خاص الاجتهاد: ينتمي فضيلة الشيخ الدكتور ذوالفقار كاشف الغطاء التي ولد في مدينة العلم النجف الأشرف (1395هـ ق / 1975م ) إلى أسرة العلم والأدب والفقه والفقاهة. دخل الحوزة العلمية في النجف الأشرف بعد إنتهاء المتوسطة. إنه خريج حوزتي النجف وقم المقدستين.
له نشاطاته العلمية والدعوية في العراق وخارجها بجانب مسؤوليته في مؤسسة كاشف الغطاء العريقة. إلتقينا فضيلته قبل أشهر في النجف الأشرف وكان حوارنا معه في مجالات شتى: كالحياة في حوزة النجف الأشرف والعوائل العلمية النجفية وما حل بها في زمن الطاغية صدام من التشريد والإجبار على البقاء ! ومعاناة الحوزويين في التعلم والتعليم وقلة التعامل العلمي بين الحوزتين و… وكان هذا الحوار مع فضيلة الشيخ في بيته حيث استقبلنا برحابة صدر :
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل علي محمد و آله الطيبين الطاهرين ولعنة الدائمة على اعداءهم من الآن الى قيام يوم الدين
خادمكم شيخ ذوالفقار نجل المرحوم الشيخ علي بن محمد رضا بن هادي بن عباس بن علي بن جعفر كاشف الغطاء الذي عُرف بكتابه ” كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء”.
الحياة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، تنقسم إلى التقسيمات التالية:
التقسيم الأول: يعتبر الطالب طالباً مبتدئاً ويختار في المقدمات الكتب الدراسية المعبّر عنها بكتب الآجروميّة، ومن ثم مرحلة الأجرمية، النحو والفقه وبعض المطالب الأصولية.
ثم ينتقل من مرحلة المقدمات إلى مرحلة السطوح، وهذا يتمثل أيضاً بمستوى أكثر عمقاً في مجال النحو والفقه والأصول. هنا تُفرض الأصول.
هذه السنين عادةً كم سنة؟ وما هي المراحل الدراسية؟
عادةً في الحوزة العلمية في النجف الأشرف لا يُحدّد بالسنين ولا الأعوام. إنما بحسب الكتاب وبحسب اجتهاد الطالب نفسه، وبحسب قدرة الأستاذ على هذا الشيء. لا يحدد المنهجية كما هو… ( هناك فروقات بين حوزة قم وحوزه النجف سنذكرها إن شاءالله).
فمرحلة السطوح أولاً، ثم بعد هذا المرحلة ينتقل إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة البحث الخارج والذي يعبّر عنه حضور الطالب عند أحد المراجع المعروفين والذين هم من أهل الخبرة والبنية العلمية.
وما يزال هذا هو ديدن الحوزة، يعني لم نرَ أو نسمع من آباءنا ولم يُنقل لنا أنّ هذه الدراسة في حوزة النجف قد تغيّرت. لا، إنّما مازال القديم على قدمه. فيكون الطالب مستعداً للدراسة ولا يقيد في ساعة معينة. إنما أغلب الأوقات هي أوقات الصباح. هذا من ناحية استراتيجية حوزة النجف في مجال الدراسة.
الزيّ المتعارف
الزيّ المتعارف الذي يلبسه طالب الحوزة كما هو نفس الزي المتعارف في قم المقدسة. وهو الزي المعمم وليس هناك فرق. إنما الآن في الآونة الأخيرة ممكن حضور بعض الطلبة بالدشداشة، التي تسمى دشداشة في المصطلح النجفي. ولكن في قم يمكن هناك بنطال وقميص والذي يعبّر عنه “بالبدلة الرسمية”. هذا من ناحية الزي.
وكان هناك عادات وتقاليد وأعراف حوزوية خاصة مثل؛ لابد من لبس المَداس أو النعلين، أما الحذاء فلا، فهو كان شيء مستقبح. لا نقول بمعنى الحرمة، إنما مستقبح بين أوساط الطلبة.
