خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
الرئيسية / موقع الاجتهاد و جميع المواضيع / جميع الأبحاث والأحداث / حوارات ومذکّرات / 5 مذكرة / المشروطة والمستبدة قراءة في النشأة / هاني عبد الصاحب
المشروطة

المشروطة والمستبدة قراءة في النشأة / هاني عبد الصاحب

الاجتهاد: مع دخول القرن العشرين ظهرت في الاوساط الفكرية والدينية في ايران وتركيا والعراق أنقساماً حاداً خلاصته ترتكز في الثورة الدستورية الايرانية المكنّاة بـ” المشروطة” (1906) والثورة التركية (1908)، فألقت حجراً في مياه الفكر الراكدة حركات يطلق عليها اسم المشروطية والمستبدة ، ويراد بهما كالاتي:

فالمشروطة يراد منها إلزام الملوك بقواعد دستورية تحول دون استبدادهم بالسلطة و انفرادهم بالحكم و اتخاذ القرارات،وسميت بهذا الاسم لإن القائمين بها اعتبروا مواد الدستور بمثابة ((الشروط)) التي يجب أن يتقيد بها الملك في حكم رعيته، و يطلق على هذه الحركة في أدبيات السياسة و التاريخ المعاصر الحركة الدستورية، و المستبدة على عكس ذلك تفترض أن الملك أو السلطان هو ولي الأمر و خليفة المسلمين و بالتالي يجب أن تترك له حرية الملك دون أي تدخل من أحد ليمارس استبداده في الحكم، وذلك خشية من انهيار التقاليد الدينية والتفريط بسطوتها على المجتمع.

وقد انقسم علماء الشيعة و مراجعهم إلى صفين حول هذه القضية، فقسم من العلماء أيدوا المشروطة و على رأسهم الآخوند الخراساني أحد أهم و أكبر علماء الشيعة في ذلك الوقت و سار معه عدد من رجال الدين الكبار كأستاذ المجتهدين الشيخ النائيني و هبة الدين الشهرستاني و الشيخ الطهراني … و في المقابل كان هناك قسم آخر من العلماء ذهب إلى تأييد المستبدة و على راسهم السيد كاظم اليزدي، و جمع من العلماء أيضا.

المسألة في الأصل ذات بعد سياسي، يتعامل مع واقع السلطة في الدولة العثمانية في تركيا و الدولة القاجارية في إيران، و أصل المسألة عبارة عن استفتاء وجه للمراجع، فتعددت و جهة النظر اتجاهه، و من ثم انتقل الخلاف الفقهي السياسي من الطبقة العليا إلى طبقات أدنى من العلماء، فراحوا يشرّحون الموقف و يعطون له التفسيرات العلمية و الفقهية والفلسفية و العرفانية و التاريخية، و من ثم انتقل إلى طبقة أدنى من رجال الدين الذين راحوا يجترون تلك المناقشات العلمية، دون مزيد وعي و تدبر و تأمل، و أدخلوا عليها أشياء من الخيال الخصب و حملوها أحلاما و لعنات و أساطير و صارت جزءا من مجالس العزاء هنا و هناك…

ثم انتقلت إلى عامة الناس الذين لا حظ لهم في التحصيل العلمي و البعد الفكري، فأخذوا هاتين الفتويين و قلدوا فيهما، و إنما يوما بعد يوم صار التقليد تعصبا أعمى، فينقسم الناس في العراق و إيران إلى مستبدة و مشروطة، و صار كل واحد يميز جاره و صديقه و اخاه على هذا الأساس و بالتالي يتم تجنبه إذا كان من أنصار الحركة المقابلة و يتم التعاطف معه إذا كان من موافقا .

المبحث الثاني : المشروطية الايرانية

يبدو ان الحديث عن المشروطية الايرانية مقترن مع بداية الصراعات في منتصف القرن التاسع عشر وذلك مع دخول بعض المخترعات والنظم الحديثة الى ايران على عهد الشاه ناصر الدين، والمعروف عن ناصر الدين أنه كان معجباً بالحضارة الأوربية ميالاً للتعرف عليها ومشاهدتها عياناً، وقد سافر إلى اوربا ثلاث مرات فقوبل فيها بحفاوة بالغة غير انه كان يخشى تأثير الأفكار الأوربية على رعاياه ويكره أن تنتشر بينهم فكرة المشروطية على منوال ما انتشرت في تركيا.

