الحوزة العلمية

تحديات أمام الحوزة العلمية .. عدم التوازن في العدد / الشهيد السيد محمد باقر الحكيم

الاجتهاد: قد انعكست حالة الثبات والاستقرار للحوزة العلمية في النجف الأشرف على الحالة العلمية والتراث العلمي لأتباع أهل البيت “عليهم السلام”، وخصوصا في القرون الثلاثة الماضية، حيث إن كبار العلماء تخرجوا من حوزة النجف العلمية، التي كان نشاطها العلمي في أوجه.

ولكن هذا لا يعني خلوها من بعض السلبيات، فهناك نقطة مهمة جدا ترتبط بموضوع العلم والعمل، وتعنينا بشكل خاص كطلبة حوزة علمية، ولا بدَّ من تسليط الضوء عليها؛ لمعرفة خلفيات بعض الأمور التي تدخلت، فأفرزت واقعاً صار في ظاهره فارقاً بين الحوزتين، وهي:

أن الحوزةَ العلمية في النجف الأشرف أصيبت بالضمور من ناحية عدد الطلبة العراقيين المنتسبين لها في فترة ما بعد سقوط الدولة الإسلامية – الدولة العثمانية – وقيام ما يسمى بالحكم الوطني في العراق، مما جعل أن تكون الكثرة الكاثرة من طلابها من غير العراقيين، فكان المهاجرون من إيران هم الجماعة الكبرى فيها – من حيث العدد – ومن بعدهم المهاجرون من أفغانستان، ومن المناطق المشتركة بين أفغانستان وباكستان، مضافة إلى مجموعات أخرى.

فالطلبة العراقيون – بسبب الظروف الصعبة – كانوا يمثّلون الأقلية القليلة في الحوزة العلمية، باستثناء ما حدث في السنوات العشر الأخيرة من مرجعية الإمام الحكيم “قدس سره”، وتوجهه الخاص للاهتمام بهم، فحصل نوع من التطور في وضع الطلاب العراقيين الموجودين في النجف الأشرف، وبدأ يأخذ أثره بشكل واضح في تطور الحوزة العلمية.

لكنه لم يصل في حركته إلى الحد المناسب؛ لقصر المدة، ثم جاء الحكم البعثي الكافر الظالم، وبدأ يهاجم الحوزة العلمية بكل وجودها، ومن جملة من تضرر فيها بشكل بالغ هو الوجود العراقي.

وقد انعكست حالة عدم التوازن في العدد على الحوزة العلمية في النجف الأشرف بأثرین:

أحدهما: إيجابي، وهو أن المهاجرين، باعتبارهم يعيشون ظروف الهجرة، كانوا معزولين عن العمل الاجتماعي والسياسي لأمتهم وأوطانهم؛ لبعدهم عنها، وعن العمل السياسي والاجتماعي العراقي، لاختلاف اللغة بينهم وبين المجتمع الذي يعيشون وسطه، مضافة إلى الاختلاف في الهموم، التي لها ارتباط بالأوضاع السياسية والاجتماعية في ذلك المجتمع. ونتيجة لهذه العزلة السياسية والاجتماعية تفرغوا تلقائياً لطلب العلم والمعرفة، وتوجهوا إلى البحث والدرس والتدريس، فاتسمت أوساطهم بشكل واضح بالنشاط العلمي

والآخر: سلبي، وهو أن المهاجرين بسبب بعدهم عن الحالة السياسية والاجتماعية أصبحت مساهمتهم في القيام بواجباتهم مساهمة قليلة جدا، وأحياناً معدومة؛ لأن المهاجر، إما لا يجد الفرصة ليساهم، أو لا يسمح وضعه الحياتي بالمساهمة، أو لوجود حاجر نفسي بينه وبين المساهمة؛ نتيجة الانشغاله بالجانب العلمي، وهموم الحوزة، وابتعاده عن الحالة السياسية، وعدم تأثره بالوضع الاجتماعي؛ ولذا أصبحت الحوزة العلمية في النجف الأشرف بشكل عام وليس الحوزة العراقية فقط تعيش ظروف قاسية؛ ومن هنا نجد هذا النوع من الحديث في التنافس بين حوزتي النجف الأشرف وقم
المقدسة.

وعلى عكس ذلك حوزة قم المقدسة، فالأكثرية الساحقة من طلابها، بل كلهم تقريبا من أهل البلد، فعدد الغرباء فيها من اللبنانيين، والأفغان، والباكستانيين محدود جدا؛ لكون التوجه العام لطلبة العلوم الدينية كان نحو النجف الأشرف، فالكثرة الكاثرة في حوزة قم المقدسة كانت من أبناء إيران، ومن ثم فهم يتفاعلون مع الأحداث الموجودة فيه؛ باعتبارها جزءا من حياتهم ووجودهم، وتوجد لديهم فرصة في أن يذهبوا ويبلغوا، وتنعكس عليهم الهموم والمشاكل، وبالتالي أصبح نشاطهم الاجتماعي العام جزء من وجودهم

وهذا الأمر كان له تأثير إيجابي من ناحية، وسلبي من ناحية أخرى، ومعاكس للتأثيرين السابقين.

فالتأثير الإيجابي، أن أفراد الحوزة العلمية اهتموا بقضايا الناس وبالشؤون العامة للأمة اهتماما بالغا، وأخذوا يعيشون مختلف تفاصيلها، فنتج عن ذلك: الاهتمام ببناء المساجد، والحسينيات، والمكتبات، إلى غير ذلك من الشؤون المرتبطة بمواجهة الظلم والعدوان والجور، وصار التبليغ في المواسم من السنن، التي لا يسمح بتجاوزها في الحوزة العلمية، وتبعا لذلك تطورت وسائله، وتطورت أيضا قدرات المبلغين على الخطابة والحديث و غير ذلك، حتى أصبحت هذه القضية جزءا مهما في حركة الحوزة العلمية، باعتبار أنها تمثل الحالة الموجودة في البلد، وليست حوزة مهاجرة.

وأما التأثير السلبي، فقد انعكس الاستغراق في الاهتمام بقضايا الأمة سلبا على الاهتمام بطلب العلم والتعمق فيه، مضافاً إلى أن إعادة الحياة لحوزة قم المقدسة تم في عهد قريب، على يد أحد مراجع الإسلام المرحوم الشيخ عبدالكريم الحائري، بعد الحرب العالمية الأولى – تقريبا – وبعد قضية (1) المشروطة، بخلاف حوزة النجف ذات العمق التاريخي، مضافاً إلى أن حوزة قم انشغلت بالأحداث الموجودة في إيران، وتلك الحوزة لم يكن لديها هذا | الانشغال بشكل عام.

إن هذه المقارنة التحليلية بين الحوزتين عند تعميمها يمكن أن تدحض كل أو جل الإثارات والإشكالات التي ترد على الحوزتين معاً.

کما لا بدَّ من الاستفادة، وأخذ العبرة من ذلك، فمن الضروري أن تحفظ الحوزة العلمية التوازن بين الاهتمامات العلمية، وهي ضرورية، ولا بدَّ من الوصول إلى درجة مناسبة فيها، بحيث لا يضيع العلم على حساب الانشغال بأمور أخرى، وبين أن تحافظ الحوزة العلمية على الاهتمام بالعمل وقضايا الأمة في الوقت نفسه.

———

(1) الشيخ عبد الكريم بن محمد جعفر اليزدي الحائري. ولد عام ۱۲۷۶هـ في إحدى قرى يزد في إيران، وفيها تعلم القراءة والكتابة والعلوم الابتدائية، ثم هاجر إلى العراق، الذي كانت حواضره قِبلة العلم والعلماء، وتنقل بين سامراء وكربلاء والنجف، وتتلمذ عند أشهر العلماء ، كالميرزا الشيرازي الكبير، والآخوند الخراساني، وفي عام ۱۳۶۰هـ استقر في قم المقدسة، وأعاد نشاط و تفعيل حوزها العلمية. وتتلمذ على يديه العديد من العلماء، كالامام الخمينى، والسيد صدر الدين الصدر، والشيخ محمد تقي الخونساري. مؤلفاته عديدة، منها كتاب (درر الفوائد)، وكتاب (الصلاة). توفي عام ١٣٥٥هـ. للتفاصيل انظر: درر الفوائد١ : ١٧ .مقدمة المحقق.

 

المصدر: كتاب الحوزة العلمية المشروع الإسلامي الحضاري ؛ لشهيد المحراب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky