الاجتهاد: مثّل السيد حسن نصر الله في وعي المعارضة البحرانية رمزًا للمقاومة والصمود أمام الظلم والقهر، حيث ارتبطت صورته بالانتصار على إسرائيل في حرب تموز 2006 وبالدفاع عن حقوق المظلومين في المنطقة، بما فيها شعب البحريني.
هذا الربط بين الأداء السياسي والعسكري والبعد الأخلاقي منح صورته هالة شبه مقدسة في المخيال الشعبي، بحيث يُنظر إليه ليس فقط كقائد سياسي، بل كشخصية تمثّل قيم الشجاعة والمقاومة والإيثار.
تتكامل هذه القداسة الرمزية مع رموز أخرى لها حضور بارز في الوعي الشيعي البحريني:
• الإمام الخميني: الذي يمثّل المرجعية الدينية والثورية، ومؤسس مشروع ولاية الفقيه، ومصدر الشرعية الروحية والسياسية التي تؤطر الخطاب المقاوم.
• الشهيد محمد باقر الصدر: الذي جسّد الفكر الإسلامي النقي والشهادة في سبيل المبدأ، ويعكس عمق الالتزام الديني والفكري.
أما السيد نصر الله بالنسبة للبحرانيين فله صورة القائد المقاوم الذي يجمع بين القيادة العملية والانتصار الواقعي على الأرض، وعليه، فإن رمزية السيد حسن نصر الله، تتفاعل في الوعي لتشكّل ثلاثية متوازنة:
1.المرجعية الدينية والثورية (الخميني).
2.الفكر والشهادة (الصدر).
3.العمل والانتصار الميداني (نصر الله).
تشكل هذه الثلاثية إطارًا رمزيًا متكاملًا للمعارضة البحرانية، يجمع بين الشرعية الدينية، الالتزام الفكري، والقدرة على المواجهة العملية، ويعزز من هويتها الجماعية في مواجهة الضغوط السياسية والاجتماعية داخل البحرين.
نصرتي لكم معدّة
مع اندلاع الحراك الشعبي في البحرين عام 2011، ارتفعت أصوات الحرية والصمود في شوارع البلاد، بينما كانت الأنظار في الإقليم العربي تنظر إلى الثورة بعين السلطة، متأثرة بخطاب بعض الشخصيات الإقليمية مثل الراحل الشيخ يوسف القرضاوي، الذي وصف الثورة بأنها طائفية، مستثمرًا الطائفية كأداة لتشكيل الرأي العام لجماهيره. في هذا المناخ المعقد، ظهر السيد حسن نصر الله كصوت يتردد في سماء البحرين، يرفع شعار الحق والمظلومية وسط صمت محلي ودولي، ليمنح البحرانيين شعورًا بأن قضيتهم ليست وحيدة، وأن صوتهم مسموع خارج حدود الجزيرة.
كان خطاب نصر الله لا يقتصر على الدعم المعنوي، بل جسّد بعدًا إنسانيًا وعقائديًا وسياسيًا إقليميًا، ربط المظلومية البحرانية بالقضايا العادلة في المنطقة، من فلسطين إلى اليمن، مانحًا بذلك الحراك البحراني هالة رمزية تجاوزت الحدود المحلية، وأكدت أن المعركة من أجل الحرية والكرامة تستحق التضامن والدعم، محققة بذلك توازنًا بين القوة الرمزية والوعي الجماعي للمعارضة البحرانية.
شكّل موقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله من الأزمة البحرينية نموذجًا بارزًا لكيفية تفاعل الخطاب المقاوم العابر للحدود مع ديناميات السلطة والمعارضة في دولة خليجية صغيرة. ففي الوقت الذي قدّم فيه نصر الله دعمه السياسي والمعنوي للحراك الشعبي البحريني، واجهت السلطة البحرينية هذا الخطاب بعنف شديد، معتبرةً أن تدخلاته تهدد سيادة الدولة وأمنها.
هذه الثنائية رسمت مسارًا متوترًا ومستمرًا حتى اليوم، يوضح كيف تتقاطع البنية العقائدية والعاطفية مع الحسابات السياسية والإقليمية، وكيف يصبح صوت المقاومة رمزًا معنويًا للمعارضة في مواجهة السلطة.
منذ فبراير 2011، أعلن السيد نصر الله تضامنه العلني مع الشعب البحريني، مؤكدًا على سلمية الحراك وحق المواطنين في المطالبة بالحرية والكرامة، وسط قمع ممنهج تمارسه السلطة. واستند خطابه إلى ثلاث ركائز متكاملة:
1.البعد الإنساني: تصوير الشعب البحريني كمجموعة مظلومة تسعى للحقوق الأساسية، لتسليط الضوء على معاناتهم الإنسانية.
2.البعد العقائدي: ربط المظلومية البحرانية بتاريخها الديني والمذهبي، وتأكيد أن الدفاع عن المظلومين واجب أخلاقي وعقائدي.
3.البعد السياسي – الإقليمي: إدراج القضية البحرانية ضمن صراع أوسع مع القوى المناهضة لمحور المقاومة، وربطها بالقضايا العادلة في المنطقة، من فلسطين إلى اليمن.
بهذا الخطاب، لم يكتف نصر الله بالدفاع عن قضية البحرانيين على المستوى الرمزي، بل منح الحراك هالة مقاومة عابرة للحدود، وجعل من شعب البحرين جزءًا من جبهة أوسع للكرامة والمظلومية، وهو ما رسّخ صورته كبطل مقاومة يواكب معاناة الناس ويعكس تطلعاتهم للعدالة والحرية.
تلقت المعارضة البحرانية خطاب السيد حسن نصر الله بترحاب كبير وقبول وجداني، إذ وجدت فيه صوتًا صادقًا يعكس آمالها ومظلوميتها.
ويمكن توصيف هذه العلاقة من زاويتين متكاملتين:
• عقائديًا: الارتباط المذهبي والخط العقائدي المشترك منح نصر الله مكانة شرعية في وجدان المعارضة، مما جعل كلماته تمثل مرجعية أخلاقية وسياسية يُعتد بها في خضم الصراع مع السلطة.
• عاطفيًا: الانتصارات التي حققها حزب الله، خاصة في حرب تموز 2006 ضد إسرائيل، كرّست صورة نصر الله كبطل مقاومة حي، ومنحته حضورًا وجدانيًا راسخًا لدى الشارع البحراني، كمصدر إلهام للثبات والصمود.
ومع ذلك، حرصت المعارضة على تأكيد استقلاليتها الداخلية، مؤكدة أن تحركها السياسي والاجتماعي ينبع من إرادتها الذاتية، وأن اتهامات السلطة بوجود تبعية مباشرة لحزب الله لا تعكس الواقع الفعلي للحراك.
اتسم الموقف الرسمي للسلطة البحرينية بالرفض القاطع والتشنج السياسي، إذ اعتبرت تصريحات نصر الله تدخلًا مباشرًا في شؤونها الداخلية وتهديدًا لأمن الدولة واستقرارها.
وقد تجلّى هذا الرفض على ثلاثة مستويات متكاملة:
1.المستوى السياسي: تصوير خطاب نصر الله كتحريض يهدف إلى زعزعة الاستقرار الداخلي وإضعاف السلطة.
2.المستوى الأمني: اتهام حزب الله بتدريب عناصر معارضة وتأسيس خلايا مرتبطة به، لتبرير الإجراءات القمعية ضد الحراك الشعبي.
3.المستوى القانوني والدبلوماسي: إدراج حزب الله على قوائم الإرهاب على المستوى البحريني والخليجي، واستخدام هذا التصنيف لتعزيز الموقف الرسمي إقليميًا ودوليًا.
هذه الاستراتيجية الرسمية، رغم شدتها، لم تستطع محو التأثير الرمزي والمعنوي للسيد نصر الله لدى المعارضة البحرانية، بل عززت من وضوح الانقسام بين السلطة والمعارضة، وجعلت صوت نصر الله رمزًا للثبات والمقاومة، يتردد صداه في وجدان الشعب المظلوم، ويعكس آماله في الحرية والكرامة.
على مدى الأعوام، شهدت العلاقة بين السيد حسن نصر الله والبحرين محطات رئيسية تكشف طبيعتها المعقدة والمتعددة الأبعاد. في عام 2011، ومع اندلاع الحراك الشعبي، أعلن نصر الله تضامنه العلني مع الشعب البحريني، ما واجهه الهجوم الرسمي من المنامة الذي حاول تقويض تأثير خطابه الرمزي على المعارضة. بين عامي 2013 و2016، تصاعدت اتهامات السلطات البحرينية بتورط حزب الله في دعم “العنف السياسي”، ومحاولات تصوير الحراك كامتداد خارجي، في محاولة لتبرير الإجراءات القمعية ضد المحتجين.
وفي عام 2016، تدخل نصر الله علنًا للدفاع عن المرجع الشيخ عيسى قاسم بعد إسقاط جنسيته، ما اعتبرته السلطة البحرينية تدخلاً مباشرًا في الشؤون الداخلية، وأدى إلى تعزيز التوتر بين الطرفين. بعد ذلك، في عام 2020، وقّعت البحرين اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، ووصف نصر الله هذا التطبيع بـ “الخيانة الكبرى”، ما عزز الالتقاء الرمزي بينه وبين المعارضة البحرانية، وعمّق شعورهم بالارتباط بخطاب المقاومة.
وأخيرًا، بين عامي 2022 و2024، شهد الخطاب الرسمي البحريني تجاه حزب الله تراجعًا نسبيًا في حدّته، رغم استمرار تصنيف الحزب كمنظمة إرهابية، وهو ما يعكس استمرارية العلاقة الرمزية بين نصر الله والمعارضة البحرانية رغم الضغوط الرسمية المستمرة.
تأثير اتفاقيات التطبيع على مسار العلاقة
شكّلت اتفاقيات إبراهام (2020) التي وقّعتها البحرين مع الكيان الإسرائيلي محطة مفصلية في إعادة صياغة التوازنات السياسية والإقليمية، وكان لها انعكاس مباشر على طبيعة العلاقة بين السيد حسن نصر الله والبحرين.
فعلى المستوى الرسمي، عزّز التطبيع اصطفاف البحرين داخل المحور الأميركي – الإسرائيلي – الخليجي، وهو المحور الذي يضع حزب الله في صدارة “التهديدات الأمنية”. هذا التطور منح السلطة البحرينية مبررًا إضافيًا لتبرير عدائها العلني لحزب الله، من خلال خطاب يقوم على أن البحرين تواجه خطرًا وجوديًا مصدره إيران وحلفاؤها الإقليميون، وفي مقدمتهم حزب الله، وعليه أصبح التحالف مع إسرائيل يُقدَّم داخليًا كضرورة استراتيجية لمواجهة هذا التهديد.
في المقابل، عزّز التطبيع موقع المعارضة البحرانية في التماهي مع خطاب نصر الله. إذ رفضت المعارضة البحرانية الاتفاق مع إسرائيل وعدّته خيانة للقضية الفلسطينية وتعبيرًا عن انفصال السلطة عن وجدان الشعب.
هذا الموقف جاء منسجمًا مع خطاب نصر الله، الذي وصف التطبيع البحريني والإماراتي بأنه “طعنة في ظهر فلسطين” و”خيانة للأمة”.
وهكذا، ازداد حضور نصر الله كرمز مقاوم في الوعي الجمعي للمعارضة البحرانية، باعتباره صوتًا يعبر عن رفض الاحتلال والتطبيع معًا.
بناءً على ذلك، يمكن القول إن اتفاقيات التطبيع لم تغيّر البنية الأساسية للعلاقة بين نصر الله والبحرين، لكنها عمّقت الفجوة القائمة أصلًا: فمن جهة، ثبّتت السلطة موقعها في خانة العداء العلني لحزب الله، ومن جهة أخرى، عززت الارتباط الرمزي والعقائدي بين المعارضة البحرانية ونصر الله.
الخلاصة
لقد أثبتت مسارات العلاقة بين نصر الله والبحرين أن السلطة والمعارضة تتعاملان مع الواقع ذاته بطرق متباينة: السلطة ترى في نصر الله تهديدًا وجوديًا وأداة خارجية لتبرير القمع، بينما ترى المعارضة فيه سندًا معنويًا، وجسرًا يربط مظلوميتها بالوعي الإقليمي لقضايا العدالة والمقاومة.
ومع التطورات الإقليمية، بما في ذلك اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، استمر حضور نصر الله الرمزي والمعنوي في تعزيز ثقة المعارضة البحرانية بنفسها، وجعل من رفض التطبيع موقفًا موحدًا يعكس التمسك بالقيم والمبادئ، ويكرّس صورة نصر الله كرمز حي للثبات والمقاومة.
وعند النظر إلى الرمزية الشاملة للمعارضة البحرانية، تتجلى ثلاثية قيادية متكاملة: الخميني كمصدر للشرعية الدينية والثورية، الصدر كمصدر للفكر والشهادة، ونصر الله كرمز للعمل والانتصار الميداني. هذه الثلاثية تمنح المعارضة إطارًا متماسكًا يجمع بين الشرعية الدينية، الالتزام الفكري، والقدرة على المواجهة العملية، ما يجعل صوتها حاضرًا وفاعلًا في كل محفل محلي وإقليمي، ويحافظ على رسالتها بالكرامة والمقاومة.
في النهاية، يبقى السيد حسن نصر الله في ذاكرة المعارضة البحرانية أيقونة للثبات والحرية والمقاومة، شخصية تتجاوز السياسة اليومية لتصبح رمزًا أخلاقيًا ووجدانيًا، يعكس آمال شعب بأسره، ويستمر في إلهامهم على مواجهة القهر والطغيان، والسعي نحو الحرية والعدالة دون تنازل أو خوف.
الباحث: عباس المرشد