الاجتهاد: إن من يقرأ حكومة الإمام علي (ع) قراءة موضوعية يرى فيها من التطور والتحديث ما هو موجود في الدول الحديثة التي جاءت عبر تراكم خبرات بشرية على مدى مئات أو آلاف السنين. / بقلم حامد السعيدي
ويقول أحد الكتاب: (درج القدماء في الشرق والغرب على تولية القضاء رجالاً ذوي صفات تعنيها مصالح هؤلاء الحكام بأوسع معانيها ومصالح الطبقات التي تتبادل مع حكام هذه المصالح حتى إذا ساوى القانون بين طبقات الناس عطل القاضي هذه المساواة وحكم بهوى الحكام وأصحاب الامتيازات وتاريخ أوربا في القرون الوسطى يفيض بأخبار هذا النوع من القضاة وكذلك تاريخ الشرق العربي أيام الأمويين والعباسيين والمماليك والأتراك وغيرهم وأن الجرائم التي ارتكبها القضاة والمنحرفون هنا وهناك باسم العدالة لَمِمَّا يخزي جبين الإنسانية وليستوجب اللعنة على رؤوس أولئك القضاة(26)
إن ما فعله الإمام(ع) هو فصل الجهاز القضائي عن السلطة وتأمين الحصانة الكاملة للقاضي بحيث لا يتأثر بحكمه القضائي أي جهة أخرى وهذا بالضرورة يعطي للقانون صفة النزاهة والموضوعية في الأحكام الصادرة من ذلك الجهاز ويؤمن للمجتمع الحقوق المدنية الكاملة وكانت السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية موحدة غير منفصلة في زمن علي فإذا به يخطو خطوة مبدئية إلى فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية كي يكسب القضاة حصانة ويؤمنهم من عقاب السلطة(27)
وهذا ما نراه في الوثيقة المبعوثة لمالك الاشتر بقوله(ع) (واعطه – القاضي – من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من حاجتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك وانظر في ذلك نظراً بليغاً)(28) وبهذا يكون الإمام أحد المؤسسين للدولة المدنية الحديثة التي تكون فيها الحريات مكفولة مع حماية القانون.
وهذا ما نراه بالضبط في الدولة الحديثة عند (مونتسكيو) قبل الثورة الفرنسية التي دعا فيها إلى المناداة بمبدأ الفصل بين السلطات حتى لا تتأثر كل سلطة بالأخرى ولم يقصد (مونتسكيو) الفصل التام بين السلطات وانما الفصل المرن بمعنى أن يكون هناك توازن وتعاون بين السلطات الثلاث في تحقيق الصلاح العام(29) وبذلك دعا إلى أن القانون هو الوحيد القادر على حماية الأفراد من السلطة التي تمثل الجهاز التشريعي والتنفيذي وحماية من الأفراد أنفسهم وبذلك يكون المؤسس الأول لدولة القانون وهو ما نراه من سيادة المساواة والعدل في دولته التي لم يشهد التاريخ مثلها وهكذا يكون علي(ع) قد سبق إنسان العصور الحديثة.(30)
ولما كان الجهاز القضائي له من الأهمية بمكان كان علي(ع) يوليه عناية خاصة لأنه يعتقد أن العدل بين أفراد المجتمع هو المنطلق الأساسي في إيصال المجتمع إلى تحقيق الأمن والسعادة الحقيقيتين فترجم ذلك عبر وقوفه أمام المحكمة بوصفه متهماً من قبل بعض الرعية والذي زرع بذلك الثقة في نفوس الناس بالعدل وعدم المحسوبية في حكومته (سلام الله عليه) وعدم ممارسة سطوته ونفوذه بوصفه حاكماً ورئيساً ليدشن بذلك بعد الرسول(ص) سيادة القانون وفصله عن بقية الأجهزة في الدولة واعطاءه كياناً خاصاً مقدساً لا يجوز التعدي عليه،
ولو كان الرئيس أو الخليفة وكذلك ممارسته العملية في المجتمع بوصفه قاضياً يساعد القوة القضائية على حل المشاكل القانونية والجنائية لأن عليا اشتهر على لسان الرسول(ص) والأصحاب في انه اقضاهم وبذلك كان القضاء قوة حقيقية لضبط المجتمع في عهده وفض النزاعات وحل المشكلات والتأزمات الاجتماعية ورغم ذلك كان متسامحاً هو بالذات عند التعرض لقضية الحكم القضاء فنراه لم يقض في أية حادثة مطلقاً دون تحقيق وحتى بعد التحقيق لم يظهر رأيه بصورة فورية بل كان يؤخر إظهار رأيه قدر المستطاع رأفةً ورحمةً بالمتهم(31).
المصدر: جزء من مقالة بعنوان الخطوط العامة في حكومة الإمام علي(ع) / بقلم حامد السعيدي