وقد صرّح ذات مرة: انه يود أن يكون محاطاً بحاشية من الأغبياء لا يعرفون عن بروكسل هل هي مدينة أم نوع من الخس، يمكن القول أن ناصر الدين كانت له يد كبرى في ادخال معالم الحضارة الحديثة إلى ايران، وكان الوقت نفسه شديداً تجاه كل من يتحدث عن القانون أو الدستور أو أية فكرة تحررية أخرى.

وبعبارة أخرى انه كان كمن يقدم الطعام اللذيذ للجائع ويمنعه من تناوله، وقد أحدث في المجتمع الايراني من جراء ذلك نوعاً من التوتر، وبقي هذا التوتر كامناً يتحفز للظهور عند أول فرصة تتاح له.فلما مات ناصر الدين وتبوأ العرش من بعده ابنه الضعيف مظفر الدين، انطلق التوتر الكامل وكأنه كان مستعداً للإنطلاق . لذلك تفاقمت الامور حتى وصل الى درجة أنذرت بالخطر وزوال العرش، وحتى فقدان استقلالها الصوري،

مما دعا المفكرين من أبناء الأمة إلى استصلاح أحوال البلاد، والدعوة لها مهما كلّف الأمر، ومهما كانت العواقب وخيمة لذلك جهروا بالدعوة للإصلاح، وكانت الأسباب منها سوء الأحوال العامة: فالحالة الاجتماعية بلغت درجة الفساد حداً لا يطاق وبالأخص في أواخر ايام ناصر الدين شاه الذي ابتعد كلياً عن الشعب وانشغل بملاذه وانسه … كما بلغت الحالة الصحية من التردي إلى فقدان الصحة .. أما الحالة السياسية فسيّد البلاد هو مطلق اليد يفعل ما يشاء بكل اعتداد بالرأي دون معارضة تحدد من سلطاته أو حساب لأعماله والقبض على زمام الأمور بيد من حديد، وضرب كل مصلح تحدثه نفسه ان يقول شيئاً تشم منه رائحة الإصلاح .

وكذلك تردي الأحوال المالية ،بسبب سفرات ناصر الدين شاه المتكررة خارج البلاد إلى اوربا وتحميل ميزانية الدولة الضعيفة فوق طاقتها، وخصوصاً السفرة الأخيرة عام 1890م التي أربكت مالية البلاد إلى درجة الانهيار .. وبذخه العجيب على ملاذه وأفراحه في سفراته، مما لم يعد على البلاد إلاَّ بالضرر الفادح، وكذلك ابتزاز الأموال بدون رحمة وشفقة لغرض سد النقص الحاصل من جراء ذلك، وانحلال التجارة وانحطاط دخل الحكومة،

كل ذلك أدى إلى ان يمنح الشاه إلى الأجانب عدة امتيازات سيطروا بها على ثروات البلاد ونهبها، وكان أهمها منح الشاه لشركة انكَليزية احتكار تجارة التبغ (التنباك) لتتصرف فيه كما تريد، وكان ذلك عام 1890م في أواخر أيام ناصر الدين شاه، مقابل حصول الشاه على (15000) جنيه وعلى ربع أربحا الشركة، استغلت هذه الناحية لأنهماك الايرانيين في التدخين، وهنا قال الشعب الايراني كلمته الحاسمة (( لا حاجة إلى التدخين)) استجابة لرأي العلماء الأعلام وامتثالاً للفتوى المقدسة التي أصدرها الميرزا محمد حسن الشيرازي، (( شرب التتن والتنباك محاربة لإمام العصر عجل الله فرجه )) لذلك حافظ الشعب على البقية الباقية من اقتصاد بلاده في حماية تجارته، وكان ذلك على أثر رسالة من السيد جمال الدين الأسد آبادي (الشهير بالأفغاني) مما اضطر الشاه في النهاية إلى الغاء الامتياز في ينيار 1892م ودفع غرامة قدرها (500.000) جنيه إلى الشركة8 ، وغيرها من السلبيات التي جعلت الكيل يطفح مما ولدت انطلاق حركة المشروطية.

انطلقت المشروطية في ايران من جراء حادثة بسيطة حدثت في عام 1905 وخلاصتها: أن نفراً من أهل ((البازار)) خالفوا بعض الأوامر الحكومية فأمرت الحكومة بشد أقدامهم في ((الفلقة)) وجلدهم بالسياط، وكانت تلك عادة متبعة تقع بين حين وآخر في عهد الشاه السابق دون أن يعيرها الناس اهتماماً كبيراً أما الآن فقد اهتم الناس لها، وتجمع عدد كبير منهم بينهم جماعة من رجال الدين فذهبوا إلى مسجد الشاه القريب من سوق ((البازار)) الكبير بغية ((الإلتجاء)) فيه.

إن ((الالتجاء)) من التقاليد التي اعتاد الايرانيون عليها منذ العهد الصفوي، وهم يسمونه (البست)، ومعناه أن يذهب الناس إلى اماكن معينة كالمساجد أو الاضرحة أو بيوت المجتهدين أو السفارات الاجنبية أو الاسطبلات الملكية أو ميادين المدفعية أو محطات التلغراف، وهناك لا تستطيع الحكومة ان تلقي القبض عليهم.

استطاع الإمام في مسجد الشاه أن يطرد الملتجئين إليه بإيعاز من الحكومة وبمعونة جماعة من اعوانه، فخرج المتلجؤون من المسجد وهم اكثر حماساً من قبل، وانضم إليهم اناس آخرون، وتوجهوا إلى بلدة ((الشاه عبد العظيم)) على بعد بضعة اميال من طهران فالتجؤوا إلى المرقد المقدس الموجود فيها، وهناك اعلنوا انهم لا يخرجون من مكانهم إلاَّ بعد اجابة مطاليبهم، وكان من بين مطاليبهم عزل ((عين الدولة)) من منصبه وتأسيس دار للعدالة اطلقوا عليها اسم ((عدالة خانه)).

أخذ عدد الملتجئين في بلدة ((الشاه عبد العظيم)) يتكاثر يوماً بعد يوم، وكأن الناس وجدوا في ذلك فرصة لشفاء غليلهم من الحكومة، وصار الوعاظ والروضخونية – أي قرّاء التعزية – يصعدون المنابر لينددوا بالحكومة وشجبوا أعمالهم. ومما زاد في أهمية هذا الالتجاء ان اثنين من اكبر علماء طهران كانا من بين الملتجئين وهما: السيد محمد الطباطبائي والسيد عبد الله البهبهاني، كما كان بينهم الواعظ المشهور آغا سيد جمال الدين.

أرسل الشاه إليهم رسوله الخاص ليسترضيهم، فقابلوا الرسول بجفاء وأرجعوه خائباً. واضطر الشاه أخيراً أن يرسل إليهم كتاباً مسجلاً بخط يده يتعهد لهم فيه بإجابة مطاليبهم. وعند هذا وافقوا على العودة واستقبلتهم الجماهير في طهران استقبال الفاتحين. ولا حاجة بنا إلى القول بأن مكانة الطباطبائي والبهبهاني قد ارتفعت ارتفاعاً هائلاً في نظر الجماهير يومذاك ، ولذا تفاقمت الحركة ويبدو ان الشاه لم يستطع تحقيق وعده حيث أخذ على يده صهره ((عين الدولة)).

وفي منتصف آيار 1906م أصيب الشاه بالشلل فانتهز ((عين الدولة)) الفرصة ليضرب ضربته، فقد اصدر أمره بإلقاء القبض على السيد محمد الطباطبائي، وحين جاء الجنود للقبض على هذا المجتهد الكبير تجمع الناس لتخليصه من ايديهم، فوقع من جراء ذلك اصطدم بين الجنود والأهالي سقط فيه احد الأهالي قتيلاً، وشاء القدر أن يكون هذا القتيل من طلبة العلم وسيّداً من ذرية الرسول.

