امتاز فقه المدينة بملامح معينة مستلهمة من خصوصيات البيئة ومتأثرة بمتغيراتها، وحينما انتقل إلى العراق والكوفة، اتخذ طابعة مختلفة ولونة مغايرة عنه في بيئته الأصلية. وكذا بالنسبة للفقه الشيعي في مدينة قم، التي كانت مركزة الكبار المحدثين، فحينما هاجر هذا الفقه إلى بغداد حاضرة العلم وحل في بيئة تختلف في مفرداتها عن سابقتها، وفي إطار حضاري آخر اكتسب ثقافة جديدة وعادات وتقاليد وأعراف مغايرة، وحمل متطلبات المحيط الجديد وخصوصياته، وتلون بألوانه وأشكاله وخصاله المميزة، وهو أمر طبيعي لا يجوز تجاهله.
الاجتهاد: شهد الفقه الشيعي عبر تاريخه المشرّف وبفعل بعض العوامل – التي لا مجال لذكرها هنا – تحولات عميقة ونهضات تجددية متواصلة، وعلى الرغم من أنه حقق في المجال الفردي قفزات نوعية ترتقي تقريبا إلى مرتبة الكمال، إلا أنه أخفق بالارتقاء بالمجال الاجتماعي العام وذلك لأسباب عدة أهمها السياسات الماكرة للحكام المستبدين المتمثلة في عزل الفقه الشيعي، وتعطيل الجانب الاجتماعي في الاجتهاد وإفراغه من محتواه، ولكن مع بزوغ فجر الثورة وقيام الحكم الإسلامي في إيران فتح باب الفقه الاجتماعي والسياسي على مصراعيه، وتحرك من يعنيهم الأمر سريعة للتعويض عن التخلف الذي أصاب هذا الجانب جراء سنوات العزل والكبت والاستبداد، ليكون حاضرة في قلب المجتمعات المعاصرة المتقدمة في مجالات العلوم والتقانة والسياسة … إلخ.
ولابد هنا أن نسجل حقيقة ثابتة وهي أن الفقه الشيعي الثرّ أثبت على الدوام أنه فقه حيّ ومتجدد ينبض بعناصر الحياة والديمومة، وهو ما جعله يتغلب على المشاكل التي كانت تعترض طريق المجتمع عبر مسيرته الطويلة ومواكبته لمتطلباته وحاجاته، ولم يقف هذا الفقه عند مسألة إيجاد الحلول المناسبة للأسئلة الملحّة التي تبرز هنا وهناك، سواء أكان ذلك على الصعيد الفردي أو الاجتماعي، بل سعى إلى إثبات حضور فاعل في عملية تطور المجتمع المتجدد ومعايشة تفاصيله.
لا شك أن الطفرة النوعية التي حصلت للفقه الشيعي منذ حقبة الفقه الحديثي البسيط والمحدود في الصدر الأول للإسلام الذي رسمت ملامحه الأدلة النقلية والقواعد الأربعمئة وكتب الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب وغير ذلك من المصادر المعدودة، إلى الحقبة المتقدمة المتمثلة في المدرسة الفقهية للشيخ الطوسي، أي من الفقه الحديثي إلى الفقه الاجتهادي، وما شهده هذا الأخير من تحولات وقفزات متتالية تعاقبت على يد صاحب السرائر ابن ادریس، كذلك التطور الهائل الذي رافق صعود المحقق الحلي ومدرسته الفقهية ، وتوالي ظهور المدارس الفقهية بعد ذلك العلامة الحلي، الشهيدين، المحقق الأردبيلي، الملا محسن فیض، المحقق السبزوراي وأخيراً جواهر الكلام، وكلها تمثل محطات مشرقة في مسيرة التحول والتجدد الفقهي كماً ونوعاً وفي مختلف أبعاد الحياة الإنسانية.
لا شك أن الفقه كأي ظاهرة أخرى مماثلة عرضة للتطورات والتحولات المستمرة، وهو يختزن في ضميره عناصر الحياة والديمومة، ولذلك يتصف بالتجدد لأنها من شروط الحيّ.
وتتجلى هذه المسألة للعيان عند مراجعتنا لتاريخ الفقه الشيعي الحافل بالتحولات صعوداً وهبوطاً، وهي دون أدنى شك مسألة مهمة بل هي غاية في الأهمية والإثارة وتستدعي مراجعة شاملة لهذا التاريخ بكل ما ينطوي عليه من نجاحات وإخفاقات وتحليل الأسباب الكامنة وراء ذلك، والأمر المؤسف هو أنه لم يبذل حتى الآن جهد علمي ودقيق وممنهج في هذا المجال.
ومن أجل القيام بهذه المهمة يجب أن نؤشر أولاً إلى الحلقات التجددية في هذه السلسلة الطويلة لنصلها ببعضها، وأن ندرس كل تحول فقهي وعلاقته بالظواهر المحيطة به وتفاعله معها، والجدلية العلّية التي تربطهما (العلّة والمعلول) وتحليل إفرازات هذه الجدلية في ضوء التأثير والتفاعل المتبادلين اللذين منحا الفقه تجدّديته المتحركة، كل ذلك لتمهيد الطريق أمام استصدار القوانين الجديدة والفاعلة.
بناء على هذا الكلام، فإن دراسة الفقه بمعزل عن الظروف والملابسات التي أحاطت به وساهمت في تكوينه، وتحليل العناصر الملهمة والبيئة الحاضنة، أمر عقيم لا فائدة ترجى منه. من جملة تلك العناصر المؤثرة عنصرا الزمان والمكان،وشخصية الفقيه وسيكولوجيته، وتضافر هذه العوامل مجتمعة يساهم في بلورة دور فاعل وأساسي لرسم ملامح العملية الفقهية ماضياً وحاضراً.
إن نهوض الفقه بأعباء تجربة الثورة الإسلامية الإيرانية المتعطشة للتشريعات والنظام والتطور، وتقنينه لجميع المؤسسات والمنظمات في الجمهورية الإسلامية تستدعي توافر أسباب هذا النهوض وعناصره التي من جملتها: التجدد والثراء الفكري واستشراف المستقبل ووضوح الرؤية.
إن تجربة الحكم التي يمارسها الفقه الشيعي على رقعة جغرافية واسعة من بلاد الإسلام (إيران) أتاحت له تطبيق تشريعاته المتطورة في مجال إدارة البلاد، وذلك لأول مرة بعد قرون عديدة من انقضاء تجربة الحكم الإسلامي في عصر الرسول الكريم “صلى الله عليه وآله وسلم” والخلافة الراشدة، وإن هذا الفقه يتصدى بكل اقتدار لقيادة المجتمع على الصعد الاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية والاقتصادية ويسجل حضوراً في جميع الشؤون الرئيسية والجانبية للمجتمع، بالأخص بعد قيام الثورة الثقافية الشاملة بأمر من الإمام الخميني الذي تضمن إلغاء جميع التشريعات الاستعمارية الأوروبية والأمريكية الموروثة عن النظام السابق لتحل محلها وبالتدريج القوانين الإسلامية الحديثة وذلك عبر الاستعانة بالفقه المتجدد.
ما من شك أنها مهمة الفقه ليترجل عن المنبر ويملأ الفراغ الموجود بصلابة وجدارة، ويقدم الأجوبة المناسبة والتشريعات الفاعلة التي تساهم في حل مشاكل المجتمع والدولة، وإننا لعلى ثقة من أن فقهنا المتجدد بما يختزن من خبرات عظيمة اكتسبها عبر مسيرته التاريخية الطويلة يمتلك القدرة على اجتياز هذا الامتحان الصعب بنجاح وتقديم أنجع الحلول للمعضلات القائمة.
بالإضافة إلى الأدلة العقلية التي تعتبر واحدة من أربعة مصادر يستند إليها الفقه، والتي لو يتاح لها مجال التطبيق العملي لأمكن إيجاد الحلول للعديد من القضايا المعقدة والمغلقة المستعصية في المجتمع والدولة، أقول بالإضافة إلى الأدلة العقلية، هناك أدلة لا تقل أهمية عنها وهي العرف وبناء العقلاء، بل إن بعض الفقهاء لا يعترف بأي دور للأدلة العقلية في مجال التطبيق العملي، بينما يؤمن إيمان عميقة بالعرف ودوره الأساسي في عملية التحول في المسائل الفقهية، وهو ما أشار إليه الإمام الخميني تحت مسمى عنصر الزمان وعنصر المكان وتأثيرهما على الفقه، لكن لم يلحظ هذا الطرح في تحليلات الفقهاء المسلمين وتنظيراتهم، ولم يستقطب الاهتمام اللازم كما هو حقه، لذا أغتنم هذه الفرصة لأتوسع في هذا الموضوع قليلا، وأسلط الضوء على زواياه المظلمة.
لقد آن الأوان للوفاء بتعهداتنا، وتوجيه أنظارنا صوب العوامل المتشابكة التي تحيط بالفقه المتجدد من زمان ومكان وشخصية الفقيه المجتهد وسیکولوجيته، لنتحدث عنها بإيجاز، ومن ثم نبسط البحث حول عوامل العرف والزمان والمكان والدليل العقلي والمصالح ودليل الانسداد، إذ أحسب أنّ الحاجة ملحة لتوجيه الخطاب إلى الباحثين أصحاب البصيرة و الفكر و النظرة البعيدة.
ا- الزمان : لا جدال في أن تجددية الفقه رهن بعوامل الزمان والمكان وشخصية الفقيه المجتهد، وما نقصده بالزمان هنا ليس جریان الساعات ومضي الدقائق، فليس هذا بذي بال، بل المقصود التحولات الحاصلة أو التي تحصل في الفقه في حقبة زمنية معينة، وتترك فيها تأثيرات ملحوظة، فساقته أو تسوقه صوب نهج جديد، وكل ذلك للحصول على أجوبة للأسئلة المطروحة، أو حل المعضلات المستعصية، أو رفع حاجة معينة، والحيلولة دون انتهاء المجتمع إلى طريق مسدود، وليكون الفقه صيغة مثلی ومستقبلية سباقة لجس نبض المجتمعات في كل حين، وتدفع بها نحو سوح الحضارة والتمدن التي تتطلع إليها كل الشعوب لحظياً.
ليس عبثا ظهور هذا التحول الهام (الزمان) الذي ينسلّ إلى الفقه ويتجلى فيه، بل هناك عوامل عدة ساعدت على ذلك أولها العُرف وثانيها الدليل العقلي وثالثها المصالح ورابعها دلیل الانسداد، بالإضافة إلى عامل آخر وهو حاجة المجتمع الماسة، وكفى به عاملاً حاسماً، فضلا عن عوامل أخرى سنأتي على ذكرها في هذا الكتاب في حينها.
إذاً، فالزمان ضمن المواصفات المذكورة دفع بالفقه نحو التعالي والتكامل، بدءاً بالصدوقين(1) ومروراً بالقديمين(2)، ومن ثم الشيخين فابن إدريس وابن زهرة وصولاً إلى المحقق والعلامة ومن بعدهم الفقهاء الثلاثة الكبار الذين بصدد دراسة خصائصهم الفقهية في کتابنا هذا وهم المحقق الأردبيلي والمحقق محسن الفيض والمحقق السبزواري.
ومما لا شك فيه أن لكل منهم مدرسته الفقهية الخاصة به ودوره في النهوض بالفقه وتجديده وهي مسألة غاية في الخطورة إذ بواسطتها يمكن رسم معالم الطريق للراهنين والآتين، ووضع منهج علمي واضح أمام الجميع.
2 – المكان : عامل آخر له دور مهم في تجددية الفقه وانسيابيته، ونعني بالمكان بيئة الإنسان و محل عيشه والحاضنة الأم للمجتمعات الإنسانية، ولا يمكن تجاهل ما لهذا العامل من أهمية في تطور الفقه وتحوله، والبيئة بمفرداتها وعديد مراكزها الاجتماعية والثقافية والعلمية والسياسية والاقتصادية … إلخ، كلها تترك بصمات واضحة على الفقه وتحوله، شئنا ذلك أم أبينا.
على سبيل المثال: امتاز فقه المدينة بملامح معينة مستلهمة من خصوصيات البيئة ومتأثرة بمتغيراتها، وحينما انتقل إلى العراق والكوفة، اتخذ طابعة مختلفة ولونة مغايرة عنه في بيئته الأصلية. وكذا بالنسبة للفقه الشيعي في مدينة قم، التي كانت مركزة الكبار المحدثين، فحينما هاجر هذا الفقه إلى بغداد حاضرة العلم وحل في بيئة تختلف في مفرداتها عن سابقتها، وفي إطار حضاري آخر اكتسب ثقافة جديدة وعادات وتقاليد وأعراف مغايرة، وحمل متطلبات المحيط الجديد وخصوصياته، وتلون بألوانه وأشكاله وخصاله المميزة، وهو أمر طبيعي لا يجوز تجاهله .
3 – سيكولوجية الفقيه : صحيح أن سيكولوجية الفقيه المجتهد وشخصيته هي نتاج زمانه ومكانه، لكن مع ذلك يحظى هذا العامل بقدر من الأهمية يتيح له الدخول ضمن معايير التقييم، ولا يخفى أهمية العوامل الأخرى من قبيل الاستعدادات الذهنية للفقيه ، غور أفكاره، دقة رؤيته، معرفته بالواقع، إحاطته بمختلف جوانب حياة الأفراد واهتماماتهم المتنوعة، نظرياته البناءة وطموحاته، جرأته وشجاعته، وأخيراً الأعراف التي تحكمه ومجتمعه، جميع هذه العوامل لها تأثير لا يخفى على تجددية الفقه وحيويته.
فمثلا: إنها شجاعة الشيخين المفيد والطوسي وجرأتهما التي كانت وراء إغلاقهما باب المحدثين لينفتحا على الآفاق الرحبة للفقه المتجدد المتحرك، وليلبساه حلة قشيبة تحفظ الإنسان من عوادي الزمان وصروف الدهر، ولا ينكر دور عاملي الزمان والمكان في التمهيد لهذا التحول، لكن مع ذلك تظل شخصيتهما الفذة العامل الحاسم في الثورة التي شهدها الفقه في عصرهما، وتبقى قوة عبقريتهما وسطوع نبوغهما الشرارة التي أطلقت مسيرة الانقلاب الفقهي الى الأمام ، والدليل على كلامنا هو أنّ عصرهم زخر بفقهاء عديدين ، لم يستطع أيّ منهم أن يفجّر معجزة النهضة الفقهية.
الهوامش:
(1) المقصود بهما الشيخ الصدوق ووالده ابن بابويه القمي.
(2) وهما ابن جنيد الإسكافي وابن أبي عقيل العماني وهما من كبار فقهاء المذهب الشيعي.
(3) الشيخ المفيد والشيخ الطوسي.
المصدر: الصفحة 51 – 57 – من كتاب : الفقه والاجتهاد :عناصر التأصيل والتجديد والمعاصرة _ الجزء الاول للدكتور علي رضا فيض؛ ترجمه : حسين الصافي / منشورات: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي