خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
الرئيسية / موقع الاجتهاد و جميع المواضيع / جميع الأبحاث والأحداث / حوارات ومذکّرات / 5 مذكرة / البحث الاقتصادي عند الشهيد الصدر / محمد طاهر الحسيني الياسري
الاقتصاد

البحث الاقتصادي عند الشهيد الصدر / محمد طاهر الحسيني الياسري

الاجتهاد: يعتبر كتاب (اقتصادنا) والذي صدر في الستينات، الكتاب الرئيس الذي يجمع أفكار السيد الصدر الاقتصادية وآراءه، ومنذ ذلك الوقت يعتبر هذا الكتاب مرجعاً هاماً للباحثين في الاقتصاد الإسلامي، بالرغم من وصف السيد الصدر نفسه لكتابه هذا بالمحاولة البدائية مهما أُوتي من النجاح وعناصر الابتكار.

و (اقتصادُنا) بالفعل محاولة تأسيسية قصد السيد الصدر منها تقديم صورة نظرية متكاملة للاقتصاد الإسلامي، منتظراً من العلماء والباحثين دراستها وتطويرها. وهي محاولة تأسيسية للاعتبارات الزمنية والعلمية معاً. فمن حيث الاعتبار الزمني، كانت المحاولة الأَقدم من نوعها، إذ لم يسبق أَحدٌ السيد الصدر في خوض هذا المضمار وتقديم صورة متكاملة ومتجانسة للمذهب الاقتصادي في الإسلام. أما على الصعيد العلمي فهي تأسيسية نظراً لتوفر عناصر الإبداع والابتكار، مع الاحتفاظ بعنصر الأصالة الفقهية.

وكان قد نبه عدد غير قليل من الباحثين الإسلاميين على هاتين الحقيقتين، حيث كتب الأستاذ الدكتور محمد المبارك يقول: “” وتعتبر محاولة العلامة السيد محمد باقر الصدر في رأيي محاولة جريئة من هذا النوع خطت خطوات عظيمة. وكانت دراسة علمية رائدة نأمل أن يقدم لنا الأخصائيون في الاقتصاد رأيهم فيها، كما يمكن أن يسهم الفقهاء الراسخون والمفكرون الإسلاميون في بحثها باعتبارها مشروعاً ناضجاً يقدمه مفكر وفقيه كبير من علماء الإسلام المعاصرين””.

وكتب أيضاً: “” اقتصادنا للبحاثة الإسلامي المفكر السيد محمد باقر الصدر، وهو أول محاولة علمية فريدة من نوعها لاستخراج نظرية الإسلام الاقتصادية من أحكام الشريعة من خلال استعراضها استعراضاً تفصيلياً بطريقة جمع فيها بين الأصالة الفقهية ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته””.

وقد كتب إقبال آساريا مقالاً في تحليل ونقد كتاب (الاقتصاد في الإسلام) للبروفسور سيد نواب نقوي جاء فيه: “” يمثل اقتصادنا أولى المحاولات لعرض إطار نظري محكم للنظام الاقتصادي في الإسلام قائم على أساس جمع وتنسيق مختلف الأحكام الإسلامية ذات الارتباط بتنظيم الحياة الاقتصادية””.

هذه المحاولة التأسيسية التي قدَّمت رصيداً ضخماً للباحثين في مجال اكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي، ورغم مضي ما يقرب من ربع قرن على إنجازها، لا تزال أَحدث الدراسات في هذا المجال .

لقد كان صدور (اقتصادنا) منعطفاً تاريخياً في طبيعة الصراع بين النظام الإسلامي والنظام الماركسي، إذ لم تكن الكتابات والبحوث التي سبقت (اقتصادنا) سوى أَبواق للتشهير بالماركسية والنظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي، تردد ما تدعيه الرأسمالية الغربية، فغيَّر (اقتصادنا) طبيعة هذا الصراع الموهوم الذي يظهر فيه علماء الإسلام وكأنهم واجهات إِعلامية للرأسمالية الغربية، ونقله إلى الصراع الفكري الحضاري والموضوعي في آنٍ واحد.

وكان صدور (اقتصادنا) ـ أيضاً ـ نقلة نوعية في مجال الدراسات الاقتصادية الإسلامية، وذلك يعود إلى اجتماع عناصر الأصالة الفقهية ـ باعتبارها أول محاولة ينجزها فقيه كبير من فقهاء الإسلام ـ ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته. كما تميزت هذه المحاولة بالعمق والشمولية كما هو المعتاد في دراسات الشهيد الصدر وأبحاثه العلمية.

مضافاً إلى بروز مظهر الابتكار والإبداع في كتاب (اقتصادنا) والذي مازالت تفتقر إليه معظم الدراسات الإسلامية في مجال الاقتصاد الإسلامي.

إنَّ محاولة السيد الصدر الرائدة لا تزال تنتظر اهتمام المفكرين ومساهمتهم لتطوير الدراسات الاقتصادية الإسلامية، ولا يتحقق ذلك إلاَّ من خلال الدراسات الجادَّة والهادفة إجلالاً للبحث العلمي والتزاماً بالخلق الإسلامي، والابتعاد عن الدراسات العقيمة التي لا يقصد منها سوى المصالح الآنية من شهرة ووجاهة، إذ ليس من الموضوعية والإنصاف التنكر لمفكر إسلامي كبير، شهد له الداني والقاصي بجلالة القدر، وسعة الاطلاع، وطول الباع.

وليس من الخلق الإسلامي واحترام العقل اللجوء إلى الأَساليب الساذجة، والتنكر لمناهج البحث العلمي وطرائقه. فهل يحترم كاتب عقله وهو يلجأ بطريقة لصوصية إلى سرقة أفكار الغير دون أَدنى إشارة أَو تنبيه؟!.

لقد نشر في مجلة (العربي)(*) الكويتية مقال تحت عنوان (مفهوم إسلامي عن الملكية الخاصة والعامة) بقلم الدكتور عبد الرحمن زكي إبراهيم، نقل عن (اقتصادنا) حرفياً وبصورة مفرطة، دون أَدنى إشارة أو تنبيه لذلك. وأكثر من ذلك طرافة محاولته تمويه القارئ بتبديل بعض الكلمات وإعمال التقديم والتأخير تارة أخرى.

والأَدهى من ذلك محاولة الدكتور محمد عبد المنعم عفر في كتابه (الاقتصاد الإسلامي) المؤلف من ثلاثة أجزاء، حيث يتجاهل الإشارة إلى مواطن استفادته من كتاب (اقتصادنا)، الذي يعتمد عليه في معظم بحوث كتابه المذكور. فقد استعار منه حرفياً تعريف المذهب الاقتصادي والفرق بينه وبين علم الاقتصاد (انظر ص 341 ج1)، واستعار منه طبيعة العلاقة بين الإنتاج والتوزيع (انظر ص 68 ج1)، وكذلك تحليل السيد الصدر للطلب في السوق الرأسمالية والطلب في الاقتصاد الإسلامي (انظر ص 68، 69 ج1).

ورغبة منه في إخفاء هذه السرقات يجعل الدكتور عفر من كتاب (اقتصادنا) مصدراً ثانوياً في كتابه، لا يشير إليه إلاَّ في مواضع قد يستهجن الذوق السليم والبحث العلمي ذكرها (انظر ص67 ج3).

ومن ذلك ـ أيضاً ـ تحليل الدكتور محمد عبد المنعم الجمّال المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام، إذ استعار ذلك من كتاب (اقتصادنا) من غير تنبيه على هذه الاستعارة(*) (موسوعة الاقتصاد الإسلامي ص 39).
وفي رأيي أنَّ مثل هذه المحاولات تكشف عن عظمة كتاب (اقتصادنا) وجلالة قدر مؤلفه، غير أنَّ ذلك يكشف ـ أيضاً وللأسف ـ عن العجز والخواء الذي يتحمله المفكرون الإسلاميون في هذا المجال، إذ يمضي ربع قرن على صدور (اقتصادنا) ولا جديد على مستوى الفكر أو المنهج على حدٍّ سواء. وجميل مقالة كاتب إسلامي في (اقتصادنا) كتب يقول: “” اقتصادنا، كتاب وكاتب مظلوم، لم تثر لحد الآن منطلقاته ولم يتابع خطه على مستوى البحث والتحقيق، رغم الأَثر الثقافي الذي يفعله وفعله هذا الكتاب الهادف…”” .
أُذكِّر أنَّ للسيد الصدر كتباً أخرى في الاقتصاد منها (البنك اللاربوي في الإسلام) وهو عبارة عن اطروحة قدمها للندوة الفكرية التي هيأت لإنشاء بيت التمويل في الكويت. وكتابه (صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي) و(خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي) و(الأسس العامة للبنك في المجتمع الإسلامي) وهي عصارة لأفكاره الأساسية في (اقتصادنا) مع تطوير وتوضيح، وقد طبعت مع كتابين آخرين له في ما يسمى (الإسلام يقود الحياة) وهي (طبعة سقيمة، ينبغي لتلامذة السيد الصدر تصحيحها).

الاقتصاد الإسلامي:

ماذا نعني بالاقتصاد الإِسلامي الذي يعبّر بالضرورة عن الترابط بين (الاقتصاد) و(الإِسلام) الذي مضى على انبثاقه وطلوع فجره ما يزيد على أربعة عشر قرناً، مع العلم أنَّ (الاقتصاد) كعلمٍ حديث النشأة بلا شك، وإِن أُختلف حول النقطة التي بدأ فيها، فهو عند البعض يبدأ مع كتاب (ثروة الأمم) لآدم سميث (1776م)، وعند آخرين يبدأ مع كتاب كانتيلون (بحث في طبيعة التجارة بصفة عامة) (1730م)، وهو في نظر فريق ثالث يبدأ مع المدرسة الطبيعية التي ظهرت في فرنسا حول منتصف القرن الثامن عشر .
أَما كلمة (اقتصاد) فقد كان أَرسطو أَول من استعملها، وكان معناه يقتصر على علم قوانين تدبير الشؤون المنزلية، إذ أنَّ كلمة (اِقتصاد) مشتقة أَصلاً من كلمتين يونانيتين هما (أَويكوس) وتعني المنزل، و(نوموس) وتعني قانون.

أَما مصطلح (الاقتصاد السياسي) فقد استخدم لأول مرة في أَوائل القرن السابع عشر من قبل (مونكرتيريان) في كتابه (شرح الاقتصاد السياسي) الصادر في عام (1615م). ولم يكن هذا المصطلح يعني بالنسبة للمؤلف أكثر من مبادئ اقتصاد الدولة نظراً لأنه كان مهتماً بدراسة ماليتها. إلاَّ أنَّ مصطلح (الاقتصاد السياسي) أَصبح فيما بعد لا يدل على دراسة مالية الدولة وحسب، وإنما تعدى هذا النطاق ليدل على بحث مشكلات الاقتصاد الاجتماعي، وذلك لأن كلمة (سياسي) وهي مشتقة من الأصل اليوناني (بولتيكوس) تعني أَساساً (اجتماعياً) وبذلك يعد المصطلحان (الاقتصاد السياسي) و(الاقتصاد الاجتماعي) مترادفين، وإن كان اصطلاح الاقتصاد الاجتماعي ربما يصلح بصورة أَفضل للتعبير عن موضوع هذا العلم .

إِذن يحق للمرء أن يتساءل عن حقيقة وماهية الاقتصاد الإسلامي.

السيد الصدر وهو يقدم للمسلمين قبل أكثر من ربع قرن نظرية الإسلام الاقتصادية، لم يلق الحبل على الغارب، بل عمد إلى تبديد الغموض الذي يكتنف مفهوم (الاقتصاد الإسلامي)، وذلك في مقدمة كتابه (اقتصادنا) حيث كتب يقول: “”وبودي أَن أقول هنا وفي المقدمة شيئاً عن كلمة (اقتصادنا) أو كلمة الاقتصاد السياسي الذي تدور حوله بحوث الكتاب، وما أَعنيه بهذه الكلمة حين أَطلقها، لأن كلمة الاقتصاد ذات تاريخ طويل في التفكير الإِنساني، وقد أَكسبها ذلك شيئاً من الغموض نتيجة للمعاني التي مرَّت بها، وللازدواج في مدلولها بين الجانب العلمي من الاقتصاد والجانب المذهبي.

فحين نريد أن نعرف مدلول الاقتصاد الإسلامي بالضبط، يجب أن نميز علم الاقتصاد عن المذهب الاقتصادي، وندرك مدى التفاعل بين التفكير العلمي والتفكير المذهبي، لننتهي من ذلك إلى تحديد المقصود من الاقتصاد الإسلامي، الذي نتوفر على دراسته في هذا الكتاب. فعلم الاقتصاد هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأَحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأَسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها.

وهذا العلم حديث الولادة، فهو لم يحدث ـ بالمعنى الدقيق للكلمة ـ إلاّ في بداية العصر الرأسمالي منذ أَربعة قرون تقريباً، وإن كانت جذوره البدائية تمتد إلى أَعماق التاريخ، فقد ساهمت كل حضارة في التفكير الاقتصادي بمقدار ما أُتيح لها من إِمكانات، غير أن الاستنتاج العلمي الدقيق الذي نجده لأَول مرة في علم الاقتصاد السياسي، مدين للقرون الأَخيرة.

وأما المذهب الاقتصادي للمجتمع فهو عبارة عن الطريقة التي يفضّل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية، وحل مشاكلها العلمية. وعلى هذا الأَساس لا يمكن أن نتصور مجتمعاً دون مذهب اقتصادي، لأن كل مجتمع يمارس إنتاج الثروة وتوزيعها لابد له من طريقة يتفق عليها في تنظيم هذه العمليات الاقتصادية، وهذه الطريقة هي التي تحدد موقفه المذهبي من الحياة الاقتصادية”” .

فيكون من الطبيعي تصور مذهب اقتصادي في الإسلام، ينظم علاقات الإنتاج والتوزيع، وفقاً للتصورات الإسلامية. وحينما “” نطلق كلمة الاقتصاد الإسلامي لا نعني بذلك علم الاقتصاد السياسي مباشرة، لأن هذا العلم حديث الولادة نسبياً، ولأن الإِسلام دين دعوة ومنهج وليس من وظيفته الأَصلية ممارسة البحوث العلمية.. وإنما نعني بالاقتصاد الإسلامي: المذهب الاقتصادي للإسلام، الذي تتجسد فيه الطريقة الإسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية، بما يملك هذا المذهب ويدل عليه من رصيد فكري، يتألف من أَفكار الإسلام الأَخلاقية والأفكار العلمية الاقتصادية أو التاريخية التي تتصل بمسائل الاقتصاد السياسي أو بتحليل تاريخ المجتمعات البشرية”” .

وقد أكَّد السيد الصدر هذا الفرق مراراً وفي أكثر من موضع في كتابه (اقتصادنا)، ولكن رغم هذا التأكيد المتواصل يقع البعض في خلط غريب، ومن هؤلاء الدكتور محمود الخالدي الذي اعتبر أن السيد الصدر أخطأ في حصر أُسس الاقتصاد السياسي الرأسمالي في (حرية التملك ـ حرية الاستغلال ـ حرية الاستهلاك)، وتوهم الدكتور الخالدي هذا ناشيء من عدم التفريق بين النظام والعلم، وبعبارة أوضح بين المذهب الرأسمالي، وبين علم الاقتصاد الرأسمالي، ولو تمعن في نصوص كتاب(اقتصادنا) لتجنب هذا الخلط واتهامه السيد الصدر بغير حق، إذ عنون السيد الصدر بحثه وبخط بارز بـا(الرأسمالية المذهبية في خطوطها الرئيسية)، وكتب بصريح العبارة: “”فهذه هي المعالم الرئيسية في المذهب الرأسمالي التي يمكن تلخيصها في حريات ثلاث: حرية التملك، والاستغلال، والاستهلاك”” .

وقد يكون السيد الصدر هو أول من نبَّه إلى الفرق بين المذهب والعلم، وحدَّد ميدان كل منهما وبشكل دقيق وعلمي، ثم سار على منواله جلُّ الباحثين من بعده، وإن غفل بعضهم لحد الآن عن أهمية هذا الفرق. كما يلاحظ أن جلَّ من أَولى اهتمامه لهذه الحقيقة لم يخرج عن الإِطار الذي قدَّمه السيد الصدر ونبَّه عليه دون زيادة ، بل عمد بعضهم إلى النقل حرفياً عن السيد الصدر، ودون أدنى تنبيه إلى (اقتصادنا) كما هو شأن الدكتور محمد عبد المنعم عفر، الذي ذكر هذا الفرق بقوله: “” ويختلف علم الاقتصاد عن النظام الاقتصادي في أنًّ علم الاقتصاد هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأَحداثها وظواهرها وربط تلك الأَحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها. أما النظام الاقتصادي فهو الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشاكلها العملية..”” .

وقد أطلق الشيخ مرتضى المطهري على علم الاقتصاد مصطلح الاقتصاد النظري أو الوصفي، بينما أطلق على المذهب مصطلح الاقتصاد المبرمج والقانوني، على أساس أَن الأول يعتبر فناً وعلماً حقيقياً، في حين يعتبر الثاني طريقة تنظيم للحياة الاقتصادية لها علاقة وثيقة بمفهوم العدالة الاجتماعية، فيدخل المذهب في ضمن الأَيديولوجيات والعقائد . وقد يكون المطهري تأثر إلى حدٍّ كبير بالسيد الصدر كما يبدو بالمقارنة مع (اقتصادنا) في الفصل الذي عقده السيد الصدر تحت عنوان (عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي) .

الموقف من علم الاقتصاد

إذا كان علم الاقتصاد هو العلم الذي يعنى بدراسة وتحليل الحياة الاقتصادية وأَحداثها وظواهرها، فما هي علاقته بالمذاهب الاقتصادية ومدى تأثره بها؟ وبعبارة أَوضح هل يعتبر علم الاقتصاد علماً حيادياً يجب قبوله دون أَدنى تحفظ أو لا يكون كذلك فيتحتم علينا الموقف الإِنتقائي حينئذٍ؟

الموقف الإِنتقائي يبدو واضحاً، فقد جاء في (أصول الاقتصاد الإسلامي) أَنه: “”لا بأس بالأَخذ بقوانين العرض والطلب، لأنها اكتشاف لسنة الله في تحديد الأَثمان، وهي قضية تختلف تماماً عن انتشار ظاهرة سعر الفائدة كثمن على القرض..”” . وهو ما يظهر من قول الدكتور سعيد مرطان: “” إِنَّ بلورة فكر اقتصادي يستمد أصوله من تعاليم الشريعة الإسلامية لا يعني بأي حال من الأحوال الاِستغناء التام عن المفاهيم وأَدوات التحليل الاقتصادية الحديثة التي تمثل إِنتاج عدة قرون من التفكير والتنظير والتطبيق، إِنما يعني اختيار ما يلائم العقيدة الإِسلامية ونبذ ما يجافيها.

فحيث لا نجد حرجاً في استخدام معظم أَدوات التحليل الاقتصادي التي تدرس في مواد مثل الاقتصاد الرياضي والاقتصاد القياسي ومواد النظريات الاقتصادية، فإِننا بالتأكيد لا نقبل الأَخذ ببعض أَدوات السياسة الاقتصادية المعاصرة كسعر الفائدة في السياسة النقدية مثلاً. أَيضاً سيكون لنا تحفظاتنا على الأَهداف التي تسعى إلى تحقيقها وحدات القرار الاقتصادي، وعلى أَساليب تحقيق هذه الأَهداف وعلى الإِفتراضات التي تقف وراء اشتقاق أَدوات التحليل الاقتصادي”” .

الدكتور محمد الزرقاء عرض مشكلة الموقف من مقولات ونتائج التحليل الاقتصادي الحديث، وتقرير ما إِذا كان هذا التحليل علماً حيادياً يتوجب قبوله، أم تتأثر هذه المقولات والنتائج بأنماط السلوك والنظم غير الإِسلامية فيتوجب التحفظ بلحاظ بعضها على الأقل، ملخصاً الموقف بقوله: “”لقد جرى جمهور الباحثين في الاقتصاد الإسلامي حتى الآن على التمييز بين النظام الاقتصادي من جهة والتحليل الاقتصادي من جهة أخرى. فهم يؤكدون بحق أنَّ الإسلام يقدم نظاماً اقتصادياً متميزاً. لكن ماذا عن التحليل الاقتصادي أو ما يسمى علم الاقتصاد؟ هل يختلف هذا من نظام لآخر. أم أنه حيادي تصح مقولاته ـ دون تعديل ـ في مختلف الأنظمة الاقتصادية.

لقد اختلف الباحثون في الاقتصاد الإسلامي في الجواب عن هذا السؤال. فحسب الرأي الأَول: فإِنَّ التحليل الاقتصادي يصف ما هو كائن، ويحوي مجموعة من السنن أَو (القوانين) الاقتصادية، فهو حيادي بطبيعته وعالمي لا يخص بلداً دون بلد، أو نظاماً دون نظام، شأنه في ذلك شأن علوم الفيزياء والزراعة مثلاً. وإنَّ عالمية الشريعة الإسلامية بمعنى أنها أُنزلت للناس كافة ـ ومن ذلك نظامها الاقتصادي ـ ليدل على أنَّ في السلوك الإنساني الاقتصادي قدراً من الإضطراد يسمح بوحدة التشريع.

وبحسب الرأي الثاني: فان التحليل الاقتصادي إِنما يدرس السلوك الإنساني في المجال الاقتصادي، ولا يصح تشبيه (قوانينه) بقوانين الطبيعة لأسباب معروفة. كما أنَّ أكثر مقولاته المعاصرة استمدت من استقراء مجتمعات وأَنماط سلوكية لا إسلامية. وفوق ذلك فإن التحليل الاقتصادي ليس حيادياً تماماً بل هو كثير التأثر بالقيم المسبقة والإِفتراضات الضمنية للباحث”” . ويرى الزرقاء صدق كلا الرأيين في حالات دون حالات أخرى، ولذلك يجب تمحيص مقولات التحليل الاقتصادي المعاصر، وتمييزها إلى الفئات التالية:

أ – مقولات حيادية أو تنطوي على قيم أو افتراضات سابقة ليست محل اختلاف بين النظم الاقتصادية.

ب – مقولات تنطوي على قيم وافتراضات سابقة مقبولة إِسلامية.

ج – مقولات تنطوي على قيم وافتراضات غير مقبولة إسلامية مع تحديد تلك القيم أَو الافتراضات وبيان بدائلها الإسلامية .

ما هو موقف السيد الصدر من هذه المشكلة؟

تحت عنوان (القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي ذات إطار مذهبي) يرى السيد الصدر “” أن المذهب الرأسمالي يحدد إطار القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي، ويؤثر عليها في اتجاهها ومجراها. ومعنى هذا أن القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي، قوانين علمية في إطار مذهبي خاص، وليست قوانين مطلقة تنطبق على كل مجتمع وفي كل زمان ومكان، كالقوانين الطبيعية في الفيزياء والكيمياء.. وإنما يعتبر كثير من تلك القوانين حقائق موضوعية، في الظروف الاجتماعية التي تسيطر عليها الرأسمالية، بجوانبها الاقتصادية وأَفكارها ومفاهيمها، فلا تنطبق على مجتمع لا تسيطر عليه الرأسمالية ولا تسوده أَفكارها”” .

فكثير من القوانين والمقولات الاقتصادية هذه، علمية وحقائق موضوعية ـ حسب رأي السيد الصدر ـ في مجتمعات رأسمالية تتخذ الرأسمالية نظاماً ومنهاجاً، وهي ليست كذلك في مجتمعات لا تحكمها الرأسمالية ولا تتخذ منها طريقة لتنظيم حياتها الاقتصادية .

أَما السبب في تأطير هذه القوانين، وعجزها عن أن تكون قوانين مطلقة تنطبق على كل مجتمع فإِنه يكمن في دور الإرادة الإنسانية التي تختلف بين إنسان وآخر. وهو ما طرحه السيد الصدر بوضوح في (اقتصادنا) حيث يقول: “” إنَّ هذه القوانين نظراً إلى علاقتها بإرادة الإِنسان تتأثر بكل المؤثرات التي تطرأ على الوعي الإِنساني، وبكل العوامل التي تتدخل في إِرادة الإِنسان وميوله.

