الاجتهاد: يعدّ كتاب “الحوزة العلمية في النجف الأشرف أدوار ومدارس البحث الفقهي الأصولي من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر الهجريين” من بين أهمّ الكتب التي صدرت في التعريف بمرحلة تأريخية مهمّة من مراحل الحوزة العلمية في النجف الأشرف وهو من تأليف الأستاذ الدكتور السيد عبد الهادي الحكيم نجل العالم المفكّر السيد محمد تقي الحكيم، وللسيد المؤلِّف دور كبير في التعريف بالنجف الأشرف وحوزتها من خلال كتبه الكثيرة والنافعة في هذا المجال العلمي. / بقلم: كاظم جواد الحكيم
وهذا الكتاب محل البحث هو الكتاب الثاني من كتابيه اللذين خصصهما لدراسة أدوار ومدارس البحث الفقهي الأصولي في حوزة النجف الأشرف حصراً. فقد سبقه بكتابه الأول الذي بحث فيه (أدوار ومدارس البحث الفقهي الأصولي من منتصف القرن الخامس إلى نهاية القرن الثاني عشر الهجريين) في حوزة النجف الأشرف.
وأقفُ ههنا عند جهد طيّب يستحق النظر والمراجعة؛ نظراً لما قدّمه السيد المؤلِّف من فهم دقيق وتوثيق مهم لمرحلة تأريخية بارزة من مسار البحث الفقهي/الأصولي في القرن الثالث عشر الهجري إلى القرن الخامس عشر الهجري في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، إذ تُعدّ هذه المرحلة دعامة تحوّل كبرى في مسار هذا البحث على مستوى مدارس أهل البيت (عليهم السلام) في كل البلدان الإسلامية.
لقد بنى السيد المؤلِّف أفكاره في الكتاب بشكل منهجي؛ سعياً منه لتحقيق أهدافه وغاياته، فقام بتحليل أحداث تلك الحقبة بشكل منطقي ومتسلسل، ورافق ذلك تلازم موضوعي بين فصول الكتاب ومباحثه، فضلاً عن التتبّع الموسوعي، والوقوف عند كل جزئيّات البحث، مستعيناً بأهمّ المصادر التي من شأنها أن تُغني البحث، وتوثّق الحوادث التأريخية الواردة فيه، وكان ذلك بأسلوب تعبيري مميّز، وبصياغة جميلة.
يقع الكتاب في (مائتين وواحد وثمانين) صفحة من القطع الوزيري، طُبع للمرة الثانية بطبعة مزيدة ومنقّحة وصدر عن (مركز كربلاء للدراسات والبحوث التابع للعتبة الحسينية المقدّسة قبل اسابيع). ينتظم الكتاب في ديباجة وخمسة فصول وخاتمة، فضلاً عن إضافة ملحقين، مع إدراج قائمة لأهم مصادر البحث ومراجعه.
قام السيد المؤلِّف بتقسيم هذه المرحلة الزمنية -من القرن الثالث عشر الهجري إلى القرن الخامس عشر الهجري- إلى خمسة أدوار، بدءاً من الدور الثامن وهو دور (المرجعين السيد محمد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر آل كاشف الغطاء) وبعدهما أنجال الشيخ جعفر وغيرهم من العلماء الأجلّاء، وانتهاءً بالدور الثاني عشر وهو دور (تلامذة المحققين الثلاثة: النائيني – الأصفهاني – العراقي حتى الانتفاضة الشعبانية عام 1991م) مروراً بالدور التاسع (للشيخ محمد حسن النجفي ومن عاصره من المراجع) والدور العاشر وهو دور (المجدد الشيخ مرتضى الأنصاري وكبار تلامذته ومعاصريه) والدور الحادي عشر وهو دور (المحققين الثلاثة: النائيني – الأصفهاني – العراقي ومعاصريهم الكثر).
يقرّر السيد المؤلف في ديباجته أنّ هذه المرحلة شهدت لأكثر من مرة أفول نجم مدرسة سابقة، وبزوغ فجر مدرسة أخرى جديدة، ممّا دعاه لتسمية هذا التدافع العلمي بـ(المدرسة البحثية البازغة المتغلبة).
قدّم المؤلِّف في الفصل الأول تصوّراً عن الدور الكبير للوحيد البهبهاني في تطوّر علمي الفقه والأصول، وبيّن كيف شكّلت مرجعيته نقطة انعطاف في تطوّر الحوزة العلمية في النجف من خلال تلامذته، لذا يقرّر المؤلِّف أنّ الجذور المهمّة للمدرسة الأصولية الحديثة في يومنا هذا تعود إلى جملة من النظريّات التي جاء بها المرجع الشيخ الوحيد البهبهاني، ثمّ أشار إلى مساهمته العظيمة في تنشئته لجيل باحث محقِّق من الفقهاء المجتهدين، وفي مقدمتهم المرجع العارف السيد محمد مهدي بحر العلوم والمرجع الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء.