أما الآن فلا، هناك بعض التغيرات التي حدثت من ناحية الزيّ، وكذلك يوجد الآن في النجف تغييرات من الناحية الدراسية. آل كاشف الغطاء ايضاً عندهم منهجية في مسألة الدراسة. والآن أصبح الطالب يدرس وبإمكانه أن يدرس كتباً غير الكتب المتعارفة والمتداولة، يعني كان الأمر مقتصراً على مسألة النحو والفقه والأصول. أما الآن فلا، فطالب الحوزة في النجف يمكن له أن يدرس الفلسفة.
يمكن أن نعتبر أنه من الفروق الممكنة بين الحوزتين النجف وقم، هي أنّ حوزة النجف تمتاز بالعوائل العلمية منذ القديم. آل كاشف الغطاء لهم أصول قديمة في حوزة النجف العلمية، كذلك آل الصدر وآل الحكيم والكثير من العوائل التي ظهر فيها مراجع أو علماء كبار.
مسألة العوائل النجفيّة وهي حقيقة ما يحزُّ في النفس كثيراً. فقد كانت العوائل النجفية لديها على الأقل أربعة أو خمسة من أبنائها معممين. ولكن تعرفون الظلم الذي وقع على النجف. ما أعنيه هنا هو الظلم الخارجي والظلم الداخلي.
الظلم الذي مارسه صدّام؛ ففي زمن الطاغية كان هناك الكثير من الأيادي الخفيّة التي جعلت تلك العوائل تنفر من السلوك الحوزوي؛ لعدة أسباب منها الأسباب الإقتصادية وانعدام الدعم المعنوي لتلك العوائل، أقولها لكم بصريح العبارة، أنظر إلى أبناء كاشف الغطاء لم يكن لهم أي دعم.
يعني هناك عوائل نجفية لازالت متواجدة لكن ليس كما ينبغي من ناحية السلوك الحوزوي. تعلمون أنّ العامل الإقتصادي هو عامل مهم للغاية، وكذلك العامل السياسي، ولا يقلّ عنها أهمية العامل الإجتماعي. فهذه العوامل الثلاثة قد أهلكت العوائل النجفية، ولا يقتصر الأمر على النظام السابق، بل الأمر يتعدّاه إلى الدول الأخرى التي كانت السبب في ذلك أيضاً.
لماذا؟ لأنها تركت العوائل النجفية، فنتيجتها كانت الضغط عليهم. ومن ثم الوصول إلى هذه المرحلة. والآن آل كاشف الغطاء يسعى لإعادة البناء، وهدفه الأكبر الوصول إلى مراحل أخرى من تطور علمي واجتهاد وما شابه ذلك.
هل بدأت تلك الفترة الذهبية تعود بعد السقوط؟
الآن بعد السقوط بدأت ترجع وتعود، لكن للأسف وأعتذر عن اللفظ فإن هذا المدّ الآن هو مدٌّ صدّامي. فنحن لم نرَ أن شيئاً قد تغيّر ولا من أية ناحية لدى العوائل النجفية. فقد حدث شرخ وفجوة بين تلك العائلات النجفية وبين الآخرين. نحن نرى أنه لا يوجد ثقة متبادلة ولا أحد يتقرّب من تلك العوائل؛ العوائل النجفية الآن في حالة رشد وتطور، لكن إذا استمرت هذه العزلة فقد تتخذ مسلكاً آخر.
هل بإمكانكم أن تعبر عبرة سريعة على هذه العوائل التي تسميها؟ فتلك العوائل زمن صدّام كان لها حضورها وعلماؤها فما الذي حصل لها بعد صدّام؟ ابتداء من آل الصدر وآل الحكيم وآل كاشف الغطاء وآل شبّر وبقية العوائل التي كنّا نسمع عنها أكثر من الآن.
لا نستطيع أن نحصي العوائل النجفية التي كانت في النجف. بيت الدُّجيلي مثلا، بيت الميثم، بيت الخرسان، بيت كاشف الغطاء، بيت الحكيم، بيت آل الصدر و .. كلهم بل أكثرهم من العوائل النجفية، صدام بدأ يحاربهم. فنحن مثلاً في زمن صدام؛ أنا واخوتي والشيخ أسعد والشيخ عباس والشيخ محمد الكرباسي اعتقلنا في زمن الصدام. واستمر ذلك حوالي أربعة أشهر ماعدا الإعتقالات السابقة المتكررة. ودائماً كانت الجريمة هي إحياء تراث آل البيت. فقط هذا. يعني كما تعرفون كان همّ صدام القضاء على تلك المسألة، وكان هدفه القضاء على علم شيعة آل محمد.