وبدهي أن إرادة الإِنسان التي تعالجها تلك القوانين تتحدد وتتكيف وفقاً لأفكار الإِنسان ومفاهيمه، ولنوعية المذهب السائد في المجتمع، ولون التشريعات التي تقيد سلوك الأَفراد. فهذه العوامل هي التي تملي على الإِنسان إِرادته وموقفه العلمي، وحين تتغير تلك العوامل يختلف اِتجاه الإنسان وإرادته، وبالتالي تختلف القوانين العلمية العامة التي تفسر مجرى الحياة الاقتصادية، فلا يمكن في كثير من الأحيان، إعطاء قانون عام للإنسانية في الحياة الاقتصادية، بمختلف إطاراتها الفكرية والمذهبية والروحية.

وليس من الصحيح علمياً أن نترقب من الإِرادة الإِنسانية في مجرى الحياة الاقتصادية أن تسير وتنشط ـ دائماً وفي كل مجتمع ـ كما تسير وتنشط في المجتمع الرأسمالي، الذي درسه الاقتصاديون الرأسماليون، ووضعوا قوانين الاقتصاد السياسي في ضوئه، مادامت المجتمعات قد تختلف في إطاراتها الفكرية والمذهبية والروحية، بل يجب أن تؤخذ هذه الإِطارات كمدلولات ثابتة في مجال البحث العلمي. ومن الطبيعي أن تتكشف نتائج البحث حينئذٍ عن القوانين الجارية ضمن تلك الإِطارات خاصة”” .

علم اقتصاد إِسلامي

إذا كان المراد من كلمة الاقتصاد الإسلامي يعني المذهب الاقتصادي للإسلام، الذي تتجسد فيه الطريقة الإِسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية بما يملك هذا المذهب ويدل عليه من رصيد فكري يتألف من أفكار الإسلام الأَخلاقية والأفكار العلمية الاقتصادية أو التاريخية التي تتصل بمسائل الاقتصاد السياسي أو بتحليل تاريخ المجتمعات البشرية، وإذا كنا ننفي الطابع العلمي عن الاقتصاد الإسلامي لوضوح: إن الإسلام دين يتكفل الدعوة إلى تنظيم الحياة الاقتصادية كما يعالج سائر نواحي الحياة، ولوضوح أنه ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى واقع سليم، وليس تفسيراً موضوعياً للواقع، فهل يعني كل ذلك عدم إمكان تكوّن علم اقتصاد إسلامي بعد أن يقوم الاقتصاد الإسلامي كمذهب بدوره في عملية تغيير الواقع؟

السيد الصدر يرى أنه: “” يمكن أن يتكون للاقتصاد الإسلامي علم بعد أن يدرس دراسة مذهبية شاملة من خلال دراسة الواقع في هذا الإِطار”” ، إذ يأتي دور الباحث الاقتصادي لدراسة الواقع وتفسيره ضمن مجتمع إسلامي يطبق فيه مذهب الإسلام تطبيقاً كاملاً، ويقارن السيد الصدر في هذه النقطة بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي حيث يقول: “”فالاقتصاد الإسلامي من هذه الناحية ـ يقصد لا باعتباره علماً ـ يشبه الاقتصاد الرأسمالي المذهبي، في كونه عملية تغيير الواقع لا عملية تفسير له،

فالوظيفة تجاه الاقتصاد الإِسلامي هي: الكشف عن الصورة الكاملة للحياة الاقتصادية وفقاً للتشريع الإسلامي، ودرس الأَفكار والمفاهيم العامة التي تشع من وراء تلك الصورة كفكرة انفصال شكل التوزيع عن نوعية الإِنتاج، وما إِليها من أفكار، وأَما الوظيفة العلمية تجاه الاقتصاد الإِسلامي فيأتي دورها بعد ذلك، لتكشف عن مجرى الحياة الواقعي وقوانينه، ضمن مجتمع إِسلامي يطبق فيه مذهب الإسلام تطبيقاً كاملاً، فالباحث العلمي يأخذ الاقتصاد المذهبي في الإِسلام قاعدة ثابتة للمجتمع، الذي يحاول تفسيره وربط الأَحداث فيه بعضها ببعض. فهو في هذا نظير الاقتصاد السياسي لعلماء الاقتصاد الرأسماليين، الذين فرغوا من وضع خطوطهم المذهبية، ثم بدأوا يفسرون الواقع ضمن تلك الخطوط، ويدرسون طبيعة القوانين التي تتحكم في المجتمع الذي تطبق عليه، فنتج عن دراستهم هذه علم الاقتصاد السياسي”” .

ولكن، كيف يمكن وضع علم الاقتصاد الإِسلامي كما وضع الرأسماليون علم الاقتصاد السياسي في مجتمعاتهم؟

السيد الصدر في معرض جوابه على هذا التساؤل يرى أَن التفسير العلمي لأَحداث الحياة الاقتصادية يرتكز على أَحد أَمرين: أَولهما: جمع الأَحداث الاقتصادية من التجربة الواقعية للحياة، وتنظيمها تنظيماً علمياً يكشف عن القوانين التي تتحكم بها في مجال تلك الحياة، وشروطها الخاصة. وثانيهما: البدء في البحث العلمي عن مسلّمات معينة تفترض إِفتراضاً، ويستنتج في ضوئها الاتجاه الاقتصادي ومجرى الحياة.
والأَمر الأَول غير متاح للاقتصاديين الإِسلاميين، لغياب ـ أَو تغييب ـ الاقتصاد الإِسلامي عن مسرح الحياة، مما يعني عدم إِمكانية الظفر بتجارب واقعية من حياتهم الاقتصادية المعاصرة، كما ظفر الاقتصاديون الرأسماليون، ولا يبقى أمام الاقتصاديين الإِسلاميين سوى الأَمر الثاني، إذ لا يعدمون إِمكانية الاِنطلاق من نقاط مذهبية معينة واستنتاج آثارها في مجال التطبيق المفترض، ووضع نظريات عامة عن الجانب الاقتصادي في المجتمع الإِسلامي على ضوء تلك النقاط المذهبية.

وقد مثَّل السيد الصدر لذلك بانطلاق الباحث الإِسلامي من نقطة إلغاء النظام الربوي للمصارف في المجتمع الإِسلامي، فيمكن للباحث استنتاج: أَنَّ مصالح التجارة متفقة في المجتمع الإِسلامي مع مصالح رجال المال وأَصحاب المصارف، لأَنَّ المصرف في المجتمع الإِسلامي يقوم على أَساس المضاربة لا على أساس الربا، فهو يتجّر بأموال زبائنه ويوزع الأَرباح بينه وبينهم بنسبة مئوية معينة من الربح، وفي النهاية يتوقف مصيره المالي على مدى الربح التجاري الذي يجنيه، لا على الفائدة التي يقتطعها من الديون.

إذن، من الممكن قيام علم اقتصاد إسلامي يتكفل تفسير الواقع واستكشاف خصائصه العامة، ذلك الواقع الذي يقوم على أسس مذهبية إسلامية، ولكن ثمة شرطاً يرى السيد الصدر ضرورة توفره في إِمكان ولادة هذا العلم يتمثل في تجسيد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودراسة الأَحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة ، وقد ورَّطت هذه الحقيقة التي أكد عليها السيد الصدر بعض أساتذة الاقتصاد فكتب أحدهم: (على أَية حال، فإنَّ العلاّمة محمد باقر الصدر ـ صاحب المؤلف الهام عن الاقتصاد الإِسلامي ـ يعلن بتواضع أن “” علم الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يولد ولادة حقيقية، إلاَّ إذا جُسد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع، بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودرست الأَحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة”” وهنا يكمن التحدي والاِختبار الرئيسي لمقولات الاقتصاد الإسلامي) .

وما يدعيه الكاتب من تحدٍّ واختبار مزعوم يقوم على عدم التمييز بين المذهب والعلم، وما ذكره السيد الصدر من شروط يختصّ بإمكان ولادة العلم ـ أعني علم الاقتصاد الإسلامي ـ لا المذهب.

الحد الفاصل بين المذهب والعلم

تقدم وأَن بيَّن السيد الصدر المفهوم الذي يعنيه من كلمة (المذهب) وذكر أَنَّ المذهب الاقتصادي للمجتمع هو: عبارة عن الطريقة التي يفضل ذلك المجتمع إِتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشاكلها العملية. بينما عرَّف علم الاقتصاد: بأَنه ذلك العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأَحداثها وظواهرها وربط تلك الأَحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها، وبتحديد طبيعة كل من المذهب والعلم وضع حداً فاصلاً بينهما، ولكن للدقة العلمية ولإِيجاد ضابط صارم بين موضوعات المذهب والعلم والمجالات التي يعمل كل منهما فيها، يؤكد السيد الصدر ضرورة عدم الاكتفاء بما وضعه سالفاً من علامة فارقة بين المذهب والعلم، تلك العلامة التي تمثلت في كون المذهب الطريقة التي يفضل المجتمع إِتباعها لحل مشاكله الاقتصادية، وكون العلم تلك المقولات وأَدوات التحليل التي تفسّر الواقع الاقتصادي.

لقد كان الحدّ الفاصل الذي وضعه السيد الصدر في مقدمة نظريته بين المذهب والعلم كافياً للتمييز بينهما، وذلك لتوضيح وشرح طبيعة الاقتصاد الإِسلامي وتمييزه عن علم الاقتصاد، ولكنه (هذا التمييز) لم يعد كافياً في مقام التعرف على مجالات وحدود كل منهما، مما يحتم على الباحث وضع ضابط دقيق يجنبه الخلط بين موضوعاتهما.

كان يكفي ـ للتأكيد على الطابع المذهبي للاقتصاد الإسلامي ولنفي كونه المقصود بعلم الاقتصاد وما يترشح عنه من شبهات ـ أَن يقول السيد الصدر عن المذهب أنه: طريقة، وعن العلم أنه: تفسير، وهو فارق جوهري بينهما. ولكن لمعرفة في أَي حقل يعمل المذهب الاقتصادي؟ وإلى أي مدى يمتد؟

وما هي الصفة العامة التي نجدها في كل فكر اقتصادي مذهبي، لنجعل من تلك الصفة علامة فارقة للأَفكار المذهبية في الإِسلام، التي نحاول جمعها وتنسيقها في إطراد واحد؟ لمعرفة الجواب على هذه التساؤلات يرى السيد الصدر ضرورة “” أن نعطي للمذهب المتميز عن العلم مفهوماً محدداً، قادراً على الجواب عن كل هذه الأَسئلة، ولا يكفي بهذا الصدد القول: بأنَّ المذهب مجرد طريقة”” إذ يأبى المنهج العلمي إلاَّ أن يوغل في خلق حدود فاصلة، ووضع ضوابط جامعة للمجالات التي يعمل فيها المذهب، ومانعة للاختلاط بمجالات العلم والاندماج معها.

ثمة من يقصر عمل المذهب على مجال التوزيع، ولذلك قيل عن المذهب الاقتصادي بأَنه: فن توزيع الثروة، بينما يقتصر عمل العلم على مجال الإنتاج فعرف بأَنه: علم قوانين الإنتاج. فكل بحث يبيِّن الثروة وتملكها والتصرف فيها فهو مذهبي يتصل بالنظام الاقتصادي. ولأجل ذلك تختلف الرؤى المذهبية في مجال التوزيع بين رؤية رأسمالية واشتراكية وإِسلامية. بينما يعتبر كل بحث يتعلق بالإنتاج وتحسينه علماً اِقتصادياً ذا صفة عالمية لا تختلف فيه الأمم على اختلاف مذاهبها الاقتصادية وتنافرها.

هذا المعيار للتفريق بين مجال عمل كل من المذهب والعلم لا ينال رضا السيد الصدر وقبوله ويرى أنه: “” ينطوي على خطأ كبير، لأَنه يؤدي إلى اعتبار الصفة المذهبية والصفة العلمية نتيجتين لنوعية المجال المدروس. فإذا كان البحث في الإنتاج فهو بحث علمي، وإذا كان في التوزيع فهو بحث مذهبي. مع أن العلم والمذهب مختلفان في طريقة البحث وأَهدافه، لا في موضوعه ومجالاته. فالبحث المذهبي يظل مذهبياً ومحافظاً على طابعه ما دام يلتزم طريقته وأَهدافه الخاصة، ولو تناول الإنتاج نفسه، كما أن البحث العلمي لا يفقد طبيعته العلمية إذا تكلم على التوزيع ودرسه بالطريقة والأَهداف التي تتناسب مع العلم”” .

ولا أَدل على خطل هذا المعيار ومجافاته للصواب من فكرة التخطيط المركزي للإنتاج ـ التي تتيح للدولة الحق في وضع سياسة الإنتاج والإشراف عليه ـ وهي إحدى النظريات المذهبية المهمة مع أَنها تدخل في مجال الإنتاج ولا تتصل بمسألة التوزيع. كذلك يجد المرء كثيراً من الأَفكار التي تعالج قضايا التوزيع تندرج في علم الاقتصاد، فـا(ريكاردو) حين يقرر مثلاً: أنَّ نصيب العمال من الثروة المنتجة، الذي يمثل فيما يتقاضونه من أُجور، لا يزيد بحال من الأَحوال عن القدر الذي يتيح لهم معيشة الكفاف.. لم يكن يقصد بذلك أَن يقرر شيئاً مذهبياً.

أَما المعيار الذي يرتأي السيد الصدر ضرورة تبنيه للتفريق بين المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد فهو (فكرة العدالة الاِجتماعية) التي تصلح أَن تكون حداً فاصلاً بين مجال كل من المذهب والعلم. حيث يقول السيد الصدر: “” ففكرة العدالة الاجتماعية هي الحد الفاصل بين المذهب والعلم، والعلامة الفارقة التي تميز بها الأَفكار المذهبية عن النظريات العلمية، لأَن فكرة العدالة نفسها ليست علمية، ولا أَمراً حسياً قابلاً للقياس والملاحظة، أَو خاضعة للتجربة بالوسائل العلمية، وإِنما العدالة تقدير وتقويم خلقي”” .

ولذلك يندرج مبدأ الملكية الخاصة، أو الحرية الاقتصادية، أَو إلغاء الفائدة أَو تأميم وسائل الإنتاج… في المذهب، لأنه يرتبط بفكرة العدالة، بينما تندرج قوانين تناقص الغلة وقوانين العرض والطلب، أَو القانون الحديدي للأُجور.. في مجال علم الاقتصاد، لأنها لا ترتبط بفكرة العدالة الاجتماعية، إذ أن قانون تناقص الغلة لا يحكم بأَن هذا التناقص عادل أَو ظالم، وإنما يكشف عنه بوصفه حقيقة موضوعية ثابتة، كذلك قانون العرض والطلب فهو لا يبرر ارتفاع الثمن بسبب قلة العرض أَو زيادة الطلب على أَساس مفهوم معين عن العدالة، وإنما يبرر الترابط موضوعياً بين الثمن وكمية العرض والطلب باعتباره ظاهرة حتمية للسوق الرأسمالية.

وعلى ضوء هذا المعيار يرى السيد الصدر أَن “” المذهب الاقتصادي يشمل كل قاعدة أَساسية في الحياة الاقتصادية، تتصل بفكرة العدالة الاجتماعية”” ، بينما “” العلم يشمل كل نظرية تفسر واقعاً من الحياة الاقتصادية بصورة منفصلة عن فكرة مسبقة أَو مثل أعلى للعدالة”” . غير أن هذا الفصل الحاسم بين البحث العلمي والبحث المذهبي لا يحول دون إضفاء الطابع المذهبي على القوانين العلمية وتأثرها بالمبادئ المذهبية “” كما في قوانين العرض والطلب أو قانون الأجور الحديدي للعمال، فإن أمثال هذه القوانين إنما تصدق علمياً وتنطبق على الواقع الذي تفسره… في مجتمع رأسمالي يطبق الرأسمالية المذهبية، فهي قوانين علمية في إطار مذهبي معين، وليست علمية ولا صحيحة ضمن إطار آخر”” .

عملية اكتشاف المذهب الإِسلامي

ثمة فارق جوهري بين المذهب الإِسلامي والمذاهب الاقتصادية الأخرى يحسه الباحث الإسلامي وهو يمارس عملية البحث المذهبي، ويتجلى هذا الفارق في طبيعة المذهب الاقتصادي الإِسلامي نفسه “” فالمفكر الإسلامي أمام اقتصاد منجَّز تمَّ وضعه، وهو مدعو إلى تمييزه بوجهه الحقيقي، وتحديده بهيكله العام، والكشف عن قواعده الفكرية، وإبرازه بملامحه الأَصلية، ونفض غبار التاريخ عنها، والتغلب بقدر الإِمكان على كثافة الزمن المتراكم والمسافات التاريخية الطويلة، وإِيحاءات التجارب غير الأَمينة التي مارست ـ ولو اسمياً ـ عملية تطبيق الإِسلام، والتحرر من أُطر الثقافات غير الإِسلامية التي تتحكم في فهم الأَشياء، وفقاً لطبيعتها واتجاهها في التفكير”” . وعليه فإنَّ “” مهمة الباحث في الاقتصاد الإسلامي ليست عملية إِنشاء المذهب الاقتصادي في الإِسلام أَو ابتداع الأنظمة الاقتصادية الإِسلامية، وإنما هي عملية الكشف عن المذهب الاقتصادي الإِسلامي، واستظهار الحلول الاقتصادية الإِسلامية فيما يعرض للمجتمع من مشاكل اقتصادية”” .

ويترتب على هذا الفارق الجوهري عدة نتائج منها: “” إِنَّ محاولة التغلب على كل هذه الصعاب، واجتيازها للوصول إلى اقتصاد إسلامي مذهبي هي وظيفة المفكر الإسلامي”” . وهو أَمر غاية في الوضوح “”فالبحث عن الاقتصاد الإسلامي لا يختص به رجال الاقتصاد، وإنما يختص به المفكر الإسلامي الذي يوضح التصور الإسلامي بشكله المتكامل، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الجوانب النظرية المختلفة للنظرية الإسلامية، حيث يتولى المتخصصون في علم الاقتصاد إبراز معالم النظرية الإسلامية في المجال الاقتصادي معتمدين في ذلك على المصادر الأَساسية للفكر الإسلامي في المجال التشريعي والاقتصادي والاجتماعي”” .

وينتج عن ذلك ـ أيضاً ـ وجوب الرجوع إلى المصادر الرئيسية للاقتصاد الإسلامي وهي النصوص الشرعية للإسلام والأَدلة الشرعية كما هو مقرر في محله، و””عليه فإِنَّ أَية محاولة لدراسة النشاط الاقتصادي خارج نصوص القرآن والسنّة، أو بغير الطرق الشرعية المقررة لا تمت إلى الاقتصاد الإِسلامي بصلة ولا يوصف المذهب الاقتصادي أَو النظم الاقتصادية المختلفة بأَنها إِسلامية إِلاَّ بقدر تعبيرها عن نصوص القرآن والسنّة والتزامها للطرق الشرعية المقررة”” .

وعلى أَساس الفرق الجوهري بين عملية اكتشاف المذهب الإِسلامي ـ باعتباره مذهباً تم إنجازه ووضعت أسسه في وقت سابق ـ وبين عملية التكوين التي يمارسها الباحثون المذهبيون في المذاهب الاقتصادية الأخرى كالرأسمالية والاشتراكية، يختلف سير البحث العلمي الذي يمارسه الباحث الإِسلامي عن غيره، إِذ يجري سير البحث العلمي في حالة تكوين المذهب الاقتصادي بصورة طبيعية، حيث يتم وضع النظرية العامة للمذهب لتكون فيما بعد أَساساً لبحوث ثانوية وقوانين تتفرع عنها، كالقانون المدني الذي يرتكز ويقوم على ضوء النظرية العامة للمذهب ويتأثر بمبادئها وأَسسها.

والأَمر مختلف في عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي “”فقد ينعكس السير ويختلف المنطلق وذلك حينما نكون بصدد اِكتشاف مذهب اقتصادي لا نملك له أَو لبعض جوانبه صورة واضحة، ولا صيغة محددة من قبل واضعيه، كما إذا كنا لا نعرف أنَّ المذهب يؤمن بمبدأ الملكية العامة أَو مبدأ الملكية الخاصة، أَو لا نعرف الأَساس النظري للملكية الخاصة هل هو الحاجة أَو العمل أَو الحرية؟ “” .

عندما يكون الأَمر كذلك فإنَّ سير البحث يبدو مقلوباً وعكس الاِتجاه الذي يسير عليه الباحث في حالة تكوين المذهب الاقتصادي، الذي تتضح فيه الأُسس العامة للمذهب وما يترشح عنها إلى القوانين والبحوث الثانوية. هذه الحقيقة ـ أعني تأثر وارتكاز القوانين المدنية مثلاً على المذهب ـ تؤكد ضرورة السير المقلوب للبحث في عملية الإِكتشاف، حيث يلجأ الباحث الإِسلامي إلى عملية التفتيش عن إشعاعات المذهب الإِسلامي في المجالات المختلفة من بحوث ثانوية وقوانين، ليصل عن طريق هذه الإِشعاعات إلى الأُسس العامة التي يقوم عليها المذهب الاقتصادي الإسلامي.

وبهذا الصدد يقول السيد الصدر: “”وهذا هو الذي يجعل عمليه الاكتشاف التي يمارسها الفكر الإسلامي تظهر أحياناً بشكل مقلوب. بل قد يبدو أنها لا تميز بين المذهب والقانون المدني حين تستعرض أَحكاماً إِسلامية في مستوى القانون المدني، وهي تريد أن تدرس المذهب الاقتصادي في الإِسلام، ولكنها في الواقع على حق ما دامت تستعرض تلك الأَحكام بوصفها بناءً علوياً للمذهب قادراً على الكشف عنه، لا باعتبار أنها هي المذهب الاقتصادي والنظريات الاقتصادية نفسها”” .

دراسة شاملة للأَحكام الإِسلامية

السير المقلوب للبحث المذهبي يحتم ويبرر ـ في آن واحد ـ دراسة حشد كبير من أحكام الإسلام وتشريعاته في المعاملات، والحقوق التي تنظم العلاقات المالية بين الأفراد أو بينهم والدولة، وإن لم تكن هذه الأحكام داخلة كلها في صميم المذهب ذاته، وذلك تمهيداً لاِكتشاف معالم المذهب الاقتصادي الإسلامي. بيد أنَّ ذلك لا يعني دراسة شاملة لأحكام الإسلام وتشريعاته، بل ستقتصر على الأحكام التي تُعدُّ بناءً علوياً للمذهب.

وبعبارة أَوضح تلك الأَحكام التي يصيبها إِشعاع المذهب دون سواها، حيث تستبعد الأَحكام التي لا تساهم في عملية الاِكتشاف، أي تلك الأحكام التي لا تتأثر بالمبادئ المذهبية للاقتصاد و لا تصيبها إشعاعاتها. ولأجل ذلك اِستبعد السيد الصدر أَحكاماً، مثل: (حرمة الغش، وضريبة الجهاد)، إذ لا تتمتع حرمة الغش بإِطار مذهبي مما يجعلها محل اتفاق معظم قوانين دول العالم على اختلاف مذاهبها الاقتصادية، وكذلك ضريبة الجهاد التي تتصل بدور الدعوة في الدولة الإسلامية.

بينما يرى السيد الصدر دخول أحكام أخرى مثل: (حكم الربا، وضريبة التوازن ـ الزكاة)، باعتبارها أحكاماً تسهم في عملية الاِكتشاف وتدخل في صميم المذهب، حيث شُرعت الزكاة لحماية التوازن الاجتماعي، في حين تكشف حرمة الربا عن القاعدة العامة للتوزيع في الإسلام .

عملية التركيب بين الأَحكام

لمّا كانت عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام تستدعي دراسة عدد كبير من الأحكام الإِسلامية، فإِنَّ ذلك لا يعني كفاية عرضها وفحص كل واحد منها بصورة منعزلة ومستقلة، لأن طريقة العزل أو الانفرادية في بحث كل واحدة من هذه الأَحكام حسب رأي السيد الصدر “” إِنما تنسجم مع بحث على مستوى القانون المدني في أحكام الشريعة، فإِنَّ هذا المستوى يسمح بعرض المفردات مستقلة بعضها عن البعض، لأنّ دراسة أَحكام الشريعة في مستوى القانون المدني لا تتخطى المجالات التفصيلية لتلك الأَحكام، وإنما تتكفل بعض أَحكام الإسلام التي تنظم عقود البيع والإِيجار والقرض والشركة مثلاً، وليست مكلفة بعد ذلك بعملية تركيب بين هذه الأحكام”” .

والأمر مختلف في عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي الذي يعني مجموعة النظريات العامة والأُسس التي يعتمدها ذلك المذهب لحل مشكلات الحياة الاقتصادية “”فلا يجدي عرض المفردات فحسب لاكتشاف المذهب، وإِن اكتفت بحوث كثير من الإِسلاميين بهذا القدر، بل يتحتم علينا أن ننجز عملية تركيب بين تلك المفردات، أي أن ندرس كل واحد منها بوصفه جزءً من كل، وجانباً من صيغة عامة مترابطة، لننتهي من ذلك إلى اكتشاف القاعدة العامة التي تشع من خلال الكل، أو من خلال المركّب، وتصلح لتفسيره وتبريره”” .

دور المفاهيم في عملية الاكتشاف

تسهم المفاهيم الإِسلامية في تذليل العقبات التي تعترض سبيل الباحث الإسلامي، وتقوم بتيسير فهم النصوص الشرعية التي يعتمدها في عملية اِكتشافه المذهب الاقتصادي في الإسلام. فمثلاً التصور الإسلامي للملكية على أنها عملية استخلاف للمال والثروة، يجعل من الملكية وظيفة اِجتماعية يسندها الشارع إلى الفرد للقيام بمتطلبات الخلافة لحساب الجماعة ولحسابه أيضاً، ويهيئ الذهنية الإسلامية ويعدّها لقبول النصوص الشرعية التي تحد من سلطة المالك وفقاً لمتطلبات المصلحة العامة. ويرجع السيد الصدر تردد بعض الفقهاء في قبول هذه النصوص الشرعية المسوّغة لانتزاع الملكيات من بعض أصحابها، إلى تجاهلهم دور المفاهيم الإسلامية في الإِشعاع على هذه الأَحكام .

وقد استلهم السيد الصدر طابع القيمومة للمفاهيم الإِسلامية على الأَحكام الإِسلامية، من نصوص شرعية لاحظت هذا المعنى تمهيداً لإعطاء الحكم الشرعي. وفي هذا الخصوص يقول: “” ونحن نجد بعض تلك النصوص التشريعية قد لاحظت هذا المعنى بوضوح فأَعطت المفهوم أو الإِطار تمهيداً لإعطاء الحكم الشرعي فقد جاء في الحديث بشأن الأَرض وملكية الإِنسان لها: “”إِنَّ الأَرض لله تعالى، جعلها وقفاً على عباده، فمن عطل أَرضاً ثلاث سنين متوالية لغير ما علةٍ أُخذت من يده، ودفعت إلى غيره””. فنحن نرى ـ والحديث ما زال للسيد الصدر ـ أنَّ الحديث قد اِستعان بمفهوم معين عن ملكية الأَرض، ودور الفرد فيها، على توضيح الحكم بانتزاع الأَرض من مالكها وتبرير ذلك”” .

ولم يقتصر دور المفاهيم الإِسلامية على مهمة الإِشعاع وتيسير فهم النصوص الشرعية، بل تقوم بدور تموين الدولة بنوعية التشريعات الاقتصادية التي يجب أن تملأ بها منطقة الفراغ .

عملية الاِجتهاد والذاتية

تتوقف عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي الإِسلامي التي يقوم بها الباحث الإسلامي، على ما يملكه من أحكام ومفاهيم إسلامية، يلجأ إلى فحصها وتدقيقها والتركيب بين بعضها والبعض الآخر، في عملية شاقة معقدة تدعى عملية (الاجتهاد). ويكمن تعقيد هذه العملية في النصوص الشرعية التي لا تبرز ـ في الغالب ـ مضامينها التشريعية أو المفهومية بشكل صريح ومحدد، مما يجعل فهم هذه النصوص الإِسلامية معقداً يفتقر إلى مزيد من الفحص والتحقيق، وكل ذلك يستدعي أو يؤدي إلى التباين في فهم النصوص، واختلاف في الوصول إلى نتائجها، وينتج عن ذلك تعدد الصور التي يكوّنها الباحثون الإِسلاميون للمذهب الاقتصادي في الإسلام تبعاً لاِختلاف اجتهاداتهم وهي اجتهادات ليست بالضرورة صائبة أو واقعية لإِمكان تصور الخطأ فيها. ويبدو التساؤل وجيهاً عن مدى اكتسابها الصفة الإسلامية رغم اختلافها وتباينها.

وفقاً لرأي السيد الصدر: “” تعتبر كل تلك الصور صوراً إسلامية للمذهب الاقتصادي، لأنها تعبر عن ممارسة عملية الاجتهاد التي يسمح بها الإسلام وأَقرّها، ووضع لها مناهجها وقواعدها. وهكذا تكون الصورة إسلامية ما دامت نتيجة لاجتهاد جائز شرعاً بقطع النظر عن مدى انطباقها على واقع المذهب الاقتصادي في الإِسلام”” .

وتشكل هذه الحقيقة رصيداً كبيراً في الفكر الإسلامي، الذي تتعدد فيه الاجتهادات والبدائل الإسلامية، لتفسح للمسلمين سعة الاختيار بين هذه البدائل، وفقاً لظروفهم، وبما يناسب مصالحهم، ما دامت هذه البدائل كلها مشروعة وسائغة إسلامياً. ولكن بالرغم من مشروعية تعدد الاجتهادات وتباينها فإنَّ ثمة خطراً ـ حسب رأي السيد الصدر ـ يحف بتلك العمليات الاجتهادية، ويخشى عليها من الزيغ والانحراف، ويتمثل هذا الخطر فيما يسميه السيد الصدر بــا: (العنصر الذاتي)، أَو (تسرب الذاتية إلى عملية الاجتهاد)، حيث يُفقد الغطاء الذاتي عملية الاكتشاف طابعها الحقيقي، وموضوعيتها ومصداقيتها الإِسلامية، ويبتعد بالعملية عن الأَصالة، ويسلبها المشروعية.

ولخطورة تسرب الذاتية إلى عملية الاجتهاد، يشدد السيد الصدر على ضرورة تحديد منابعها، حيث ذكر أسباباً أربعة بوصفها أهم المنابع لخطر الذاتية وهي:

أ ـ تبرير الواقع.
ب ـ دمج النص ضمن إطار خاص.
ج ـ تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه.
د ـ اتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص.

أ ـ تبرير الواقع

ثمة فواصل تاريخية وواقعية بين الباحث الإِسلامي والنصوص الإسلامية التي يسعى إلى فحصها وتدقيقها لاكتشاف المذهب الاقتصادي في الإِسلام، حيث الاِبتعاد عن عنصر النص، والعيش في واقع مخالف للمفاهيم والنصوص الإسلامية. وإزاء هذه الحالة قد “”يندفع فيها الممارس ـ بقصد أَو بدون قصد ـ إلى تطويع النصوص، وفهمها فهماً خاصاً يبرر الواقع الفاسد الذي يعيشه الممارس، ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص عنها، نظير ما قام به بعض المفكرين المسلمين، ممن استسلم للواقع الاِجتماعي الذي نعيشه، وحاول أن يخضع النص للواقع، بدلاً عن التفكير في تغيير الواقع على أَساس النص، فتأَول أَدلة حرمة الربا والفائدة. وخرج من ذلك بنتيجة تواكب الواقع الفاسد. وهي: أن الإسلام يسمح بالفائدة إذا لم تكن أضعافاً مضاعفة، وإنما ينهى عنها إذا بلغت مبلغاً فاحشاً، يتعدى الحدود المعقولة”” .

ب ـ دمج النص ضمن إطار خاص

قد يعيش الباحث الإسلامي وهو يمارس عملية الاكتشاف واقعاً اجتماعياً معيناً، أو واقعاً فكرياً يتبناه ويدافع عنه، فيحاول فهم النصوص ضمن هذا الواقع الاجتماعي أو ذلك الإطار الفكري المعين، ويلجأ إلى عملية تطويع قسرية للنصوص، لتنسجم مع الواقع الاجتماعي الذي يعيشه أو الإطار الفكري المتبنى، فإذا صادف أن عجز عن هذه العملية أهمل هذه النصوص واجتازها إلى نصوص أخرى تماشى غاياته وما يتبناه.

ويردُّ السيد الصدر إهمال بعض الفقهاء للنصوص الإِسلامية التي تتضمن الحد من سلطة المالك، إلى هذا السبب حيث لا تتفق هذه النصوص مع الأُطر الفكرية لأولئك الفقهاء، تلك الأُطر التي تشع بتقديس الملكية الخاصة. وتأثَّر بعضهم بالأُطر التاريخية أيضاً حيث عمد إلى الاستدلال على تشريع الملكية الخاصة في الأَرض على الضرورة وكون الإنسان مدنياً بالطبع يلجأ إلى مسكن يأوي إليه. بينما لا يحمِّل آخرون أَنفسهم عناء البحث فيبادرون إلى فهم كلمة وردت في النص الشرعي كما هي ـ في العصور اللاحقة لعصر التشريع ـ دون الالتفات إلى تطور اللغة وتغير الاستخدام.

بمعنى آخر عدم الالتفات إلى عمر الكلمة ـ كما يسميه السيد الصدر ـ فقد تحتفظ كلمة ما بمدلولها اللغوي، غير أنها لا تحتفظ كذلك بمدلولها السيكولوجي، حيث يتأثر هذا المدلول بمذاهب جديدة وحضارات ناشئة، فتقترن حينئذٍ بفكر خاص أو سلوك معين، فتكون مشروطة بذلك الفكر وذلك السلوك، ويغيب مدلولها اللغوي ليطغى مدلولها السيكولوجي الجديد. ولا أدلَّ على ذلك من كلمة (الاشتراكية) “” فقد اَشرطت هذه الكلمة خلال مذاهب اجتماعية حديثة عاشها الإِنسان المعاصر.. بكتلة من الأفكار والقيم والسلوك، وأصبحت هذه الكتلة تشكل إلى حد ما جزءً مهماً من مدلولها الاجتماعي اليوم، وإن لم تكن على الصعيد اللغوي المجرد تحمل شيئاً من هذه الكتلة فإذا جئنا إلى نصوص تشتمل على كلمة الاشتراكية، نواجه خطر الاستجابة للاشراط الاجتماعي في تلك الكلمات، وإعطائها المعنى الاجتماعي الذي عاشته بعيداً عن جو النص، بدلاً من إعطائها المعنى اللغوي الذي ترمز إليه”” .

ج ـ تجريد الدليل من ظروفه وشروطه

تجريد الدليل من ظروفه وشروطه ـ حسب رأي السيد الصدر ـ هو عملية تمديد للدليل دون مبرر موضوعي. وغالباً ما تتم هذه العملية في نوع خاص من الأدلة الشرعية، وهو ما يعرف فقهياً بـا(التقرير). وهو جزء من السُنة التي تعني: قول المعصوم وفعله وتقريره. والتقرير هو: سكوت المعصوم (النبي أو الأمام) عن عمل معين يقع على مرآى منه ومسمع، سكوتاً يكشف عن سماحه به وجوازه في الإِسلام، إذ لو لم يكن المعصوم موافقاً على صدوره لتصدى للنهي والزجر عنه. والتقرير على قسمين:

1 ـ تقرير خاص: ويتجلى في سكوت المعصوم عن فعل قام به فرد معين على مرأى ومسمع منه، فيكشف هذا السكوت عن جواز الفعل، وموافقة المعصوم عليه بالنسبة لهذا الفرد المعين، وغيره في الظروف والشروط ذاتها.

2ـ تقرير عام: ويتمثل في سكوت النبي عن عمل عام يتكرر صدوره من الناس في حياتهم الاعتيادية. ويعتبر هذا السكوت دليلاً على جوازه والموافقة عليه.

ويتوقف الاستدلال بهذا النوع الخاص من الأدلة الشرعية ـ أَعني التقرير ـ على عدة أمور:

أولاً: يجب التأكد من وجود ذلك السلوك تاريخياً في عصر التشريع، وأَلاَّ يكون سلوكاً متأخراً زمنياً.
ثانياً: التأكد من عدم صدور النهي من الشارع، ولا يكفي في المقام عدم العلم بصدوره، لتصور صدور النهي وعدم وصوله، فيلزم على الباحث الإِسلامي الفحص عن عدم صدور النهي والجزم بذلك.
ثالثاً: يجب أخذ جميع الصفات والشروط الموضوعية المتوفرة في ذلك السلوك بعين الاعتبار، إذ يمكن أن يكون لبعض تلك الصفات والشروط أثر في السماح بذلك السلوك وعدم تحريمه.

وتتخذ عملية تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه ـ كما بينه السيد الصدر ـ شكلين:

الأَول: فقد يعيش الباحث واقعاً عامراً بسلوك اقتصادي، ويحس وضوح هذا السلوك وأَصالته وعمقه إلى درجة يتناسى العوامل التي ساعدت على إِيجاده والظروف المؤقتة التي مهدت له، فيخيل له أَنَّ هذا السلوك أَصيل وممتد في التاريخ إلى عصر التشريع، فيستدل على جوازه وشرعيته، لعدم صدور نهي من الشارع عنه.

الثاني: ويظهر في تجريد السلوك ـ الذي لا شبهة في معاصرته لعهد التشريع ـ من خصائصه والعوامل التي قد تكون دخيلة في السماح به، فيعمد الباحث إلى عزل السلوك عن هذه العناصر والعوامل المؤثرة وتعميمه على حالات يفترض خلوها من هذه العناصر والعوامل الداخلة في الحكم بالجواز وعدم النهي، كما لو اختص عدم النهي بحالة مرض أَو فقر أو غير ذلك من الخصوصيات.

د ـ اتخاذ موقف مسبق تجاه النص:

ويقصد السيد الصدر باتخاذ موقف معين تجاه النص: الاتجاه النفسي للباحث الذي يترك الأَثر الكبير على عملية فهمه للنصوص. ويفترض السيد الصدر شخصين يمارسان دراسة النصوص، يتجه أحدهما نفسياً إلى اكتشاف الجانب الاجتماعي وما يتصل بالدولة من أحكام الإسلام ومفاهيمه، بينما ينجذب الآخر لاتجاه نفسي نحو الأَحكام التي تتصل بالسلوك الخاص بالأَفراد. فانهمَّا بالرغم من مباشرتهما نصوصاً واحدة، سوف يختلفان في المكاسب التي يخرجان بها من دراستهما لتلك النصوص، فيحصل كل منهما على مكاسب أكبر فيما يتصل باتجاهه النفسي وموقفه الخاص، وتنطمس أمام عينيه معالم الجانب الآخر الذي لم يتجه إليه نفسياً.

ولا يقتصر – حسب رأي السيد الصدر – تأثير هذه المواقف النفسية المسبقة على إخفاء بعض معالم التشريع، بل تؤدي إلى التضليل في فهم النص الشرعي والخطأ في استنباط الحكم منه، “”والأمثلة على هذا من الفقه عديدة. وقد يكون نهي النبي عن (منع فضل الماء والكلأ..) أَوضح مثال من النصوص على مدى تأثر عملية الاستنباط من النص بالموقف النفسي للممارس.. وهذا النهي من النبي عن منع الماء والكلأ، يمكن أن يكون تعبيراً عن حكم شرعي عام، ثابت في كل زمان ومكان، كالنهي عن الميسر والخمر. كما يمكن أَيضاً أن يعبر عن إِجراء معين، اتخذه النبي بوصفه ولي الأَمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين، في حدود ولايته وصلاحياته، فلا يكون حكماً شرعياً عاماً، بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدرها ولي الأَمر.

وموضوعية البحث في هذا النص النبوي تفرض على الباحث استيعاب كلا هذين التقديرين، وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النص وما يناظره من نصوص. وأما أولئك الذين يتخذون موقفاً نفسياً تجاه النص بصورة مسبقة، فهم يفترضون منذ البدء أن يجدوا في كل نص حكماً شرعياً عاماً، وينظرون دائماً إلى النبي من خلال النصوص بوصفه أداة لتبليغ الأحكام العامة، ويهملون دوره الإيجابي بوصفه ولي الأَمر، فيفسرون النص الآنف الذكر على أساس أنه حكم شرعي عام. وهذا الموقف الخاص في تفسير النص لم ينبع من النص نفسه، وإنما نتج عن إِعتياد ذهني على صورة خاصة عن النبي، وطريقة تفكير معينة فيه درج عليها الممارس، واعتاد خلالها أن ينظر إليه دائماً باعتباره مبلغاً، وانطمست أمام عينيه شخصيته الأخرى بوصفه حاكماً، وانطمست بالتالي ما تعبر به هذه الشخصية عن نفسها في النصوص المختلفة”” .

ضرورة الذاتية أَحياناً

لمّا كانت عملية اكتشاف المذهب متوقفة على عملية الاجتهاد التي يمارسها الباحث في فهم النصوص الشرعية وتنسيقها والتوفيق بين مدلولاتها في إطراد واحد، لزم بالضرورة تعدد الصور التي يقدمها الباحثون الإسلاميون. وهي صور شرعية تصح نسبتها إلى الإسلام ـ كما تقدم ذكره ـ على سبيل الظن لا القطع، لإِمكان تصور الخطأ فيها، وابتعاد الباحث عن الواقع الإسلامي، وعدم تمكنه من إعطاء الصورة الصحيحة للمذهب الإسلامي.

كل ذلك يعني تعدد الصور ـ التي يقدمها الباحثون ـ لمذهب اِقتصادي إسلامي واحد، إذ ليس من المنطقي أن نترقب اكتشاف أكثر من مذهب اقتصادي في الإِسلام، ولذلك ارتأى السيد الصدر ضرورة التمييز بين عملية الإِجتهاد على صعيد استنباط فقه الأَحكام، وبينها ـ أي عملية الاجتهاد ـ على صعيد فقه النظريات. ويبدو الفرق بينهما في صورة التناقض ـ التي تعترض الباحث ـ بين النصوص الشرعية، حيث يحتمل تفسيره بوجهين أحدهما: أن يرد الباحثُ التناقض المذكور إلى عدم صحة بعض النصوص التي اعتمدها، فأَدَّت إلى تنافر الأحكام المستنبطة بسبب دخول هذه النصوص التشريعية الغريبة في عملية إجتهاد الباحث. وثانيهما: أن يرد هذا التنافر، إلى عدم قدرته على التوفيق بين هذه النصوص التشريعية المتضاربة، والاهتداء إلى سرّ الوحدة بينهما.

وعلى أَساس هذين التفسيرين يختلف موقف الباحث على صعيد فقه الأحكام، عن موقفه على صعيد فقه النظريات، فهو باعتباره مجتهداً يستنبط الأَحكام لا يمكنه أن يتخلى عن الأحكام التي أدى إليها اجتهاده، وإن كانت متنافرة، لاحتمال عدم قدرته على الاِهتداء إلى سرّ وحدتها والتوفيق بينها. أَما على صعيد فقه النظريات فالأَمر مختلف تبعاً لطبيعة العملية التي تحتم أن تكون الأَحكام التي اعتمدها الباحث منسجمة ومتسّعة لاِكتشاف الأُسس العامة للاِقتصاد الإِسلامي. فإذا ما وجد الباحث على هذا الصعيد تنافراً بين هذه النصوص يجب عليه بالضرورة إزالة هذه العناصر القلقة التي أنتجت هذا التناقض، واللجوء إلى اجتهاد الآخرين ليستبدلها بعناصر أكثر انسجاماً، فيكوِّن مجموعة ملفَّقة من اجتهادات عديدة يتوفر فيها الانسجام والوئام. وتبدو الذاتية في هذه الحالة ضرورية ولا مفرَّ منها، بل “” إنَّ ممارسة هذا المجال الذاتي، ومنح الممارس حقاً في هذا الاِختيار ضمن الإطار العام للاجتهاد في الشريعة.. قد يكون أحياناً شرطاً ضرورياً من الناحية الفنية لعملية الاِكتشاف”” .

إِيمان السيد الصدر هذا لم يكن لوناً من الترف والتكاسل عن تحمل أَعباء ومشاق الاِجتهاد في أحكام الشريعة، بل كان ذلك نتيجة تجربة شخصية عاشها وهو يخوض غمار البحث الفكري والفقهي للكشف عن المذهب الاقتصادي في الإِسلام.

خداع الواقع التطبيقي

لقد تجسد المذهب الاقتصادي الإِسلامي في واقع العلاقات الاقتصادية التي كانت قائمة بين أَفراد المجتمع الإِسلامي إبان عصر النبوة وما تلاه، وهو ما يفترض ضرورة البحث عنه على هذا الصعيد التطبيقي، باعتباره مرآة تعكس ملامح الاقتصاد الإِسلامي وخصائصه.

وهنا تنشأ المشكلة التي تواجه الباحث الإسلامي، فيكون لزاماً عليه حينئذٍ التمييز بين دراسته للمذهب الاقتصادي في النصوص التشريعية، ودراسته له في إِطار الواقع التطبيقي، إذ أنَّ “” النصوص التشريعية للنظرية أَقدر على تصوير المذهب من الواقع التطبيقي، لأنَّ التطبيق نص تشريعي في ظرف معين قد لا يستطيع أن يعكس المضمون الضخم لذلك النص، ولا أن يصوِّر مغزاه الاجتماعي كاملاً، فيختلف إلهام التطبيق ومعطاه التصوري للنظرية عن المعطى الفكري للنصوص التشريعية نفسها. ومرد هذا الاختلاف إلى خداع التطبيق لحواس الممارس الاِكتشافية، نتيجة لاِرتباط التطبيق بظروف موضوعية خاصة”” .

ويقدم السيد الصدر أمثلة على خداع الواقع التطبيقي، وضرورة الحذر والحيطة، وتجنب الانزلاق في متاهات هذا الواقع المخادع. ومن هذه الأمثلة: ما يستشعره الباحث من حرية اقتصادية كان يتمتع بها إنسان عصر التشريع، حيث لا قيود تحد حريته وتكبل نشاطه الفكري، فهو حر في عملية استغلال ثروات الطبيعة ومعادنها وخيراتها، وهو ما يوحي إلى البعض بالطابع الرأسمالي.

ولو اكتفى الباحث بالتعويل على دراسة هذا الواقع دون الرجوع إلى النصوص الشرعية لانطلى عليه خداعه، بيد أنه قادر على التخلص منه بالعودة إلى النصوص الشرعية التي تعبِّر بتفوق وجدارة عن خصائص الاقتصاد الإسلامي وملامحه، حيث تمنع هذه النصوص عن تملك مصادر الثروات الطبيعية، واستغلالها بما يزيد عن حاجة المنتفع، وشرط أن يباشر الفرد استغلالها بنفسه.

وبذلك ينكشف له زيف الواقع التطبيقي وخداعه، وتظهر المفارقة بين النظرية والتطبيق، والتي يرجع سببها إلى “”الظروف التي كان إِنسان عصر التطبيق يعيشها، ونوع الإِمكانات التي يملكها، فان المضمون اللارأسمالي للنظرية في الاقتصاد الإسلامي، كان مختفياً في مجال التطبيق إلى حد ما، بقدر ما كانت إِمكانات الإِنسان وقدرته على الطبيعة ضئيلة، ويبرز المضمون اللارأسمالي باطراد، ويتضح في مجال التطبيق الأَمين للإسلام، بقدر ما ترتفع تلك الإِمكانات وتتسع تلك القدرة”” .

صفات الاقتصاد الإسلامي

للاِقتصاد الإسلامي صفتان أساسيتان، تبدوان في غاياته، ووسائله لتحقيقها

وهما: الواقعية والأَخلاقية.

