوجه سياساتهم وفي سبيل ذلك يحاول الحكام أن يظهروا أفعالهم هذه بمظهر الدين والهواجس التي توجد في هذا المجال.
إن فرضية قيام بني أمية بوضع أحاديث وأقوال غالية على لسان أصحاب الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من أجل القضاء عليهم هي فرضية قابلة للتأمل وقد تكون صحيحة وإن الميل نحو الغلو والتطرف لم يرفع من مقام الأئمة بل إنه كان سببا في قمع الشيعة على يد السلطة الحاكمة في زمانهم وهذا الأمر كان نجاحا كبيرا لسياسة الخلفاء والحكام في ذلك الزمان.
3- تبرير جناية الحكومة بالنسبة للشيعة وتابعي الأئمة (عليهم السلام) وإن استندوا هذه الأفكار والفرق إلى التشيع ولكن السياسيون المخالفون للتشيع يبحثون عن طريق لتلويث هذا التيار المناضل.
هناك فكرة ترى أن الخلفاء من أجل حذف الأئمة من الساحة قاموا ببث روايات مملوءة بالغلو ينقلونها من الصحابة يجب الإعتناء بهذا الفكرة، تبدو قوية عندما نرى خلفاء بني العباس هم من رواة بعض هذه الروايات المغالية مثل رواية مصارعة الأئمة مع ابليس (ابن مغازلي: ٣٠٠؛ مجلسي: ٣٩ / ١٧٤- ۱۷۵).
ربما استيلاء هذه الفكرة كان سببا لسؤال ابراهيم بن ابي محمود من الإمام الرضا (عليه السلام) عندما سأله: نحن نسمع من مخالفيكم اخباراً عن فضائل اميرالمؤمنين و فضائلكم ولكن لم نشاهدها فيكم فهل تقبل هذه الأخبار؟ فقال (عليه السلام): أعداءنا ينشرون أخباراً في فضائلنا وهي على ثلاثة انواع نوع فيه إفراط و نوع فيه تفريط وأخبار تحمل اهانة و تذم أعداءنا.
فالناس عندما يسمعون ما فيه إفراط و الأخبار التي تنسب لنا صفات الربوبية فيكفروننا وعندما يسمعون الأخبار التي فيها تفريط فيقصرون في حقنا وحين يسمعون أخبار الذم والطعن لأعدائنا وباسـمهم فيطعنون بنا و يذموننا. (الحر العاملي: ٥ / ٣٧٨).
4 – إبعاد النماذج الدينية المعتدلة: إن أهم الطرق المؤثرة لتهميش وإقصاء الوجوه البارزة في مذهب، ما هو إلا تصويرها بشكل غير طبيعي، فالقرآن الكريم اعتبر الأنبياء نماذجا إنسانية ومن أجل حفظ هذا الدور للأنبياء يحاول إفهام هذه القضية إلى الناس ألا وهي أن الأنبياء من جنس البشر وأن احتياجاتهم هي نفس احتياجات البشر الآخرين، ومن وجهة نظر القرآن الكريم فإن الميزة التي تميز الأنبياء عن غيرهم من البشر هو الجهد والمحاولة المستمية من جانبهم من أجل نيل الفضائل ولهذا تم اختيارهم من الله تعالى ليكونوا أئمة وهداة للبشرية.
5- انعدام الطاقات المعنوية بين شرائح المجتمع أيضا من أسباب الجنوح نحو الغلو والإفراط هو فقدان الطاقات المعنوية بين شرائح المجتمع، فإن الشرائح العامة في المجتمع والتي غالبا ما تكون غير متعمقة في القضايا والمسائل الفلسفية عرضة لظاهرة الغلو وهي عامل أساسي في نشر هذه الظاهرة والتأثر بها.
إن استيعاب الكرامات الروحية والأخلاقية للعظماء لم يكن بالأمر السهل على بعض الناس في المجتمعات.
يرى ابن أبي الحديد أن أحد أسباب الغلو حيال الإمام علي (عليه السلام) هو شخصية الإمام نفسه والقدرة التي أظهرها في الحرب في حياة الرسول الأعظم، وكذلك الخطب والأقوال التي يخبر علي (عليه السلام) فيها عن أحداث المستقبل وما سوف يقع في قادم الأيام مثل هزيمة الخوارج ومقتلهم جميعا باستثناء عدد قليل منهم قرابة العشرة أشخاص فقط (نهج البلاغة: الخطبة (٥٩)، فهذا القضايا لم يتمكن البعض من فهمها واستيعابها وراحوا بسببها يغلون في نظرتهم إلى الإمام علي (عليه السلام) ويطلقون عليه صفات إلاهية بعد رؤيتهم لشجاعته وعلمه وقدرته،
ويصدق هذا الأمر على المعجزات والكرامات التي تظهر من الأئمة المعصومين، ويرجع البعض تاريخ بدء الغلو لدي الشيعية إلى شخصية تاريخية مجهولة تدعي عبدالله ابن سبأ، لكن يمكن تقديم الكثير من الأدلة والشواهد على أن هذه الروايات هي روايات جعلية وتم وضعها مـن أعداء آل البيت لأهداف وأغراض سياسية، وأهم هذه الشواهد والبراهين هي المنافسات السياسية والمذهبية التي كانت رائجة بين المسلمين في القرن الثاني والثالث والرابع الهجري.
لقد نشأت محبة خاصة للأئمة وآل البيت منذ عهد الإمام على (عليه السلام) وقد اتسع نفوذ الشيعة في العراق وبعض المناطق الأخرى، لكن وبسبب الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية والعقائدية في المجتمعات الإسلامية في النصف الأول من القرن الهجري الأول وحتي استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) كان المناخ مناسبا لظهور ونمو الأفكار الغالية والعقائد المتطرفة.
لا يمكن أن نشك في وجود ظاهرة الغلو في التاريخ الإسلامي وإن الفرق التي اعتنقت الغلو والتطرف بعد ظهور الفرقة الكيسانية في العراق لم تكن بالقليلة وإن الأضرار التي لحقت بالمذهب الشيعي بعد ظهور هذه الأفكار الغالية وتحذير القرآن الدائم والأئمة الأطهار من هذه الظاهرة الخطيرة ومحاولة التصدي لها كلها تكشف جانبا من حساسية هذا الموضوع وخطورته.
المصدر: مقالة بعنوان” مفهوم الإمامة عند الإمام الرضا عليه السلام وموقفه من الأفكار الغالية” للباحثة الدكتورة مرضية محمد زاده/ مجلد 1 عدد 68 (2022): مجلة الكلية الاسلامية الجامعة.
تحميل المقالة
مفهوم الإمامة عند الإمام الرضا عليه السلام وموقفه من الأفكار الغالية