يعني أنهم لم يكونوا يقولون لك أنك تعمل سياسي! لا، بمجرد أنك تعمل على إحياء تراث آل البيت تُحبس. وكذلك آل الخرسان وكذلك آل الصدر وكثير من العوائل.. لو تسأل الآن أين عائلة فلان؟!. بيت الحبوبي، لعلّهم الآن علمائهم بعدد الأصابع بل أقل. وكان من المعروفين بيت الدجيلي وبيت الخرسان، بيت نصار، بيت كاشف الغطاء، كان والدي ينقل في هذا المكان، كان يجلس معهم تقريباً خمسين مجتهد في بيت آل كاشف الغطاء، هذا كمثال.
ماذا حلّ بهم. مثلاً هؤلاء الخمسين؟
حلّ بهم أمور كثيرة. فقبل مجيء صدّام الطاغية كانوا خمسين. لكن عندما جاء لم يبقَ هذا العدد، هذا ما قصدت قوله. يعني كان هناك عدّة مراجع في بيت واحد، مثلاً ما يقارب الخمسين مرجعا من عائلة واحدة.
لكن عندما جاء صدّام أصبح حتى على مستوى مرجع واحد أو مجتهد، وربما لا يوجد. فهذه حال النجف زمن الطاغية صدّام. وأعتذر إن قلت أنه حتى من الخارج لم يعتنوا بالعوائل النجفية. فبعض العوائل خرجوا بإرادتهم، وبعض العوائل اُجبروا من قبل صدام على البقاء. لماذا؟ لإستغلالهم.
بعبارة أخرى أجبروا على البقاء. لأنّ الكثير من العوائل في النجف قد أُجبرت لأجل: أما أن تكون معي، إما اذا كنت ضدي فتعدم. وكان هذا الإعدام بمثابة ضربة معنوية للآخرين. أو لكي يستغلهم في مجاله وفي سلطانه.
وهذه نقطة هامة. أجبروا على البقاء. يعني مثل آل كاشف الغطاء كان صدّام يقيّدهم بالسفر. مثل أخي الشيخ أسعد الذي عاد الآن إلى العراق. أُجبر على البقاء. فمن ناحية كان مقيداً من قبل السياسة ومراقبون، وكذلك أنا لم أستطع السفر في زمن صدام ولا والدي، فأُجبروا على البقاء، واستُغلّوا للسياسة.
وكذلك هناك عوائل موجودة أجبرت على التسفير. فنظام صدّام الطاغية خلق نوعاً من الضوضاء في الحوزة العلمية. وهذه السياسة هي سياسة صهيونية لتهديم آل البيت(عليهم السلام). الهدف منها محو ذكر آل البيت عليهم السلام.
في تلك الفترة، وبعد مجيء صدام، ماذا حصل للحوزة؟ وكيف كانت الدروس ؟
كان جهاد حقاً في زمن صدام بالنسبة لطالب الحوزة، فكيف بالنسبة للمجتهد والعالم. فالطالب كان يأخذ الكتاب الدرسي! مثل كتب النحو والاجرومية ويزيل صفحة الغلاف عنه، فمثلاً كان الشيخ أسعد حفظه الله حينما يدرّس الحلقات، وهو الآن يدرّسها، يمزق الغلاف والصفحة الأخيرة، وعندما يسأل رجل الأمن ما هذا الكتاب؟ نقول له هذه أوراق ذاهبون لنشتري بها حلوى حتى لا يعلم بأمر الكتاب؛ فلو وجد مثلاً أن الكتاب هو كتاب أدعية أو مفاتيح الجنان فالشخص يُعدم و يُسجن.
وبالنسبة للدروس كيف كانت؟ وهل أصبحت حلقات دراسية شخصية؟
كانت الدروس خفيةً فرادى فرادى. فقد كان المقرّبون من السيد الخوئي “رحمه الله” يحضرون الدرس ثم ينقلونه إلى الآخرين. وأصبح هناك حلقات دراسية شخصية، ولكن تارة تكون خفية وتارة شخص له حظوة أو له شىء معيّن عند الدولة حتى يتّقي الشر (كما يعبّر عنه في اللغة الدارجة)، مثل هذا الشخص يمكن أن يدرس لكن لم أشاهد أبداً درس جامع أو حلقة كبيرة. وبالنسبة لدرس السيد الخوئي رحمه الله زمن صدّام فإنني لم أحضرها وليس لديّ فكرة عنها. ربما كان هناك بعض الدروس التي لم أسمع بها حتى نكون دقيقين في نقل التاريخ.