أَما الواقعية فهو:

“” اِقتصاد واقعي في غاياته لأنه يستهدف في أنظمته وقوانينه الغايات التي تنسجم مع واقع الإنسانية، بطبيعتها ونوازعها وخصائصها العامة، ويحاول دائماً أن لا يرهق الإِنسانية في حسابه التشريعي، ولا يحلِّق بها في أَجواء خيالية عالية فوق طاقاتها وإِمكاناتها… وإِنما يقيم مخططه الاقتصادي دائماً على أساس النظرة الواقعية للإِنسان، ويتوخى الغايات الواقعية التي تتفق مع تلك النظرة”” . فيسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وحماية الإِنسان من ألوان الفقر والفاقة، بل ويسعى إلى خلق الظروف المناسبة لحياته وضمان كرامته وإنسانيته، وبذلك يتميز عن النظام الرأسمالي الذي يزعم وجود قانون طبيعي ـ وتلقائي ـ وراء تحريك الحياة الاقتصادية، ليبرر ألوان الجشع والاِستغلال، ويضفي المشروعية على هذه الأَوضاع الفاسدة. وكذلك يختلف عن النظام الشيوعي الذي يغرق الإنسان في رومانسيته وخيالاته اللامحدودة، وهو يبشره بخلق ذلك المجتمع المعصوم، وتلك الحياة الإِنسانية الرفيعة والفردوس الأَرضي.

هذا على صعيد الغايات والأَهداف، أما في طريقته فهو واقعي أيضاً “” فكما يستهدف غايات واقعية ممكنة التحقق، كذلك يضمن تحقيق هذه الغايات ضماناً واقعياً مادياً، ولا يكتفي بضمان النصح والتوجيه، التي يقدمها الوعاظ والمرشدون، لأنه يريد أن يُخرج تلك الأَهداف إلى حيز التنفيذ، فلا يقنع بإِيكالها إلى رحمة الصدف والتقادير. فحين يستهدف مثلاً إيجاد التكافل العام في المجتمع، لا يتوسل إليه بأساليب التوجيه واستثارة العواطف بحسب، وإنما يسنده بضمان تشريعي، يجعله ضروري التحقيق على كل حال”” .

والصفة الثانية للاقتصاد الإسلامي هي الصفة الأَخلاقية والتي بدورها تشع ليس فقط في غاياته فحسب، بل في طريقته أيضاً.

والصفة الأَخلاقية “” تعني ـ من ناحية الغاية ـ أنَّ الإسلام لا يستمد غاياته التي يسعى إلى تحقيقها في حياة المجتمع الاقتصادية، من ظروف مادية وشروط طبيعية مستقلة عن الإنسان نفسه، كما تستوحي الماركسية غاياتها من وضع القوى المنتجة وظروفها.. وإنما ينظر إلى تلك الغايات بوصفها معبرة عن قيم عملية ضرورية التحقيق من ناحية خلقية. فحين يقرر ضمان حياة العامل مثلاً، لا يؤمن بأنَّ هذا الضمان الاجتماعي الذي وضعه، نابع من الظروف المادية للإنتاج مثلاً، وإنما يعتبره ممثلاً لقيمة عملية يجب تحقيقها”.

وتتجلى الصفة الأَخلاقية ـ من ناحية الطريقة ـ في إيمان الإسلام بضرورة خلق شروط نفسية وذاتية في عملية تحقيق غايات الاقتصاد الإِسلامي وأَهدافه، ولذلك فإنَّ “”الإسلام يهتم بالعامل النفسي، خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق أَهدافه وغاياته. فهو في الطريقة التي يصنعها لذلك، لا يهتم بالجانب الموضوعي فحسب ـ وهو أن تتحقق تلك الغايات ـ وإنما يعنى بوجه خاص بمزج العامل النفسي والذاتي بالطريقة التي تحقق تلك الغايات ، ولذلك لا يكتفي الإسلام بأخذ المال من الغني لحساب الفقير، وإنما يتصدى لخلق الدافع الخلقي وعامل الخير في نفس الغني نفسه، ويجعل من هذه العملية عبادة شرعية لا تختلف عن العبادات الأخرى ـ من ناحية مفهوم العبادة والتقرب لله تعالى ـ مما يؤدي إلى تخفيف ظاهرة التهرب من دفع الضرائب وأَداء التكاليف المالية.

الاقتصاد الإسلامي جزءٌ من كل

يعبّر الاقتصاد الإِسلامي عن رؤية إسلامية، لتنظيم الحياة الاقتصادية، لا تنفصل عن مجموع الرؤى الإِسلامية المتعددة التي تنظم المجالات الأخرى من حياة الإِنسان. وتمثل هذه الرؤى بمجموعها الصيغة الإِسلامية العامة التي تهدف إلى تنظيم شتى نواحي الحياة الإنسانية، فهي متجانسة ومتسقة، ويكمل بعضها البعض الآخر، ويعتبر تعطيل أي جزء من هذه الصيغة العامة وعزله عن مسرح الحياة، محاولة لاغتيال فرص النجاح في عمل الصيغ الإِسلامية الأخرى، وإعاقة لعملها، ومنعها من أنْ تؤتي ثمارها ومردودها المنتظر. وانطلاقاً من هذه الحقيقة نبّه السيد الصدر على الدور المهم الذي تلعبه الصيغ العامة للمذاهب الاجتماعية في تقدير مخططاتها الاقتصادية، ولذلك اعتبر من الخطأ بمكان أن لا نعير الصيغة الإسلامية العامة الاهتمام، وأن لا ندخل في الحساب طبيعة العلاقة بين الاقتصاد وسائر أَجزاء المذهب، والتأثير المتبادل بينها في كيانه العضوي العام .

الصيغة الإسلامية العامة هي الأخرى لا تنفصل عن أَرضيتها الخاصة التي أُعدت لها، وهيأت لها كل عناصر البقاء والقوة. وإذا كانت الصيغة العامة هي عبارة عن مجموع الصيغ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للإسلام، فإنَّ الأَرضية المعدَّة لهذه الصيغ ـ كما يحددها السيد الصدر ـ هي عبارة عن العناصر التالية:

أولاً: العقيدة، وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصورة عامة.

ثانياً: المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء، على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.

ثالثاً: العواطف والأَحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها، إلى صف تلك المفاهيم، لأنَّ المفهوم ـ بصفته فكرة إسلامية عن واقع معين ـ يفجر في نفس المسلم شعوراً خاصاً تجاه ذلك الواقع، ويحدد اتجاهه العاطفي نحوه. فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية، وهي بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الإسلامية.

هذه العلاقة، والتأثير المتبادل بين الأَرضية والصيغة الإسلامية العامة، ثم الترابط الصارم بين عناصر هذه الصيغة، يمثل الشرط الأَساس في نجاح المذهب الاِجتماعي الإسلامي، إذ “” عندما يستكمل المجتمع الإسلامي تربته وصيغته العامة، عندئذٍ فقط نستطيع أن نترقب من الاقتصاد الإسلامي. أن يقوم برسالته الفذة في الحياة الاقتصادية، وأن يضمن للمجتمع أسباب السعادة والرفاه، وأن نقطف منه أعظم الثمار””(61). ويبدو إعمال جزء من الصيغة الإسلامية العامة وإطلاق سراحه في عملية بناء المجتمع الإسلامي، والحجر على أجزاء أخرى مكوّنة لهذه الصيغة العامة، ليس حجراً لهذه الأجزاء فحسب بقدر ما تمثله هذه العملية من تكبيل لهذا الجزء (المطلق السراح) وهو يدور في حلقة مفرغة، تشل عمله وتزيف نتائجه.

وذلك لأن “” الإسلام اشترع نهجه الخاص به، وجعل منه الأَداة الكاملة لإسعاد البشرية على أن يطبق هذا النهج الإسلامي العظيم في بيئة إسلامية، قد صبغت على أَساس الإسلام في وجودها وأفكارها وكيانها كله، وأن يطبق كاملاً غير منقوص يشد بعضه بعضاً. فعزل كل جزء من النهج الإسلامي عن بيئته ـ وعن سائر الأجزاء ـ معناه عزله عن شروطه التي يتاح له في ظلها تحقيق هدفه الأَسمى.

بيد أن ذلك لا يعني ـ بالطبع ـ الامتناع عن الأَخذ بالحلول الإسلامية ـ ولو جزئياً ـ لحل مشكلات الإنسان، بقدر ما يؤكد على الترابط العضوي لأجزاء الصيغة الإسلامية العامة، وضرورة الحفاظ على هذه العلاقة، لضمان نتائج طيبة، ومردود أَفضل، وسريع، وهو ما لا يمكن ترقبه في حالات التطبيق الجزئي لهذه الصيغ المترابطة، حيث يؤدي بالتأكيد إلى ضمور نتائج، واختفاء مردود أكبر.

الهيكل العام للاقتصاد الإِسلامي

يحدد السيد الصدر أَركان رئيسية ثلاثة للاقتصاد الإسلامي، تحدد محتواه المذهبي وتميزه عن المذاهب الاقتصادية الأخرى وهي:

الركن الأول: مبدأ الملكية المزدوجة.

الركن الثاني: مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود.

الركن الثالث: مبدأ العدالة الاجتماعية.

الركن الأول: مبدأ الملكية المزدوجة

من الأَركان الرئيسية التي يرتكز عليها المذهب الرأسمالي هو مبدأ الملكية الخاصة، وامتداد حق تملك الفرد إلى كل مجالات وميادين الثروة، وعليه “” فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاص الفردي للملكية، أي الملكية الخاصة، كقاعدة عامة، فهو يسمح للأفراد بالملكية الخاصة لمختلف أنواع الثروة في البلاد تبعاً لنشاطاتهم وظروفهم، ولا يعترف بالملكية العامة إلاّ حين تفرض الضرورة الاجتماعية وتبرهن التجربة على وجوب تأميم هذا المرفق أو ذاك، فتكون هذه الضرورة حالة استثنائية، يضطر المجتمع الرأسمالي ـ على أساسها ـ إلى الخروج عن مبدأ الملكية الخاصة، واستثناء مرفق أو ثروة معينة من مجالها .

ويختلف الحال في ظل المذهب الاشتراكي فتبدو الملكية الخاصة بركان الشر، ومصدر التناقضات الطبقية، يجب القضاء عليها، وإزالتها لتخليص المجتمع من شرورها وآثامها، ولتبقى “”الملكية الاشتراكية فيه هي المبدأ العام الذي يطبق على كل أَنواع الثروة في البلاد. وليست الملكية الخاصة لبعض الثروات في نظره إلا شذوذاً واستثناءً، قد يعترف به أَحياناً بحكم ضرورة اجتماعية قاهرة .

لقد رفض النظام الاشتراكي الملكية الخاصة، لأنها ولاّدة لألوان الفقر والحاجة والفاقة والتسكع، وتشجع الرأسماليين وتضطرهم إلى ممارسة الاِستعمار، لامتلاك أسواق وخيرات جديدة في الخارج، بعد أن تضيق بهم أَسواقهم الداخلية وخيراتهم عن تلبية رغباتهم وتحقيق طموحاتهم.

يقول السيد تفنيداً لهذه المزاعم: “” إِنَّ مبدأ الملكية الخاصة ليس هو الذي نشأت عنه آثام الرأسمالية المطلقة، التي زعزعت سعادة العالم وهناءه، فلا هو الذي يفرض تعطيل الملايين من العمال في سبيل استثمار آلة جديدة تقضي على صناعاتهم، كما حدث في فجر الانقلاب الصناعي، ولا هو الذي يفرض التحكم في أجور الأجير وجهوده بلا حساب، ولا هو الذي يفرض على الرأسمالي أن يتلف كميات كبيرة من منتوجاته، تحفظاً على ثمن السلعة وتفضيلاً للتبذير على توفير حاجات الفقراء بها، ولا هو الذي يدعوه إلى جعل ثروته رأس مال كاسب يضاعفه بالربا، وامتصاص جهود المدينين بلا إنتاج ولا عمل، ولا هو الذي يدفعه إلى شراء جميع البضائع الاستهلاكية من الأسواق ليحتكرها ويرفع بذلك من أَثمانها، ولا هو الذي يفرض عليه فتح أَسواق جديدة، وإن انتهكت بذلك حريات الأمم وحقوقها وضاعت كرامتها وحريتها.. كل هذه المآسي المروعة لم تنشأ من الملكية الخاصة، وإنما هي وليدة المصلحة المادية الشخصية التي جعلت مقياساً للحياة في النظام الرأسمالي، والمبرر المطلق لجميع التصرفات والمعاملات.

فالمجتمع حين تقام أسسه على هذا المقياس الفردي والمبرر الذاتي لا يمكن أن ينتظر منه غير ما وقع، فإنَّ من طبيعة هذا المقياس تنبثق تلك اللعنات والويلات على الإنسانية كلها، لا من مبدأ الملكية الخاصة. فلو أُبدل المقياس ووضعت للحياة غاية جديدة مهذبة تنسجم مع طبيعة الإنسان.. لتحقق بذلك العلاج الحقيقي للمشكلة الإنسانية الكبرى .

إذن ليست الملكية الخاصة ـ كما توهمتها الماركسية ـ مصدراً لهذه الآثام وكل هذه الجرائم، إذ أن “” الحاجة والفاقة وألوان الفقر والتسكع لم تنشأ عن السماح بالملكية الخاصة لوسيلة الإنتاج، وإنما نشأت عن الإطار الرأسمالي لهذه الملكية . الإِطار الذي يأذن للإنسان أن يبتلع أَخاه الإنسان، ويسمح له بتدميره، وباستعاضة هذا الإطار بإطار آخر ينظم حقوق الفرد والمجتمع، على أساس العدل والمساواة، تسترجع الملكية الخاصة عافيتها، وتنفض عن نفسها أَدران النظام الرأسمالي وموبقاته. وأَما ظاهرة الاستعمار التي يخيل للماركسيين أنها نشأت من رحم الملكية الخاصة، حين عجزت الخيرات والأَسواق الداخلية عن تمشية مصالح الطبقة الرأسمالية، فهي لم تنشأ من رحمها (الملكية الخاصة) وإنما هي التعبير العملي للمقاييس المادية التي خلقها الإطار الرأسمالي نفسه.

وهو ما يفسر نشوء هذه الظاهرة متزامناً مع بداية الرأسمالية ووجودها التاريخي في المجتمعات الأُوربية. وما تدعيه الماركسية من أنها (ظاهرة الاستعمار) المرحلة العليا للرأسمالية، وهمٌ يكذبه الواقع التاريخي حيث سارعت الدول الأوربية في ظل الرأسمالية إلى اقتسام الدول الضعيفة، ولم تنتظر بلوغها تلك المرحلة العليا المزعومة .

إنَّ إلغاء الملكية الخاصة واستبدالها بالملكية العامة فحسب لا يحل المشكلة ولا يخلص المجتمع من الفقر والفاقة، ولا ينجيه من سيطرة طبقة معينة على رقاب أبناء المجتمع. فالنظام الاشتراكي وإن صادر ملكيات الطبقة الرأسمالية، لا يقطع الطريق على نشوء طبقة أخرى تتمتع بمزايا الطبقة الرأسمالية ذاتها، بل تكرس الطبقية والاستغلال بحكم القانون وبالقيم الماركسية نفسها، وبأبشع صورها وأَقسى درجاتها، حيث تقرر دكتاتورية البروليتاريا ممثلة بالحزب الشيوعي، حزبها الطليعي الذي يمسك بالأمور وبمنتهى الصرامة وأَشدها، وبأعلى درجات الإدارة المركزية.

فالواقع لم يتغير حيث أن  “الثروة التي تسيطر عليها الفئة الرأسمالية في ظل الاقتصاد المطلق والحريات الفردية، وتتصرف فيها بعقليتها المادية، تسلم ـ عند تأميم الدولة لجميع الثروات وإلغاء الملكية الخاصة ـ إلى نفس جهاز الدولة، المكون من جماعة تسيطر عليهم نفس المفاهيم المادية عن الحياة، والتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصية بحكم غريزة حب الذات، وهي تأبى أن يتنازل الإنسان عن لذة ومصلحة بلا عوض.

وما دامت المصلحة المادية هي القوة المسيطرة، بحكم مفاهيم الحياة المادية، فسوف تستأنف من جديد ميادين للصراع والتنافس، وسوف يعرض المجتمع لأشكال من الخطر والاستغلال . فالمذهب الماركسي والرأسمالي متحدان في الفشل وللسبب ذاته، ألا وهو النظرة المادية والنزعة الفردية التي يحملها كلا المذهبين، ويفتحان الطريق واسعاً لنشوء الصراع والتنافس ويعرضان المجتمع لأشكال من الخطر والاستغلال وإن اختلفت صورهما وأشكالهما في كل من المذهبين تبعاً لطبيعتهما المختلفة من نواح أخرى.

لقد اختفت النزعة الفردية من المذهب الماركسي وراء شعارات براقة إدعت حماية المجتمع وذوبان الفرد في كيانه، فشاع بين الكثيرين نعت المذهب الرأسمالي بالطابع الفردي، بينما اعتبر المذهب الماركسي اجتماعياً يفني الفرد في المجتمع.

شهادة البراءة التي منحت المذهب الماركسي لا أساس لها من الصحة، ويأباها الواقع، إذ “” الواقع: أن كلا المذهبين يرتكز على نظرة فردية، ويعتمد على الدوافع الذاتية والأنانية، فالرأسمالية تحترم في الفرد السعيد الحظ أنانيته، فتضمن له حرية الاستغلال والنشاط في مختلف الميادين، مستهترة بما سوف يصيب الآخرين من حيف وظلم نتيجة لتلك الحرية التي أَطلقها لذلك الفرد ما دام الآخرون يتمتعون بالحرية مبدئياً، كما يتمتع بها الفرد المستغل.

وبينما توفر الرأسمالية للمحظوظين إِشباع دوافعهم الذاتية، وتنمي نزعتهم الفردية.. تتجه الماركسية إلى غيرهم من الأَفراد الذين لم تتهيأ لهم تلك الفرص، فتركز دعوتها المذهبية على أساس إثارة الدوافع الذاتية والأنانية فيهم، والتأكيد على ضرورة إِشباعها. وتسعى بمختلف الأساليب إلى تنمية هذه الدوافع، بوصفها القوة التي يستخدمها التاريخ في تطوير نفسه، حتى تتمكن من تفجيرها تفجيراً ثورياً. وتشرح لأولئك الذين تتصل بهم: أن الآخرين يسرقون جهودهم وثروتهم، فلا يمكن لهم أن يقروا هذه السرقة، لأنها اعتداء صارخ على كيانهم الخاص .

المذهب الماركسي لا يلغي الصراع الطبقي، بل يخلق صراعاً من نوع آخر لا يقل ضراوة وفتكاً ـ على أقل تقدير ـ عن الصراع الطبقي في ظل الرأسمالية، وإن اختلفت خصائصه وتنوعت صوره. فهو صراع اقتصادي يرتدي الزي السياسي، ويتجلى في عمليات التطهير المعتادة في تاريخ الأنظمة الاشتراكية صراعاً على السلطة والنفوذ، وخير شاهد على ذلك ما آلت إليه الأَوضاع هناك في الأيام الأخيرة وما انتهت إليه من سقوط هذه الأنظمة.

إِنَّ إلغاء الملكية الخاصة وتأميمها لتصبح ملكاً لجميع أفراد المجتمع تبقى عملية شكلية، ويبقى حظ المجتمع في تملكه لهذه الملكيات حظاً قانونياً فحسب، إذ تستلم الطبقة الحاكمة هذه الملكيات وتفرض سيطرتها المطلقة في ظل مفاهيم دكتاتورية البروليتاريا، والتناقض الطبقي، والعنف الثوري.. ، وبذلك يهيئ المذهب الماركسي لهذه الطبقة الحاكمة فرصاً من التسلط أكبر من تلك التي هيأتها الرأسمالية، حيث تتم كل وسائل القهر والاستغلال والاستبداد تحت مظلة الشرعية وتمثيل الطبقة الكادحة.

مما تقدم يبدو أن الملكية الخاصة هي المبدأ العام في المجتمع الرأسمالي وما سواه يبقى استثناء، بينما الملكية العامة هي المبدأ في المجتمع الاشتراكي وما سواها استثناء. أما المذهب الاقتصادي الإسلامي فلا تمثل الملكية الخاصة المبدأ العام، ولا الملكية العامة بدورها تمثل المبدأ، وليست إحداهما أصلاً والأخرى إستثناءً، بل يكوّن كل منهما القاعدة والأَصل والمبدأ. فالإسلام “” يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة، ويخصص لكل واحد من هذه الأشكال الثلاثة للملكية حقلاً خاصاً تعمل فيه، ولا يعتبر شيئاً منها شذوذاً واستثناءً، أو علاجاً مؤقتاً اقتضته الظروف، على خلاف النظم الاقتصادية الأخرى إذ “”تعيش بعيداً عن مبادئها الأَساسية التي قامت عليها. فالرأسمالية على سبيل المثال انحرفت عن مبادئ المذهب الحر، إذ سمحت بتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وظهور القطاع العام فيها. والنظام الاشتراكي أَيضاً اضطر إلى التراجع عن كثير من مبادئه، فبدأ يسمح ـ على نطاق ضيق  ـ بالملكية الخاصة ونظام الأَسعار وذلك لافتقار اقتصاده إلى الحافز المادي الفردي (الربح) ولعجزه عن توفير المتطلبات الأَساسية (كالغذاء في الاتحاد السوفياتي) وأخيراً بتأخر قطاعه الصناعي والتقني عن مثيله في الدول الرأسمالية . وبقدر ما يوحي هذا التراجع بفشل هذه الأنظمة، يدل على صحة الموقف الإسلامي وتوازنه وانسجامه مع الطبيعة البشرية.

الركن الثاني: مبدأ الحرية في نطاق محدود

يرتكز المذهب الرأسمالي على مبدأ حرية الإنسان المطلقة في المجال الاقتصادي، باعتبارها وسيلة لتحقيق المصالح العامة، ولدورها الفعّال في تنمية الإنتاج وتفجير الطاقات والإمكانات وتجنيدها للإنتاج العام. مضافاً إلى كونها حقاً إِنسانياً أَصيلاً وتعبيراً عملياً عن الكرامة البشرية. وبذلك يرتقي مفهوم الحرية من مجرد أَداة للرفاه الاجتماعي أو تنمية الإنتاج، إلى تحقيق إنسانية الإنسان ووجوده الطبيعي الصحيح(72).
وفي الوقت الذي يسرف فيه النظام الرأسمالي بإضفاء الطابع الإنساني والقانوني والاقتصادي على هذه الحرية، يعمد المذهب الاشتراكي إلى العكس من ذلك تماماً، فيلجأ إلى مصادرة الحريات ويخضع النشاط الاقتصادي إلى إشراف ورقابة صارمتين، ومركزية شرسة تحوِّل بها النشاط الاقتصادي من عملية إنسانية حيوية إلى عملية آلية خالية من أي مضمون إنساني.

أما الاقتصاد الإسلامي فيتميز بموقف متوازن كما هو المألوف في معالجاته للمشاكل الإنسانية، بما يتفق مع الفطرة والطبيعة الإنسانية، فيسمح للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل التي تهذب الحرية وتصقلها، ويجعل منها أداة خير للإنسانية كلها.

والتحديد الإسلامي للحرية الاجتماعية في الحقل الاقتصادي على قسمين:

الأَول: التحديد الذاتي الذي ينبع من أَعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية. وهو “”يتكون طبيعياً في ظل التربية الخاصة التي يُنشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكم الإسلام في كل مرافق حياته (المجتمع الإسلامي). فإنَّ للإِطارت الفكرية والروحية التي يصوغ الإسلام الشخصية الإسلامية ضمنها، حين يعطي فرصة مباشرة واقع الحياة وصنع التاريخ على أساسه.. إن لتلك الإطارات قوتها المعنوية الهائلة وتأثيرها الكبير في التحديد ذاتياً وطبيعياً من الحرية الممنوحة لأفراد المجتمع الإسلامي وتوجيهها توجيهاً مهذباً صالحاً، دون أن يشعر الأفراد بسلب شيء من حريتهم، لأن التحديد نبع من واقعهم الروحي والفكري، فلا يجدون فيه حداً لحرياتهم، ولذلك لم يكن التحديد الذاتي تحديداً للحرية في الحقيقة، وإنما هو عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحر، إنشاءاً معنوياً صالحاً، حيث تؤدي الحرية في ظله رسالتها الصحيحة .