ولما جرى تشييع القتيل وقع اصطدام آخر سقط فيه خمسة عشر قتيلاً. توتر الوضع في طهران إلى الدرجة القصوى، وغادر طهران كثير من المجتهدين وذهبوا إلى بلدة قم المقدسة للإلتجاء فيها، ثم اصدروا بياناً هددوا الشاه فيه انه سيغادرون ايران جميعاً إلى العراق ما لم يَفِ بوعده لهم في تحقيق المطاليب الشعبية.

وأغلق أهل ((البازار)) دكاكينهم تأييداً للمجتهدين، فأصدرت الحكومة أمراً بنهب كل دكان يغلقه صاحبه. وهنا حدث حادث له مغزاه العميق. فقد ذهب فريق من أهل ((البازار)) إلى المفوضية البريطانية ينشدون معونتها، وحين وجدوا منها تشجيعاً التجؤوا إليها فخيموا في حديقتها الواسعة الواقعة في ضاحية قولهك، وهناك أخذ عددهم يزداد يوماً بعد يوم، وأعلنوا انهم لن يرجعوا إلى فتح دكاكينهم حتى تجاب مطاليب المجتهدين. وبطبيعة الحال كانت النجف حاضرة من خلال المراجع الذين انقسموا في الحوزات المستقلة بين مؤيد للحركة وبين مؤيد للشاه.

ومن النجف جاء الدعم الأساسي للثورة والدفاع ((الشرعي)) عن المطالبة الدستورية عبد مراجع تقليد، أبرزهم الملا كاظم الخراساني والشيخ عبد الله المازندراني، وعبر مجموعة من العلماء في مقدمتهم حسين النائيني. ذلك ان محمد علي شاه الذي ارتد على الدستور الذي فرضته الحركة الشعبية على والده مظفر الدين، لجأ إلى تقديم ضيغة دستورية مشوهة وإلى تعطيل المجلس التشريعي المنتخب، فكانت فتوى المرجع كاظم الخراساني التي تقول: (( إن الاقدام على مقاومة المجلس التشريعي، يكون بمثابة الاقدام على مقاومة احكام الدين الحنيف، فواجب المسلمين أن يقفوا حائلاً دون أية حركة ضد المجلس )). وهكذا بدأ التحرك السياسي والاجتماعي وزاد روح الحماس بحيث أصبح له شأن عظيم ومكانة مرموقة في المجتمع الإسلامي آنذاك.

اضطر الشاه أخيراً إلى الرضوخ لإرادة الشعب، فعزل ((عين الدولة)) من منصبه ونصب في مكانه رجلاً من أنصار المشروطية هو نصر الله خان، ثم اصدر أمره بإجراء الانتخابات للمجلس النيابي الذي سمي بـ((المجلس الشوروي الملي )).

المبحث الثالث :المشروطية التركية

الحديث عن المشروطية التركية التي عرفت بأسبقيتها على ايران وتبنيها المشروطية رسمياً وذلك لاحتكاكها بأوربا، فسلطان آل عثمان وصل الى فينا والمجر وكانت له صلات قوية بالدلولة الاوربية الكبرى، اضافة الى ذلك انها تدين بالمذهب السني الحنفي بينما تدين ايران بالمذهب الامامي وقياساً على هذا تكون البلاد العثمانية اقرب الى الشورى والبيعة اوالحياة البرلمانية عموماً،

وبالرغم من ذلك فالباحثين يشيرون الى ان المشروطية التركية هي من صنع الأفندية وبالتالي لم يكن هنالك اثر للفقهاء فالخلاف يجري بين المدنيين ،أولئك الذين يسمون بالتيار التغريبي او المنفتحين على منجزات العلم الحديث وتأثرهم بأوربا ومن سهل لهم ذلك هو السلطان العثماني عبد المجيد فهو أول من أضفى على حركة الاقتباس من الغرب صفة الرسمية بتأثير من وزيره الأول مصطفى رشيد باشا المسؤول الأول عن السياسة الإصلاحية في الدولة العثمانية على أسس غربية ،

وكان السلطان خاضعاً لتأثير وزيره رشيد باشا الذي وجد في الغرب ومدنيته مثله الأعلى وفلسفته، وفتحت هذه السياسات الإصلاحية على النمط الغربي الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية من قبل ممثلي هذه الدول في شؤون الدولة الداخلية بحجة حماية رعاياها أو أتباع دياناتها أو مصالحها المالية والسياسية.

