الاجتهاد: يقول السيد ضياء الخباز القطيفي في كتابه “دوحة من جنّة الغري” عن آية الله السيد السيد محمد صادق الروحاني رحمه الله: هو أستاذنا وسنادنا وملاذنا، وصاحب الفضل الكبير علينا، سماحة آية الله العظمى، المرجع الديني الكبير، الفقيه المحقق، والأصولي المدقق، السيد محمد صادق الروحاني (دامت بركات وجوده الشريف).
وُلد آية الله السيد محمد صادق الروحاني “ره” في مدينة قم المشرّفة في اليوم الخامس من شهر محرم سنة ١٣٤٥هـ، ونشأ فيها محباً للعلم والمعرفة، حتى أنه أنهى دراسة المقدمات وهو بعد لم يتجاوز العاشرة من عمره، وقد ساعده على ذلك نبوغه المبكر وعبقريته المتوقّدة.
ولمّا بلغ الحادية عشر من عمره هاجر منها إلى حوزة العلم الكبرى في النجف الأشرف، بمعية أخيه الأكبر السيد محمد الروحاني (طيب الله ثراه) – المتقدم ذكره ـ، فاستقرّ فيها بعد قرابة سنة كاملة طواها في كربلاء المقدسة، وحضر على كبار أساتذتها، كالمحقق الأصفهاني، والشيخ محمّد كاظم الشيرازي، والشيخ محمد علي الكاظمي، والسيد أبو الحسن الأصفهاني، والمحقق الخوئي، (قدّس سرهم) واختص بهذا الأخير، فلازمه لمدة خمسة عشر عاماً، حتى عُدّ في طليعة تلامذته.
وقد تحدث المحقق الخوئي عن تلميذه هذا ـ وهو في الخامسة عشر من عمره الشريف فقط – فقال مقرّظاً تقريره لأبحاثه العليا في الفقه والأصول:
إني قد لاحظت منه مواقع عديدة، وجملاً مفيدة، فألفيتها تقريرات سديدة، تعرب عن الحقائق التي تلقاها من محاضراتي التي كنت القيها، وتكشف عن الشوارق التي اقتبسها من المباحث التي كنت أمليها، بما جعله عندي على صغر سنه، كبيراً في فنّه ، فذاً في دقة نظره، وقوة ذهنه، واستقامة سيره، وسرعة وصوله، فيما حرّره وقرّره من مباحث العلمين العظيمين الكبيرين : علم الفقه وأصوله (۱).
وفي السنة نفسها ـ أو بعدها قليلاً – أجازه أستاذه الشيخ محمّد كاظم الشيرازي (قدّس سره) بالاجتهاد، وقد جاء في إجازته له : ” فلا يخفى: أن قرّة عيننا المعظم جناب العالم الفاضل، علم الأعلام، وثقة الإسلام، السيد محمد صادق، نجل العلامة الأكبر، حجة الإسلام، الحاج میرزا محمود (دامت تأییداتهما) ، ممّن تمسك بالعروة الوثقى، واعتكف شطراً وافياً من عمره الشريف، بباب مدينة حبل الله المتين، أبي الأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، باذلاً جهده في تحصيل العلوم الدينية والمعارف الإلهية، مجداً في تنقيح مباني الأحكام الشرعية، بحضوره على الأساتذة العظام، والفقهاء الأعلام، مراعياً في ذلك النهج القويم، والصراط المستقيم، فبلغ – بحمد الله تعالى في عنفوان شبابه ( أقرّ الله عيوننا به، وسدّده وأيده وحفظه) – المرتبة العالية، وفاز بالدرجة السامية […] الله تعالى بما منَّ عليه من رتبة الاجتهاد، وملكة الاستنباط ، فهو ممّن يشكر سعيه، ويقدّر مقامه، ويُعتمد عليه (۲).
وبعد أن قضى وطره من العلم، رجع إلى مسقط رأسه عالماً فقيهاً مجتهداً – وهو لمّا يبلغ الثلاثين من العمر – فشرع في البحث والتدريس، حتى عُدّ على صغر سنه من مشاهير المدرّسين، بحيث أن صاحب ( آثار الحجّة) عندما تعرّض لذكر أشهر مدرّسي البحث الخارج – فقهاً وأصولاً – في قم المقدسة ، في زمن السيد البروجردي “قدس سره”، ذكرهُ (دام ظله) كواحدٍ منهم (3).
وقد أنهى ( دام ظله) خمس دورات أصولية، وبدأ في السادسة – التي تشرفنا بحضورها عنده – . – إلا أنه للأسف لم يتمّها ، كما درّس من الفقه أبواباً كثيرة جداً، ولا زال بحثه الشريف مستمراً إلى يومنا هذا في حسينيته العامرة ، يحضره جماعة من أرباب العلم والفضل .
ويتميز السيد الأستاذ (دام ظله) في أبحاثه بدقة النظر، وكثرة التتبع ، والمثابرة الاشتغال، فهو السباق دائماً لأقرانه في الشروع بالبحث، والمتأخر عنهم في تعطيله، بحيث قد تزيد مدة بحثه في بعض الأحيان على مدة بحث غيره بما يقارب الشهرين الدراسيين، وهذه من عجائبه، ففي الوقت الذي تعترينا – نحن طلابه الشباب – حالة من الفتور والدعة، نجد في مثابرته وعلو همته ـ رغم شيخوخته – عاملاً محفّزاً لهممنا الراكدة، ومحرّكاً لطاقاتنا الخاملة .
ولم يقتصر نشاطه العلمي على البحث والتدريس فقط، إذ التأليف كان له منه نصيب وافر أيضاً، وقد أنتج قلمه الشريف عدّةً من الموسوعات المهمة، كـ (زبدة الأصول) و (منهاج الفقاهة) الواقع كلّ منهما في ستة مجلدات ، وتتصدر مؤلفاته القيمة موسوعته الشهيرة (فقه الصادق) الواقعة في واحد وأربعين مجلداً، والتي تعد من أهم الموسوعات الفقهية في زماننا هذا.
وقد تحدث عنها الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) في إحدى رسائله لسماحة السيد الأستاذ الروحاني ( دام ظلّه) فقال: ( موسوعتكم الفقهية الجليلة، التي تعبّر عن مقامكم العلمي الراسخ، وقد طالعت بعض المواضع منها، كمورد الاختلاف في كون المال وديعة أو رهناً، ولاحظت اتفاقنا الكامل في نتائج هذه المسألة، التي بحثتموها بحثاً علمياً جديراً بالإعجاب والتقدير من العلماء، حفظكم الله ذخراً للإسلام ، وأدام وجودكم ، ونفع بكم) (4).
والذي يجدر ذكره أن السيد الأستاذ ( دامت بركات وجوده) مجاهداً ليس بأقل منه عالماً، فقد كانت له مواقف جهادية كبيرة في مواجهة النظام الشاهنشاهي المقبور ، حتى أنه – لعظيم جهاده – قد اعتبر نفسه أحد ركني الثورة، فقال في جواب له منشور على موقعه الالكتروني: « أنا أحد الركنين الأساسيين لإسقاط الحكومة الاستبدادية اللادينية، بل المعاندة للدين والحرية – حكومة الشاه »،
وقد تحمّل في سبيل ذلك من الصعاب ما تنوء بحمله الجبال، وإليك شاهداً على ذلك قرأته في موسوعته الفقهية ، حيث قال في نهاية كتاب النكاح ، مؤرّخاً إنهاء الكتابة : « وقد كان ذلك في أوائل الليلة الثانية، من شهر ذي القعدة الحرام ، سنة ١٣٨٨ في قرية (میگون) من قرى طهران ، في أواخر السنة الثانية من السنين التي كنت فيها مخرجاً من دياري بغير حق، للدفاع عن حريم كتاب الله، المتكفل بهداية البشر في جميع شؤونهم، ولقد ضيقوا علي الأمر، ومنعوا من أن يزورني أحد، والمأمورون في جميع الأوقات مراقبون، وهم غلاظ شداد، وفي هاتين السنتين لا زلتُ أنقل من سجن إلى سجن، ويراعون في ذلك أن أكون أيام الصيف في المناطق الحارة كـ {مدينة}”زابل”، وما أدراك ما “زابل” ، التي كانت تبلغ درجة الحرارة فيها إلى خمسين درجة فوق الصفر، وفي أيام الشتاء في المناطق الباردة كهذه القرية، وأنا في هذه المدّة مريض بأمراض عدة، منها : قرحة الإثني عشر، والأطباء ممنوعون من معالجتي “(5) .
وما أشار إليه السيد الأستاذ (دامت بركاته) من سجن زابل، قد سمعته ذات مرة يتحدث عنه، فوصفه بأنه كان من حيث المساحة متراً في متر أو أقل من ذلك، وكان يتوقّد لهيباً لشدة حرارة الهواء، من غير أن يسمح فيه باستخدام أي وسيلة من وسائل التبريد، فلله دره صابراً ومحتسباً.
علاقة السيد الأستاذ آية الله السيد محمد صادق الروحاني “ره” بالمحقق الخوئي “قدس سره” :
وللسيد الأستاذ (دام ظله الشريف) اعتقاد قليل النظير بأستاذه الخوئي “قدس سره”، كما تكشف عن ذلك كلماته الكثيرة، وسوف أكتفي بعرض بعضها:
١ – السيد الخوئي أعلم من الشيخ الأنصاري بلا ترديد (6).
2- لسيد الحكيم “قدس سره” من العلماء المحققين والفقهاء قليلي النظير ، وكتبه الفقهية مرجع المجتهدين في مقام الاستنباط، ومع ذلك [فإنّ] السيد الخوئي أعلم منه ومن غيره من الأكابر، وإن لم أقل : إنّه عديم النظير من أوّل زمان الغيبة إلى هذا الزمان ، أقول : إنه قليل النظير [ ومثله] لا يتعدّون أصابع اليد الواحدة، ولنعم ما أفاده بعض العلماء [ حيث قال ] : إن السيد الخوئي أستاذي ، وأستاذ كل من يحفظ عنه العلم.(7)
3- مختصراً أقول : إنه أعلم الفقهاء من أوّل عصر الغيبة إلى هذا الزمان، ولا أقل من أنني لا أرى شخصاً أعلم منه، ومع ذلك فهو من مصاديق الكبرى الكلية المذكورة في الرواية الشريفة: ( مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه (8).
٤ – السيد الخوئي “قدس سره” بنظري أفقه فقهاء الشيعة، من أوّل زمان الغيبة إلى الآن، وكتبه الفقهية التي كتبها تلامذته تقريراً لأبحاثه الفقهية مستند المراجع في الحوزات العلمية في التدريس، والمراجع الكبار في قم والنجف وسائر الحوزات تلامذته (9).
5- باعتقادي أن السيد الخوئي (رحمه الله تعالى) أعلم علماء الاسلام من أوّل زمان الغيبة إلى يومنا هذا ، والمراجع الموجودون لا أظن أن يكون فيهم من يدعى أعلميته من السيد الخوئي (10) .
٦ – وقال ( دام ظله) أيضاً جواباً عن سؤال حول أعلمية المحقق الخوئي على غيره من المراجع المعاصرين : أعلميته من الجميع من البديهيات، التي لا شك لأحدٍ فيها ، ممّن يحفظ عنه العلم (11).
كانت هذه باقة من كلمات السيد الأستاذ (دامت فوائده) في حق أستاذه الخوئي، وقد أحببت أن أسجلها هنا لمزيد صلتها بما نحن فيه من التعريف بكمالات المحقق الخوئي( رحمه الله تعالى ).
ولا يفوتني أن أشير – وأنا في نهاية المطاف ـ أن السيد الأستاذ ( دام ظله الشريف) مضافاً إلى كل ذلك ، يتمتع بصفات نفسيّة وأخلاقية يقلُّ مَن يتصف بها، فهو من أخفض العلماء جناحاً، بحيث لا يجد الإنسان أي صعوبة في التقرب منه ، وتعميق الصلة به.
وإني لستُ أعجب من شيء كما أعجب من روح الإنصاف التي يحملها، فطالما سمعته يمدح أقرانه من المراجع العظام، كلّ واحد بما يتميز به، من غير أن يبخس لأحدٍ حقاً من حقوقه ، والأعجب من ذلك أيضاً إنصافه حتى لبعض المختلفين معه ، ومدحه لهم فيما يتميزون به، مع عدم حاجته إلى ذلك.
ولو أردتُ للقلم أن يسترسل في الحديث عن السيد الأستاذ (دام عزه) لاسترسل وأسهب ، غير أن المقام يضيق عن ذلك، ولعلّ ما كتبته يحلو للبعض أن يعتبره إسهاباً ، ويحق له ذلك، ولكن عذري أن السيد أستاذي، وما كتبته إنما هو قضاء لبعض حقوقه ، وحقوقه أكبر من أن تقضى(12).
الهوامش
(1) لاحظ الوثيقة رقم (٢).
(۲) لاحظ الوثيقة رقم (۳).
(3) والأساتذة الذين أشار لهم المؤرّخ الرازي (رحمه الله) في (آثار الحجّة) : ۲: ۱۷۲ هم الآيات العظام: السيد الخميني، والسيد المرعشي ، والسيد شريعت مداري، والسيد الگلپايگاني، والسيد الداماد، والعلّامة الطباطبائي، والشيخ الأراكي ، والشيخ عباس علي الشاهرودي، والشيخ عبد النبي العراقي، وهؤلاء كانوا ـ آنذاك ـ أصحاب المنابر المشهورة في الأبحاث العالية في الفقه والأصول، وعلى رأسهم كان البحث العالي في الفقه لسيد الطائفة : السيد البروجردي، وقد ذُكر اسم سيدنا الأستاذ ( دام ظله الشريف) إلى جانب أسماء هؤلاء العمالقة، رغم كونه – بحسب السنّ – في طبقة تلامذتهم.
(4) لاحظ الوثيقة رقم (٤).
(5) فقه الصادق : ٢٢ : ٣٥٠ .
(6) لاحظ الوثيقة رقم ( ٥ ) ، وقد يتصوّر بعض المشتغلين (زادهم الله توفيقاً) أن شهادة السيد الأستاذ ( دامت بركاتُ أيامه ) بأعلمية أستاذه المحقق الخوئي “قدس سره” على جميع علماء الإسلام في الغيبة الكبرى شهادة غير دقيقة؛ لعدم إمكان الإحاطة بجميعهم في مختلف المعارف والفنون، ولكنني أعتقد أن الشهادة المذكورة غير ممتنعة، إذ أن الأعلمية التي يشهد بها السيد الأستاذ لأستاذه وأستاذ الكل ليست إلا الأقدرية على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها المقررة، بأن يكون أكثر إحاطة بالمدارك، وأدق من غيره في تطبيقاتها.
ومن الواضح أن الشهادة بالأعلمية – بهذا المعنى – لا تمتنع عـلى مَـن خَـبَر آراء أعلام فقهاء الطائفة من أول زمان الغيبة الكبرى حتى يوم الناس هذا، كالسيد الأستاذ (دامت أيامه) ، فإنّه قد أتعب نفسه الشريفة من خلال موسوعته الفقهية (فقه الصادق) في تتبع آراء الفقهاء – متقدمين ومتأخرين – وتمحيصها ، وهذا ما يجعل شهادته ذات منشأ علمي صحيح ، فلا يبقى وجه لاستنكارها.
(7) لاحظ الوثيقة رقم (٦).
(8) لاحظ الوثيقة رقم (۷).
(9) لاحظ الوثيقة رقم (۸) .
(10) لاحظ الوثيقة رقم (٩).
(11) لاحط الوثيقة رقم ( ١٠ ) .
(12) استفدت بعض المعلومات التي ذكرتها عنه (دام ظلّه) من كتاب ( السيرة الذاتية لسماحة المرجع المجاهد ، آية الله العظمى، السيّد محمّد صادق الروحاني (مد ظله العالي ).
المصدر: كتاب دوحة من جنّة الغري؛ ارجوزة تتناول حياة سماحة آية الله العظمى السيد ابو القاسم الموسوي الخوئي. المؤلف: السيد ضياء الخباز القطيفي
تحميل الكتاب