الثاني: التحديد الموضوعي الذي يعبر عن قوة خارجية، تحد السلوك الاجتماعي وتضبطه. فقد لا تأخذ التربية الإسلامية في نفوس البعض مفعولها، ولا تجد طريقاً في ضمائرهم ووجدانهم، فتتكفل عندئذٍ القوة الخارجية بإرغامهم لاحترام القانون الإسلامي والإِذعان له. ويرى السيد الصدر أنَّ التحديد الموضوعي هذا تمَّ تنفيذه بطريقتين:

الأولى: حيث كفلت الشريعة في مصادرها العامة، النص على المنع عن مجموعة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، المعيقة في نظر الإسلام تحقيق المثل والقيم التي يتبناها الإسلام، كالربا والاحتكار وغير ذلك.

الثانية: وضعت الشريعة مبدأ إشراف ولي الأمر على النشاط العام، وتدخل الدولة لحماية المصالح العامة وحراستها، بالتحديد من حريات الأفراد فيما يمارسون من أعمال. وقد كان وضع الإسلام لهذا المبدأ ضرورياً لكي يضمن تحقيق مثله ومفاهيمه في العدالة الاجتماعية على مر الزمن. فإنَّ متطلبات العدالة الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام، تختلف باختلاف الظروف الاقتصادية للمجتمع، والأوضاع المادية التي تكتنفه، فقد يكون القيام بعمل مضراً بالمجتمع وكيانه الضروري، في زمان دون زمان، فلا يمكن تفصيل ذلك في صيغ دستورية ثابتة وإنما السبيل الوحيد هو فسح المجال لولي الأمر، ليمارس وظيفته بصفة سلطة مراقبة وموجهة، ومحدّدة لحريات الأَفراد فيما يفعلون أو يتركون من الأمور المباحة في الشرع، وفقاً للمثل الإسلامية في المجتمع.

الركن الثالث: مبدأ العدالة الاجتماعية

يقول السيد الصدر: “” إنَّ الإسلام حين أدرج العدالة الاجتماعية ضمن المبادئ الأساسية التي يتكون منها مذهبه الاقتصادي لم يتبن العدالة الاجتماعية بمفهومها التجريدي العام، ولم يناد بشكل مفتوح لكل تفسير، ولا أَوكله إلى المجتمعات الإنسانية التي تختلف في نظرتها للعدالة الاجتماعية، باختلاف أَفكارها الحضارية ومفاهيمها عن الحياة… وإنما حدَّد الإسلام هذا المفهوم وبلوره، في مخطط اجتماعي معين، واستطاع – بعد ذلك – أن يجسد هذا التعميم في واقع اجتماعي حي، تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الإسلامي للعدالة.

وتتجسد هذه العدالة في مجموع العناصر والضمانات التي زود بها نظام توزيع الثروة الإسلامي بما يتكفل قدرته على تحقيق هذه العدالة. ولم يتبّن الإسلام العدالة الاجتماعية شعاراً فحسب، بل وضع تصوراته التفصيلية لهذه العدالة، وأقام مدلولها الإسلامي الخاص المميز. والصورة الإسلامية لهذه العدالة ـ كما يعتقد السيد الصدر ـ تحتوي على مبدأين عامين  لكل منهما خطوطه وتفصيلاته:

أحدهما: مبدأ التكافل العام:

وهو “” المبدأ الذي يفرض فيه الإسلام على المسلمين كفاية، كفالة بعضهم لبعض، ويجعل من هذه الكفالة فريضة على كل مسلم في حدود ظروفه وإمكاناته، يجب عليه أن يؤديها على أي حال، كما يؤدي سائر فرائضه .

وثانيهما: مبدأ التوازن الاجتماعي: وهو مسؤولية الدولة في إيجاد حالة التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة.

وسيأتي بحث كل من هذين المبدأين بشيء من التفصيل في فصل (مسؤوليات الدولة الاقتصادية) في الاقتصاد الإسلامي.

المشكلة الاقتصادية

لماذا يقضي الملايين من البشر نحبهم جوعاً؟ لماذا يعرى الملايين هؤلاء، ويعجز العالم عن تأمين ما يستر أَجسادهم ويسدَّ رمقهم؟ لماذا يعجز الإنسان عن تأمين لقمة عيش كريمة له ولعائلته، بينما يعيش الآخرون من بني جنسه في وحل الترف والإسراف؟ تلك هي المشكلة، فما هو سببها، وما الحيلة لتفادي مخاطرها؟

تعتقد الرأسمالية أن السبب الرئيس لهذه المشكلة هو قلة الموارد الطبيعية نسبياً. فهي محدودة حيث لا يمكن أن يزاد في كمية الأرض التي يعيش عليها الإنسان، ولا في كمية الثروات المخبوءة فيها، مع نمو حاجات الإنسان وازديادها باطراد، وفقاً لتطور المدنية وازدهارها. الأمر الذي يجعل الطبيعة عاجزة عن تلبية جميع تلك الحاجات إلى الأفراد كافة، فيؤدي ذلك إلى التزاحم بين الأفراد على إشباع حاجاتهم وتنشأ عن ذلك المشكلة الاقتصادية.

والماركسية تردّ المشكلة إلى التناقض بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع، فمتى تم الوفاق بين ذلك الشكل وهذه العلاقات ساد الاستقرار في الحياة الاقتصادية، مهما كانت نوعية النظام الاجتماعي الناتج عن التوفيق بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع.

أَما النظام الإسلامي، فكيف ينظر إلى المشكلة وما هو الحل المقترح إسلامياً؟ لقد اختلف الباحثون الإسلاميون في تصوير المشكلة وكيفية حلها، تبعاً لتصوراتهم المختلفة لها. ويتجلى هذا الاختلاف في اتجاهات عدة:

الاتجاه الأول: ما ذهب إليه الدكتور عبد المنعم عفر فإنه بعد أن عرَّف المشكلة الاقتصادية في الفكر الرأسمالي بأنها: “” ندرة الموارد المتاحة بالنسبة للحاجات الإنسانية  قال: “” لا ينكر الإسلام تعدد الحاجات وتطورها وتجددها، وكذلك فإنه لا يعترض على محدودية الموارد الاقتصادية بالتعريف السالف الذكر، إلاّ أنه ينظر إلى المشكلة على أنها قصور في الوسائل المتاحة للإنسان عن تسخير الموارد الممكن له استخدامها والإفادة منها في إشباع حاجاته وتطوير طاقاته، علاوة على كسل الإنسان وتجاوزه الحد في تقدير حاجاته .

وبعد أن يأتي على ذكر الآيات القرآنية الكريمة بصدد تسخير ما في الكون للإنسان، يقول: “” إنَّ تسخير الكون كله للناس لا يعني حصولهم على كل ما فيه بلا عمل، بل ربطت ـ أي الآيات ـ بين التسخير والدعوة إلى التفكير والبحث والاطلاع. وهي في هذا ترشد الناس أن يستخدموا الأسلوب العلمي في المشاهدة والملاحظة والتجربة والبحث عن الظواهر المختلفة واستنباط القوانين الطبيعية للإفادة مما خلق الله لهم، وأنه لو شاء لهم لبسط الرزق بلا عناء.

ولكن ذلك سيكون مدعاة للترف والكسل والبغي في الأرض بغير حق، ولذلك جعل للإنسان من الرزق ما يناسب جهده . فالدكتور عفر يعتقد باعتراف الإسلام بمحدودية الموارد وندرتها، ولكنه يرجح المشكلة أيضاً إلى قصور الوسائل المتاحة لتسخير الطبيعة علاوة على عجز الإنسان وكسله. وقد جاء في كتاب (أصول الاقتصاد الإسلامي): “” إن المشكلة ليست مشكلة موارد من البداية، لا من الناحية الواقعية ولا من البيان القرآني، إنما هي مسألة جهد لابد أن يبذل ليبلونا الله أيّنا أحسن عملاً . والكتاب من تأليف الدكتور عفر بمشاركة مؤلف آخر.

ويبدو التناقض بين رأيه في كتابه (الاقتصاد الإسلامي) ورأيه الأخير حيث لا يجد حرجاً هناك من التسليم بندرة الموارد، بينما ينفي ـ بمشاركة زميله ـ أن تكون المشكلة مشكلة ندرة لا من حيث الواقع ولا من حيث البيان القرآني.

ولا يبتعد الدكتور سعيد مرطان عن هذا الاتجاه في تصويره للمشكلة الاقتصادية حيث يرى أنَّ: “”الندرة النسبية للموارد تمثل أحد جانبي ـ المشكلة الاقتصادية ـ ليس فقط لأنها واقع ملموس نعيه في كل لحظة من حياتنا اليومية بل لأن الإسلام يجعل منها حافزاً للعمل وتعمير الأرض، كما يجعلها مجالاً للابتلاء والاختبار. وهذا يعني أن ظهور الندرة النسبية لا يتعارض البتة مع وفرة وكفاية الموارد التي أنزلها الله سبحانه وتعالى وسخرها لعباده .

الاتجاه الثاني: وهو ما ذهب إليه الدكتور محمد أحمد صقر، فقد إرتأى وجوب النظر إلى المشكلة الاقتصادية من جوانب ثلاثة: “” 1ـ جانب إمكانية الإنتاج. 2ـ جانب أسلوب الإنتاج. 3ـ الجانب الشخصي لسلوك الإنسان. والإسلام يحاول أن يواجه المشكلة من هذه الجوانب الثلاثة وبصورة مجتمعة.

وهذه المعالجة الشمولية من شأنها أن تخفف من حدة المشكلة الاقتصادية في الإسلام فضلاً عن أن الإسلام تنمية لطاقات الإنسان الروحية والأخلاقية يجعله قادراً على الاستمتاع بصورة أَفضل مهما كان القدر المادي الذي يحققه. وفي النهاية فإن وجود المشكلة الاقتصادية في حد ذاته يعتبر محركاً للنمو والتطور الاقتصادي والتحسن الفني. ولو حلَّت المشكلة الاقتصادية نهائياً لجمِّد الاقتصاد، واستقر عند حالة السكون. ولذا فنحن نخالف الشيخ باقر الصدر .

ويبدو أن الدكتور صقر لا يرى حلاً لهذه المشكلة دون الأَخذ بالاعتبار هذه الجوانب الثلاثة مجتمعة: دفع عجلة الإنتاج وتنميته، وتطوير أساليبه، والتوزيع العادل. وبذلك يخـالف السيد الصدر. الأَمر الذي يستدعي توضيح رأي السيد الصدر في هذه المشكلة لمعرفة وجه هذه المخالفة إن تحققت. وهو ما نعرضه في الاتجاه الثالث.

الاتجاه الثالث: لقد كتب حسن حبيب العبندي بصدد بيان وجهة النظر الإسلامية في المشكلة الاقتصادية: “” إِنَّ السلوك الخاطئ لأفراد المجتمع هو السبب الحقيقي لظهور المشكلة الاقتصادية في نظر النظام الإسلامي . وأكَّد العبندي أنَّ السيد محمد باقر الصدر في كتابه «اقتصادنا» يعتبر أول من قدم هذا التصور للمشكلة. وأَجد من الضروري التأكيد على موقف الصدر الإيجابي من المشكلة الاقتصادية حيث يرفض المحاولات التفسيرية التي تسلِّم بواقع المشكلة الاقتصادية، وتعترف بحتميتها، بدلاً من الكشف عن الحل الذي يقضي عليها . وهو ما يعمق المشكلة ويمنحها غطاءً شرعياً.

السيد الصدر في محاولته لتصوير المشكلة الاقتصادية ينطلق من الآية الكريمة: الله الذي خلق السموات والأَرض، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخّر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار  .

ثم يقول: “” فهذه الفقرات تقرر بوضوح: إنَّ الله تعالى قد حشد للإنسان في هذا الكون الفسيح كل مصالحه ومنافعه، ووفر له الموارد الكافية لإِمداده التي منحها الله له، ولكن الإنسان هو الذي ضيَّع على نفسه هذه الفرصة التي منحها الله له بظلمه وكفرانه إن الإنسان لظلوم كفار.

فظلم الإنسان في حياته العملية وكفرانه بالنعمة الإلهية، هما السببان الأَساسيان للمشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان، ويتجسد ظلم الإنسان على الصعيد الاقتصادي: في سوء التوزيع. ويتجسد كفرانه بالنعمة: في إِهماله لاستثمار الطبيعة وموقفه السلبي منها. فحين يمحى الظلم من العلاقات الاجتماعية للتوزيع، وتجند طاقات الإنسان للاستفادة من الطبيعة واستثمارها، تزول المشكلة الحقيقية على الصعيد الاقتصادي””(88).

إذن “”هذه الآيات الكريمة بعد أن استعرضت مصادر الثروة التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان أكدت أنها كافية لإشباع الإنسان وتحقيق سؤله وآتاكم من كل ما سألتموه. فالمشكلة الواقعية لم تنشأ عن بخل الطبيعة، أو عجزها عن تلبية حاجات الإنسان. وإنما نشأت من الإنسان نفسه كما تقرره الآية الأخيرة إن الإنسان لظلوم كفار. فظلم الإنسان في توزيع الثروة وكفرانه للنعمة بعدم استغلال جميع المصادر التي تفضل الله بها عليه استغلالاً تاماً هما السببان المزدوجان للمشكلة التي يعيشها الإنسان البائس منذ أبعد عصور التاريخ. وبمجرد تفسير المشكلة على أساس إنساني يصبح بالإمكان التغلب عليها، والقضاء على الظلم وكفران النعمة، بإيجاد علاقات توزيع عادلة، وتعبئة كل القوى المادية لاستثمار الطبيعة، واستكشاف كل كنوزها.
وواضح أن تصوير السيد الصدر للمشكلة الاقتصادية يتألف من شقين

أحدهما: ظلم الإنسان وسوء توزيعه الثروة.

وثانيهما: عدم استغلال جميع المصادر التي تفضل الله بها على الإنسان. وهو ما أكده السيد الصدر في أكثر من موضع، غير أنه تراءى للبعض الشق الأول وأَغفل الثاني. ويبدو أن منشأ خلاف الدكتور صقر الذي يزعمه ما ذكرناه من إغفال الشق الثاني، وإلاَّ فإنَّ ما ذكره الدكتور صقر في تصوير المشكلة الاقتصادية لا يختلف عن تصوير السيد الصدر لها، حيث لا يخرج ما ذكره عن الشقين، غير أنه (الدكتور صقر) جعلها ثلاثة جوانب.

ولعلَّ الفرق ـ في تصوري ـ بين السيد الصدر والدكتور صقر، يكمن في حقيقة موقف كل منهما من المشكلة، ففي الوقت الذي بدا فيه موقف الدكتور صقر سلبياً مستسلماً للواقع، رفض السيد الصدر الاعتراف بحتمية المشكلة الاقتصادية، والاستسلام لواقعها المزعوم. وأظن أنَّ عبارات الدكتور صقر لا تأبى ذلك حيث ذكر أنَّ وجود المشكلة في حد ذاته محرك للنمو والتطور الاقتصادي، وأنَّ حل المشكلة نهائياً يجمِّد الاقتصاد. ثم عطف على ذلك قوله: “” ولذا فنحن نخالف الشيخ باقر الصدر””. فيبدو أنَّ محل الخلاف هو ـ وفقاً للدكتور صقر ـ اعتقاد السيد الصدر إمكان الحل نهائياً لهذهِ المشكلة مما يؤدي إلى تجميد الاقتصاد. غير أنَّ إيجاد علاقات توزيع عادلة، واستغلال الطبيعة استغلالاً جيداً، لا يتم دفعة واحدة وبشكل نهائي.

الإنتاج وأهميته في الاقتصاد الإسلامي:

يقول السيد الصدر: “” إنَّ الاقتصاد الإسلامي يتفق مع كل المذاهب الاجتماعية الأخرى في ضرورة الاهتمام بالإنتاج وبذل كل الأساليب الممكنة في سبيل تنميته وتحسينه وتمكين الإِنسان الخليفة على الأَرض من السيطرة على المزيد من نعمها وخيراتها، ولكن الإسلام حينما يطرح تنمية الإنتاج كقضية يجب السعي اجتماعياً لتحقيقها، يضعها ضمن إِطارها الحضاري الإِنساني ووفقاً للأهداف العامة لخلافة الإنسان على الأَرض. ومن هنا يختلف عن المذاهب الاجتماعية المادية في التقييم والمنهج اختلافاً كبيراً.

فالنظام الرأسمالي يعتبر تنمية الإنتاج هدفاً بذاتها. بينما الإسلام لا يرى تجميع الثروة هدفاً بذاته وإنما هو وسيلة لإيجاد الرخاء والرفاه وتمكين العدالة الاجتماعية من أن تأخذ مجراها الكامل في حياة الناس وشرطاً من شروط تحقيق الخلافة الصالحة على الأَرض وأَهدافها الرشيدة في بناء مجتمع التوحيد .

فتنمية الإنتاج والاستفادة من الطبيعة إلى أقصى حد ممكن ضمن الإطار العام للمذهب، قد تكون النقطة الوحيدة التي تتفق عليها المذاهب الإسلامية والرأسمالية والماركسية جميعاً على الصعيد المذهبي، شرط أن تنسجم أساليب وطرق التنمية مع الإطار العام للمذهب .

لقد وضع الإسلام التنمية والاستمتاع بالطبيعة هدفاً للمجتمع في ضوء السياسة الاقتصادية التي يحددها المذهب الإسلامي، والظروف والشروط الموضوعية للمجتمع. وينقل السيد الصدر كتاب الأمام علي (ع) لواليه محمد بن أبي بكر حين ولاّه مصر، الذي اعتبره السيد الصدر نظرية المتقين في الحياة، إذ يبدو بوضوح من الكتاب أنَّّ اليسر المادي الذي يحققه نمو الإنتاج، واستثمار الطبيعة إلى أقصى حد، هدف يسعى إليه مجتمع المتقين، وتفرضه النظرية التي يتبناها هذا المجتمع، ويسير على ضوئها في الحياة. فقد جاء في الكتاب قوله: ((يا عباد الله إنَّ المتقين حازوا على عاجل الخير وآجله، شاركوا أَهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم، أباح لهم الله الدنيا ما كفاهم به وأغناهم، قال الله عز وجل: من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت، وأكلوها بأَفضل ما أُكلت، وشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون، وشربوا من طيبات ما يشربون، ولبسوا من أفضل ما يلبسون، وسكنوا من أَفضل ما يسكنون، وركبوا من أفضل ما يركبون، أَصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا، وهم غداً جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من اللذة، فإلى هذا يا عباد الله يشتاق من كان له عقل، ويعمل له بتقوى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)).

وسائل الإسلام في تنمية الإنتاج:

لم يضع الإسلام تنمية الإنتاج هدفاً للمجتمع الإسلامي فحسب، بل هيأ ـ مذهبياًـ الوسائل التي يتوقف عليها تحقيق هذا الهدف. وهي ـ كما يرتأي السيد الصدر ـ على نوعين:

1ـ وسائل مذهبية.

2ـ وسائل تطبيقية.

أما الوسائل المذهبية فهي من وظيفة المذهب الاجتماعي، وعلى عاتقه إيجادها وضمانها، بينما يترك أمر الوسائل التطبيقية إلى الدولة تمارسها على ضوء الاتجاه المذهبي العام .

1ـ الوسائل المذهبية:

أ: وسائل الإسلام من الناحية الفكرية: فمن الناحية الفكرية حثّ الإسلام على العمل والإنتاج، وربط به كرامة الإنسان وشأنه عند الله، وقرن العمل بالعبادة، بل أصبح العامل في سبيل قوته وقوت عياله عند الله أفضل من المتعبد، وصارت البطالة والخمول والترفع عن العمل نقصاً في إنسانية الإنسان وسبباً في تفاهته. ويبدو ـ بوضوح ـ رفض الإسلام لفكرة البطالة وتعطيل ثروات الطبيعة وعدم الاستفادة منها، حيث دفع إلى توظيف أكبر قدر ممكن من قوى الطبيعة وثرواتها للإنتاج وخدمة الإنسان في مجالات الانتفاع والاستثمار، واعتبر فكرة التعطيل أو إِهمال الطبيعة وعدم استثمارها من الأفكار الغريبة عن الإسلام. قال تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون، وقال تعالى يشجب أسطورة تحريم بعض الثروات الحيوانية: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون، وقال تعالى يهيب بالإنسان إلى استثمار مختلف المجالات: وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً، فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه وإليه النشور.

وفي الحديث أنَّ الأمام الصادق سأل عن رجل فقيل أصابته الحاجة، وهو في البيت يعبد ربه، وأخوانه يقومون بمعيشته فقال (ع): ((الذي يقوته أشد عبادة منه)).

ب: وسائل الإسلام من الناحية التشريعية: وأما من الناحية التشريعية فثمة تشريعات كثيرة تتفق ومبدأ تنمية الإنتاج الذي يؤمن به الاقتصاد الإسلامي وتساعد على تطبيقه. وقد ذكر السيد الصدر عشرين من هذه التشريعات والأحكام نقتصر على ذكر بعضها:

– حكم الإسلام بانتزاع الأَرض من صاحبها إذا عطلها حتى خربت، وامتنع عن إعمارها، وللحاكم الشرعي انتزاعها واستثمارها بالأسلوب الذي يراه. وحكم الإسلام هذا نابع من إيمانه العميق بعدم جواز تعطيل الدور الإيجابي للأرض في الإنتاج.

– منع الإسلام عن الحمى، والحمى هو السيطرة على مساحة الأَرض الغامرة وحمايتها بالقوة دون ممارسة عمل في إحيائها واستثمارها، وهو تعبير آخر عن تعطيل دور الأَرض في عملية الإنتاج، لذلك ربط الحق في الأَرض بعملية الإِحياء دون أعمال القوة التي لا شأن لها في الإنتاج، وفي استثمار الأَرض لصالح الإنسان.

– في الحالات التي يجوز للأفراد أحياء المصادر الطبيعية لم يعط الإسلام الحق لهم في تجميد تلك المصادر، وتعطيل العمل لإحيائها ولم يسمح لهم بالاحتفاظ في هذا الحق في حالة التعطيل هذه، لأنها تؤدي إلى حرمان الإنتاج من طاقات تلك المصادر وإمكاناتها.

– لم يسمح الإسلام لولي الأمر بإقطاع الأفراد شيئاً من المصادر الطبيعية تزيد على قدراتهم الإنتاجية، لأَن إقطاع الفرد ما يزيد على قدرته يبدد ثروات الطبيعة وإمكاناتها الإنتاجية.

– حرَّم الإسلام الكسب بدون عمل عن طريق استئجار الفرد أرضاً بأجرة وإيجارها بأجرة أكبر للحصول على التفاوت بين الأجرتين، وتحريم هذه الصورة، وإلغاء هذا الدور الوسيطي يوفر على الإنتاج، لأنَّ مثل هذا الوسيط لا يقوم بأي دور إيجابي للإنتاج، وإنما يعيش على حساب الإنتاج بدون خدمة يؤديها إليه.
– حَرَمَ الإسلام القادرين على العمل والنشاط الاقتصادي من الضمان الاجتماعي ومنعهم من الاستجداء، وبذلك سدَّ عليهم منافذ التهرب من العمل المثمر، وهذا يؤدي بطبيعته إلى تجنيد طاقاتهم للإنتاج والاستثمار.
– يقوم الضمان الاجتماعي بدور كبير في القطاع الخاص، لأنَّ إحساس الفرد بأنه مضمون من الدولة، وأنَّ مستوى كريماً من الحياة مكفول له ولو خسر في مشروعه، رصيدٌ نفسي كبير يزيد من شجاعته، ويدفع به إلى مختلف ميادين الإنتاج، وينمي فيه عنصر الإبداع.
– تحريم الإسراف والتبذير مما يؤدي إلى الحد من الإنفاق الاستهلاكي ويهيئ كثيراً من الأَموال للإنفاق الإنتاجي.
– أَوجب الإسلام على المسلمين كفاية تعلم جميع الفنون والصناعات التي تنتظم بها الحياة.
– إعطاء الدولة حق الإشراف على الإنتاج، وتخطيطه مركزياً لتفادي الفوضى التي تؤدي إلى شل حركة الإنتاج وتعصف بالحياة الاقتصادية. ومكَّنها من قيادة جميع قطاعات الإنتاج عن طريق ممارستها للقطاع العام، وتجميع القوى البشرية العاملة في تشغيل هذه القطاعات بشكل يحول دون تبديد الفائض البشري للقوى العاملة عن حاجة القطاع الخاص.