بعد سقوط صدام، بدأت الحوزة تعود الى الحالة السابقة وترجع إلى نشاطها المعهود، تفضلوا لنا شيئاً عن تلك الفترة، من هم الذين بدؤوا بالتدريس في الحوزة؟
الحمدلله وببركة أمير المؤمنين واللطف الإلهي زالت الغمامة السوداء، وحتى الغمامة السوداء أنا أعتبرها بمثابة رحمة من الله، ولكنّ صدام ليس برحمة وإنما نقمة وامتحان، حقيقة كان امتحان لمن يصبر على بلاء صدام وهو في السلك الحوزوي. وحقيقة أنا أفتخر أنني كنت في زمن صدام أو أخوتي،وفي سلك الحوزة وهذا بحد ذاته امتياز. لبس هذا اللّباس المعمم وأن تخرج به في زمن صدام كان يعتبر هلاكاً. فالحمدلله زمن صدام ولّى.
ولكن بعد ما دخل الإحتلال (لعنة الله عليه) والله سبحان وتعالى جعل الإحتلال ذو مطامع. يعني طامع بالأموال فتوجه في اتّجاه آخر، فالحمدلله تطورت الحوزة، والذين كانوا فترة صدام في قم جاءوا من إيران وببركة الجمهورية الإسلامية درسوا قاموا بفتح دورات هنا، مثل الشيخ هادي الرازي ومثل الشيخ باقر الإيرواني. فالحمدلله ببركة أمير المؤمنين وبفضل مكتب السيد القائد الخامنئي افتتحت هنا مكاتب كثيرة وتطورت.
فالحوزة بحمدلله، صارت على ما هي عليه من التطور ببركة السيد السيستاني حفظه الله، لكن لا يخلو الأمر من نقص. فبعض الأمور والجوانب العلمية نطمح أن تكون ذو مستوى أعلى من الناحية العلمية، ومن ناحية الإجتهاد والبرامج العلمية، نطمح أن تمضي قدماً نحو التطور العلمي، ونحو التعمّق أكثر في الدراسة.
أنا درست في قم والنجف عشر سنوات بعد السقوط. حينها ذهبت إلى إيران لأول مرة ودرست هناك في جامعة المصطفى العالمية، وتوفقت إلى مرحلة الدكتوراه ثم رجعت وأتيت بالكتاب إلى سماحة السيد السيستاني فسألني السيد: ايهما أفضل؟ قم أم النجف؟ فأجبت: الحوزة النجف مثل الوردة و حوزة قم مثل الوردة أيضاً و نحن النحل الذي يجني رحيقهما. فحوزة النجف وحوزة قم كلاهما وردة ولكن على طالب الحوزة أن يعرف كيف يحصل على نتائج صحيحة.
برأيكم ما الفرق بين الحوزتين؟
برأيي لا يوجد بينهما فرق. جوابي دائماً أنه لا فرق بين حوزة النجف وحوزة قم. فبالنسبة إلى الفوارق، أنه في حوزة قم توجد منهجية وهذا ببركة الجمهورية الإسلامية. وفي الحقيقة يمكن أن نمثل هكذا: شخص عنده ذهب وشخص عنده صياغة، ففي قم تستطيع أن تصوغ هذا العلم. وفي النجف يوجد العلم ولكن يحتاج إلى صياغة أكثر. فكلاهما شيء مكمّل للآخر. فالمنهجية موجودة في قم، ويعبّر عنها بالسطح الأول والسطح الثاني والسطح الثالث. هذا التقسيم وجدته جيد للطالب.