ويسترسل المؤلِّف في الحديث عن السيد بحر العلوم ومَلَكاته فضلاً عن مميّزات مرجعيته، ثمّ عرّج نحو بيان الدور التجديدي للشيخ كاشف الغطاء وما تميّزت به ذائقته الفقهية وهو المهم في بحثه، مبيّناً بشكل موجز منهجيته في كتابه الكبير: (كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء).
ثم يشير المؤلِّف إلى أنّ هذه المرحلة محل البحث شهدت تدافعاً بين النهج القديم للشيخ كاشف الغطاء وأنجاله وبعض العلماء، والنهج الجديد للمرجع الشيخ مرتضى الأنصاري، والذي انتهى هذا التدافع برسوخ النهج الجديد للشيخ الأنصاري إلى الآن.
وينقلنا السيد المؤلِّف إلى مرحلة زمنية سابقة مستفيداً ذلك استفادة لطيفة دقيقة من خبر أورده المجتهد المؤرخ الشيخ محمد حرز الدين “أحد شهود ذلك – التدافع العلمي – في ترجمته للفقيه الورع الشيخ حسن بن مطر الخفاجي النجفي (١٣١٦ ه/ ١٨٩٨ م) أحد تلامذة المرجع الشيخ محمد حسين الكاظمي (١٣٠٨ ه/ ١٨٩٠م) ذلك الذي التمس أستاذه الكاظمي هو والفقيه الشيخ علي رفيش (١٣٣٤ ه/ ١٩١٦م) على إجراء بحث خاص ثانٍ لهما غير البحث الأول الذي كان يجريه – المرجع الكاظمي – لتلامذته الشباب وفق المنهج البحثي الجديد للشيخ
الأنصاري، شرط أن يجريه أستاذهما…وفق المنهج البحثي القديم للشيخ جعفر كاشف الغطاء وأنجاله الفقهاء فأجابهما إلى ما أرادا”.
ويعزّز الباحث استنتاجه بالتدافع العلمي بين المنهجين العلميين بنقله نصاً للشيخ حرز الدين جاء فيه: “وكنا نحضر معهما- الشيخ الخفاجي والشيخ رفيش – ثم اتسع البحث بحضّاره. وكان البحث الأول تحضر فيه الطلبة من الناشئة الجديدة على طريقة مؤسس بحث علم الأصول الشيخ المرتضى الأنصاري ومن نهج على طريقته وأسلوبه، والثاني جلّهم على الطريقة القديمة لدراسة الفقه والأصول أي على طريقة الشيخ الأكبر الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء…الخ”.
ويؤكد المؤلف على أن النهاية التقريبية للتدافع العلمي بين طريقتي الشيخ كاشف الغطاء والشيخ الأنصاري كانت بحدود وفاة المرجع الشيخ راضي (١٢٩٠ ه/ ١٨٧٣ م) مستشهداً بالنص التالي: “وبموته – الشيخ راضي – ماتت طريقة الشيخ كاشف الغطاء وأولاده في الفقه” بتغلّب طريقة بحث الشيخ الأنصاري في الدرس والتدريس إلا أن تُطلب طريقة الشيخ كاشف الغطاء وأنجاله بشكل خاص كما تقدم. وما عادت تُطلب اليوم في حوزة النجف الأشرف.
لقد خصّص المؤلف الفصل الثاني من كتابه بدور ومدرسة الشيخ كاشف الغطاء وأنجاله، فقام بذكر أشهر علماء ذلك العصر، معرّفاً بهم واحداً بعد واحد مبيّناً أبرز نتاجاتهم الفقهية والأصولية، ثمّ سلّط الضوء على الموسوعة الفقهية للشيخ الجواهري (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) مبيناً أبرز ملامح منهجيته ومميّزات كتابه، مشيراً بما لا يدع مجالاً للشك إلى القيمة العلمية لهذا السفر الخالد.
وتضمّن الفصل الثالث تعريفاً بثلّة من العلماء الأعلام في هذه المرحلة، ثم تلا ذلك بيان لفاعلية المجدّد الشيخ الأنصاري من خلال كتبه الرائدة في الفقه والأصول لا سيّما كتابي (المكاسب) في الفقه، (وفرائد الأصول) في أصول الفقه اللذين حظيا بعناية كبيرة إلى يومنا هذا، إذ ساهما في إرساء العديد من القواعد والنظريات والمناهج في مجال البحث الفقهي / الأصولي، ثمّ قدّم لنا المؤلّف قراءة موجزة للبحث الفقهي / الأصولي للشيخ الأنصاري من خلال هذين الكتابين، مع ذكر أمثلة تطبيقية لها من علمي الفقه والأصول، ليتضح بذلك الإبداع الفقهي والأصولي للشيخ الأنصاري.
واختتم السيد كلامه في هذا الفصل بالإشارة إلى أبرز تلاميذ الشيخ الأنصاري، مُجملاً الكلام في مناهجهم وآرائهم.
ويمضي السيد في بحثه وينتقل من مرحلة إلى أخرى بشكل تراتبي متناسق، ليصل إلى الفصل الرابع مقدّماً الكلام بأمرٍ هام، وهو أنّ الحوزة العلمية في النجف الأشرف لم تقتصر على النتاج الفقهي والأصولي، بل شهد دور المحققين الثلاثة النائيني – الأصفهاني – العراقي ظهور الكثير من النتاجات العلمية ذات الصلة بعلوم الفكر الإسلامي وقف عندها السيد المؤلف باختصار منها:
الجهد الكبير الذي بذله الشيخ محمد جواد البلاغي في مجال مقارنة الأديان، مسلّطاً الضوء على كتابه القيّم (الرحلة المدرسية) الذي كتبه مؤلِّفه بأسلوب مبتكر نتيجة لحاجة زمنه، ثمّ أخذ يبيّن أبرز الجهود العلمية في تجديد وتطوير كتابة الرسائل العلمية للمكلَّفين، مركّزاً الكلام في كتاب (العروة الوثقى) للسيد محمد كاظم اليزدي الذي جدّد في عروته الوثقى كتابة الرسالة العملية لمقتضيات ظروف عصره.
وخَصّص المؤلِّف المبحث الثاني من هذا الفصل لبيان دور المحققين الثلاثة بإيجاز، مبيّناً نظريات المحقق النائيني في الفقه والأصول، ودور المحقق الأصفهاني في منهجة علم الأصول، ثمّ عرض نموذجين لدور المحقق العراقي في الأصول، مستعيناً بنصوص توثيقية بشكل منهجي ومنظّم.
ويختطّ السيد منهجه الخاص في التسلسل بين المراحل الزمنية ليوثّق في الفصل الخامس قضية مهمّة، وهي وجود اهتمام ملحوظ في تفسير القرآن الكريم والبحث في العقيدة والفلسفة والتاريخ والسيرة وكتابة الموسوعات والتراجم وغير ذلك من العلوم الإسلامية، ملقياً الضوء على ثلاثة مؤلّفات مهمة في التفسير هي: (الميزان في تفسير القرآن) للمجتهد السيد محمد حسين الطباطبائي، و(البيان في تفسير القرآن) للمرجع السيد أبي القاسم الخوئي، و(مواهب الرحمن في تفسير القرآن) للمرجع السيد عبد الأعلى السبزواري، معرّفاً بمنهجية كل واحد منهم، مكمّلاً العرض في الجهود العلمية الأخرى ذات الصلة باستنباط الاحكام الشرعية كما في البحوث في علوم الحديث والرجال وفي الشعر والأدب أيضاً وغير ذلك.
ويضيف السيد المؤلّف أنّ هذا العصر العلمي تميّز – بالإضافة لما سبق – بأمرين:
أولهما: إعادة كتابة بعض الدروس المقرّرة لطلّاب الحوزة العلمية في مرحلتي المقدمات والسطوح نتيجة الحاجة المستجدة لذلك، وممّن استوضح الحاجة المجدّد الشيخ محمد رضا المظفر، فكتب كتابين مهمّين: (المنطق) لطلبة المقدمات (وأصول الفقه) لطلبة السطوح، بأسلوب منهجي يتناغم مع لغة الحاضر.
وثانيهما: إضافة دروس علمية جديدة إلى المنهج المقرّر لتمكين طالب العلم الديني من الإحاطة بآراء علماء المذاهب الإسلامية الأخرى وخاصة في علمي الفقه والأصول، وقد نهض بهذا الأمر السيد محمد تقي الحكيم بتأليفه وتدريسه لكتابه (الأصول العامة للفقه المقارن) في مسعى غير مسبوق لتأسيس أصول للمقارنة الفقهية بين المذاهب الإسلامية.
وهذان الأمران وظّف فيهما المؤلّف شواهد كثيرة؛ لأهميتهما، مع الحاجة الكبيرة إليهما في وقتنا الحاضر، لينتقل بعدها إلى المبحث الثاني من هذا الفصل والذي عرّج فيه المؤلّف على الدور الكبير لعلماء هذا العصر وهم: السيد أبي الحسن الأصفهاني، والشيخ محمد رضا آل ياسين، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والسيد محسن الحكيم، والشيخ حسين الحلّي، والسيد ميرزا البجنوردي، والسيد محمد باقر الصدر، والسيد أبي القاسم الخوئي، والسيد عبد الأعلى السبزواري، والشيخ محمد أمين زين الدين.
هذه إطلالة سريعة على ما كتبته أنامل مخلصة حلّلت وأرّخت لمرحلة تأريخية مهمة من مراحل الحوزة العلمية في النجف الأشرف.
المصدر : وكالة انباء براثا