الاجتهاد: لا يخفى ما للقواعد الفقهية من أثر بالغ في الفقاهة والّتي هي -مراتبها العالية- بغية كلّ طالب علم ومنتهى مناه العلميّ. بقلم الشيخ محمد صالح رضي
في هذا المجال وفي مراحل الإعداد لكتابة بحث مختصر يطلّ بقارئه على ما يرتبط بالقواعد الفقهية من مميّزات لها عن غيرها من أنواع القواعد المستعملة في الاستنباط، ويبيّن شيئاً من تاريخ نشأتها وتطوّرها لدى فقهاء الإماميّة أعزّهم الله، وقع النّظر الفاتر على مقدمة رشيقة لأحد الكتب الفريدة في مجالها ألا وهو كتاب (مأخذ شناسي قواعد فقهي) من إعداد/ مركز مطالعات وتحقيقات اسلامى-پژوهشكده فقه وحقوق، من منشورات مكتب الإعلام الإسلامي للحوزة العلميّة في قم المقدّسة للعام 1421هـ.
ووجدتها حاوية لنسبة كبيرة مما جمعته من عناوين أوّليّة، وكافيةً لأداء المراد من هذا المختصر، فآثرت نقل ما يفي بالغرض منها عن أصله الفارسي للعربيّة، محافظاً على ترتيبه ومحتواه وتخريج مصادره، مع ما فيه من مساحات للتوقف والنّظر.
معنى (القاعدة)
أـ لغةً: القاعدة في اللغة تعني الأساس والجذر وبهذه المناسبة تسمّى أعمدة البيت بالقواعد، قال§ في القرآن الكريم: {وإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[1]. وقال الطّريحي في (مجمع البحرين): “القواعد جمع القاعدة وهي الأساس لما فوقه”[2].
إضافة إلى استعمال كلمة القاعدة في الأمور المادّيّة كالأبنية فإنّها استعملت أيضاً في الأمور المعنويّة الّتي تتّسم بسمة أساسيّة وأصليّة؛ كالقواعد الأخلاقيّة، القواعد الإسلامية والقواعد العلميّة. كما تسمّى المسائل التّأسيسيّة والمبنائيّة لكلّ علم والّتي تتوقّف عليها أحكام كثير من مسائله الأخرى، بقواعد ذلك العلم.
ب ـ اصطلاحاً: يرتبط المعنى الاصطلاحي للقاعدة بالمعنى اللغوي لها ارتباطاً كبيراً، يقول التّهانوي في وصف المعنى الاصطلاحي للقاعدة: “… إنّها أمر كليّ منطبق على جميع جزئيّاته عند تصرّف أحكامها منه”[3].
لا تتّفق آراء الفقهاء في تعريف القواعد الفقهيّة، ويشير كلّ واحد من تعاريفهم -الّتي سنذكر بعضها بعد قليل- إلى جانب من جوانب تمايز القاعدة الفقهيّة عن غيرها من القواعد.
قال بعضهم في تعريفها: “إنّها قواعد تقع فى طريق استفادة الأحكام الشّرعيّة الإلهيّة ولا يكون ذلك من باب الاستنباط والتّوسيط بل من باب التّطبيق”[4].
وعرّفها بعضهم بأنّها: “أصول فقهيّة كلّيّة في نصوص موجزة دستوريّة تتضمّن أحكاماً تشريعيّة عامّة في الحوادث الّتي تدخل تحت موضوعها”[5].
المبحث الأوّل:
التّفريق بين القاعدة الفقهية وغيرها من القواعد
1) الفرق بين القاعدة الفقهية والأصوليّة
من البديهيّ أنّ الحصول على أحكام المسائل الشّرعيّة الجزئيّة يحتاج إلى القواعد الفقهيّة والقواعد الأصوليّة كذلك، ومن هنا كان الشّبه بين هاتين المجموعتين من القواعد أكثر من الشّبه بينها وبين القواعد الأخرى، وهنا تكمن أهميّة التّفريق بينهما واستخراج نقاط التّمايز بينهما والذي يحتاج إلى دقّة خاصّة.
من هذه الفروق:
1ـ إجراء القاعدة الفقهية مشترك بين المجتهد والمقلّد ولكنّ تطبيق القاعدة الأصوليّة خاصّ بالمجتهد[6].
2ـ القاعدة الفقهية استقلاليّة، بينما القاعدة الأصوليّة آليّة وهي أداة لاستنباط الأحكام[7].
3ـ القاعدة الفقهية، تتعلّق بعمل المكلّف مباشرة بخلاف القاعدة الأصوليّة التي تتعلّق بفعل المكلّف بالواسطة[8].
4ـ القاعدة الفقهيّة، تطبيقيّة ولكنّ القاعدة الأصوليّة استنباطيّة[9].
5ـ هدف القاعدة الفقهيّة هو بيان أحكام الحوادث الجزئيّة، بينما غاية القاعدة الأصوليّة وهدفها هو بيان طريقة الاجتهاد والاستنباط[10].
2) الفرق بين القاعدة الفقهية والضابطة الفقهيّة للضابطة الفقهيّة اصطلاحان:
1ـ الضّابطة بمعنى الملاك والمعيار، كضابط ومعيار الذنوب الكبيرة والصغيرة، أو الضابطة في قتل العمد والخطأ، والضّابطة بهذا المعنى لا علاقة لها بالقاعدة الفقهية.
2ـ الضّابطة بمعنى المفهوم الكلّيّ الشّامل لفروع ومصاديق باب فقهيّ معيّن، مثل (ضابط ما يشترط فى إمام الصّلاة كماله وإيمانه وعدالته…) و(ضابط النّذر) و…
وعلى هذا فإنّ الضّابطة الفقهيّة تختصّ بباب معيّن بخلاف القاعدة الّتي هي أعمّ وتشمل أكثر من باب[11].
وقد بيّن ابن نجيم الفرق بين القاعدة والضّابطة الفقهيّة بهذا البيان: “الفرق بين الضّابط والقاعدة أنّ القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتّى والضّابط يجمعها من باب واحد”[12].
هذا تمايز على مستوى المفاهيم بين القاعدة والضّابطة إلّا أنّ أحد الاصطلاحين قد يستعمل محلّ الآخر في مقام الإطلاق والاستعمال.
3) الفرق بين القاعدة الفقهية والنّظريّة الفقهيّة
النّظريّة الفقهيّة هي مجموعة أحكام متقاربة في موضوعٍ ما والّذي يركّز فيه على مبنى معيّن وهدف خاصّ.
بعبارة أخرى، النّظريّة الفقهيّة مفهوم كلّيّ يحوي أحكاماً مختلفة ومتفرّقة في الفقه، وفي نفس الوقت يبني نظاماً حقوقياً في مقابل نظام حقوقي آخر، مثل (نظريّة الضّمان).
وببيان ثالث، القاعدة الفقهيّة تعبّر عن حكمٍ فقهيّ كلّيّ، بخلاف النّظريّة الفقهيّة الّتي تشتمل على أركان وشروط وأحكام وتوجِد ارتباطاً بينها.
4) الفرق بين القاعدة الفقهية والمسألة الفقهيّة
يوجد فرقان رئيسيّان بين القاعدة والمسألة الفقهيّة:
1ـ الاختلاف الموضوعيّ: فموضوع القاعدة الفقهيّة أوسع من موضوع المسألة الفقهيّة، بحيث تقع تحت القاعدة الفقهيّة مسائل فقهيّة متعدّدة ويمكن أن تُطبَّقَ عليها بأجمعها[13].
2ـ الاختلاف من حيث الشّمول النّوعيّ والفرديّ: لا شكّ في اندراج أفراد كثيرة في القاعدة وكذلك المسألة الفقهيّة، إلّا أنّ الأفراد الّتي تقع تحت القاعدة هي أنواع وأصناف، والجزئيّات المأخوذة في تعريف القاعدة هي جزئيّات إضافية نوعيّة، أمّا الأفراد الواقعة تحت المسألة الفقهيّة فهي أفراد شخصيّة ومصاديق عينيّة[14].
المبحث الثّاني: تقسيم القواعد الفقهية
تقبل القواعد الفقهية التّقسيم من جهات مختلفة، نشير إلى بعضها، إذ تنقسم:
1ـ بلحاظ نطاق ومساحات الجريان والشّمول إلى ثلاثة أقسام:
أـ القواعد الجارية في باب واحد، مثل (قاعدة الإمكان).
ب ـ القواعد الجارية في أكثر من باب، مثل (قاعدة ما يضمن).
ج ـ القواعد الجارية في كلّ الأبواب، مثل (قاعدة الاشتراك).
2ـ بلحاظ كونها قواعد أساسيّة أو فرعيّة، إلى قسمين:
أـ القواعد الّتي ترجع إليها باقي القواعد، وهي القواعد الخمس: (الأمور بمقاصدها)، (اليقين لا يزول بالشّكّ)، (المشقّة تجلب التيسير)، (الضرر يزال) و(العادة محكمة).
ب ـ سائر القواعد، مثل (أصالة الصّحّة).
3ـ بلحاظ جريانها في الحكم أو الموضوع إلى قسمين:
أـ القواعد المختصّة بالشّبهات الموضوعيّة، مثل (قاعدة الفراغ).
ب ـ القواعد المختصّة بالشّبهات الحكميّة، مثل (قاعدة لا ضرر).
4ـ بلحاظ بيانها لحكم أوّليّ أو ثانويّ إلى قسمين أيضاً:
أـ القواعدة التي تبيّن الحكم الأوّليّ، مثل (قاعدة السّوق).
ب ـ القواعد التي تفيد حكماً ثانوياً، مثل (قاعدة لا حرج).
الهوامش
[1] سورة البقرة: 127.
[2] الطّريحي، مجمع البحرين، ج 3، ص 129.
[3] التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ج 5، ص 1176 و1177.
[4] الشيخ محمد إسحاق الفياض، محاضرات في أصول الفقه (تقريرات السيد الخوئيّ)، ج1، ص8.
[5] مصطفى زرقاء، المدخل الفقهي العام، ج2، ص941.
[6] الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول، ج2، ص544.
[7] جعفر السبحاني، تهذيب الأصول (تقريرات درس الإمام الخميني)، ج1، ص 5 و6 وقرافى، الفروق، ج1، ص3.
[8] السيّد محمّد تقي حكيم، الأصول العامّة للفقه المقارن، ص43.
[9] الشيخ محمد إسحاق الفيّاض، محاضرات فى أصول الفقه (تقريرات السيّد الخوئي)، ج1، ص8.
[10] سليمان الأشقر، تاريخ الفقه الإسلامي، ص141 والشهيد الأول، القواعد والفوائد، ج2، ص221.
[11] عبد الغني النابلسي، كشف الحظائر عن الأشباه والنّظائر، ص10.
[12] ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ج1، ص166.
[13] انظر: الميرزا حسن البجنوردي، القواعد الفقهيّة، ج1، ص4 و5.
[14] لمزيد من الاطّلاع انظر: الفاضل الدربندي، الخزائن، ص112 و113.