2ـ الوسائل التطبيقية:

لقد هيأ المذهب الإسلامي الوسائل الفكرية والتشريعية الكفيلة بدفع عملية التنمية إلى الأمام والحؤول دون تعطيلها أو تجميدها، وترك للدولة الحرية في وضع السياسة الاقتصادية بعد دراسة الشروط الموضوعية للحياة الاقتصادية، بما لا يتعارض مع الإِطار العام للمذهب. وقد ترك المذهب الاقتصادي للدولة هذه الحرية في رسم تفاصيل السياسة الاقتصادية إِيماناً منه بحقيقة اختلاف الظروف والشروط الموضوعية للحياة الاقتصادية زماناً ومكاناً، حيث اقتصر على وضع الأَهداف الرئيسية لهذه السياسة، وحدودها العامة وإطارها المذهبي الشامل، الذي يجب على الدولة التقيد به ووضع سياستها ضمنه.

صلة المذهب بالإِنتاج:

في معرض بيان وتوضيح صلة المذهب بالإنتاج يبحث السيد الصدر عن حقيقة عملية الإنتاج وطبيعتها، فيرى أنَّ لعملية الإنتاج جانبين تتحدد على ضوئهما معرفة مدى صلة المذهب بالإنتاج،

وهما الجانب الذاتي: ويتمثل في الدافع النفسي، والغاية التي تستهدف من تلك العملية، وتقييم العملية تبعاً للتصورات المتبناة عن العدالة. وتختلف المذاهب الاجتماعية والاقتصادية في هذا الجانب بشكل واضح، حيث لكل مجتمع نظرته الخاصة للإنتاج، وتقييمه لتلك العملية على أساس تصوراته العامة، وطريقته المذهبية في تحديد الدوافع وإِعطاء المثل العليا في المجتمع. فلماذا ننتج؟ وإلى أي مدى؟ وما هي الغايات التي يجب أن تستهدف من وراء الإنتاج؟ وما هو نوع السلعة المنتجة؟ وهل هناك قوة مركزية تشرف على الإنتاج وتخطيطه؟ هذه هي الأسئلة التي يجيب عليها المذهب الاقتصادي، وتختلف الاجابة عليها بين مذهب اقتصادي وآخر.

الجانب الموضوعي: ويتمثل في الوسيلة التي تستخدم، والطبيعة التي تمارس، والعمل الذي ينفق خلال عملية الإنتاج. وهذا الجانب من العملية هو موضوع علم الاقتصاد بمفرده أو بالمساهمة مع العلوم الطبيعية الأخرى، وذلك لاكتشاف القوانين العامة التي تسيطر على الوسيلة والطبيعة لكي يتاح للإنسان التحكم في تلك القوانين بعد اكتشافها، وتنظيم الجانب الموضوعي لعملية الإنتاج تنظيماً أفضل وأكثر نجاحاً، “” فعلم الاقتصاد يكشف مثلاً عن قانون الغلّة المتناقصة في الزراعة القائل: إنَّ زيادة وحدات إضافية من العمل ورأس المال بنسبة معينة، تقابلها زيادة في النتائج بنسبة أقل، ويستمر هذا التفاوت بين نسبة زيادة الوحدات ونسبة زيادة الإنتاج، وبالتالي تستمر زيادة الغلة في التناقص حتى تتعادل زيادة الغلة مع نسبة زيادة وحدات العمل ورأس المال،

وحينذاك لا تكون ثمة مصلحة للزارع في أن يزيد في الإنفاق على الأَرض من جديد. وهذا القانون يلقي ضوءً على العملية وباكتشاف المنتج له يستطيع أن يتفادى التبذير بالعمل ورأس المال، ويحدد عناصر الإنتاج تحديداً يكفل له أكبر قدر ممكن من الناتج . و “”في هذا المجال ليس للمذهب الاقتصادي مهما كان نوعه أي دور إيجابي، لأنَّ الكشف عن القوانين العامة والعلائق الموضوعية بين الظواهر الكونية أو الاجتماعية من وظيفة العلم، ولا يدخل في صلاحيات المذهب إطلاقاً. ولهذا كان لمجتمعات مختلفة في مذاهبها الاقتصادية أن تلتقي على الصعيد العلمي وتتفق على استخدام معطيات علم الاقتصاد وسائر العلوم والاسترشاد بها في مجالات الإنتاج .

مصادر الإنتاج

تحدد مصادر الإنتاج في الاقتصاد السياسي بما يلي:

1ـ الطبيعة.
2ـ رأس المال.
3ـ العمل.

ويضم التنظيم الذي يمارسه مدير المشروع ويحدد نصيب كل واحد منها على أساس قوانين العرض والطلب.

أما في الاقتصاد الإسلامي ـ وفقاً لرأي السيد الصدر ـ فإنه لا يصح أن يبقى في عداد مصادر الإنتاج سوى الطبيعة، بعد استبعاد كل من رأس المال والعمل، إذ يعتبر رأس المال ـ في الحقيقة ـ ثروة منتجة وليست مصدراً أَساسياً للإنتاج، لأنه يعبر اقتصادياً عن كل ثروة تم إنجازها، وتبلورت خلال عمل بشري لكي تساهم من جديد في إنتاج ثروة أُخرى، كالآلة التي تنتج النسيج، فهي ليست ثروة طبيعية خالصة، وإنما هي مادة طبيعية، كيَّفها العمل الإنساني خلال عملية إنتاج سابقة وأما العمل فهو العنصر المعنوي من مصادر الإنتاج، وليس ثروة مادية تدخل في نطاق الملكية الخاصة أو العامة. وعلى هذا الأساس تكون الطبيعة وحدها من بين مصادر الإنتاج. وقد قسم السيد الصدر مصادر الطبيعة إلى عدة أقسام:

1ـ الأَرض: وهي أهم ثروات الطبيعة، التي لا يكاد الإنسان يستطيع بدونها أن يمارس أي لون من ألوان الإنتاج.
2ـ المواد الأولية: التي تحويها الطبقة اليابسة من الأرض، كالفحم، والكبريت، والبترول، والذهب، والحديد، ومختلف ألوان المعادن.
3ـ المياه الطبيعية التي تعتبر شرطاً من شروط الحياة المادية للإنسان، وتلعب دوراً خطيراً في الإنتاج الزراعي والمواصلات.
4ـ بقية الثروات الطبيعية من محتويات البحار والأنهار وما يعيش على الأرض، والقوى الطبيعية المنبثة في أرجاء الكون.

وقد استبعد السيد الصدر كلاً من رأس المال والعمل انطلاقاً من تقسيمه البحث إلى: توزيع الثروة إلى مرحلة ما قبل الإنتاج، وتوزيعها إلى ما بعد الإنتاج. وقد خرج رأس المال والعمل من المرحلة الأولى حيث ليس في المقام من مصادر الإنتاج سوى الطبيعة، فالطبيعة هي المصدر الأساس والوحيد، وملكية ثرواتها تقوم على أساس العمل، ولذلك يبقى العامل وحده هو مالك هذه الثروة، العامل الذي أنفق جهده واستفاد من هذه الثروة وحازها، ولا تخرج من ملكه إلا برضاه، فالقطن ـ مثلاً ـ يبقى ملكاً للفلاح، ولا يجوز تطويرها ـ أي الثروة ـ والتصرف بها بصورة منفصلة عن إرادته ، بل يجب على صاحب المعمل ـ مثلاً ـ أن يتعاقد معه.

الصلة بين الإنتاج والتوزيع:

لقد اختلفت النظرية الماركسية والنظرية الإسلامية في تقرير وجود الصلة بين الإنتاج والتوزيع أو عدمها. فبينما يصر الماركسيون على وجود هذه الصلة وتأكيدها وفقاً لقانون التطور  الذي يفرض نوعاً خاصاً من التوزيع ينسجم مع شكل الإنتاج، أنكرت النظرية الإسلامية هذه التبعية ـ أعني تبعية علاقات التوزيع لشكل الإنتاج ـ واعتبرت أن “” قواعد التوزيع التي جاء بها ـ الإسلام ـ ثابتة وصالحة في كل زمان ومكان، لا يختلف في ذلك عصر الكهرباء والذرة عن عصر البخار، ولا عصر البخار عن عصر الطاحونة الهوائية والعمل اليدوي .

ولكن النظرية الإسلامية بإنكارها ورفضها هذه التبعية لا تقطع الصلة بالمرة بين التوزيع وشكل الإنتاج، بل يؤمن الإسلام بصلة يفرضها المذهب، ويحدد فيها الإنتاج لحساب التوزيع، بدلاً من تكييف التوزيع طبقاً لحاجات الإنتاج. وكل ما رفضه ـ الإسلام ـ هو تلك العلاقة التبعية وفقاً لقانون طبيعي كما تقرره الماركسية، ولذلك أصبحت ـ إسلامياً ـ عمليات الإنتاج ظرفاً لتطبيق قواعد التوزيع، وتبعاً لذلك نشأت الصلة المذهبية بين الإنتاج والتوزيع، والتي مردها في الحقيقة إلى فكرة التطبيق الموجّه التي تعطي ولي الأمر الحق بتحديد الإنتاج لحساب التوزيع.

جهاز التوزيع

يرى السيد الصدر أنَّ: “” جهاز التوزيع في الإسلام يتكون من أداتين رئيسيتين، وهما: العمل والحاجة، ولكل من الأداتين دورهما الفعّال في الحقل العام للثروة الاجتماعية . وأما العمل فيعتبره الإسلام سبباً لملكية العامل نتيجة عمله، كما وتعتبر هذه الملكية الخاصة القائمة على أساس العمل “”تعبيراً عن ميل طبيعي في الإنسان إلى تملك نتائج عمله، ومرد هذا الميل إلى شعور كل فرد بالسيطرة على عمله، فإنَّ هذا الشعور يوحي طبيعياً بالميل إلى السيطرة على نتائج العمل ومكاسبه، وبذلك تكون الملكية القائمة على أساس العمل حقاً للإنسان، نابعاً من مشاعره الأصيلة.

وقد عقَّب الدكتور محمود عبد الفضيل على هذه الفقرة بقوله: “” ولعلّ هذه الرؤية توائم وتناظر الإنتاج السلعي الصغير (ذي الطبيعة الحرفية) حيث يمتلك الحرفي ناتج عمله ويتصرف فيه مباشرة، وحيث هناك شعور لدى الفرد (الحرفي) بالسيطرة على ظروف عمله، وكذا على نتائج عمله ومكاسبه، ولكن في ظل التقسيم المعقد والمطرد للعمل في المجتمعات الحديثة، وفي ظل الأشكال المختلفة “”للعمل الأجير”” يصبح من الصعب تصور كيف يتملك العامل نتائج عمله وكيف يسيطر على نتائج العمل ومكاسبه. وهكذا يتضح أن هذه المقولة حول علاقات التوزيع إنما هي مرتبطة بشكل معين من أشكال الإنتاج الحرفي والإنتاج السلعي الصغير، ولا تطابق الواقع خارج هذا الشكل الإنتاجي .

ويرد على الدكتور عبد الفضيل عدة اعتراضات.

أولها: أن الصعوبة المدعاة لا تنفي صحة مقولة السيد الصدر خاصة وقد ذكرها على نحو القضية الشرطية التي لا تتصدى لتحقيق موضوعها.

وثانيها: أنه أغفل دور الدولة في رقابة الإنتاج والإشراف على عمليات التوزيع، ودورها في مراقبة أجور المواد الأولية وأجور العمال وأجور أدوات العمل، مضافاً إلى مسؤولياتها في تحقيق التوازن العام والمنع من الاحتكار وإلغاء الندرة.
وثالثها: خلطه بين مرحلتين من مراحل الإنتاج وعدم التمييز بينهما وهما: مرحلة الإنتاج الأولي ومرحلة الإنتاج الثانوي وتبعاً لذلك لم يميز بين العامل المالك وبين العامل الأجير الذي يعمل بأجر لقاء بذل قوة عمله.

والسيد الصدر في مقولته السابقة الذكر أراد العامل الأول دون الثاني حيث ذكر في نفس الصفحة التي استقى الدكتور منها مقولة الصدر: “” فالعمل إذن أساس لتملك العامل في نظر الإسلام، وعلى هذا الأساس فهو أداة رئيسية في جهاز التوزيع الإسلامي، لأن كل عامل يحظى بالثروات الطبيعية التي يحصل عليها بالعمل، ويمتلكها وفقاً لقاعدة إن العمل سبب الملكية  أما العامل الذي يعمل في المعمل لتطوير هذه المادة في إطار الإنتاج الثانوي فهو أجير وليس مالكاً. وقد ميز السيد الصدر بين مرحلتين أيضاً مرحلة سار فيها المجتمع الإسلامي وفقاً لقواعد التوزيع الإسلامية، ومرحلة سار فيها المجتمع وفقاً للأوضاع الفاسدة، وقد أعطى للدولة الدور الكبير في إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح .

والأداة الرئيسية الأخرى هي الحاجة إذ تسهم هذه الأداة في عملية التوزيع إلى جانب العمل، حيث يتم التوزيع للقادرين على العمل وحده وفقاً للأداة الأولى، بينما تعتمد الفئات العاجزة عنه على الأداة الثانية للتوزيع ـ أعني الحاجة ـ في تحصيل نصيبها من التوزيع وضمان حياتها كاملة على أساس حاجاتها وفقاً لمبادئ الكفالة العامة والتضامن الاجتماعي في المجتمع. وتعتمد الفئات القادرة على العمل مع عجزها عن توفير تمام حاجاتها بواسطته على كل من الأداتين: العمل والحاجة.

وثمة أداة ثانوية للتوزيع هي الملكية نفسها وذلك باعتراف الإسلام بالربح التجاري، عن طريق النشاطات التجارية التي سمح بها ضمن شروط خاصة لا تتعارض مع المبادئ الإسلامية للعدالة الاجتماعية.

مسؤوليات الدولة في الاقتصاد الإسلامي

لقد تطور مفهوم الدولة عبر العصور من مفهوم الدولة الحامية (الحارسة) إلى مفهوم الدولة الراعية، ولم يكن ليتطور هذا المفهوم إلا بعد تجربة قاسية ومريرة، فقد كانت الدولة مسؤولة عن حماية رعاياها دون أن تتدخل في نشاطهم الفردي، الاقتصادي والتجاري والزراعي والصناعي. وحينئذٍ فليس لها أن تتدخل إلا لصالح الأفراد وأمنهم الداخلي والخارجي، دون أن تفرض القيود على حريتهم في التجارة والصناعة والزراعة..

وكان ذلك يقوم على أساس ما أسموه (القانون الطبيعي) الذي يعني: “” أن مصلحة المجتمع ككل تتحقق حتماً من خلال عمل كل فرد فيه على تحقيق مصلحته الخاصة””، وهو الشعار الذي يعبر عن مضمون الليبرالية، الذي لا يسمح للدولة أن تتدخل إلاّ لمصلحة هذا القانون، أي فقط لحسابه، ومنع محاولات تعويق فعاليته. ومن رحم هذا القانون ولدت الرأسمالية، وكان نموها يتطلب وجوب حرية التجارة والعمل، والحدّ من تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، واقتصار دورها على تنظيم وحماية التنافس في الأسواق.

هذا هو المبدأ الأساس في الأنظمة الرأسمالية. أما النظام الاشتراكي فإنَّ المبدأ الأساس فيه هو قيادة الدولة للنشاط الاقتصادي وتعاظم دورها المركزي في التخطيط الاقتصادي، والاستحواذ على معظم المقدرات الاقتصادية والاستئمار في صنع القرار الاقتصادي. كل ذلك يتلخص في مقولة (المركزية الشديدة والصارمة).

هذا هو الأصل عند كل من الفريقين، فالأصل في الرأسمالية أن لا تتدخل الدولة، ولا يعني التدخل فيها سوى (الاستثناء). والأصل في الاشتراكية تدخل الدولة بل رأسمالية الدولة ورعويتها، وعدمه لا يعني سوى (الاستثناء).

ولكنَّ الأمر لم يبق على حاله عند كل من الفريقين، فلقد مال الدور الاقتصادي للدولة في الأنظمة الرأسمالية إلى التعاظم، وأصبحت القوى الداعية ـ بالأمس ـ إلى حرية الأسواق هي نفسها الأكثر تحمساً لتفعيل دور الدولة في النشاط الاقتصادي وتطوير وسائل تدخلها، وقد ساعد على ذلك طغيان الأزمات الطارئة التي مرَّت بها الرأسمالية وما زالت، وكان لاندلاع الحربين العالميتين الأثر الكبير في تزايد دور الدولة الاقتصادي في تلك الأنظمة، ولخلق تعبئة اقتصادية لمواجهة أزمة الحرب، ثم احتفظت الدولة الرأسمالية بقيادتها الاقتصادية بعد نهاية الحربين ولم تتخل عنها خاصة في الواقع الرأسمالي الذي أخذت تتفاقم فيه الأزمات الاقتصادية وتهدد الحياة في ذلك العالم الجشع والمادي الصرف.

وكذلك في العالم الاشتراكي فلم يعد الأمر كما هو من حيث المركزية الصارمة والتدخل المباشر، وصنع القرار الدولتي، فالدولة التي صادرت الملكيات الصغيرة والكبيرة، وألغت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وكذلك الملكية الزراعية، وأممَّت كل المؤسسات الصناعية والتجارية و… واستأثرت بصنع القرار الاقتصادي، هذه الدولة وبعد مضي أربع سنوات أعلنت تراجعها والتخلي عن دورها المركزي هذا، وسمحت بحرية اقتصادية لرؤوس الأموال وللملكيات الخاصة بل سمحت باحتكار الشركات الأجنبية للثروات في بلاد الاشتراكية وذلك على عهد لينين نفسه حيث منح شركة أمريكية احتكار استغلال بعض الثروات في جبال الأورال ثم منح حوالي عشرين احتكاراً أخر لشركات إنجليزية وألمانية وفرنسية وأمريكية، وكتب يقول: “” إننا أغبياء وضعفاء، وقد اعتدنا القول بأن الاشتراكية شيء حسن، وأن الرأسمالية شيء سيئ، ولكن الرأسمالية ليست سيئة إلاَّ بالنسبة للاشتراكية، أما بالنسبة إلى القرون الوسطى، حيث لا تزال روسيا متأخرة، فليست الرأسمالية سيئة .

وكان لينين نفسه يصف الخطوات الجديدة هذه بأنها تتضمن العودة إلى نظام اقتصادي مختلط ومرحلي . وكان آخر ما آلت إليه الاشتراكية هو الوضع الراهن وثورة البيرسترويكا الجديدة وما يسمى بالإصلاحات وإعادة البناء.

ولست في مقام المقارنة بين كل من النظامين إلاَّ بقدر ما سنوضِّحه من مبدأ تدخل الدولة في النظرية الإسلامية وحدود هذا التدخل، ووسائله، وأهدافه. فما هو مبدأ تدخل الدولة في المذهب الاقتصادي الإسلامي، وما هي حدوده، وأهدافه، ومصاديق التدخل هذا ووسائله؟

كل ذلك على ضوء أفكار ونظريات الشهيد الصدر..في المذهب الاقتصادي الإسلامي “” تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، يعتبر من المبادئ المهمة في الاقتصاد الإسلامي الذي تمنحه القوة والقدرة على الاستيعاب والشمول ، إذ يحقق هذا التدخل لأحكام الإسلام الاقتصادية وتشريعاته اقتداراً على حل المشكلات الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن الاجتماعي، وتبدو هذه الأحكام بمعزل عن هذا المبدأ مجردة عن الوسائل التي تنقلها من حيز النظريات إلى عالم الحقيقة وساحة التنفيذ والتطبيق، بل تتجلى بهذا المبدأ صلاحية الأحكام الاقتصادية الإسلامية لكل زمان ومكان ولكل عصر ومصر .

ومرة أخرى ما هو حجم هذا التدخل في المنظور الإسلامي؟ هل يتسم تدخل الدولة – إسلامياً – في الفعاليات الاقتصادية بالشمولية والاستيعاب، بشكل يجعلها تهيمن على حركة الاقتصاد في المجتمع، وتمتلك السلطة المركزية لقيادة هذا الاقتصاد بقرار مركزي صارم، ورقابة عاتية، وشمولية لا تسمح بالمنافسة؟ أم تكتفي بالرقابة والتوجيه والإشراف؟

هذا ما سنتعرف عليه في قراءة سريعة لفكر الشهيد محمد باقر الصدر في صياغته لمبدأ أو نظرية تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وفق المذهب الاقتصادي الإسلامي، الذي عقد له فصلاً في خاتمة كتابه (اقتصادنا) تحت عنوان (مسؤولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي)، كما نحاول متابعة الخطوط العامة ومصاديقها في غير هذا الفصل من الكتاب، مع مراجعة أفكاره ونظرياته في آخر ما كتبه تحت عنوان (الإسلام يقود الحياة).

وللإجابة على السؤال المتقدم يقول السيد الشهيد: “” يمكن تحديد مسؤوليات الدولة الإسلامية عن الحياة الاقتصادية في المجتمع في خطين عريضين أحدهما: تطبيق العناصر الثابتة في الاقتصاد الإسلامي، والآخر: ملء العناصر المتحركة وفقاً لظروف الواقع وعلى ضوء المؤشرات الإسلامية العامة . فثمة عناصر ومؤشرات ثابتة في الاقتصاد الإسلامي، تلك التي نصت الشريعة على إباحتها أو المنع منها، والتي لا يجوز بأي حال من الأحوال مخالفتها وتشريع ما يتناقض معها. وثمة عناصر متحركة ويقصد بها تلك الأحكام التي روعي فيها تغير الظروف وتطور الحياة، والتي يجب أن لا تشذ عن المؤشرات العامة والعناصر الثابتة في الشريعة ولا تفوِّت ملاكاتها.

وإزاء هذين العنصرين (الثابت والمتحرك) تبدو مسؤولية الدولة الإسلامية إذ “”لا يقتصر تدخل الدولة على مجرد تطبيق الأحكام الثابتة، بل يمتد إلى ملء منطقة الفراغ من التشريع، فهي تحرص من ناحية على تطبيق العناصر الثابتة من التشريع وتضع من ناحية أخرى العناصر المتحركة وفقاً للظروف . ويبدو من خلال ذلك أن مسؤوليات الدولة لا تقتصر على الإشراف والرقابة والتوجيه والإدارة بل تمتد إلى مجال التشريع إذ “” تملأ الدولة منطقة الفراغ التي تركها التشريع الإسلامي للدولة لكي تملأها في ضوء الظروف المتطورة بالشكل الذي يضمن الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي ويحقق الصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية .

منطقة الفراغ هذه ترك أمرها وملؤها إلى الحاكم الشرعي، سواء في عهد النبوة وصدر الإسلام أم في العصور المتأخرة، ولذلك فإنَّ ما يقوم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عملية ملء منطقة الفراغ بنصوصٍ تشريعية لا تمثل ثوابت وعناصر غير قابلة للتغيير، لأنها نصوص تشريعية أُخذ في استصدارها مراعاة الظروف التي كانت تشهدها الأمة الإسلامية على عهده صلى الله عليه وآله وسلم، إذ   أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد ملأ ذلك الفراغ بما كانت تتطلبه أهداف الشريعة في المجال الاقتصادي على ضوء الظروف التي كان المجتمع الإسلامي يعيشها، غير أنه صلى الله عليه وآله وسلم حين قام بعملية ملء هذا الفراغ لم يملأه بوصفه نبياً مبلغاً للشريعة الإلهية الثابتة في كل مكان وزمان، ليكون هذا الملء الخاص من سيرة النبي لذلك الفراغ معبراً عن صيغٍ تشريعية ثابتة، وإنما ملأه بوصفه ولي الأمر، المكلّف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقاً للظروف .

ولأجل ذلك يأخذ الشهيد الصدر على الفقهاء اعتقادهم في قضاء النبي ((بأن لا يمنع فضل الماء أو نفع شيء))، أنه نهي كراهة لا نهي تحريم. وقد اضطرهم إلى كل هذا التأويل اعتقادهم وإيمانهم بعدم حمل الحديث إلاَّ على أحد معنيين: أحدهما النهي التحريمي أو النهي الترجيحي الإستحساني، ويكون نهي الرسول عن منع فضل الماء على الأول محرماً في الشريعة كتحريم الخمر وغيره من المحرمات الأخرى، ويكون على الثاني مكروهاً لا غير.

ولمّا كان المعنى الأول غريباً عن الذهنية الفقهية وجب أخذهم بالمعنى الثاني ، وقد اضطرهم لهذا اللون من التأويل استبعادهم لحقيقة ثالثة وهي صدور بعض الأحكام الشرعية من النبي بما هو ولي أمر المسلمين، ولا تتصف مثل هذه الأحكام بالثبات الذي تتصف فيه الأحكام الشرعية الصادرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه نبياً ومبلغاً. وتتجلى هذه الحقيقة في “” أن النبي (ص) والأئمة لهم شخصيتان الأولى بوصفهم مبلغين للعناصر الثابتة عن الله تعالى، والأخرى بوصفهم حكاماً وقادة للمجتمع الإسلامي والروح الاجتماعية والإنسانية للشريعة المقدسة . فمثلاً منع الرسول (ص) عن أمور مقطوعة الإباحة كالمنع عن عقد إجارة الأراضي، كما وضع الأمام علي (ع) الزكاة على أموال غير الأموال التي وضعت عليها الزكاة في الصيغة التشريعية الثابتة

لماذا منطقة الفراغ؟

في الحياة الاقتصادية نوعان من العلاقة أحدهما: علاقة الإنسان بأخيه الإنسان. وثانيهما: علاقته بالطبيعة أو الثروة. ويفترق هذان النوعان في المستوى الثاني إذ لا يشترط أن يعيش الإنسان ضمن جماعةٍ ما، فهو في احتكاك واشتباك مع الطبيعة وتفاعل معها على أي حالٍ دون أن تتوقف علاقته هذه على وجوده ضمن الجماعة، وإن كان وجوده ضمنها يؤدي إلى تجميع الخبرات والتجارب، وهو ما يزيد من تطور هذه العلاقة ويسرِّع نموَّها. أما العلاقة الأولى: علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان، فإنَّ وجوده ضمن الجماعة يعتبر شرط تحققها ووجودها، وينتج عن هذه العلاقة نشوء الحقوق والواجبات في الجماعة.

وإزاء هذا الفرق الكبير بين هذين النوعين من العلاقة وقف الإسلام موقفاً متميزاً ينسجم مع طبيعة كل من هذين النوعين، إذ رأى تطور علاقة الإنسان مع الطبيعة حقيقة لا ريب فيها توكدها ممارسة الإنسان وتفاعله الدؤوب مع الطبيعة لتسخيرها في خدمته والاستفادة من قوانينها وثرواتها وكنوزها. بينما لا يرى للعلاقة الأخرى مثل هذا التطور، لأن هذه العلاقة لا تعالج بطبيعتها مشاكل ثابتة جوهرياً مهما اختلف إطار هذه العلاقة ومهما تغير وتنوع مظهرها، كمشكلة التوزيع والحقوق، سواء كان الإنتاج على مستوى البخار والكهرباء أم على مستوى الطاحونة اليدوية.

وحينئذٍ يكون من الواقعي جداً أن تتصف الصور التشريعية والصيغ القانونية الناظمة لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، بالثبات والبقاء ـ من الناحية النظرية ـ ومن الطبيعي أيضاً أن تتصف الصور التشريعية الناظمة لعلاقته مع الطبيعة بالتغير والتطور والمرونة. ويبدو ـ بوضوح ـ على ضوء ما تقدم حقيقة (منطقة الفراغ) الذي ترك أمرها وملؤها للحاكم الشرعي على ضوء المؤشرات العامة والعناصر الثابتة وفقاً للتطور والتغير المستمر على مستوى علاقة الإنسان مع الطبيعة والثروة، لضرورة أن “” الإسلام لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجاً موقوتاً، أو تنظيماً مرحلياً، يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم، وإنما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور، فكان لابد لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب، أن ينعكس تطور العصور فيها، ضمن عنصر مُتحرك يمد الصورة بالقدرة على التكيف وفقاً لظروف مختلفة .

وفي الوقت الذي يؤكد فيه مبدأ (منطقة الفراغ) على قدرة الإسلام على تلبية حاجات البشرية وحل مشاكلها، كذلك يستبعد ـ وبشدة ـ افتراض دلالة منطقة الفراغ على النقص في الشريعة أو إهمالها لبعض الوقائع والأحداث وذلك “” لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، وإنما حددت للمنطقة أحكامها بمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصيلة، مع إعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية، حسب الظروف .

وحالئذٍ تكون منطقة الفراغ جزءً مقوِّماً في المذهب الاقتصادي الإسلامي، وينتج عن ذلك “” أن تقويم المذهب الاقتصادي في الإسلام لا يمكن أن يتم بدون إدراج منطقة الفراغ ضمن البحث، وتقدير إمكانيات هذا الفراغ، ومدى ما يمكن أن تساهم عملية ملئه مع المنطقة التي ملئت من قبل الشريعة ابتداءً.. في تحقيق أهداف الاقتصاد الإسلامي. وأما إذا أهملنا منطقة الفراغ ودورها الخطير، فإنَّ معنى ذلك تجزئة إمكانيات الاقتصاد الإسلامي والنظر إلى العناصر الساكنة فيه دون العناصر المتحركة .

وبذلك نخلص إلى القول بأنَّ تدخل الدولة في المجال الاقتصادي يعتبر عنصراً من ثلاثة عناصر تتعاون وتشترك في تحقيق أهداف النظام الاقتصادي في الإسلام، ويتمثل هذا النظام في الشعور النفسي لدى المسلم الناشئ عن العقيدة الإسلامية، والصيغ القانونية والتنظيمية للنشاط الاقتصادي، وتدخل الدولة في هذا النشاط، وتحقيق أهداف المذهب الاقتصادي الإسلامي في التوازن الاجتماعي، والضمان الاجتماعي، ورعاية القطاع واستثماره، والإشراف على مجمل حركة الإنتاج وإعطاء التوجيهات اللازمة لتفادي مشاكل الفوضى في الإنتاج، ووضع سياسة اقتصادية لتنمية الدخل الكلي للمجتمع ضمن الصيغ التشريعية التي تتسع لها صلاحيات الحاكم الشرعي، والحفاظ على القيم المتبادلية الحقيقية للسلع وأشكال العمل، ومقاومة الاحتكار في كل مجالات الحياة الاقتصادية .

التوازن الاجتماعي

من المسؤوليات الاقتصادية التي تقع على عاتق الدولة الإسلامية هي تحقيق التوازن الاجتماعي في المجتمع، إذ يعتبر مبدأ التوازن الاجتماعي أحد مبدأين(*) عامين يحددان الصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية، وتصورات الإِسلام التفصيلية لهذه العدالة التي ينادي بها، ويرفع شعارها، وبدونهما لا يبقى للعدالة الاجتماعية سوى المفهوم التجريدي العام الذي تختلف المجتمعات الإنسانية فيه .

ويبرز ـ بوضوح ـ اهتمام النظرية الإسلامية بمبدأ التوازن الاجتماعي إلى درجة السماح لولي الأمر (الدولة) بتعطيل القواعد العامة التي قد يتم استغلالها أو قد تشكل خطراً على التوازن العام وتؤدي إلى الإخلال به، ويبدو ذلك في المثال الذي يأخذه السيد الشهيد الصدر في إحياء الأرض، فإن القاعدة تمنح الفرد الحق في إحياء الأرض، ولكن هذه القاعدة قد يتم استغلالها بما يشكل خطراً على التوازن العام في العصر الحاضر، إذ كان الإنسان في عصور العمل اليدوي عاجزاً عن إحياء مشاعات واسعة بسبب عدم قدرته لوحده للقيام بهذا العمل وهو ممنوع من استخدام الأُجراء معه في هذا العمل،

فكان لابد أن يباشر الإحياء في حدود خاصة، بينما اختلف الأمر في عصر العمل الآلي، إذ قد يكون بمقدور فرد ما إحياء مساحات واسعة شاسعة جداً دون عناء بفضل توفر الآلة وتقدمها وبذلك سيهدد أفراد قلة التوازن العام، وتكون هذهِ القاعدةِ ـ الآنفة الذكر ـ عائقاً لتحقيق التوازن وخطراً عليه، ولذلك منحت النظرية الإسلامية الحق لولي الأمر (الدولة) بتعطيل هذه القاعدة إذا أدت إلى مثل هذه النتيجة وتقنينها بشكل ينسجم مع تصورات الإِسلام للعدالة الاجتماعية.
وبعد، فما هي نظرة الإسلام إلى التوازن الاجتماعي وما هو السبيل إلى تحقيقه؟

يرى السيد الصدر أنَّ الرؤية الإِسلامية تعتمد على حقيقتين: إحداهما حقيقة كونية ومضمونها هو “” تفاوت أفراد النوع البشري في مختلف الخصائص والصفات، النفسية والفكرية والجسدية. فهم يختلفون في الصبر والشجاعة، وفي قوة العزيمة والأمل، ويختلفون في حدة الذكاء، وسرعة البديهة، وفي القدرة على الإِبداع والاختراع، ويختلفون في قوة العضلات وفي ثبات الأعصاب، إلى غير ذلك من مقومات الشخصية الإنسانية التي وزعت بدرجات متفاوتة على الأفراد والتي تؤثر في صياغتها عوامل كثيرة وراثية ونفسية وبيئية و..

ولذلك يرفض السيد الصدر أن يفسَّر التفاوت تفسيراً مادياً على أساس أنه حدث عرضي يترشح من عوامل اقتصادية مثلاً ، إذ “” لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يكون العامل الاقتصادي أو أي وضع اجتماعي، كافياً لتفسير ظهور تلك الاختلافات والتناقضات الخاصة بين الأفراد، وإلاَّ فلماذا اتخذ هذا الفرد دور الرقيق، وذلك الفرد دور السيد المالك؟! وأصبح هذا الفرد ذكياً قادراً على الإبداع، والآخر خاملاً عاجزاً على الإجادة؟! ولماذا لم يتبادل هذان الفردان دورهما ضمن إطار النظام العام؟! . وتبعاً لذلك يكون من الخطأ والخطل القول: “” بأنَّ هذا الفرد أصبح ذكياً، لأنه احتل دور السيد في التركيب، الطبقي وذاك أصبح خاملاً، لأنه قام بدور العبد في هذا التركيب، لأنه لابد لكي يحتل هذا دور العبد، ويحظى ذلك بدور السيد أن يوجد فارق بينهما مكَّن السيد بإقناع العبد بتوزيع الأدوار على هذا الشكل .

أما الحقيقة الأخرى التي ينطلق الإسلام في بناء رؤيته للتوازن على أساسها هي القاعدة المذهبية للتوزيع التي تقرر: أنَّ العمل هو أساس الملكية. وعلى ضوء هاتين الحقيقتين يتضح علاج الإسلام وتصوراته تجاه قضية التوازن الاجتماعي إذ يبدو من الطبيعي أن يقر الإسلام هذا التفاوت “”لأنه وليد الحقيقتين التي يؤمن بهما معاً ولا يرى فيه خطراً على التوازن الاجتماعي ولا تناقضاً معه .

وعلى ضوء هاتين الحقيقتين تتلخص رؤية الإسلام في “” أن التوازن هو التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة، لا في مستوى الدخل. والتوازن في مستوى المعيشة معناه: أن يكون المال موجوداً لدى أفراد المجتمع ومتداولاً بينهم إلى درجة تتيح لكل فرد العيش في المستوى العام، أي أن يحيا جميع الأفراد مستوى واحداً من المعيشة، مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة ولكنها تفاوت درجة، وليس تناقضاً كلياً في المستوى كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي .

فما يقره الإسلام هو التفاوت في مستوى المعيشة الواحدة. أما التناقض الذي يجعل من البعض في بروج الترف والإسراف المبتذل، ويجعل من الآخرين في ضنك العيش والفقر المدقع والحرمان فهو ما لا يقره الإسلام بأي حال من الأحوال، بل يسعى إلى محاربة مثل هذا الوضع المريض، ولذلك يسعى لتحقيق التوازن الاجتماعي على مستوى المعيشة في مسارين “” بضغط مستوى المعيشة من أعلى بتحريم الإسراف وبضغط المستوى من أسفل بالارتفاع بالأفراد الذين يحيون مستوى منخفضاً من المعيشة إلى مستوى أرفع .

ويظهر المسار الثاني في مسؤولية الدولة بإغناء أصحاب الدخول الفقيرة التي لم تبلغ المستوى العام، فقد روي عن أبي بصير: “” أنه سأل الأمام جعفر الصادق عن رجل له ثمانمائة درهم، وهو رجل خفّاف وله عيال كثير، أله أن يأخذ من الزكاة؟ فقال له الأمام: يا أبا محمد أيربح من دراهمه ما يقوِّت به عياله ويفضل؟ قال أبو بصير: نعم. فقال الأمام: إن كان يفضل عن قوته مقدار نصف القوت فلا يأخذ الزكاة. وإن كان أقل من نصف القوت أخذ الزكاة. وما أخذه منه فضَّه على عياله حتى يلحقهم بالناس .

ومثل هذا الحديث ـ مما روي ـ كثير كلها تشير إلى هذه الحقيقة. ولذلك فإنَّ مسؤولية الدولة عن تحقيق حالة التوازن مهمة مستمرة غير موقوتة بوقت، ولا تقف في لحظة ما، ما دام الإسلام قد أعطى لمفهوم الفقر والغنى مفهوماً مرناً تحدده الظروف المكانية والزمانية.

وتحقيقاً لهذا الهدف تسعى الدولة إلى محاربة كل المظاهر التي تهدد التوازن وتحاول تعميق الهوة والتفاوت بين الأفراد بطرق غير مشروعة بل وبطرقٍ مشروعةٍ أيضاً إذا كانت تلك الطرق تهدد التوازن الاجتماعي.

وتظهر تطبيقات التوازن الاجتماعي في أحكام اقتصادية إسلامية عديدة فمثلاً: “” حرَّم الإسلام الكسب بدون عمل عن طريق استئجار الفرد أرضاً بأُجرة وإيجارها بأُجرة للحصول على التفاوت بين الأُجرتين، وما شابه ذلك من فروض.. ، و””حرم الإسلام بعض الأعمال العقيمة من الناحية الإنتاجية، كالمقامرة والسحر والشعوذة، ولم يسمح بالاكتساب عن طريق أعمال من هذا القبيل بأخذ أُجرة على القيام بها.. . ومنع الإسلام من تركيز الثروة في فئة قليلة إذ يؤدي مثل هذا التركيز لا محالة إلى تهديد التوازن ، ومنع من الاحتكار ومحاربة الناس بأرزاقها واستغلال الظروف، و””حرّم الإسلام الربا تحريماً قاطعاً لا هوادة فيه، وبذلك قضى على الفائدة ونتائجها الخطيرة في مجال التوزيع وما تؤدي إليه من إخلال بالتوازن الاقتصادي العام .

ولم تقتصر النظرية الإسلامية على تحديد مفهوم التوازن بل تكفلّت بتوفير الإمكانات اللازمة للدولة لممارسة وتحقيق هذا المفهوم. ويلخص السيد الصدر هذه الإمكانات في:

أولاً: فرض ضرائب ثابتة تؤخذ بصورة مستمرة وينفق منها لرعاية التوازن العام.

ثانياً: إيجاد قطاعات لملكية الدولة، وتوجيه الدولة إلى استثمار تلك القطاعات لأغراض التوازن.

ثالثاً: طبيعة التشريع الإسلامي، الذي ينظم الحياة الاقتصادية في مختلف الحقول.

أولاً: فرض ضرائب ثابتة

لقد تطورت الضريبة من مبلغ كان يدفعه المواطن إلى الحاكم كمنحة لمساعدته على تنفيذ المشروعات العامة إلى مشاركة ومساهمة في الأَعباء العامة بصورة دائمة وإلزامية ، وأضحت بهذا الشكل فريضة إلزامية على كل مواطن يجب أداؤها. وبذلك يكون مفهوم الضريبة عبارة عن فريضة مالية تضامنية تقتطعها الدولة بصورة نهائية ومباشرة لتستخدمها في تحقيق أهدافها العامة. وبهذا يظهر الفرق بينها وبين الرسم إذ يعني الأخير مبلغاً من المال يؤديه المنتفع للدولة مقابل منفعة خاصة ومعينة لها صفة الخدمة العامة.

فلا يتقوم مفهوم الرسم إلا في عصر الانتفاع من الخدمة العامة ليؤدي المنتفع مقابلها مبلغاً من المال. بينما يؤدي المواطن الضريبة دون مقابل! انتفع بالخدمة العامة أم لم ينتفع، فإنه قد ينتفع المواطن بالخدمات العامة دون أن يدفع الضرائب ـ كما إذا لم يكن مكلفاً بدفعها ـ وقد لا ينتفع بها المواطن الآخر مع توجّب الدفع عليه.

وبذلك تعبِّر الضريبة عن التضامن والمشاركة في الأعباء العامة تبعاً لمقدرة المواطنين وإمكاناتهم المالية، وهو ما يظهر في الضرائب المالية (العبادية) التي فرضها الإسلام كالزكاة والخمس، بل حتى الضريبة فإنها وإن توجّب دفعها على غير المسلمين من مواطني الدولة الإسلامية مقابل إعفائهم من الضرائب الأخرى (الزكاة والخمس و…) ومقابل الخدمات التي تؤديها الدولة الإسلامية لهم. فإنه حتى في هذه الضريبة يظهر مفهوم التضامن ولأجل ذلك يستثنى أصحاب الدخل المحدود من غير المسلمين من الجزية مع انتفاعهم بالخدمات العامة التي تؤديها الدولة وحقهم في الضمان كما سيأتي.
أما مطرح(*) الضريبة في الإسلام فإِنه متعدد بحيث يشمل الثروة النقدية (ذهب، فضة، مسكوكة)، والثروة الحيوانية (الإبل، البقر، الغنم)، والثروة النباتية (الحنطة والشعير والتمر والزبيب)، والثروة البحرية (ما يستخرج بالغوص من البحار)، والعوائد التجارية (ما يفضل للتاجر من مؤونة عياله سنة كاملة)، والثروة الصناعية (ما يفضل لذوي الصناعات من أرباح الصناعة بعد إخراج مؤونة العيال سنة كاملة)، والثروة الزراعية (ما يفضل للزارع عن مؤونة عياله سنة كاملة) والأموال المختلطة (المال الحلال المختلط بالمال الحرام) و…

وترك لولي الأمر فرض ضرائب على غير ما نصَّ عليه في الحالات الضرورية والتي يرى الولي ضرورة فرضها على مطارح ضريبية غير منصوص عليها لأجل زيادة النفقات العامة، أو التخفيف من حدة التناقضات، أو لتحقيق التوازن الاجتماعي إذ “” قد تطرأ على الحياة الاجتماعية أوضاع طارئة غير عادية، أو تحدث ثغرات مالية كبيرة، تتطلب نفقات كثيرة لا تغطيها الموارد المالية التي شرعت للحالات الاعتيادية كما يحدث في أوقات الحرب.. ففي مثل هذه الأحوال تلتجئ الدولة الإسلامية إلى فرض ضرائب مالية جديدة في حدود حاجة البلاد وإمكانيات الأمة المالية لملأ هذه الثغرات .

وبهذا أفتى العديد من فقهاء المسلمين، إذ كلما تلاحظ الدولة الإسلامية نقصاً في المبالغ اللازمة لتأمين المصارف التي تتطلبها الخطط العامة جاز لها أن تفرض ضرائب جديدة غير منصوص عليها على مواطنيها كل حسب مقدرته وإمكانياته المالية، وهذا ما يظهر من عبارات السيد الصدر في الضمان الاجتماعي وحق الدولة في إكراه رعاياها على أداء الواجبات الشرعية المكلفين بها والتي من بينها أداء الضرائب التي يتوقف عليها إدارة الشؤون العامة للدولة أو تحقيق الضمان.

وبذلك يظهر الملاك في تحريم الكنز إذ أنَّ الإسلام لا يحد أصل الملك من جهة الكمية بحدٍّ، وإنما حرَّم الكنز لعدم إنفاقها في سبيل الله وهو ما توقف عليه قيام دين الله ومصالح وشؤون مجتمع المسلمين، فإذا عرض المسلم أمواله وجعلها في متناول الدولة الإسلامية وإخضاع هذه الأموال للضرائب المفروضة من قبل ولي المسلمين فلا يعد هذا المسلم مانعاً عن سبيل الله ولا تعد أمواله كنزاً . ويوحي كل هذا إلى جواز فرض ضرائب جديدة على الأموال وإن لم يكن منصوصاً عليها، ولهذا يعتبر اكتناز الذهب والفضة (باعتبارهما شكلاً من أشكال النقد) جريمة يعاقب عليها بالنار، لأنَّ الإكتناز يعني بطبيعة الحال التخلف عن أداء الضريبة الواجبة شرعاً .

أما علاقة الضرائب بأغراض التوازن فيبدو من خلال النصوص التي يستعرض السيد الصدر قسماً منها:

فعن إسحاق بن عمار: ((قال: قلت للأمام جعفر بن محمد: أعطي الرجل من الزكاة مائة؟ قال: نعم، قلت: مائتين؟ قال: نعم. قلت: ثلاثمائة؟ قال: نعم. قلت: أربعمائة؟ قال: نعم. قلت:خمسمائة؟ قال: نعم حتى تغنيه))، الوسائل للحر العاملي ج6 ص180.

وعن أبي بصير: ((أن الأمام جعفر الصادق (ع) تحدث عمن تجب عليه الزكاة وهو ليس موسراً. فقال:

يوسع بها على عياله في طعامهم وكسوتهم. ويبقي منها شيئاً يناوله غيرهم. وما أخذ من الزكاة فضه على عياله حتى يلحقهم بالناس))، الوسائل ج6، ص159.

وعن إسحاق بن عمار: ((قال: قلت للصادق (ع): أعطي الرجل من الزكاة ثمانين درهماً؟ قال: نعم، وزده. قلت: أعطيه مئة؟ قال: نعم، وأغنه، إن قدرت على أن تغنيه))، الوسائل 6/179.

وتدل هذه الروايات على أن من وظيفة الضريبة أن تحقق التوازن بين أفراد المجتمع وتلحق الفقير بالغني.

يقول السيد الصدر عن دلالة هذه الروايات: “” فهذه النصوص تأمر بإعطاء الزكاة وما إليها إلى أن يلحق الفرد بالناس: أو إلى أن يصبح غنياً، أو لإشباع حاجاته الأولية والثانوية من طعام وشراب وكسوة وزواج وصدقة وحج على اختلاف التعابير التي وردت فيها وكلها تستهدف غرضاً واحداً. وهو تعميم الغنى بمفهومه الإسلامي وإيجاد التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة .

وبذلك يكون التوازن الاجتماعي من الأهداف التي تسعى الدولة الإسلامية إلى تحقيقها بشكلٍ مستمر وغير موقوت ما دام لم يعط الإسلام للفقر مفهوماً مطلقاً ومضموناً ثابتاً إذ يكون عدم التحاق البعض في المعيشة بمستوى الآخرين مؤشراً على اختلال التوازن الاجتماعي الذي يجب أن تبادر الدولة الإسلامية إلى معالجته وتحقيق التوازن في المجتمع.

ويتلخص من ذلك كله أن “” المهم في تشريع الضرائب المالية في الإسلام أن الغرض منها ليس فقط تهيئة المال الكافي لتسيير المرافق الاجتماعية وتغطية نفقات الدولة الإسلامية وإن كان ذلك جزءً كبيراً من الغرض في التشريع الضريـبي على كل حال.. بل المهم من تشريع الضرائب المالية امتصاص الثروات الفائضة عن دخول الطبقات الغنية وإعادتها إلى الطبقات الفقيرة أو إلى المرافق الاجتماعية التي تنشأ لصالح الفقراء .

ثانياً: إيجاد قطاعات عامة

يعتبر وجود قطاع عام في الاقتصاد الإسلامي أمراً طبيعياً لحق الجماعة والأمة الإسلامية في الانتفاع بثرواتها ومواردها باعتبارها المالك الحقيقي لهذه الموارد والثروات ويتجلى هذا الحق في ملكية الأمة وملكية الدولة. وطبيعة التشريع الإسلامي تشير بوضوح إلى هذه الحقيقة كحق الأفراد في الضمان والمنع من الاحتكار، والمنع من تملك رقبة المال في الثروات الطبيعية والاكتفاء بالانتفاع فقط، وحق الأفراد في الإحياء واكتساب حق الأولوية في الانتفاع من هذه الثروات، وليس هذا الإحياء أو الأولوية إلاّ أحد الأشكال الممكنة التي تمارسها الدولة في استثمار القطاع العام(146)، إذ يمكنها أن تمنع منه إذا أساء لهذا القطاع بوصفها الأمينة على ملكية الأمة والملكية التي تعود إلى الدولة واستثمار هذه الملكيات بالشكل الذي يحقق الازدهار للمواطنين ومالكيها الحقيقيين.

ويرى السيد الصدر أن الطريقة المذهبية لتحقيق الضمان الاجتماعي هي فكرة القطاع العام وهو ما يوحي به المقطع القرآني من سورة الحشر قوله تعالى: وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير* ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم.. (آية: 6- 7 سورة الحشر).

يقول السيد الصدر تعليقاً على المقطع القرآني: “” ففي هذا النص القرآني قد نجد إشِعاعاً بالأساس الذي تقوم عليه فكرة الضمان. وهو حق الجماعة كلها في الثروة كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم، وتفسيراً لتشريع القطاع العام في الفيء، بكونه طريقة لضمان هذا الحق، والمنع عن احتكار بعض أفراد الجماعة للثروة وتأكيداً على وجوب تسخير القطاع العام لمصلحة اليتامى والمساكين وابن السبيل ليظفر جميع أفراد الجماعة بحقهم في الانتفاع بالطبيعة، التي خلقها الله لخدمة الإنسان””(147). وعليه “” تدل الآية بوضوح على أن إعداد الفيء للإنفاق منه على الفقراء يستهدف جعل المال متداولاً وموجوداً لدى أفراد المجتمع ليحفظ بذلك التوازن الاجتماعي العام ولا يكون دولة بين الأغنياء خاصة””.

أما علاقة القطاع العام بالتوازن الاجتماعي فيستظهر السيد الصدر هذه العلاقة من الحديث المروي عن الأمام موسى الكاظم (ع): قال وهو يتحدث عن نصيب اليتامى والمساكين وابن السبيل من الخمس : ((إن الوالي يقسم بينهم على الكتاب والسنة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي، فإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به)). أصول الكافي: 1/540، فإنه (رحمه الله) استظهر من كلمة (من عنده) إنها “”تدل على أن غير الزكاة من موارد بيت المال يتسع لاستخدامه في سبيل إيجاد التوازن بإغناء الفقراء ورفع مستوى معيشتهم . وبذلك: “” لم يكتف الإسلام بالضرائب الثابتة التي شرعها لأجل إيجاد التوازن بل جعل الدولة مسؤولة عن الإنفاق في القطاع العام لهذا الغرض .

ثالثاً: طبيعة التشريع الإسلامي

التشريعات الإسلامية – مضافاً إلى الضرائب الثابتة والقطاع العام – هي الأخرى تسهم بطبيعتها في تحقيق التوازن الاجتماعي وخلقه، وهي تشريعات كثيرة يكتفي السيد الشهيد بالإشارة إلى بعضها لا على سبيل الحصر، مثل: إلغاء الفائدة، وأحكام الإرث، وتحريم الكنز، وإلغاء الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام.. وكلها تهدف إلى خلق التوازن الاجتماعي وتحقيقه، مضافاً إلى صلاحيات الدولة ضمن منطقة الفراغ. “” فالمنع عن اكتناز النقود وإلغاء الفائدة، يقضي على دور المصارف الرأسمالية في إيجاد التناقض والإخلال بالتوازن الاجتماعي وينتزع منها قدرتها على اقتناص الجزء الكبير من ثروة البلاد الأمر الذي تمارسه تلك المصارف في البلاد الرأسمالية عن طريق تشجيع الناس على الادخار وإغرائهم بالفائدة””(151)، وذلك يقضي بانتزاع قدرة رأس المال الفردي على التوسع في حقول الإنتاج والتجارة بالشكل الذي يضرُّ بالتوازن، وبذلك يفقد الرأسمال الفردي الإمكانية على إقامة المشاريع الكبيرة، خاصة بغياب المصارف التي تتعامل بالفائدة، ويكون بذلك الباب واسعاً أمام القطاع العام لإدارة مثل هذه المشاريع ضماناً وحماية للتوازن الاجتماعي.

أما تشريع الإرث وأحكامه فهي الأخرى تهدف إلى تحقيق التوازن المنشود عبر تفتيت الثروة التي غالباً ما تنتقل من فرد إلى عدة أفراد من أقرباء المورِّث.

أمّا صلاحيات الدولة في ملء منطقة الفراغ فهي الطريق الواسع والأسلوب المرن لتحقيق التوازن حسب ما تقتضيه الظروف والأوضاع.

الضمان الاجتماعي

إنَّ من الحقوق الأساسية للفرد في الدولة الإسلامية توفره على عملٍ يسمح له المساهمة في النشاط الاقتصادي والعيش بكرامة، فإن اتفق وكان الفرد عاجزاً عن العمل، أو امتنع على الدولة منحه فرص العمل لظروف استثنائية كان عليها أن تضمنه وذلك عن طريق “” تهيئة المال الكافي لسدِّ حاجات الفرد وتوفير حدٍّ خاص من المعيشة له .

ولا يظهر الضمان الاجتماعي في هذا الجانب فحسب، بل يتجلى بصورة أكثر إيجابية وبدور أكثر فعالية وذلك عندما “” يقوم بدور كبير في القطاع الخاص، لأن إحساسَ الفرد بأنه مضمون من قبل الدولة، وإنَّ مستوى كريماً من الحياة مكفول به ولو خسر في مشروعه، رصيدٌ نفسي كبير، يزيد من شجاعته، ويدفع به إلى مختلف ميادين الإنتاج وينمي فيه عنصر الإبداع والابتكار خلافاً لمن يفقد ذلك الضمان ولا يحس بتلك الكفالة، فإنه في كثير من الأحايين يحجم عن ألوان من النشاط والتجديد خوفاً من الخسارة المحتملة التي لا تهدد ماله فحسب، بل تهدد حياته وكرامته ما دام لن يجد من يكفله ويوفر له أسباب الحياة الكريمة إذا خسر ماله وضاع في خضم التيار.

ويرتكز مبدأ الضمان الاجتماعي في المذهب الاقتصادي الإسلامي على أساسين، وتمارسه الدولة على مستوى كل من هذين الأساسين.

الأول: التكافل العام:

ويقوم هذا الأساس على مبدأ كفالة المسلمين بعضهم لبعض كل في حدود إمكاناته وقدراته المالية. وهو مبدأ يرقى إلى مفهوم الفريضة بمعنى وجوب كفالة المسلم للمسلم على نحو الوجوب الكفائي الذي يسقط بامتثال البعض الذي يتحقق في امتثاله هدف الشارع وغايته.

وكان يمكن الاكتفاء بما تقوم به الدولة من إجبار الأغنياء على كفالة الفقراء بفرض ضرائب تؤدى وتستقطع من الطبقات الغنية لحساب الفقيرة دون حاجة لإضفاء صفة الفريضة على هذه العملية أو صبغها بالطابع العبادي، غير أن الإسلام باهتمامه بالعامل الذاتي والنفسي أصرَّ على أن لا يتم تحقيق مبدأ التكافل هذا بطريقة مجردة عن الدافع الخلقي والعامل النفسي الذي يدفع المكلف بشكل واعٍ ومقصود لتحقيق هذا المبدأ مصحوباً بالتقرب إلى الله تعالى مما يسهل عمل الدولة في تحقيق الضمان بأقل جهد وأدنى رقابة .

ولكن الإسلام بإصراره على تصعيد الدوافع الخلقية وتنميتها لا يفسح المجال للتهرب من المسؤولية تحت غطاء الوازع الذاتي، إذ قد يتخلف المسلم عن أداء الفريضة (التكافل) ولا يبادر إليها دون رقابة وإشراف الدولة، فأعطى الإسلام للدولة الحق في إلزام رعاياها على امتثال التكاليف الشرعية، ولإيضاح هذه الحقيقة يقول السيد الصدر: “” والضمان الاجتماعي الذي تمارسه الدولة على أساس هذا المبدأ للتكافل العام بين المسلمين يعبر في الحقيقة عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال ما يكلفون به شرعاً، ورعايتها لتطبيق المسلمين أحكام الإسلام على أنفسهم.

فهي بوصفها الأمينة على تطبيق أحكام الإسلام والقادرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولة عن أمانتها، ومخوَّلة حق إكراه كل فرد على أداء واجباته الشرعية، وامتثال التكاليف التي كلّفه الله بها، فكما يكون لها حق إكراه المسلمين على الخروج إلى الجهاد لدى وجوبه عليهم كذلك له حق إكراههم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين، إذا امتنعوا عن القيام بها. وبموجب هذا الحق يتاح لها أن تضمن حياة العاجزين وكالة عن المسلمين، وتفرض عليهم في حدود صلاحياتها مدّ هذا الضمان بالقدر الكافي من المال، الذي يجعلهم قد أدوا الفريضة وامتثلوا لله تعالى.

أما حدود كفالة المسلم لأخيه المسلم فإنها لا تتعدى الحاجات الضرورية وهو ما يستظهر من الحديثين اللذين ينقلهما السيد الصدر (قدس سره)، إذ جاء في الحديث الصحيح عن سماعة: ((أنه سأل الأمام جعفر بن محمد عن قوم عندهم فضل، وبإخوانهم حاجة شديدة، وليس يسعهم الزكاة أيسعهم أن يشبعوا ويجوع إخوانهم؟ فإن الزمان شديد. فردَّ الأمام عليه قائلاً: إن المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحرمه، فيحق على المسلمين الاجتهاد فيه والتواصل والتعاون عليه، والمواساة لأهل الحاجة)) الوسائل 11/ 597. وفي حديث آخر: أن الأمام جعفر قال: ((أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره، أقامه الله يوم القيامة مسوداً وجهه، مزرقّة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله، ثم يؤمر به إلى النار)) الوسائل 11/599.

الثاني: حق الجماعة في مصادر الثروة:

وتبدو مسؤولية الدولة في الضمان الاجتماعي على هذا الأساس في النصوص التشريعية إذ جاء في الحديث عن الأمام جعفر الصادق (ع) قوله: ((أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في خطبته: من ترك ضياعه فعليَّ ضياعه ومن ترك ديناً فعليَّ دينُه، ومن ترك ماله فأكِلْه))، وفي حديث عن الأمام موسى بن جعفر (ع) قال محدداً ما للأمام وما عليه: ((إنه وارث من لا وارث له، ويعول من لا حيلة له))، وغير ذلك من النصوص.

يقول السيد الصدر: “” وأما الأساس النظري الذي ترتكز فكرة الضمان في هذا المبدأ عليه، فمن الممكن أن يكون إيمان الإسلام بحق الجماعة كلها في موارد الثروة، لأن هذه الموارد الطبيعية قد خلقت للجماعة كافة، لا لفئة دون فئة خلق لكم ما في الأرض جميعاً وهذا الحق يعني أن كل فرد من الجماعة له الحق في الانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها. فمن كان من الجماعة قادراً على العمل في أحد القطاعات العامة والخاصة، كان من وظيفة الدولة أن تهيئ له فرصة العمل في حدود صلاحياتها. ومن لم تتح له فرصة العمل، أو كان عاجزاً عنه.. فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم .

ويبدو الفرق بين الأساسين المتقدمين في نقطتين من حيث حدود كل من الأساسين ومقتضياتهما، ومن حيث مسؤولية الدولة على مستوى كل من الأساسين، فمن حيث حدودهما فإنهما يفترقان في أن حدود “” الأَساس الأول للضمان لا يقتضي أكثر من ضمان إشباع الحاجات الحياتية والملحَّة للفرد، بينما يزيد الأساس الثاني على ذلك ويفرض إشباعاً أوسع ومستوى أرفع من الحياة . أما من حيث مسؤولية الدولة في تحقيق الضمان الاجتماعي على المستويين (أو الأساسين المذكورين) فإنها تكون على مستوى الأساس الأول مسؤولية غير مباشرة ولا يتعدى دورها عملية إلزام رعاياها المقتدرين على امتثال ما كلفوا به من كفالة بعضهم البعض الآخر. وذلك خلافاً لمسؤولية الدولة على الأساس الثاني إذ “” تكون الدولة مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين بقطع النظر عن الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم .

ومن الجدير بالذكر أن ضمان الدولة الإسلامية لا يختص بالمسلم وحده، بل يشمل غير المسلم ممن يعيش في ظل الدولة الإسلامية. وقد جاء عن الأمام علي (ع): أنه مرَّ بشيخٍ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين: ما هذا؟ فقيل له: يا أمير المؤمنين إنه نصراني. فقال الأمام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! أنفقوا عليه من بيت المال . وردَّ البعض كفالة الدولة لغير المسلم إلى ما يأمر به الإسلام من الإحسان وإعانة المحتاجين والرحمة بهم، وهي معاني لا تقتصر على المسلم بل تشمل كل حي وهو ما يظهر من كلام لرسول الله (ص): ((في كل كبد رطبة أجر)) .

إشراف الدولة على الإنتاج:

يقول السيد الشهيد: يجب “” على الدولة في المجتمع الإسلامي أن ترسم سياسة اقتصادية للإنتاج تقوم على العناصر المتحركة المستوحاة من تلك الدراسات والخبرات على أن تكون أهداف السياسة منسجمة مع تقييم الإسلام للإنتاج وتوجيهه الحضاري له. وكما يجب على الدولة في هذا المجال أن تتوخى في رسم سياسة الإنتاج إزالة العوائق الطبيعية بالاستفادة من خبرات العلم ومنجزاته ووضع خطة موجهة له تقوم على أساليب الإحصاء، كذلك يجب على الدولة أن تزيل العوائق السياسية عن استثمار المجتمع لثروته وتقضي على كل ظواهرها التي تمس كرامة الأمة وسيادتها على ثرواتها.

أما مبررات تدخل الدولة في رسم السياسة الاقتصادية لحركة الإنتاج ومشروعية هذا التدخل فيظهر في ما يلي:

أولاً: إن إعطاء الدولة الإسلامية الحق في الإشراف على الإنتاج وتخطيطه مركزياً يهدف إلى تفادي الفوضى التي تؤدي إلى شل حركة الإنتاج، وتعصف بالحياة الاقتصادية .

ثانياً: “” كما أن رسم سياسة اقتصادية للتنمية الاقتصادية ورفع مستوى الإنتاج يعتبر واجباً على الدولة في حدود صلاحياتها وذلك لأن القوة الاقتصادية أصبحت من أكبر القوى الاجتماعية التي تدخل في تقييم المجتمعات وتحديد درجة قوتها وصمودها على الساحة الدولية . في وقت أصبح الضغط الاقتصادي من أشرس وسائل القوى الاستكبارية للنيل من كرامة الشعوب وارتهان مصائرها.

ثالثاً: كما تنبع مسؤولية إشراف الدولة على حركة الإنتاج “” من وجوب تطبيق السياسة الإسلامية في مجال الإنتاج وضمان إنتاج الحاجات العامة بدرجة توفر للجميع فرصة الحصول عليها والحيلولة دون الإسراف في الإنتاج إذ كما أن الفرد يحرم عليه الإسراف في الإنفاق كذلك يحرم على المجتمع الإسراف فيه . بل يبدو الإسراف العام والجماعي أخطر بكثير من الإسراف الفردي إذ يودي بثروات المجتمع إلى الهدر والضياع. ولكي تضمن الدولة الحد الأَدنى من السلع الضرورية التي يحتاجها أفراد المجتمع والحد الأعلى الذي لا يجوز التجاوز عنه فلابد لضمان سير الإنتاج الاجتماعي بين الحدين من إشراف الدولة وتوجيهها . ومضافاً إلى ما تقدم فإن التشريع الإسلامي بشأن توزيع الثروات الطبيعية يفسح المجال بتدخل الدولة هذا، إذ يتوجب حفاظاً على هذه الثروات أن يتم للدولة الهيمنة على الصناعات الإستخراجية وإنتاج المواد الأولية وهو يعني بالضرورة تدخلها بصورة غير مباشرة على مختلف فروع الإنتاج في الحياة الاقتصادية .

رابعاً: من المبررات التي تستوجب تدخل الدولة في الإنتاج الصلة المذهبية في الإسلام بين عملية الإنتاج والتوزيع ـ وهي ما يسميها السيد الصدر بفكرة التطبيق الموجه ـ والتي تحدد الإنتاج بوصفه عملية تطبيق لقواعد التوزيع لضمان عدالة التوزيع. وعلى أساس هذه الفكرة يحق للدولة الإسلامية التدخل في تطبيق القواعد الثابتة في مجال الإنتاج لحساب التوزيع، إذ قد يُمكّن نمو الإنتاج وتطور وسائله الأفراد من استغلال هذه القواعد(*) بشكل يؤثر سلبياً على عدالة التوزيع، فتبادر الدولة إلى المنع من هذا الاستغلال . ويعتقد السيد الشهيد الصدر أن هذه الفكرة تعبر بوضوح عن صلاحية قواعد الإسلام العامة في التوزيع وانسجامها مع تصوراته للعدالة الاجتماعية في كل زمان ومكان .

خامساً: كما أن سيطرة الدولة على القطاع العام يجعلها في وضع متميز يجعل منها قوة موجهة وقائدة للحقول الإنتاجية الأخرى .

سادساً: كما ويعتبر المفهوم الإسلامي للتداول الأساس الذي يخوِّل الدولة استعمال صلاحياتها في مجالات تنظيم التداول فتمنع كل محاولة من شأنها الابتعاد بالتداول عن الإنتاج. وجعله عملية لإطالة الطريق بين المستهلك والسلعة المنتجة ، فتسعى الدولة إلى استئصال الأدوار الطفيلية للوسطاء بين عمليتي الإنتاج والاستهلاك والتقريب بينهما .

وثمة مبررات عديدة ومصاديق أخرى لتدخل الدولة في مجال الإنتاج لم نأت على ذكرها أو استقرائها، لضرورة افتقار مثل هذا العمل إلى بحث وتحقيق.

الإشراف على السوق:

لقد “” أعطى – الإسلام – لولي الأمر صلاحيات تجعل له الحق في الرقابة الكاملة على سير التداول والإشراف على الأسواق للحيلولة دون أي تصرف يؤدي إلى الضرر وزعزعة الحياة الاقتصادية أو يمهد للتحكم الفردي غير المشروع في السوق وفي مجال التداول . وعلى أساس ذلك تمنع الدولة من حالات التضخم المصطنع في المجتمعات الرأسمالية والذي يظهر في تعدد الوسطاء بين المنتج والمستهلك، وزيادة الهوة بينهما، وهو ما يؤدي بدوره إلى رفع الأسعار والتحكم بالسوق. وبذلك يتجه الإسلام إلى استئصال هذه الأدوار الطفيلية التي يتزين بها الوسطاء في عملية خلق حاجات وطلبٍ مصطنع غير واقعي .

كما ويظهر إشراف الدولة على السوق في مقاومة الاحتكار وكل عملية يستهدف منها إيجاد حالة ندرة مصطنعة للسلعة بقصد رفع ثمنها .

وجدير بالذكر أن الاحتكار المنهي عنه في الإسلام ليس ما تعلق أو اختص بأقوات الإنسان أو الأقوات الخاصة الواردة في بعض الروايات بل إن “” تعيين موضوعات الحكرة من شؤون الوالي في كل عصر، وتعيينها في الأخبار الحاصرة كان من هذا القبيل فلا يعم جميع الأعصار ، بل حتى وإن فرض اختصاص النهي عن احتكار الأقوات الخاصة كما ـ هو عند بعض الفقهاء ـ فإنَّ لولي أمر المسلمين المنع عنه عملاً بصلاحياته لملء منطقة الفراغ.

وكذلك الأمر في الأسعار فإن تحديدها من شؤون الدولة الإسلامية، ويتم ذلك على أساس موازين العدل وعدم الإجحاف.

مسؤولية الدولة عن القطاع العام:

ثمة ملكية عامة ثابتة في المذهب الاقتصادي الإسلامي لا يسمح أن يصار إلى إلغائها أو التصرف بها على غير الوجه الشرعي الذي أمر به الإسلام تحت أية ذريعة كانت. نعم قد يسمح في وسائل الاستفادة منها وتطوير استثمارها. وتعتبر الدولة الإسلامية الحارس الأمين المكلف بحماية هذه الملكية والمنع من التعدي عليها. وفي هذا الصدد يقول السيد الصدر: “” وأما مسؤولية الدولة في رعاية القطاع العام فهي ثابتة بحكم كونها أمانة تتسلمها الدولة للحفاظ عليها وتحقيق الأهداف الربانية التي شرحتها آية الفيء.

فلابد لولي الأمر في رعاية هذا القطاع والاستفادة من أحدث الأساليب، وكل المستجدات العلمية في سبيل تنميته وإصلاحه والانتفاع بمستوى قدرته الإنتاجية لكي يكون قوة كبيرة موجهة للحياة الاقتصادية نحو أهدافها الإسلامية الرشيدة . ولذلك اعتبر السيد الصدر “” أن سماح الدولة للأفراد بالإحياء واكتساب حق الأولوية على مصادر الثروة الطبيعية ليس إلاَّ أحد الأشكال الممكنة التي تمارسها الدولة في استثمار القطاع العام وتوظيفه اقتصادياً، وللدولة أن تمارس استثمار القطاع العام بأشكال أخرى إذا كانت تحقق نتائج أفضل بالنسبة إلى مجمل الحياة الاقتصادية للمجتمع الإسلامي ، ويكون من حق الدولة أن تشتري حق الأولوية من الفرد المحيي وتلزمه ببيعه إذا أدى بقاء هذا الحق إلى إخلال في عدالة وتوزيع المصادر الطبيعية والتوازن الاجتماعي .

ولعل من أهم ما يهدف إليه المذهب الاقتصادي الإسلامي في تشريعه (القطاع العام) هو:

1- تحقيق الضمان الاجتماعي الذي يعتبر من أهم مسؤوليات الدولة الإسلامية، وقد اعتبر السيد الصدر أن الطريقة المذهبية التي وضعت لتنفيذ فكرة الضمان الاجتماعي هي إنشاء القطاع العام .

2- تحقيق التوازن الاجتماعي والحؤول دون نشوء ملكيات خاصة ضخمة. وقد تم ذلك عبر عدة تشريعات، لعل من أهمها تحريم الإسلام للاكتناز، وهو ما سهَّل عملية القضاء على مشكلة من أهم مشاكل الإنتاج التي تمنى بها الرأسمالية، إذ يعتمد المجتمع الإسلامي في سبيل تنمية الإنتاج وإقامة المشاريع الكبيرة على حقول الملكية العامة وملكية الدولة، ويبقى للملكيات الخاصة المجالات التي تتسع لها إمكاناتها .

3- ولقد “” مكَّن الإسلام الدولة من قيادة جميع قطاعات الإنتاج عن طريق ممارستها القطاع العام  إذ تمتلك الدولة الوسائل المؤثرة والفاعلة في قيادة الإنتاج وتوجيهه والإشراف عليه باعتبارها مالكة لأكبر المشاريع الإنتاجية في البلاد.

4- كما تبدو إيجابية القطاع العام في “” منح الإسلام الدولة القدرة على تجميع عدد كبير من القوى البشرية العاملة والاستفادة منها في مجالات القطاع العام. وبذلك يمكن للدولة أن تحول دون تبديد الفائض عن حاجات القطاع الخاص من تلك القوى البشرية وتضمن مساهمة جميع الطاقات في حركة الإنتاج الكلي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign