صدر عن مؤسسة الشيخ زين الدين للمعارف الإسلامية كتاب ” في الطريق إلى كربلاء ” للشيخ ضياء الدين زين الدين في 215 صفحة.
خاص الاجتهاد: يقول الشيخ ضياء الدين في مقـدمة الكتاب أن الخطوط العامة لهذا الحديث كانت قد قدمت ضمن بحث، ألقي في بعض أنشطة مهرجان ربيع الشهادة الذي أقيم في العتبتين الحسينية والعباسية المقدستين، سنة (1429) للهجرة النبوية الشريفة، ولست أعلم ما إذا أخذ البحث طريقه إلى النشر – كما وعد الإخوة والأبناء القائمون على المهرجان – أو لا .
ولكن أهمية الموضوع – الذي تناوله الحديث في المسار العقائدي والثقافي لأبناء الإيمان -، فرضت عليّ تجديد النظر فيه، قبل أن أضعه بين يدي قرائي الكرام بهذه الحلة الجديدة، التي أرجو أن تنال ولو بعض رضاهم .
فالموضوع – وكما سيراه القارئ العزيز – يعتبر واحداً من الركائز الأساسية، لا لخصوص رؤية المسلم للنهضة الحسينية أو أحداثها فحسب، وإنما لكل رؤاه الدينية، بل وعلاقاته العقائدية والعلمية مع جميع حقائق دين الله (تعالى) وبيناته، وخاصة ما يتعلق منها بأصفيائه المنتجبين “صلوات الله عليهم”، وما يصدر عنهم من كلمات ومواقف .
فالحديث – وإن ورد بصورة لفتات سريعة ومختصرة – مما يحتاجه المثقف المسلم في إدراكه لطبيعة النهضة الحسينية المباركة، وفي تصوره لما تعنيه أحداثها ومواقفها، وكذلك البينات الإلهية فيها، والرعايات الربانية لها، أو لبعض شؤونها، وفي فهمه كذلك لطبيعة عنايات العصمة بها وبآثارها في دين الله (تعالى)، وفي الحياة الإنسانية على حدّ سواء، كما يحتاجه المثقف في تصور المناهج التي يجب اتباعها في أي تعامل له معها، وعلى أي صعيد ..
.. المناهج التي تستقيم مع أصول الحقائق الإسلامية الكبرى ذاتها، كما تستقيم مع التوجهات العلمية والفكرية التي بنيت عليها المعرفة الإنسانية في آفاقها المختلفة.
ولا أعتقد أن أهمية هذه النقطة وأمثالها بخفية على أحد من بني الإسلام ، وخاصة حينما يحمل – ولو – قسطاً بسيطاً من الرؤية الثقافية، فضلاً عمن يحمل درجة عالية من العلم والقدرة على تمييز الحقائق، وخاصة حينما يكون هذا الشخص ذا منزلة رفيعة بين أبناء الإيمان .
فالمثقف المؤمن يعلم بأن الحجج الإلهية في رسالة الله الخاتمة، كلها تلزمه بأن لا يؤمن إلا عن بينة، وبأن لا يتبع إلا الحجة النيرة، ولا يسلّم في إيمانه إلا إلى العلم واليقين ..)إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ( .
وهو يدرك أن هذا المدى من البينات الإلهية وحده هو الذي يوحد شخصيته المؤمنة في أفقيها العلمي والديني .
ومن خلال هذا المدى وحده تتكامل له شخصيته في طريق الله القويم، وفي طريق العلم الصحيح والمعرفة الصادقة أيضاً، وبشكل تسمو بها على كل ما يهن بها من شبهات وما يضعفها من انحرافات .. ولا ندخل في شواهد هذه الجوانب، فهي من بديهيات العلاقة مع دين الله (تعالى) .
أهمية الوعي العلمي
وتتضاعف أهمية هذا المدى النير من العلم بحجج الله (تعالى) وبيناته للمسلم، كما تتضاعف أهمية المناهج التي يجب أن يتبعها في كل منها، مع ملاحظتنا لكل من الأمور التالية :
أولاً : تنامي الدور العلمي والثقافي في مسار الشعوب ضمن الحاضر من العصور، حيث جعل العلم هو الغاية التي تستقطب الأذهان في جميع آفاق الحياة، وحيث أصبحت المنهجة والتخطيط هما الركن الفعال في مفاصلها، حتى ضمن المجالات السلبية من الحياة، حيث يسعى الهادمون إلى استغلال الضعفاء واستعبادهم، فضلاً عن المجالات الإيجابية.
ثانياً : الانفتاح العالمي على دين الله (تعالى) ، وعلى مذهب أهل البيت “عليهم السلام” منه بالخصوص، حيث أصبح هذا المذهب محط عناية لفصائل واسعة من أبناء الشعوب حتى غير المسلمة، ليتنامى دوره في استقطاب العقول وجذب النفوس –كما يشهده كل متدبر لمثل هذا الانفتاح – .
هذا؛ ولا نغفل أسباباً وعوامل أخرى، فرضت انفتاح الأجيال على مذهب أهل البيت “عليهم السلام” ، ومع أن معظم هذه العوامل أبعد ما تكون عن الإيجابية في الأصول والغايات، إلا أنها تضاعف تلك الأهمية في المنهجة والتخطيط العلميين اللذين أشرنا إليها.
ثالثاً: شيوع الصراع الفكري والديني والمذهبي في الأزمنة الحاضرة، وخاصة مع دين الله (تعالى) ومذهبه الحق،بشكل لم يسبقه نظير في أزمنة سابقة، لأسباب كثيرة يعلمها الجميع، لا تشكل الإساءة في استعمال الوسائل الخارقة للتواصل، ولا هيمنة العامل المادي على معظم التوجهات الفكرية والسلوكية، ولا تضارب المصالح الآنية، إلا بعض تلك الأسباب .
وواضح أن كل هذه الأمور وأشباهها، توجب على المثقف المؤمن المزيد من الوعي المتبصر، والمزيد من الارتفاع العلمي، والمزيد من سعة الخبرة في البناء الإيماني، وفي المحافظة على هذا البناء .
الموقع المتقدم لكربلاء
أما ما يتعلق بكربلاء الإمام الحسين “عليه السلام” من حقائق دين الله خاصة، فيمكننا الوقوف على أهمية الفهم العلمي الممنهج فيها، من خلال الالتفات إلى موقعها الخاص من حجج الله وبيناته، وإلى دورها المتقدم في التعامل مع مذهب أهل البيت “عليهم السلام”، وإلى مركزها القيادي في صراع الحق مع الباطل، منذ أن صدع بها الإمام الحسين “عليه السلام” وحتى اليوم .
فمن رحم الصراع انبثقت أولى شرارات كربلاء الإمام الحسين ..
وفي خضم الصراع خطت رسومها، وصيغت معالمها ..
وضمن دائرة الصراع أحكمت بيناتها وحججها الإعجازية الأبدية ..
وفي نهج الصراع وضعها دين الله (تعالى) ، ومذهب أهل البيت “عليهم السلام”، ركناً ثابتاً في كيانيهما، وواجهة بارزة من واجهاتهما، ومنبع قوة دائم في الذود عن حياضهما، وعلى مختلف المستويات العقائدية والتشريعية والأخلاقية وغيرها.
وواضح أن لكل من هذه الأدوار والمواقع ضرورات تفرض من الدقة العلمية، ومن الاستقامة في الانتهال من معين الحجج الإلهية، ما لا تكفي فيه السطحية ولا الجانبية، في أي من التصور أو التطبيق ..
ومن هنا أصبح لكربلاء الإمام الحسين “عليه السلام” كلمة الحسم في فرز مواقع الحق عن مواقع الباطل من دعاوى التدين والمذهبية، حتى ضمن الدائرة الإسلامية، فضلاً عن غيرها.
وأصبح لكربلاء الإمام الحسين “عليه السلام” فصل التمييز الرشيد بين خطوط الهدى والضلال، ولا سيما في التصورات التي استحكمت في عقول الأمة، وتحكمت في الخطوط المختلفة التي ألفها المسلمون في الساحات المذهبية، العقائدية منها والأخلاقية والسلوكية.
وأصبح لكربلاء الإمام الحسين “عليه السلام” دورها القاطع في تحديد معنى الاستقامة مع دين الله الحنيف، ومع مذهبه الحق، أو الانحراف عنهما، سواء ضمن المواقع والشخصيات الإنسانية، أم ضمن الرؤى والدعاوى الدينية والمذهبية، أم ضمن التوجهات الجانبية التي قد يضفى عليها هذا الاسم الديني أو ذاك، كل ذلك دون أدنى مواربة أو غموض، وإن سبق كربلاء في التاريخ، فضلاً عما عاصرها أو تأخر عنها من الأحداث وعمن عاصرها وتأخر عنها من الناس ..
وهكذا، فمن انتظم مع الخط الحسيني في هذه النهضة الكبرى استحق اسم الاستقامة، ونال من درجاتها بمقدار ما يستجيب فيه لأمر الله (تعالى) في التزامه وسلوكه، مع غض النظر عما يحمله من اعتبار اجتماعي، وعما يشغله من المواقع المتعارفة بين الناس ..
أما من انحرف عن خط الحسين”عليه السلام”، فهو يستحق اسم الضلال، وحرم من بركات تلك الاستقامة بمقدار ما ينحرف فيه عن بينات الله (تعالى) وحججه، مع غض النظر كذلك عن الهالات الإعلامية، والتقدير العام له ضمن موقعه الاجتماعي المتعارف .
وضمن هذا المستوى القاطع من الحزم والحسم، وردت حجج الله (تعالى) وبيناته في نهضة الإمام الحسين”عليه السلام” ..