وماذا بالنسبة لجامعة المصطفى؟
جامعة المصطفى هي خطوة جيدة من عدة نواحي وهي منظّمة ومكتملة؛ ولكن كنت دائماً أقول لهم: الذهاب واجب لكن هناك حرمة البقاء لطالب الحوزة. يجب أن يذهب الطالب ويبقى سنتين أو ثلاثة حسب مراحل الدراسة ثم يرجع. وكذلك الآن توجد رغبة بين الطلاب العراقيين الشباب للذهاب إلى ايران والالتحاق بجامعة المصطفى وكذلك الدراسة في قم بأي شكل كان: سواء الحوزة التقليدية أو جامعة المصطفى.
وهل اقترحت ذلك عليهم ؟ وهل للجامعة فروع في العراق؟
نعم أقترحتُ ذلك عدة مرات وفي عدة أماكن. يعني نتمنى من جامعة المصطفى أو من الحوزة أن تختار نماذج، مثلاً عشرة أشخاص أو أكثر، وهم يشترطون عليك البقاء لمدة ثلاثة سنوات، أو خمس سنة وترجع بعدها. أما بالنسبة لفروع جامعة المصطفى في العراق فهي موجودة في بغداد فقط. وهي جامعة ناجحة و ممنهجة و موفقة بشكل عام.
إذا بإمكانكم تصوروا لنا صورة عن حوزة النجف الحالية من حيث الدروس؟ مَن الذين يدرسون بحث الخارج، ما هي الدروس، ماذا يدرسون؟
الآن مازال درس الشيخ بشير النجفي والشيخ إسحاق الفياض والسيد علي أكبر الحائري والشيخ باقر الإيرواني مستمراً، وكذلك درس الشيخ هادي آل رازي. ومن آل كاشف الغطاء، الشيخ أسعد كاشف الغطاء يدرس(سطوح)، كذلك عندنا دروس (السطح) لا زالت مستمرة. ودروس السيد محمدرضا السيستاني، والسيد محمدباقر السيستاني كذلك مستمرة، وهناك الكثيرون والحمدلله.
أما بالنسبة لعدد الدارسين فلا أستطيع تحديد ذلك. البحث الخارج لااقل من عشرة أو ما يقارب ذلك. والمتعارف أنّ البحث الخارج عادةً هنا بحث اصولي وفقهي. فالأستاذ الذي يطرح المسائل الأصولية هو من يطرح المسائل الفقهية. أما بالنسبة لبقية الدروس فدرس الفلسفة غير موجود ولم يبدأ في النجف. لعله موجود و لكن لا أعلم. ليس مشهوراً. أما الدروس الكلامية فأنا ادرس علم الكلام. المحاضرات في الإلهيات للشيخ السبحاني يدرّس في النجف.
هل يوجد الآن درس في التفسير أو في الكلام بمستوى درس الخارج في الفقه والاصول؟ و هل توجد مدارس مبرمجة لو صح التعبير، غير المدارس الحرة، تحت إشراف بعض المراجع العظام حفظهم الله، في النجف ؟
بالنسبة لي لا أعرف ولم أسمع بهذا الشيء. لعله يوجد ولكن أنا لم أسمع به. هناك مدارس موجودة و فعالة ويدرس بها الطلبة ويمارسون حياتهم اليومية ونقاشاتهم وبحوثهم وكذلك الحلقات الدراسية. مثل مدرسة المهدية لكاشف الغطاء، ومدرسة الآخوند الكبرى والوسطى ومدرسة قوام. و هناك مدارس كثيرة بدأت نشاطات علمية ومبرمجة وقديمة ودروس حرة. ولكن الغالب هو الفقه والأصول والنحو و هو الحر.
والآن أصبح هناك اختيار الطالب في المدرسة (بعض المدارس وليس كلها)، ضمن شروط، مثل شروط الإمتحان أو شروط السن كذلك. بعض المدارس وضعت برامج. بينما في السابق لم تكن هذه الشروط. مثل الالتحاق وأخذ الحجرة في المدرسة لم تكن موجودة. انما في الآونة الأخيرة أصبحت هناك شروط معينة توضع لطالب الحوزة في المدارس.
كما تعرفون نحن في ايران إذا أردنا أن نلتحق بالحوزة فهناك مؤسسة خاصة باسم إدارة الحوزة، ويجب عليّ أن أذهب إلى مديرية الحوزة لأسجل إسمي و أقدم إمتحان خاص، وأقضي مدة من الزمن، فإذا كان هذه المدة مقبولة فإنني أُقبل كطالب في الحوزة، و بعد عدة أشهر ينظّمون لي راتب شهري والتأمين وأمثال ذلك، الآن إذا أراد طالب الحوزة أن يلتحق بالحوزة في العراق فماذا عليه أن يفعل ؟
يوجد الآن مثل هذا في الآونة الأخيرة، بعضهم فعلوا ذلك والبعض تركوا هذا الشيء. كانت هناك لجنة تسمى اللّجنة الرباعية (بعد سقوط صدام)، فطالب الحوزة يأتي الى اللجنة الرباعية، وحتى طالب الخارج إذا التحق بهذه اللجنه يقدم امتحان ثم إذا نجح بالإمتحان يُصرف له راتب، و إذا كان من طلبة الخارج يعطوا له إقامة في النجف وتكون إقامة سنوية وامتحان واحد. و إذا أراد أن يرفع الراتب يعني ينتقل إلي الرتبة الثالثة يمتحن مرة أخرى.
واللجنة تكون من مكاتب المراجع الأربعة: السيد السيستاني، الشيخ بشير، والشيخ إسحاق الفياض، والسيد الحكيم. ولكن يمكن لطالب الحوزة أن لا يلتحق باللجنة. ليس مثل المديرية وأنه يجب على كل طالب حوزة أن يأتي الى المديرية وإذا لم يأتِ إلى المديرية لا يُفسح له المجال في الحوزة. هنا لا، يمكن أن تأتي عن طريق هذه اللجنة ويصرف لك الراتب والإمتيازات الأخرى حتى السكن في المدارس، وممكن أن تأتي من غير اللجنة، فيأتي الى الحوزة ويمارس حياته الطبيعية والدروس. أما كيفية أخذ الراتب فلعله من استمراريته في الدرس أو شيء كهذا، يعرف بحاله أو من نشاطه العلمي، أو يضطر بعده إلى الإلتحاق بهذه اللجنة.
عفواً، لماذا هذه المراجع الأربعة؟ حالياً في العراق كثير من المراجع.
ليس هكذا. إنما هذا مصطلح وأنا أسجّله وليس هناك شئء. هذا المصطلح “المراجع الأربعة” غير مفروض على المجتمع. ليس مختصراً على كون المراجع الأربعة ودونه ليس مرجع. لا، هذا لا يفهم من هذا الكلام، لا نقصد القول أن المرجعية مختزلة فقط بهؤلاء الأربعة. لا، أستغفرالله، ليس غايتهم هكذا، ولكن ظهر هذا المصطلح بعد السقوط.
نحن في الأصول نقرأ؛ أنت لا تعرف أن تعمل البيضة، ليس معناه أنك لا تعرف نهائيا تشغيل الطبّاخ و…ليس هذا المقصود من الكلام. لا، ليس معناه حينما نقول: لدينا في النجف المراجع الأربعة وهذا معناه أنه حتى في قم ليس هناك مراجع. بالعكس بل المراجع الأربعة يؤيدون أي مرجع يأتي. إنما أصطلح بينهم وليس مقتصراً عليهم. ولعلّ شهرته أتت حينما يأخذ الطالب الراتب فيقول: استلمتم من المراجع الأربعة.
الآن فقط هؤلاء المراجع الاربعة الذين يعطون الراتب للطلبة؟
لا، موجود مكتب السيد الحائري والمراجع الأخرى ولبعضهم شروط خاصة.
كانت حوزة النجف منذ القديم، أول مؤسسة دينية تواجه أي إستعمار. أقصد مجال العلم. مثلا بعد أن كُتب كتاب داروين، تصدّى له السيد الصدر قبل مئتي سنة وكتب كتاباً ضد داروين وهو في النجف، وبعد ذلك كانت حوزة النجف بشكل عام حاضرة للتصدّي للهجمات المناهضة للدين والاسلام. الآن و بعد أن فعل صدّام ما فعل، هل تشعرون بأنّ النجف تمرّ بنفس الحالة، وهل هناك بحوث ودراسات جديدة للمسائل المستحدثة والمسائل الجديدة لما يسمّى بالحضارة الغربية، يعني هل توجد الآن هذه الدروس، و هل هناك مؤسسات تعنى في هذا المجال؟
أنا صريح معك. من ذهب إلى ايران ورجع عنده هذه القدرة على التصدي (أنا أتكلم بعد سقوط صدام) إلى بعض المسائل المستحدثة، أو العقائد أو الفكر العقائدي. ولكن أرجع وأقول أن النظام السابق لم يفسح المجال لأحد للتصدي لأي فكر.
لا يستطيع أي طالب حوزة أن يتصدى للفكر الوهابي لأن صدام يعدمهم. لماذا؟ لأن صدام يأخذ بذلك الفكر والفكر الشيعي هو فكر باطل.
أما بعد السقوط تغير الوضع، الآن هناك حوالي ثلاثة بحوث، مثل المسائل المستحدثة التي كتبتها أنا “توقيف العين وتسبيل المنفعة في الأعضاء البشرية”. أو مثلا وقف التطبيقات المجازية، التطبيقات والبرامج الالكترونية هل يجوز فيها الوقف أو لا يجوز؟ أو هذه الأعضاء البشرية هل يجوز أن أوقّفها إلى طلبة الحوزة العلمية حين الوفاة؟ هذا من المسائل المستحدثة التي أكتب بها في هذا المجال.
ولكن ما بقي من تلك الأبحاث ليس تقصيراً. لكن لم تتوفر الأدوات. يعني الكثير من الأدوات العلمية أو المؤسسات العلمية لم تأتِ من ايران إلى هنا. وها أنا أتكلم بمنتهى الصراحة دون مجاملة. لم تأتِ من إيران وإيران لها السبق في هذا الشيء، ولكن ايران في هذا المجال لم تأتِ بشيء الى الحوزة.
فأنا أقول: لماذا يفلس الطالب من الجمهورية الإسلامية في القضية العلمية؟ أليس هناك مؤسسات عقائدية تأتي هنا ويفتح مؤسسات عقائدية؟! أليس هناك مؤسسات فكرية؟ فلماذا لاتأتي وتفتح مؤسسة فكرية؟ أليس هناك مؤسسات لديها دراسات إجتماعية وأسرية؟ هذا الذي أقوله. وسيكون هذا الأمر ناجحاً لأنه جانب علمي وليس جانباً سياسياً، إنما جانباً علمياً والجانب العلمي لايخاف الإنسان منه.
الشيج جواد الآملي أقام مؤسسات الآن، وهل واجه ذلك ترحيباً من الطلبة؟
نعم هذا صحيح ممكن أن تذهب وترى الطلاب الموجودين هناك وهذا أكبر دليل على قبولها. الجانب العلمي لا نخاف منه. الآن لو جاء شخص وعنده جانب علمي فهل تقوم حوزة قم بطرده؟ بالطبع لا. هذا ما تقوم به الحوزة بالفعل، فهي عادة ما تصوغ إنساناً علمياً، وحينما تكون له حصانة علمية فلا يخشى عليه من جانب سياسي أو غير سياسي.
وبالنسبة إلى التطبيقات والبرامج الالكترونية والمواقع، هل يستفاد الطلبة منها؟
هذا شيء مسلّم به، فكل طالب أصبح الآن يتداول البرامج العلمية مثل برامج نور وغيره، وكذلك مدرسة الفقاهة وغيرها الكثير. وغير هذه البرامج هناك منشورات قم تأتينا، وآخر الإنتاجات تصل تباعاً.
المشكلة هي أن هناك قليل من الطلبة العراقيين يعرفون الفارسية، وعادةً القميون لا يكتبون بالعربية مع الأسف، إلا القليل.. حاولت أن أقرأ مكتبة متخصصة في الكتب الفارسية لكنني لم أجد، لقد استغربت الأمر وتمنيت لو يكون هناك مكتبة خاصة بالكتب الفارسية، والاعجب من ذلك أنني وجدت مكتبة متخصصة بالكتب الإنكليزية.
الآن أستطيع أن أجد شروح الكتب للجامعات باللغة الإنكليزية، ولكن استغربت وكما يقولون ربّ صدفة خير من ألف ميعاد…لماذا لا تكون هناك مكتبة كبيرة ومؤسسة متخصصة فقط بالكتب الفارسية؟
قد تتساءل هل يوجد من يشتري تلك الكتب بالغة الفارسية؟ وأنا أقول لك ربما يوجد من يشتريها. وبالنسبة للرغبة وهل نجد من يقبل القيام بذلك فأقول أنه لابدّ من التحضير للموضوع، فالكتب الفارسية مقبولة طبعا أكثر من الكتب الإنكليزية. على سبيل المثال الآن الأغلبية الكتب الموجودة عندي في ديوان كاشف الغطاء هي فارسية لماذا؟ لأني أعرف الفارسية. فالكتب والإنتاجات الفارسية تحتاجه حوزة النجف. وكذلك من واجب حوزة قم أيضاً الآن لو أرادت أن تخدم العالم السلامي أن تعنى بالكتابة باللغة العربية. فهذا أمر مسلّم به، بل إنه واجب.
بما أنه لكم تجربة في حوزة قم، فكم من الفكر القمّي والإنتاجات العلمية لها تصل إلى النجف؟
هناك كتب ونتاجات مثل كتب الشيخ الجوادي وكتاب التسنيم، كتاب التسنيم باللغة الفارسية وليس باللغة العربية، والكتب الأخرى للشيخ السبحاني وكتب الشيخ المصباح وكتب الفضلاء الجدد. الشيخ مطهري له كتب كثيرة مترجمة ومعظمها تدور حول الأسرة والمجتمع.
أما الآخرون مثل خسروبناه وبارسا نيا فهؤلاء لا تجد كتبهم مترجمة…و فكرهم لم يصل إلى هنا، وهم لديهم جانب علمي وهناك ترجمة لكتب المتنورين لو صحّ التعبير.
هناك مؤسسات في لبنان كما تعرفون تعنى بترجمة تراث آثار بعض المتنورين لو صح التعبير، الذين لهم آراء خاصة وشاذة بين المفكرين الإسلاميين وغير الإسلاميين كملكيان وسروش وغيرهم. فهل يوجد لهذه الكتب سوقا في النجف؟
متداولة بعض الشيء ولكن بشكل محدود. وكما تعرفون فهناك في النجف مؤسسة وأشخاص و مجموعات تقوم بترجمة الآثار من اللغة الفارسية. ربما لا أتذكر اسمها الآن ولكنها موجودة وقد بدأت حركة ترجمة الكتب الفارسية إلى العربية.
العفو على المداخلة.. برأيكم يمكننا الآن أن نعتبر أنّ هناك حلقة وصل وتعامل بين الحوزتين أم ليس؟
نعم التفاعل والتعامل موجود على أعلى المستويات، ففي النجف توجد مكاتب المراجع الذين يسكنون في ايران مثل مكتب السيد القائد والسيد الحائري، والمراجع الأخرى وكذلك في قم المقدسة توجد مكاتب مثل مكتب السيد السيستاني والمراجع الآخرين.
فإذا سألتني هل هناك تفاعل على مستوى الطلبة أو على المستوى الفكري؟ الفكر النجفي هناك بعض المواقع تبث وتنشر الدروس الخارج وأشياء مثل هذا، يعني هل وصل فكر النجف الحاضر الآن الى قم وبالعكس أو لا نحن نحتاج إلى عمل أكثر؟
فسأجيبك وأقول لا، نحن نحتاج الى تفاعل أكثر عمقاً ودقةً في نقل الفكر، ونقل الأفكار وتلاقح الأفكار بينهما. نعم يحتاج إلى فترة زمنية بأن ننقل شيئا من النجف إلى قم وبالعكس. النجف تحتاج الكثير. النقل من قم إلى النجف هذا شيء مسلّم. بعبارة أخرى النجف بحاجة أكثر إلى أن يُنقل إليها من قم..ففي قم كل شيء موجود ولا تحتاج إلى شيء، فما هي الدروس وما هو الشيء الجديد الذي يمكن نقله إليها.
والكلمة الأخيرة هي الدعاء، إذا ليس هناك ما هو أفضل من الدعاء: يا عماد من لا عمادله، ويا سند من لا سند له ويا عظيم العفو. اللهم نسألك التوفيق وحسن العاقبة، ونسأل الله لكم التوفيق وللجمهورية الإسلامية ونتمنى أن يكون هناك حلقة وصل علمية بين حوزة النجف الأشرف وقم المقدسة إن شاء الله والحمدلله رب العالمين.