وكلّفت هذه السياسات الدولة ثمناً باهظاً دفعته من أمنها الداخلي وسيادتها العامة وماليتها التي اضطرت للإعلان عن إفلاسها رسمياً عام 1875، مما فتح الباب واسعاً أمام المزيد من التدخل الخارجي في أخصّ شؤونها الداخلية بحجة تنظيم أمورها المالية وتأمين ديونها.

وليس ادلّ على قوة تيار التغريب وسطوة نفوذه من قدرته على إقالة السلطان العثماني عبد العزيز عام 1876 وتعيين السلطان مراد ثم إقالته بعد ثلاثة أشهر وتعيين السلطان عبد الحميد الثاني في آب 1876 . وإجباره على إعلان المشروطية الأولى عام 1876 والقبول بالحكم النيابي ،المشروطية الأولى تعني : يالدستور الذي أصدره السلطان عبد الحميد الثاني في 1876 م ، وعلى أساسه تم تشكيل أول مجلس نيابي في الدولة العثمانية دُعي المبعوثان وكان الهدف من هذه المشروطية تقييد السلطة المطلقة للسلاطين وإعطاء الأقليات من أصحاب المذاهب والأديان المختلفة مزيدا من الحرية والامتيازات.

ولكنها لم تستمر بسبب الظروف السيئة والتدهور الذي اصابة الدولة العثمانية وعملية الإصلاح الدستوري الأولى (المشروطية) في زمن عبد الحميد الثاني (1876) لم تؤتِ ثمارها أيضاً رغم أنها أكسبت تركيا لأول مرة دستوراً على الغرار الغربي.

وأصلاً فإن هذا الدستور كان قد تم إعداده من قبل النخبة المثقفة المعروفة ب «تركيا الفتاة» وتم فرضه قسراً على عبد الحميد الثاني لتوطيد الإدارة الدستورية في الدولة العثمانية، ولم يكتب له العيش طويلاً بسبب نشوب الحرب العثمانية الروسية ما بين 1877-1878 التي شكلت ذريعة للسلطان لإلغاء البرلمان، وهكذا انتهت إدارة المشروطية الاولى ..19، لكن فيما بعد ظهر التيار التغريبي المعارض لسياسة السلطان عبد الحميد الإسلامية والإصلاحية والذي تشكل من خليط من العناصر المتنوعة، فمن قوميين علمانيين وأصحاب ثقافة غربية والعاملين على إيجاد دولة مدنية متحررة من قيود الشريعة الإسلامية وتعاليم الدين إلى يهود وماسونيين وروّاد محافل ماسونية، تساندهم قوى ودول أوروبية كبرى، كل هؤلاء وجدوا في ما تم من إصلاح واستقرار في الدولة واستعادة لكثير من عناصر قوتها الذاتية، وجدوا فيه اضراراً بمصالحهم وتعطيلاً لمشروعاتهم وتأخيراً في الوصول إلى أهدافهم،

فرأوا أن يتحركوا بسرعة واللجوء إلى الحسم العسكري لإحداث التغيير المطلوب في طبيعة النظام القائم في الدولة وبناء نظام جديد يتيح الفرصة لكافة هذه الأطراف لتحقيق أهدافها، فكان ما عرف بالانقلاب الاتحادي الذي تم على مراحل وأهمها إعلان المشروطية الثانية : وهي المرسوم الذي أصدره السلطان عبد الحميد الثاني سنة (1908م) لإعادة مجلس المبعوثان بعد تعطيله قرابة ثلاثين عاما .

وقد استهدف إعلان المشروطية الثانية الحفاظ على كيان السلطنة ووحدتها ضد أي تدخل أجنبي أو حدوث أي انفصال داخلي.

المبحث الرابع : صراع المشروطة والمستبدة في العراق

الحديث عن المشروطة والمستبدة في العراق يأتي لزاماً بعد تداولها في إيران كونها تجري داخل المذهب الشيعي وعليه هنالك بدية في وصولها الى النجف كونها محور التشيع وحوزة العلم وقبلة الطلاب من كل اصقاع العالم، لذا عندما زاد الخلاف في ايران بين الدستوريين والمستبدين وصل استفتاء الى علماء النجف بشأن المشروطة، وقد افتى كل المراجع بالتأييد عدا السيد محمد كاظم اليزدي. وجاء في هذه الفتوى التي وقعها بالنيابة عن الجميع الملا محمد كاظم الخراساني وهي تشير الى ان القوانين الدستورية هي فرض على جميع المسلمين أن يقبلوا بها وينفذوها .. ومن يقاومها كأنما يقاوم الدين الحنيف.

وبهذا أشتد الصراع في النجف بين مرجعيتين كبيرتين هما اليزدي وهو من انصار المستبدة إذ يقول إن مصلحة الدولة يجب ان تكون بيد شخص واحد، مسؤول عنها لايشاركه فيها مشترك ويحتج لرأيه هذا بما يصل إليه اجتهاده الديني، مبرهناً عليه بالبراهين والادلة المختلفة ومعه أتباعه من مختلف الطبقات.

بينما الخراساني وهو من انصار المشروطة يرى عكس ذلك إذ يرى ان الدولة الحقة هي التي تقوم على اساس رفض استبداد الجبابرة والطواغيت وهذا ما نص عليه القران وسيرة النبي وأولياءه .. )( ، والحديث عن المشروطة والمستبدة في النجف نستحضر الشيخ النائيني صاحب كتاب (تنبيه الأمة وتنزيه الملة ) والذي يعتبر الأب الروحي لحركة و المنظر الفكري لها، ويعد النائيني المنظر الاول لحركة المشروطة، التي قادها الفقيه النجفي محمد كاظم الخراساني ضد استبداد الشاه القاجاري في ايران بهدف تحويل السلطة المطلقة المستبدة الى سلطة دستورية مقيدة.

ومن هنا كانت التسمية المشروطة. فالسلطة المستبدة – حسب النائيني – تغتصب حقين في آن معا هما: حق الامام المعصوم، وحق الامة. في حين ان السلطة الديمقراطية المشروطة تغتصب حقا واحدا هو حق الامام المعصوم فحسب، وهذا الاغتصاب جبري، لانه محكوم بغيبة الامام، ولا حل له الا بحضور الامام. فهو يرى في ارتياح الشعب من ظلم السلطان الجائر اول شرط من شروط الحكومة المشروطة.

يقول النائيني في هذا السياق: يريد انصار المستبدة ان يوهموا الامة بان عصرنا هذا عصر خلافة على(ع) ومغتصبي مقام الخلافة منه، والمغتصبون مبعوثون… لاغتصاب الخلافة او التدخل في امر الولاية المطلقة الحقة، في حين لا العصر عصرخلافة ومغتصبي خلافة، وليس الغرض من بعث المبعوثين الا تحديد الاستيلاء الجوري وكف الغصب والظلم. فالمسالة – حسب رؤية النائيني أن مسالة مجلس نيابي شوروي يتطرق شان المتصدي للسلطة، ويبحث في صالح الامة، ويقيم الوظائف اللازمة لذلك من حفظ وتنظيم، وتعديل وتبديل، واحقاق حقوق، ورد مظالم وغير ذلك.

فالمجلس النيابي هو الذي يضع دستورا للامة يحدد فيه مجموع الحقوق والواجبات للمواطنين، واختصاص سلطات الدولة وعملها ووظائفها، فضلا عن قيام مجلس من الفقهاء مهمته مراقبة السلطة ومحاسبتها على ان يكون المجلس ومندوبوه مسؤولين امام الامة خاضعين لمراقبتها. فهذه الرؤية تظهر مدى تعمق النائيني في الحكم المبني على العدالة والمساواة والحرية والشورى، بحيث ينتفي فيه الظلم عن الجميع.

ويرد النائيني واصفا موقف العلماء الشيعة، في تلك الفترة، المعادين للدستور الديمقراطي، بدعوى اننا مسلمون وديننا الاسلام وقانوننا القرآن والسنة النبوية لا غير، وبالتالي وضع قانون آخر غير هذين القانونين في بلاد المسلمين بدعة،ومقابلة لصاحب الشريعة الاسلامية.. يرد بانه من قبيل رفع اهل الشام مصاحفهم في صفين، ومن قبيل قول الخوارج:«لاحكم الا للّه»، اذ يصفهم النائيني بان اولئك اضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد بن معاوية على الحسين بن على(ع).

فالانقياد الاعمى لهذا الاكليروس هو اساس معبودية السلطان – حسب رايه. فالامة ليست مدعوة الى تشكيل حكومة الهية دينية، بل الى تشكيل حكومة زمنية عادلة يسميها النائيني «بالديمقراطية»،اذ في مثل هذه الحالة يستقل الديني عن الزمني، ولا يغدو شانا من شؤون الدولة.

فالتنظيمات والقوانين الزمنية العلمانية هي دائما اجنبية عن التكاليف التعبدية والتوصلية، واحكام المعاملات والمناكحات، وسائر ابواب العقود والايقاعات والمواريث والقصاص والديات، ونحو ذلك مما يكون المرجع فيه الرسائل العملية وفتاوى المجتهدين…. ، فسبب الاستبداد – برأي النائيني – يعود الى جهل الناس، وعدم معرفتهم بواجباتهم في مجال حقوق الشعب والحكومة،مما يدفع الحكام المستبدين الى معاملتهم معاملة الاغنام والعبيد، ويقول في ذلك: الاصل الوحيد لهذه الشجرة الخبيثة -اي الاستبداد – هو جهل الشعب بواجبات الحكومة والحقوق النوعية المشتركة. وقوامه انعدام المسؤولية، وعدم العلم بوجوب المراقبة والمحاسبة.

من هنا يعد النائيني اول منظر لصيغة «ولاية الامة على نفسها»، حيث لاءم فيها بين الاصل الاولي والاصل الثانوي(الاصل الثانوي، اي الدولة)، اذ راى فيها النائيني امرا شورويا محضا منوطا بالامة، حيث تتحمل فيها الامة مسؤولية نفسها في غيبة «المهدي»، وهو ما يتطابق بالنسبة الى النائيني مع الطابع الشوروي للامامة المعصومة نفسها. من هنا، ابرزالنائيني آيات الشورى وفسرها بواسطة حاجة المسلمين الى نظام دستوري نيابي حديث تختاره الامة، كعقد شوروي رضائي اختياري فيما بينها على اساس متطلبات حياتها وتقدمها.

يقوم الاصل الاولي بمصطلحات الفقه الامامي الذي قرره الفقهاء، على عدم مشروعية تسلط احد على احد، وعدم ولاية احد على احد، فلا سلطة لاحد من الناس الا ما تنازلوا عنه طوعيا وتعاقديا ورضائيا. من هنا، لما كان الاصل مقيدا للفرع وحاكما له، فانه لا مشروعية لتسلط الادارة او الدولة على الامة الا بالقدر المتيقن من سلطتها الواجبة لحفظ النظام وبشكل لا يتجاوز فيه طبيعة الاصل الاولي.

ويعني بذلك ان السلطة لا يمكن ان تكون اصلا اوليا بذاتها، لانه لا ولاية لاحد على احد في الاصل الاولي، وبالتالي فان الطريقة الديمقراطية في انتخاب الموظفين والمسؤولين الاداريين عن طريق مجالس الشورى المنتخبة او من قبل السكان بصورة مباشرة اقرب الى ما يقتضيه الاصل الاولي في باب السلطة، واقرب الى دليل التقييد مما اذا مارست الحكومة سلطتها في تعيين المسؤولين والموظفين الاداريين بمعزل عن راي الناس واختيارهم، فان هذا ابعد عما يقتضيه الاصل الاولي، وقد لا يكون داخلا في دليل التقييد، اما بعده عما يقتضيه الاصل، فمن حيث ان الحكومة تمارس سيادتها وسلطتهافي انشاء وفرض سلطة جديدة على الناس، وتعيين متسلط عليهم بغير اختيارهم، وهذا واضح. ويعني ذلك على مستوى الابنية الفقهية لمشروع تكوين الدولة نظرية ولاية الامة على نفسها، حيث تصبح الدولة من حيث هي شان اداري منطقة فراغ تشريعي، تشرع فيه الامة لنفسها في كل مجال تحتاج اليه تنظيميا واداريا في ضوءالاصل الاولي.