وضمن هذا المستوى أيضاً بينت العصمة أهميتها ، وأدوارها في دين الله (تعالى) وفي البشرية معاً ، إذ تواترت في هذا المستوى أحاديث المعصومين”عليهم السلام” فيها، قبل وقوعها وبعده، وكما سنراه في طيات الحديث –إن شاء الله-.
ومن الآثار المباشرة لهذه الأهمية: أن الباطل جعل هذه النهضة المباركة من أولى ما يستهدفه من دين الله (تعالى)، ومن مذهب أهل البيت “عليهم السلام” من المواقع، وأن أعداءهما اعتبروها من أولى منابع قوتهما التي يجب أن يستهدفوها في التوهين والكبت، كما يشهده المتتبع لدائرة الصراع الإسلامي مع الكفر والضلال على امتداد التاريخ.
مناهج دراسة كربلاء
ومع التفاتنا إلى هذه الأمور – وإلى أشباهها مما لا يقل عنها أهمية وتأثيراً -، يتضح لنا عظم الحاجة إلى وجود المناهج الدراسية القويمة، التي تعين المؤمن ..
أولاً : على سلامة التعامل مع هذه النهضة المباركة .
ثانياً : على الأخذ بيده إلى شاطئ الأمان بين معتركات المذاهب والرؤى فيها .
ثالثاً : على بناء شخصيته المثقفة المؤمنة من خلال استلهام العطاء الحسيني في كربلاء العظمى، وإقامة جميع مقوماتها الإسلامية والإيمانية على أسس ثابتة منه، وتوحيد توجهاتها ومساراتها المختلفة في طريقه القويم .
رابعاً : على بناء قوته العقائدية والفكرية التي تمكنه من الانتصار في معتركات الصراع الديني والمذهبي، والهيمنة على سبل التمييز السليم بين مختلف الدعاوى والأطاريح الدينية والمذهبية وعلى مختلف الأصعدة .
فكل هذه النواحي مما احتوته كربلاء، واحتواه عطاء الحسين “عليه السلام” وبركاته فيها .. وهذا ما حاولنا الإشارة إليه في حديثنا هذا، ولو بمقدار ما يستوعبه موقف سريع كالذي نحن فيه ..
ولهذا ؛ فأملنا – ونحن نعرض لهذا الموضوع في حديثنا هذا- من الإخوة المؤمنين من حملة العلم والثقافة، مواكبة السير معنا حتى نهاية المسرى، فهم المقصودون الأوائل به، وإغناء حاجتهم هي الغاية الأولى له .
نعم؛ الأمل بالإخوة المؤمنين من حملة العلم والثقافة أن يتابعوا السير معنا حتى نهاية الحديث، وإن اختلف بعضهم معنا في الرؤية، أو لم ينسجم وإيانا في التصور، أو لم يتفق مع طريقتنا في التناول، فليس مقصودنا أن نلزم القارئ بالتسليم بشيء مما نقول، وإنما هو مجرد استذكار للمسؤوليات الإلهية في هذا السبيل المعرفي الحساس .
وإنما هو استظلال سريع بالحجج الإلهية لمعرفة ما ينبغي اعتماده من مناهج عامة في ملاحظة الحقائق الإسلامية وفهمها ، (ولا سيما الكبرى منها مثل كربلاء الإمام الحسين “عليه السلام” .
وإنما هو دعوة لتأسيس علاقة علمية دينية رصينة، بتلك الحقائق على أساس ثابت من هذا الفهم القويم، بعيداً عن الانحراف والتهافت والغموض .
وواضح أنها غايات كبرى، تفرض على الوعي المثقف المؤمن الحر ..
1) أن يتتبع كل ما يستطيع تتبعه من بحوث الثقاة من المفكرين والعلماء من قادة الفكر المسلم، وحماة كلمة الله (تعالى) في كل من تلك الحقائق .
2) أن يعتمد في هذا التتبع على قويم الرؤية وحرية الفكر، وثابت العلم، بعيداً عن الأنانية أو التعصب، والمعوقات التي تنحرف به عن سلامة التعامل مع الحق، وتنأى بتصوره عن الخلوص للحقيقة، وعلى أي مستوى من المستويات .
3) أن ينصاع في استجابته إلى الحق وحده في فهم الأطاريح التي ترد في طريقه، بعد أن يتبين في كل منها مكامنه بكل دقة ووضوح، مع غض النظر عما يلقيه هذا الباحث أو ذالك في حديثه، ومع غض النظر عما يتفق فيه أو لا يتفق مع تصوراته، لأن للحق وحده كلمة الفصل في دين الله (تعالى)، ولأن الواقع هو الحاكم المطلق في حجته، والهدى هو الغاية العامة لبيناته، وقويم الطريق هو السنة المتبعة لشريعته، على مستوى الالتزام الديني ، وعلى مستوى الاستقامة العلمية في نهجه معاً .
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
ومن الله (تعالى) أسأل أن يوفقنا جميعاً لمرضاته، ويسدد خطانا في طريقه القويم ، إنه ولي التوفيق والتسديد .