الاجتهاد: ولد العالم المجاهد الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء سنة ١٢٩٤ هـ = ١٨٧٧ م) في النجف الأشرف، وهو ابن الشيخ علي، ابن الشيخ محمّد رضا، ابن الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء، ابن الشيخ خضر بن يحيى بن مطر بن سيف الدين المالكي، وأسرته معروفة ترجع في نسبها إلى قبيلة بني مالك [١].
وهو أحد مشاهير علماء الإمامية، وقد بزغ نجمه علماً في حاضرة النجف العلمية، حيث عاش فيها، ودرس متلمذاً على أيدي كبار علمائها: كالشيخ محمّد كاظم الخراساني، والملا رضا الهمداني والسيد كاظم اليزدي، والميرزا حسين النوري، وغيرهم حتّى شع نوره غرباً وشرقاً، وعمت بركة علمه وسيرته ربوع دنيا الإسلام، فكان له باع طويل في علوم الفقه، والأصول، والتفسير، والأخلاق، والثقافة، والأدب، والسياسة، فكتب وألف الكثير في هذه المجالات والأبواب.
كان المغفور له من الأفذاذ الذين واصلوا الليل بالنهار في خدمة مجتمعهم. فكان مجمعا للفضائل و الصفات الحميدة.
و قد نظّم حياته اليوميّة على الأسلوب التالي:
يستيقظ من الفجر وقت الأذان و قبل طلوع الشمس بساعة و نصف، فيصلي و يقرأ بعض الأدعيّة المأثورة، ثمّ يقرأ و يكتب ما هو مسؤول عنه آنيا، و عند طلوع الشمس يتناول الفطور، وبعد يعود إلى المطالعة و الكتابة حتّى الضحى، و قبل الظهر بثلاث ساعات يخرج إلى ديوانه في مدرسته العلميّة، و يجلس إلى جنب مكتبته العامّة، فيقابل الوافدين عليه و ذوي الحاجات، و يفصل بين المتخاصمين،
و عند أذان الظهر يعود إلى الدار أو الحرم العلوي فيؤدي الفريضة، ثمّ يعود فيتناول الغداء، و قد ينام أحيانا نوم القيلولة، و بعد أن يستيقظ يعود إلى الكتابة و قراءة الرسائل و المسائل و كتابة الأجوبة، ثمّ يخرج إلى الصحن الحيدري لأداء الفريضة جماعة،
ثمّ يدخل الحرم الحيدري و يخرج منه إلى حلقته العلميّة، فيلقي درسا في الفقه و هو جالس على المنبر وقد أحاط به تلامذته الذين سمح لهم بمناقشته والاستزادة من التوضيح إذا أشكل عليهم الأمر، وبعد أن يفرغ من ذلك يعود إلى بيته لتناول العشاء، ثمّ ينصرف إلى بحثه و تدقيقه و استقصاء ما يحتاجه من معلومات هامّة، و هكذا إلى نصف الليل.
و هذه الأعمال لا يستطيع أن يقوم بها جسم الشاب القوي فضلا عن الشيخ، غير أنّه يصدق عليه قول القائل:
و إذا حلّ للهداية قلب # نشطت للعبادة الأعضاء
و قد كان معتدّا بنفسه تمام الاعتداد، حيث كان يرى أنّه المرجع الأوّل للدين و الشخصيّة المركّزة لإدارة شؤون الطلبة، و كان لا يعبأ بمن يبتعد عنه، كما لم يشعر بالانتقام لعدوّه الّذي يكثر من سبابه و عدائه.
و كان مضرب المثل في الخلق الرفيع، حيث كان الذين يسؤون إليه ساعة أن يصلوا إليه يجدونه كأنّه الشخص الّذي لم يسبق لهم معه شيء، فلا يكادون يحسّون بما وقع.
و كان كذلك ذا ذاكرة حادّة نقادّة و قادّة تجدها في سيرته، حيث ينقل الشيخ الخاقاني أنّه كان يقرأ على المترجم قدّس سرّه الفصول من سير الشعراء، فكان يذكّره بأرقام وفياتهم و الحوادث الّتي مرّت عليهم دون أن تكون له عناية في الموضوع، و قلّ أن يذكر موضوعا دون أن يشفعه بشواهد شعريّة من أروع ما قيل في ذاك الموضوع.
(وأتذكر أن جدي (2) (أعلى الله مقامه) كان يوقفني بين يديه وأنا ابن سنتين ونصف فيأمرني بالصلاة فأقوم وأكبر وآتي بصورة الصلاة من ركوع وسجود فإذا فرغتُ ضمني إليه وقال لي: ما تريد أن تكون – وكان مرجع التقليد يومئذ الشيخ محمد حسين الكاظمي (3)، سيما في العرب – فأقول له: أنا شیخ محمد حسين الكاظمي، فإذا كبرتُ أكون أكبر منه (إن شاء الله).( منقول من كتاب” عقود حياتي” للعلامة للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء)
و كان في أسلوبه و سلوكه الاجتماعي يخضع للحجّة، و يؤيد البرهان، و يؤمن بالمنطق الرزين إذا وجده عند جليسه، و كانت فيه ظاهرة الوفاء إلى حدّ واسع، فهو يرعى جانبها و يحرص عليها و يقيم الأثر لحسابها.
و كان ذا علم غزير، و مؤلّفاته تكشف عن سعة اطّلاعه و تضلّعه في العلوم، و كان يجمع إلى علمه قوّة البيان العجيبة و اللباقة المدهشة و الجرأة المفرطة مع صوت جهوري، فكان-بذلك-يهيمن على جليسه مهما كان و من أي نوع. و كثيرا ما كان يملي المقالات ذات الشأن أو هي موضع المناقشة و الاختلاف دون أن يكون لأحد عليه أي إيراد أو انتقاد.
و كان ذا حماس ديني منقطع النظير و قد بلغ فيه الذروة، مع حرصه على إصلاح بعض العادات المستهجنة و التقاليد السخيفة الموجودة آنذاك بكلّ جرأة و حزم و صراحة.
و كان حديثه عذب مسترسل لا يملّه السامع على اتّساع الوقت، و قد شهدت الآلاف من البشر قوّة خطابته و اندفاعه في التعبير عن مقاصده كالماء المنحدر من الجبل دون أن يتأمّل تأمّل المتحيّر في كلامه، فكان فصيح القول مستحضرا للأمثال و الحكم و الكلمات المأثورة و الحديث النبوي الصحيح.
و قد أدخل على الفقه كثيرا من التطوّر، و أوجد كثيرا من القواعد، و كان من ضمن فتاويه صحّة الزواج بالعقد الدائم من الكتابيّة، و قد أخذ بهذا الرأي في أواخر أيامه المرحوم السيّد أبو الحسن الأصفهاني قدّس سرّه(4) .
و من آرائه الجريئة إباحته للغناء المجرّد عن الهوس و الضوضاء كفن له قيمته، و لأنّه أحد عناصر الحياة و المواهب الّتي يعسر على الكثيرين الوصول إليها. و قد بسط هذا الرأي، و شفعه بكثير من الشواهد الّتي تعزّزه عند العقلاء.
و هو أوّل من أخذ حقّ الطلاق الّذي من المفروض أن يكون بيد من أخذ بالساق من الرجال، و طلّق الزوجة دون أخذ موافقة الزوج عند ما قال: (أنا أوّل من حكم بطلاق امرأة من زوج مسلول) .
الهوامش
(1)- حسب اعتقاد الكثيرين: أن “مالك” هو: مالك الأشتر النخعي صاحب الإمام علي – عليه السلام – وانظر شعراء الغري والنجفيات علي الخاقاني.
(۲) هو الشيخ محمد رضا ابن الشيخ موسى (المصلح بين الدولتين) ابن الشيخ جعفر کاشف الغطاء النجفي. ولد في النجف سنة (۱۲۳۸هـ- وتوفي سنة ۱۲۹۷هـ). من مشاهير علماء وقته، إنتهت إليه زعامة أسرته، وكان يقيم الجماعة في الصحن الشريف، وكان له مجلس درس يحضره جمع من الفضلاء والأعلام، ومن تلاميذه الشيخ أحمد المشهدي، والشيخ جواد محيي الدين، والشيخ عبد الرضا السهلاني (ينظر : طبقات اعلام الشيعة، نقباء البشر في القرن الرابع عشر ،
ج ۱۱: ۱۰۲۲).
(3) الشيخ محمد حسين ابن الشيخ هاشم ابن الشيخ ناصر ابن الشيخ حسين الكاظمي النجفي. (ولد سنة ۱۲۳۰هـ – وتوفي سنة ۱۳۰۸ هـ). مجتهد مؤسس من أعاظم فقهاء عصره، ومشاهير علمائه . (ينظر: النقباء، ج 14: 665 -668 ) وينظر أيضا: (مرآة الشرق، ۱: 613 ).
[4] السيّد أبو الحسن بن محمّد بن عبد الحميد الموسوي الأصفهاني المرجع المعروف. ولد في سنة 1284 هـ، حضر أبحاث الميرزا حبيب اللّه الرشتي و الشيخ الخراساني. من مؤلّفاته: وسيلة النجاة، و حاشية على العروة الوثقى، و شرح الكفاية، و عدّة رسائل عملية لعمل مقلّديه. توفّي سنة 1365 هـ في الكاظميّة، فنقل جثمانه الطاهر إلى النجف، و دفن في حجرة الصحن الغروي. (معارف الرجال 1: 46-49)
المصادر:
كتاب” تحرير المجلة ” الجزء الأول الصفحة: 58
كتاب” عقود حياتي” للعلامة للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء)
مقالة بعنوان: محمّد الحسين آل كاشف الغطاء أحد رواد الوحدة الإسلاميّة- رسالة التقريب – العدد ٥ – الشيخ سامي الغريري.