يدعو النائيني في نظريته «ولاية الامة على نفسها» الى تحرير رقاب الامة من الرقية المنحوسة الملعونة من جهة، ومشاركة افراد الامة بعضهم لبعض، ومساواتهم مع شخص السلطان في جميع شؤون المملكة من المالية وغير المالية من جهة اخرى، وكون ان الامة لها حق المراقبة والمحاسبة، ومسؤولية الموظفين ايضا من جملة فروع هذين الاصلين.

وأخيراً نظرة عامة للدكتور علي الوردي إننا حين ننظر الى حركة المشروطية بوجه عام نستطيع ان نقول انها على علاتها كانت ذات اثر اجتماعي وفكري لايستهان به في تطوير المجتمع العراقي .

ينبغي أن لاننسى أن انصار المشروطية كانوا في ذلك الحين يمثلون (( الجبهة التقدمية )) بالنسبة للمرحلة الاجتماعية التي عاشوا فيها كانوا يدعون الى تأسيس المدارس الحديثة وتعلم اللغات والعلوم الاوربية وكل ذلك كان مستنكر من قبل رجال الدين …وعليه أسدل الستار على تلك المرحلة وما حصل فيها بين المشروطة والمستبدة إلا أنها رغم كل المساوئ وانقسام الناس بسببها وما تركته من عداء وكراهية في النفوس بسبب القتل والاهانة وضيق الخناق وما تبادله الحزبان من تعصب ، الا انها تبقى ترجمة رائدة في الفكر الدستوري في الاقطار الثلاث : تركيا وإيران وما بينهما العراق .

 

قائمة المصادر والمراجع

ــ القران الكريم

ــ ابو الطيب محمد صالح : إشكلية الاستبداد السياسي في رسالة الشيخ النائيني ، ط1،دار الكتب والوثائق في بغداد ، 2005.

ــ الاسدي، حسن :ثورة النجف ، ط1 ،وزارة الاعلام ، بغداد ، سنة 1975.

ــ الوردي ، علي ، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ،ط2 ـج3 ، بيروت ــ لبنان ،2005م .

ــ الخيون ، رشيد ،المشروطة والمستبدة مع كتاب تنبيه الامة وتنزيه الملة ،ط1،معهد الدراسات الإستراتيجية ،بيروت، 2006م.

محمد روحي الخالدي ، أسباب الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة ،ط1، مطبعة المنار ، القاهر 1909.

ــ محمد رضا وصفي، الفكر الاسلامي المعاصر في ايران، جدليات التقليد والتجديد، دار الجديد بيروت، 2000م.

ــ د. ماجدة مخلوف ، معروضات احمد جودت باشا، ط1،القاهرة ،1985م .

ــ سهيل صابان : الأوضاع الثقافية في تركيا- من عهد التنظيمات الى عهد الجمهورية 1839

– 1990 ، تحقيق عثمان علي ، ط1،المعهد العالمي للفكر الاسلامي , 2010م .

ـ شمس الدين، محمد مهدي ، نظام الحكم والادارة في الاسلام، ط2 ،المؤسسة الدوليه للدراسات والنشر1991م .

ــ عمر الاسكندري وسليم حسن: تاريخ اوربا الحديثة، مطبعة القاهرة 1922م/ 1341هـ، ج2 .

ـ يوسف آصاف : تاريخ سلاطين آل عثمان ، مؤسسة الرسالة،ط1، بيروت،2000م.

ــ الشيخ النائيني ، تنبيه الامة وتنزيه الملة ، ضمن كتاب رشيد الخيون المشروطة والمستبدة وكذلك ضمن كتاب اشكالية الاستبداد السياسي في رسالة الشيخ النائيني .

ــ art.asp?aid=39144http://www.ahewar.org/debat/show. فالح عبدالجبار ، 25/3/2012

 

المشروطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign