خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
الرئيسية / أخبار مميزة / اللحية.. لمحة تاريخية وآراء المذاهب الإسلامية فيها / سماحة السيد محمد رضا السيستاني
اللحية

اللحية.. لمحة تاريخية وآراء المذاهب الإسلامية فيها / سماحة السيد محمد رضا السيستاني

الاجتهاد: أخذ هذا البحث من مقالة بعنوان (“الزي والتجمل” وهو القسم الأول من دراسة استدلالية حول أحكام الزيّ والتجمل في الشريعة الإسلامية) من كتاب “بحوث فقهية حول الذبح بغير الحديد والزي والتجمل ومسائل أخرى – للسيد محمد رضا السيستاني “حفظه الله” . وقد قدم فضيلته في هذا القسم الأحكام الخاصة بشعر الوجه من اللحية والشارب. فيبدأ في الفصل الأول من البحث بلمحة تاريخية عن اللحية وحلقها عند العرب و غير العرب والمسلمين والديانات والملل والنحل الأخرى. ثم يتطرق إلى حلق اللحية عند أبرز المذاهب الإسلامية مستعرضاً فيه مواقفهم في المسألة.

للقراءة أضغط على العنوان

  • لمحة تاريخية عن اللحية
  •  حلق اللحية عند أبرز المذاهب الإسلامية 
  • الهوامش

اللحية هي مما ميّز الله تبارك وتعالى به الرجال عن النساء في الخلق، وكانت تحتل مكانةً خاصةً عند جميع الأجناس البشرية الملتحية في العصور القديمة، حيث كانت تُعدّ عنوانا للرجولة المكتملة ورمزاً لها، وقد أضفى عليها الشرقيون وخصوصا الساميّون نزعة روحانية .

ولا يُعرف على وجه التحديد متى قام الإنسان بحلق لحيته لأول مرة، غير أن وجوه الأشخاص الحليقين المرسومة على التماثيل المصريّة للحضارات الأولى تبيّن أن هذه العادة تعود إلى حوالي خمسة آلاف سنة تقريباً.

وتذكر بعض الدراسات التاريخية أن المصريين القدماء كانوا يطلقون لحاهم ويهذّبونها ويصبغونها بالحنّاء كما كانوا يحيكون معها في بعض الأحيان خصالاً من الذهب.

ولكن معظم الدراسات الأخرى تقول أنهم كانوا يحلقون لحاهم ولا يطلقونها إلا في المناسبات الحزينة كالحداد، وهناك دراسة ذكرت أن الملوك والنبلاء والكهنة المصريين كانوا حليقين وكان عامّة الشعب ملتحياً، – وفي نص عبراني: (إن يوسف حلق ذقنه قبل أن يدخل على فرعون).

ثم إن من يحلقون لحاهم كانوا يلبسون لحی اصطناعية مستعارة في المناسبات كرمز للمهابة، بل كان هذا تقليداً متّبعاً حتى للملكة حيث كانت تعلّق اللحية المستعارة بواسطة شريط ذهبي يُعقد في أعلى الرأس مربوطاً بشريط ذهبي آخر أسفل الذقن.

وكانت لحية الملك المستعارة مربّعة الشكل وأما لحى الآخرين فقد كانت مجعّدة، واستمرت عادة استخدام اللحى المستعارة من الفترة ۱٥۸٥ – ۳۰۰ قبل الميلاد.

وورد في عدد من المصادر التاريخيّة أن رجال الشعوب المختلفة في حضارات ما بين النهرين (الكلدانية والبابليّة والآشورية والسومريّة والفرس القدماء) كانوا يرسلون لحاهم بالرغم من اكتشافهم للموسي منذ أمدٍ بعيد، وكانوا يولونها أهمية خاصة من خلال دهنها وكيّها مستخدمين الملاقط وأدوات معدنيّة أخرى لخلق تموّجات وتجعّدات لها، وكان الآشوريون يفضّلون صبغ لحاهم باللون الأسود فيما كان الفرس يفضلون تخضيبها بالحنّاء لإضفاء اللون البرتقالي المحمّر عليها، وقد حدث هذا التقليد منذ عام ۱۹۰۰ قبل الميلاد.

وورد في بعض المصادر أن كثيراً من السومريين كانوا ملتحين وبعضهم كانوا حليقين وكثرتهم العظمي يحفّون شواربهم.

ونصّت دراسة أخرى خاصّة بقدماء البابليين والآشوريين أن عامّة الشعب كانوا حليقي اللحى وإنما كان يختصّ إطلاق اللحيّة بطبقة الملوك والعسكريين كما تدلّ على ذلك الرسوم المصوّرة من آثار تلك الحقبة.

ويبدو أن الفرس أيضا كانوا كذلك، ففيما كان الملوك والنبلاء وكبار رجال الدولة والعسكريون ملتحين كان عامّة الناس حليقي اللحية، وعلى ذلك يحمل ما ورد في نصوص كثيرة من التراث الإسلامي من أن المجوس كانوا يحلقون لحاهم ويوفّرون شواربهم.

وأما اليهود فإن دينهم يحتّم عليهم إطلاق لحاهم كاملة من دون المساس بأركانها وتشويه زواياها، وهناك في الطقوس العبرية نصّ صريح يقول: (لا تشوّه زوايا لحيتك).

وقد أرسل اليهود القدماء لحاهم وحافظوا عليها أثناء عبوديّتهم وافتخروا بأنهم خرجوا من وادي النيل ولحاهم معهم، ومن تقاليد زعماء القبائل اليهوديّة إضافة خصلة معلّقة إلى جانب الأذن على اللحية ولا يزال هذا التقليد متبعاً من قبل بعض اليهود الأرثوذكس المتشدّدين، علما أن من تقاليد اليهود أيضا حلاقة اللحية في فترة الحداد.

وكان الإغريقيّون يحلفون شواربهم ويطلقون لحاهم، ويمكن ملاحظة ذلك في الرسوم المتروكة عن ذلك العصر، وبعد ذلك أصبحوا يرسلون الاثنين.

وترجع عادة حلاقة اللّحى لدى الإغريق إلى الإسكندر الأكبر وذلك أنه منع جنوده من إطلاق لحاهم لكي لا يمنحوا الفرصة للعدو للإمساك بهم، إلا أن اللحية عادت إلى الظهور في عهد جوستيبان وبقيت حتی اجتياح الأتراك القسطنطينية في عام ١٤٥٣م.

وكان الرومان يُرسلون اللّحى ويهتمّون بنظافتها وترتيبها إلا أن بدعة إسكندر في حلق اللحية أثرت فيهم فاقتدوا باليونانيين في ذلك.

وتقول جملة من الدراسات التاريخية أن الرومان بالرغم من معرفتهم لموسى الحلاقة لم يقوموا بحلق لحاهم حتى القرن الثالث قبل الميلاد، أي إلى زمن مجيء البرابرة الصقليين إلى روما، ومن المعتقد أن سيبوافریکانوس هو أول روماني كان يحلق يومياً، ومنذ عهد أوغسطين وحتى عهد تراجان بقي الأباطرة الرومان حليقي اللحية بالرغم من أن أوغسطين قد أطلقها أثناء حداده على موت يوليوس قيصر .

وقد أصبح إرسال اللحي عند الرومان دليل الهمجيّة والتوحّش ولذلك سمّوا الشعوب الجرمانيّة التي تساقطت عليهم من الشمال (بربر) من (باربا) وهي اللحية باللاتينية، والباربر هو صاحب اللحية، لأن تلك الشعوب کانوا يرسلون لحاهم بلا نظام أو ترتيب فتكسبهم مظهراً وحشياً.

وذكر في بعض المصادر أن البيزنطينيين كانوا يفضّلون الشعر القصير والشوارب واللحية أي مزيجاً من عادات الشرق والرومان، ومنذ القرن ٧ – ۱۲ كانت لحاهم مجعّدة معضولة في وسط الذقن مدبّبة أو مقصوصة بشكل مربّع وبعضها طويلاً جداً، إلا أنه مع نهاية القرن الثاني عشر بدأت التأثيرات الإغريقية والرومانية والشرقية بالاختفاء من مدن فلورنسا والبندقية وحلّت محلّها عادات البلاطات الأوروبية.

وكان جميع الإنكلوساكسونيين ملتحين حتى مجيء المسيحيّة في القرن السابع إلا أن بعض رجال الدين أُرغموا على حلقها.

وعند مجيء النورمانديين إلى الحكم اختار بعض الإنكليز النفي بدلاً من إزالة لحاهم ولكن بعد ذلك اختار القائد النورماندي إطلاق لحيته أيضاً.

وفي حوالي عام الألف بعد الميلاد بدأ الرجال الفرنسيون بحلق اللحى ولكن بقي ذلك مختصّاً بمن له المكانة الرتيبة كمن يحمل الشموع في مواكب الكنيسة.

وقد أمر لويس الثالث عشر رجال بلاطه بحلق لحاهم وترك لحية صغيرة جداً أسفل الشفة وهو الشكل الذي تبنّاه بعد ذلك الهولنديون.

وشهدت اللحية رواجاً واسعاً في إنكلترا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر خصوصاً عندما بدأت بأشكال مختلفة وغريبة كالمعول والشوكة، وكان صبغ اللحية من الأمور الشائعة في العصر الإليزابيتي في إنكلترا، ويعكس ذلك أدب تلك الفترة وبالذات أدب شكسبير .

تقول بعض المصادر إنّ اللحية أصبحت غير ملائمة لروح العصر في أوروبا الغربية في القرن الخامس عشر، ولكن في القرن السادس عشر عادت إلى الظهور مرة أخرى من خلال الأب يوليوس الثاني و فرانسوا الأول ملك فرنسا وهنري الثامن ملك إنكلترا.

ثم اختفت اللحية تماماً في القرن الثامن عشر حتى في روسيا عندما قام بطرس الكبير بفرض غرامة مالية على إطلاقها، ولكنها عادت إلى الظهور مجدّداً في القرن التاسع عشر لأسباب سياسية ثورية وأيضا بسبب ظهور الحركة الرومانسيّة كنقيض للحركة الكلاسيكية في الأدب، وقد أصبحت اللحية مرفوضة في أجزاء مختلفة من أوروبا بعد قيام ثورة (۱۸۳۰م) لأنها كانت تمثّل رمزاً للأفكار الخطيرة وللرجل غير المتمدّن.

وأما أمريكا التي اعتادت أن تتبع أساليب أوروبا الغربية فقد شهدت ظهور اللحية بأشكالها المختلفة حتى الرجوع إلى الحلاقة التي دعا إليها الجماليون عام ۱۸۹۰، وأصبحت الحلاقة شيئاً مألوفاً خلال النصف الأول من القرن العشرين في الغرب كافة وفي أمريكا خاصّة.

ومما ورد في المصادر التاريخية بشأن عادات الأمم والشعوب في إرسال اللحي وحلقها: إن الأسبانيين كانوا يكرمون اللحية كثيراً ومن أمثالهم بعد أن بطلت هذه العادة: (لما أضعنا لحانا أضعنا أنفسنا)

وإن الشعوب الفوطية والبورغنديين كانوا على صنفين فالحكّام والنخبة كانوا ملتحين بخلاف أبناء الطبقات الدنيا من الشعب.

وأما في الهند القديمة وتركيا فكانت اللحية تطلق كإشارة إلى الوقار والحكمة وكان قطع اللحی عاراً بين الأتراك وتحلق لحية العبيد إشارة إلى عبوديّتهم وخنوعهم، ثم تغيّر الأمر فصار غالب الأتراك سنّتهم حلق اللحي.

وظهرت اللحية طويلة ومتساوية لدى القبائل القوقازية بينما كان المنغوليون والزنوج غير ملتحين وكذلك الخزر والروس والصقالبة والزطّ.

واعتبر السيخ في البنجاب اللحية الكاملة الملفوفة والمعقولة تحت الذقن من المتطلّبات الأساسية في الرجل.

وأما بالنسبة إلى الطوائف المسيحية فالكنيسة الأرثوذكسية تدافع عن اللحى وتعد إرسالها ضرورياً والكنيسة الكاثوليكية ضدّ ذلك.

ويقال أن لاون الثالث كان أول أب للكنيسة بحلق لحيته وتبعه بقية آباء الكنيسة من بعده حتى منتصف القرن العاشر عندما أعاد يوحنا الثاني عشر فرض اللحية التي منعت بعد ذلك في القرن الثاني عشر في عصر غرايقورس الثامن.

ومنذ عهد كليمنس السابع في القرن الرابع عشر الذي اطلق لحيته حداداً على نهب روما بدأ آباء الكنيسة يطلقون لحاهم حتى نهاية القرن السابع عشر.

وذكر بعض المؤرخين أن الحلاقة أصبحت من خصائص الكنيسة الكاثوليكية للرومان بالرغم من ظهور بعض الاستثناءات في القرنين ١٦ و ۱۷ حيث ظهر رجال الدين ملتحين، وكان كهنة الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية ملتحين على الدوام، وقد اعتبرت الكنيسة الشرقية حلاقة اللحية عيباً خطيراً في الرجل عند انفصال الكنيستين الغربية والشرقية في منتصف القرن الحادي عشر.

هذا عن تاريخ إطلاق اللحى وحلقها عند غير العرب والمسلمين.

وأما العرب فكانوا كأكثر الأمم السابقة يكرّمون اللحية وتعدّ عندهم رمز الرجولة وزينتها وسیماء تكريم الرجل وتقديره، وكان إهانة اللحية عندهم من أعظم الإهانات التي لا تُغتَفر ويُعدّ تقبيلها من علامات التقدير والاحترام والإجلال، ونتفها أو جزّها أو حلقها إهانة كبيرة تنزل بصاحبها .

وكانوا يعدّون عدم الاكتراث بتسوية اللحية من سيماء الحزن والغيظ أو المرض أو الارتباك وتضعضع الحال، وكان القَسم بها يُعدّ عندهم من الأيمان المغلّظة، وإذا مدّ غريب يده على لحية رجل أكبر منه في المنزلة والدرجة وأقسم بها أو استجار بها وجب على صاحبها الأخذ بقسمه والاهتمام بأمره ومساعدته.

وقد ظلّ إعفاء اللحی وتکریمها عادة مستحکمة لدى العرب بعد تشرّفهم بالإسلام حيث أقرّهم عليها النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم – كما سيأتي في النصوص – ولعلّه كان انطلاقاً من كونه من سنن نبي الله إبراهيم عليه السلام الذي أمر نبینا صلى الله عليه وسلم باتباع ملّته كما قال تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا )،

وقد ذُكر كونه من سننه “عليه السلام” في بعض المصادر التاريخية ونصّ عليه في تفسير علي بن إبراهيم، فقد روى فيه عن العالم “عليه السلام” أنّه لما أبتلي الله إبراهيم بكلمات فأتمّهن جعله إماماً للناس: (ثم أنزل عليه الحنيفية وهي الطهارة وهي عشرة أشياء خمسة منها في الرأس وخمسة منها في البدن، فأما التي في الرأس: فأخذ الشارب، وإعفاء اللحى..) إلى آخر الرواية.

ولكن الملاحظ أنه لم يذكر إعفاء اللحى في عداد سنن إبراهيم “عليه السلام” العشر في سائر مصادر الفريقين، فقد أورد علي بن بابویه في الشرائع وولده الصدوق في الهداية أن الحنيفيّة التي قال الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم : [واتّبع ملّة إبرهيم حنيفا] هي عشر سنن: خمس في الراس وخمس في الجسد فأما التي في الرأس فالمضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب والفرق من طوّل شعر رأسه.

ويوجد مثل ذلك في كنز الفوائد للكراجكي ونقله الشيخ الطوسي في التبيان عن ابن عباس وقتادة وذكر أيضاً في بلوغ الأرب.

هذا بالإضافة إلى أن مقتضى الشواهد التاريخية – كما سبق – أن إعفاء الرجال للحاهم وعدم حلقها كان أمراً متداولاً عند السومريين وغيرهم من الشعوب في عصر أسبق من عصر إبراهيم الخليل “عليه السلام” فلا يصح أن يعدّ ذلك من سننه فتأمل.

ومهما يكن فقد استمرّ العرب – ومعهم غيرهم ممن دخلوا الإسلام – متمسّكين بعادتهم في إعفاء اللحی وعدم حلقها أو نتفها على مرّ قرون متطاولة، ولم ينقل – فيما تتبّعت ۔ بروز ظاهرة حلق اللحية في أوساط المسلمين إلا في القرن الأخير.

نعم حُكي أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بآذربایجان عبيدة بن عبد الرحمن السلمي: بلغني أنك تحلق الرأس واللحية وأنه بلغني أن رسول الله “صلى الله عليه وسلم” قال: «إن الله عز وجل جعل هذا الشعر نسکاً والظالمون نکالاً.

وحكى عنه أيضاً أنه كان يردّ شهادة من ينتف لحيته، وقد كان ذلك من صنع المخنثين والشواذ جنسية الذين روي عنهم في كتب التراث قصص وحكايات في هذا الشأن أورد جملة منها الراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء.

وحكى ابن كثير في حوادث عام (٦٥٥هـ) أن جماعة الفقراء الحيدرية كانوا يقصّون لحاهم لمتابعة شيخهم حيدر حين أسره الملاحدة فقصّوا لحيته .

وذُكر أيضاً في حوادث سنة (٧٦١) أن الملك الناصر حتم على الصوفية القلندرية – أتباع يوسف القيمني ت 657 – أن يتركوا حلق لحاهم وألزمهم بزيّ المسلمين وترك زي الأعاجم والمجوس.

وكان حلق اللحية – كلاّ أو بعضاً – من أساليب إيقاع العقاب بالمجرمين ومن بحكمهم، ولذلك سبق تاریخي فقد قام العمونيون بحلق النصف من لحی رسل داود لجعلهم أضحوكة أمام الناس كما ورد في عدد من المصادر التاريخية.

وفي التاريخ الإسلامي عشرات الوقائع التي تحكي حالات مماثلة لذلك، منها أن الحجاج كتب إلى محمد بن القاسم الثقفي أن ادغ عطيّة بن سعد العوفي فإن سبّ علي بن أبي طالب وإلا فاضربه أربعمائة سوط واحلق رأسه ولحيته، فأحضره فأبى أن يفعل فصنع به ذلك!!

وكيف كان فقد ظلّ المسلمون على دأبهم في إعفاء اللحی و عدم حلقها في ظلّ مختلف الحكومات التي تعاقبت على بلادهم، وأول من خالف هذه العادة هو السلطان العثماني سليم الفاتح (۱٥۱۲ – ۱٥۲۰م) حین حلق لحيته وأمر رجاله بذلك فوقع أمره كالصاعقة على المسلمين، وعندما احتجّ شيخ الإسلام على ذلك أجابه مازحاّ: لقد حلقت لحيتي کي لا يكون للوزير شيء يقوذني به ولكن لم يطل حلق اللحى فعاد الناس إلى إرسالها واستمرّ الحال على هذا المنوال إلى أواخر الدولة العثمانية.

يقول الأستاذ بهنام أبو الصوف: انتشرت عادة حلق اللحى في صفوف المسلمين أيام بدء العدّ التنازلي لمقوّمات الدولة العثمانية، فبعد هوان أمرها أخذت الجمعيات التبشيرية تفد إلى عاصمة الخلافة الإسلامية ثم فتحت الأبواب أمام مجاميع الطلاب والراغبين في مواكبة التيارات الحديثة في الغرب الأوروبي، ومن هناك بدأت النظرة تتّجه إلى ضرورة المماشاة معهم، فبدأوا بحلق اللحي ثم بدأت هذه العادة تنتقل إلى الأقطار والأمصار التي كانت تحت هيمنة الدولة العليّة ومنها الأقطار العربية.

وهذا هو الأساس لما ورد في موسوعة كالستون من أن العرب اليوم يتّبعون التقليد التركي في حلق لحاهم وإرسال شواربهم(١).

هذه لمحة من تاريخ توفير اللحى وحلقها عند مختلف الملل والنحل .

 

ثم يقع الكلام في موردین :

١- حلق اللحية:

لا يُعرف الترخيص للرجال في حلق اللحي – وفي حكم الحلق النتف والقصّ وسائر طرق الإزالة – عن أي من المذاهب الإسلامية المشهورة، نعم يُعزي إلى قليلٍ أو شاذٍ من فقهاء بعص المذاهب – كالإمامية والشافعية – الترخيص في ذلك

وفيما يأتي استعراض لمواقف أبرز المذاهب الإسلامية في هذه المسألة حسبما تيّسر لي الاطّلاع عليه:

المذهب الإمامي:

ذكر المحقّق الفيض الكاشاني أن جماعة من فقهاء الإمامية أفتوا بحرمة حلق اللحية(٢) ، ونسب المحدث البحراني استظهار التحريم إلى جملة منهم أيضاً(٣).

والملاحظ أنه لا يوجد التعرّض لحكم حلق اللحية فيما وصل إلينا من كلمات متقدّمي الإمامية إلى منتصف القرن الثامن(٤)، باستثناء أن الشيخ الصدوق (ت۳۸۱) أورد في كتابه من لا يحضره الفقيه – الذي هو کتاب فقه وفتوى كما هو كتاب حدیث ورواية – حديثين مما استدل بهما على حرمة حلق اللحية: أحدهما قوله “صلى الله عليه وآله وسلم”: [حفّوا الشوارب واعفوا اللّحى ولا تشبّهوا بالمجوس] والآخر قوله “صلى الله عليه وآله وسلم” : «إن المجوس جزّوا لحاهم ووفّروا شواربهم وإنّا نجزّ الشوارب ونعفو اللحى وهي الفطرة»(٥).

ولكن دلالتهما على حرمة الحلق تبتني على أن يكون الإعفاء فيهما في مقابل الحلق ونحوه لا بمعنى عدم التعرض للحية بالقصّ والتقصير كما فهمه جمع من فقهاء الفريقين.

وقد ارتضى الصدوق نفسه في كتابه (معاني الأخبار) عند إيراد الحديث الأول ما ذكره الكسائي وأبو عبيد من تفسير الإعفاء بـ (الإكثار)(٦)، ويحتمل أنه فهم من الإكثار معنى التطويل إلى حدّ القبضة ونحوها، فيكون محمولاً على الاستحباب كما سيأتي.

وبالجملة ليس في كلام الصدوق في الفقيه دلالة واضحة على تحريم حلق اللحية فلا يتسنّى نسبته إليه فتدبر .

ونسب المرحوم السيد حسن الصدر طاب ثراء(٧) إلى الفقيه يحيى بن سعید الحلي (ت٦۸۹) في كتابه (الجامع للشرائع) الفتوى بحرمة حلق اللحية، ولكن الذي وجدته فيه هو مجرّد إيراد الحديث الأول المار ذكره، وليس فيه التنصيص على حرمة إزالة اللحية(٨).

ونسب رحمه الله أيضا القول بحرمة حلق اللحية إلى فخر المحققين (ت٧٧١) في حواشيه على القواعد(٩)، وهي التي دوّنها تلميذه الشيخ زین الدين علي بن مظاهر الحلي وتسمّى بـ”الحواشي الفخريّة والمسائل المظاهرية”، ولم يتيسّر لي الرجوع إليها للتأكّد من صحة النسبة.

وأول من يظهر منه الحكم بحرمة حلق اللحية – فيما عثرت عليه – هو الشهيد الأول (ت ۷۸٦) في كتابه القواعد والفوائد، حيث قال في معرض حديثه عن الخنثى: (ولا يجوز له حلق لحيته لجواز رجوليته)(١٠)، فيُفهم منه المفروغية عن عدم جواز حلق اللحية للرجال.

وتوجد هذه العبارة بعينها في نضد القواعد الفقهيّة للمقداد السيوري (ت۸۲٦)(١١).

ونظيرها ما ذكره ابن أبي الجمهور الإحسائي (ت بعد ۹۰۱) في كتابه الأقطاب الفقهية، حيث ذكر بعد الاستشكال في ختان الخنثی: (وأما حلق اللحية فالوجه المنع)(١٢) ويبدو أنه مبني أيضاً على احتمال رجوليته.

وممن نصّ على حرمة حلق اللحية الشيخ البهائي (ت ۱۰۳۰هـ) حيث قال في رسالته في تحقيق عقائد الإمامية في الأصول والفروع ما لفظه: ونقول بتحريم الربا والرشوة والسحر والقمار وحلق اللحية وأكل السمك الذي لا فلس له )(١٣).

وصرّح بالحرمة أيضا السيد المحقق الداماد (ت ۱۰٤١) في رسالته الفارسية (شارع النجاة) قائلاً ما ترجمته: (مسألة: حلق اللحية ليس بجائز، وهو حرام وكان من زيّ المجوس)(١٤)

وبذلك يظهر أن نسبة كراهة حلق اللحية إلى السيد الداماد في رسالته المذكورة كما نقلها العلامة صاحب الذريعة اعتماداً على ما حکي له عنها (١٥) غير صحيحة.

وممن أفتى بحرمة حلق اللحية الفيض الكاشاني (ت ۱۰۹۱) في عدد من كتبه منها مفاتیح الشرائع ومنهاج النجاة (١٦).
وحُكي النصّ على التحريم أيضاً عن حفيد صاحب المعالم الشيخ علي صاحب الدرّ المنثور (ت۱۱۰۳) (١٧).

وقال الحرّ العاملي (ت ۱۱۰٤) في رسالته بداية الهداية: (ويحرم حلق اللحية) (١٨) ومثل ذلك ما ذكره في عنوان الباب السابع والستين من أبواب آداب الحمام من الوسائل (19).

وقد شاع التصريح بحرمة حلق اللحية في كتب المتأخّرين كالحدائق(٢٠) وكشف الغطاء(٢١) وجواهر الكلام (٢٢) ، وفي الكتب الفتوائية للمعروفين بالتقليد من زمان الشيخ الأنصاري إلى هذه الأواخر(٢٣).

وأول من قد يُستظهر منه التردّد في حرمة حلق اللحية هو المجلسي الأول (ت ۱۰۷۰) في كلا شرحيه للفقيه، حيث لم ينصّ فيهما على الحرمة وإنما أحتاط بترك الحلق.

قال قدس سره في شرحه الفارسي تعقيباً على ما ورد في الخبر: (اعفوا اللحى) ما ترجمته: (إن ظاهر أكثر العلماء حرمة حلق اللحية حيث أنهم يرون الأمر للوجوب .. والاحتياط في الدين يقتضي ترك الحلق)(٢٤).

وقال في شرحه العربي: (ويظهر من الأوامر بإعفاء اللحى.. الحرمة – أي حرمة حلق اللحية – ولم يذكره فيما رأينا منهم غير الشهيد رحمه الله، فإنه ذكر حرمة الحلق بلا ذكر خلاف، والمسموع من المشايخ أيضاً حرمته، ويؤيّده أنه لم ينقل تجويزه من النبي والأئمة صلوات الله عليهم.. – إلى أن قال – والحاصل أن الاحتياط في الدين ترك حلق اللحية)(٢٥).

وقد تبعه في ذلك ولده المولی محمد باقر المجلسي (ت ۱۱۱۱) وصهره المولی محمد صالح المازندراني (ت ۱۰۸۱)، فقد قال ولده المجلسي الثاني في تعليقه على الكافي بعد المناقشة في دلالة خبر حبابة الوالبية على حرمة حلق اللحية ما نصّه: (نعم تدل بعض الأخبار على التحريم وفي سندها كلام ليس هذا المقام محل إيراده)(٢٦).

وذكر نظير ذلك المولی محمد صالح في شرح أصول الكافي(٢٧)، وقد علق عليه الفاضل الشعراني بقوله : (إنه يشعر بعدم حرمة حلق اللحية)(٢٨).

وقال المجلسي الثاني أيضاً في كتابه حلية المتقين ما ترجمته: المشهور بين العلماء حرمة حلق اللحية، والأحوط ترك الأخذ منها بما يشبه الحلق)(٢٩).

ويمكن أن يقال أن الوجه في عدم تصريح المجلسيين وصهرهما بحرمة حلق اللحية هو مراعاة جانب السلاطين الصفويين فإنهم كانوا يحلقون لحاهم كما ورد في بعض كتب التواريخ(٣٠) .

ولكن يلاحظ على هذا بأنه توجد صور مرسومة لعدد من السلاطين الصفويين وقد أعفوا لحاهم، ومنهم إسماعيل الأول (ت ۹۳۰) وابنه طهماسب (ت ۹۸٤) وسليمان (ت۱۱۰٦)، نعم توجد صورة عباس الأول (ت ۱۰۳۸) حالقاً لحيته وكذلك حفيده صفي (ت ۱۰۵۲) الذي جلس على العرش من بعده.

وعلى ذلك لو صحّ توجيه عدم تنصيص المجلسي الأول (ت۱۰۷۰) على حرمة حلق اللحية بكونه رعاية للتقية من معاصريه من السلاطين الصفویین کعباس الأول – الذي ألّف كتابه اللوامع القدسية باسمه – فإن هذا لا يجري بالنسبة إلى المجلسي الثاني (ت ۱۱۱۱) الذي عاصر من كان ملتحياً منهم کشاه سلیمان، فلم يكن مورد للتقية في زمانه .

بل يمكن الإشكال في أصل ما ذكر من التوجيه بأن ما كان يرعاه العلماء العظام – أمثال المجلسيين وصهرهما – من التقية في التعامل مع الحكام إنما كان فيما يتعلّق بمشروعية حكومتهم حين يتحتّم ذلك، لا في إخفاء الأحكام التي لا مساس لها بهذا الجانب مباشرة، وإن كان أولئك الحكّام يتجاهرون بمخالفتها .

ومن هنا نجد أن الشيخ البهائي (ت۱۰۳۰) المعاصر لعباس الأول والسيد الداماد (ت ١٠٤١) المعاصر له ولولده شاه صفي قد صرّحا بحرمة حلق اللحية ولم يلاحظا التقية في ذلك.

ثم إن ممن قد يستظهر من عبارته التردد في حرمة حلق اللحية فخر الدين الطريحي (ت ۱۰۸٥) المعاصر للمجلسيين فإنه قال في مجمع البحرین ما لفظه: (وفي كراهة حلق اللحي وتحريمه وجهان، وأما تحسينها فحسن)(٣١).

ولكن يمكن أن يقال أنه ليس في كلامه ما يدلّ على التردّد في حرمة الحلق بل مجرد عدم إبداء الرأي فيها ولعله بالنظر إلى خروجه عن موضوع كتابه فإنه كتاب لغة لا فقه.

وربما ينُسب(٣٢) جواز حلق اللحية إلى السيد محمد مهدي بحر العلوم قدس سره استناداً إلى ما ورد في منظومته الفقهية (الدرّة النجفية) من قوله:

وحلقه(٣٣) أولى وإن الأصلحا    في الشارب الحفّ كإعفاء اللحی

وحدّه القبضة في الإخبار         فما یزید فهو ورد النار(٣٤)

ولكن من الواضح أن حكمه طاب ثراه بأصلحية إعفاء اللحية كحفّ الشارب لا يدلّ على الترخيص في حلقها، فإن الإعفاء هو التعبير الوارد في النص، وقد مرّ الإيعاز إلى الخلاف في تفسيره، ولا دليل على أنه أراد به ما يقابل الحلق، بل يجوز أنه قصد به الإرسال وحدّده في البيت الثاني بمقدار القبضة، فلا تعرّض في كلامه لحكم الحلق أصلاً فتدبر.

هذا .. ولم أجد فيمن يُعتدّ بقوله من فقهاء الإمامية من اختار صريحاً جواز حلق اللحية سوى بعض تلامذة فقيه عصره الشيخ محمد رضا آل یاسین قدس سره وهو العلامة الفقيه الشيخ عباس الرميثي (ت۱۳۷۹) فقد حُكي عنه القول بكراهة الحلق دون حرمته(٣٥).

نعم احتاط في المسألة بعض المتأخرين، ومنهم السيد الأستاذ “قدس سره” وعدد من أعلام تلامذته.

وتوهّم بعضهم أن الوجه في ذلك منحصر في رعاية عدم مخالفة ارتكازات المتشرعة القائمة على حرمة الحلق مع الاعتراف بعدم وفاء الأدلة بثبوتها، وقد زعم هذا البعض نظير ذلك في موارد أخرى من الاحتياطات الوجوبية للسيد الأستاذ وعدد آخر من الفقهاء قدس الله أسرارهم.

ولكنه بعيد عن الصواب جداً، فإن من دأب الفقهاء أعلى الله كلمتهم الاحتياط الوجوبي في بعض المسائل مع قيام الحجّة فيها على الحكم الإلزامي، وذلك لأسباب مختلفة منها رعاية حال المكلفين كما في المسائل التي تعمّ بها البلوي ويكون الحكم الإلزامي فيها موجباً للوقوع في العسر والحرج مع وجود القائل بالحكم الترخيصي ممّن يعتدّ بقوله ويمكن الرجوع إليه، فيلاحظ أن منهم من يحجم عن الفتوى بالحكم الإلزامي ويكتفي ببيان طريقة الاحتياط ليفتح الطريق أمام مقلّديه في الرجوع إلى الغير تجنّباً عن الوقوع في الحرج والمشقّة، مع معذوريتهم أمام الله تبارك وتعالی.

ويمكن أن يُعدّ من موارد ذلك:
١- احتياط السيد الأستاذ قدس سره في مسألة ستر المرأة وجهها وكفّيها عن الناظر الأجنبي مع تماميّة الدليل عنده على وجوب الستر (٣٦).

۲- احتياطه طاب ثراه في مسألة الاكتفاء بتحريك العضو المرموس في الماء بقصد الغسل، مع ذهابه إلى ظهور الأمر بالغسل في الأحداث المقتضي لعدم كفاية ذلك(٣٧).

٣. احتباطه أعلى الله مقامه في عدم أخذ طالب العلم من حصّة الفقراء من الزكاة وغيرها إذا لم يكن طلب العلم واجباً عينياً عليه، مع اعترافه بعدم استحقاقه لها بمقتضى ظاهر الأدلّة(٣٨).

٤۔ احتياط سيدي الأستاذ الوالد مدّ ظلّه في عدم الاجتزاء بالوقوف مع العامة في الحج عند عدم ثبوت الموقف وفق الموازين الشرعية، مع ذهابه إلى أن مقتضى الصناعة عدم الاجتزاء به (٣٩).
٥۔ احتیاطه دام ظلّه في مسألة وجوب الزكاة في مال التجارة، مع تماميّة الدليل عنده على وجوبها(٤٠).

ومن موارد ذلك أيضاً مسألتنا هذه، فإن احتياط السيد الأستاذ “قدس سره” فيها بعدم حلق اللحية وعدم الفتوى بحرمته ليس ناشئاً من الإشكال في تماميّة الدليل على الحرمة، فإنه طاب ثراه قد اعترف في محاضراته – كما في كلا نقريريه(٤١) – بتماميّة دليل التحريم، بل الظاهر أنه راعی حال المكلفين من حيث وقوع الكثيرين منهم – ولاسيما الموظّفين في دوائر الدولة – في العسر والمشقّة جراء الالتزام بعدم حلق اللحية فأراد فتح المجال لمقلّديه في الرجوع إلى الغير .

المذهب الحنفي:

قال الكاساني الحنفي (ت ۵۸۷): الصحيح أن السُنّة فيه – أي الشارب – القصّ لما ذكرنا أنه تبع اللحية، والسنّة في اللحية القصّ لا الحلق كذا في الشارب، ولأن الحلق يشينه ويصير بمعنى المثلة، ولهذا لم يكن سنّة في اللحية بل كان بدعة فكذا في الشارب (٤٢).

وقال ابن الهمام الحنفي (ت٦۸۱): ما في الصحيحين عن ابن عمر عنه عليه السلام : احفوا الشوارب وأعفوا اللحى محمول على إعفائها من أن يأخذ غالبها أو كلّها كما هو فعل المجوس الأعاجم من حلق لحاهم، فيقع بذلك الجمع بين الروايات، وأما الأخذ منها وهي دون ذلك كما يفعله بعض المغاربة والمخنّثة من الرجال فلم يبحه أحد(٤٣).

وقال علاء الدين الحصکفي الحنفي (ت ۱۰۸۸): ولذا يحرم على الرجل قطع لحيته(٤٤).

المذهب المالكي:

قال ابن أبي زيد القيرواني المالكي (ت ۳۸۹): وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تعفي اللحية وتوفّر ولا تقصّ، قال مالك: ولا بأس بالأخذ من طولها إذا طالت كثيراً، وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين(٤٥).
وقال ابن المزين القرطبي المالكي (ت ٦٥٦): لا يجوز حلقها – أي اللحية – ولا نتفها ولا قصّ الكثير منها(٤٦).

وقال الحطاب الرعيني المالكي (ت٩٥٤): وحلق اللحية لا يجوز وكذلك الشارب وهو مثلة وبدعة ، ويؤدّب من حلق لحيته أو شاربه، إلا أن يريد الإحرام بالحج وخشي طول شاربه(47).
وقال شمس الدين الدسوقي المالكي (ت ۱۲۳۰): يحرم على الرجل حلق لحيته أو شاربه ويؤدّب فاعل ذلك(48).

المذهب الشافعي:

لم أجد حكم حلق اللحية في كتاب الأُم للشافعي، نعم أورد في أحكام الوضوء الحديث النبوي: احفوا الشوارب وأعفوا اللحى، من دون الإشارة إلى أنه محمول على الندب أو أنه يأخذ بما هو ظاهره من الوجوب (49).

ولكن نقل ابن الرفعة (ت۷۱۰) أن الشافعي نصّ في الأم على التحريم(50)، ولعلّ منشأ هذا هو اختلاف نسخ كتاب الأم، كما لوحظ مثله في بعض الموارد الأخرى أيضاً(51).

ومهما يكن نقد نصّ على تحريم حلق اللحية عدد من فقهاء الشافعية منهم القفال الشاشي (ت حدود ٤٠٠) والحليمي (ت ٤٠٣) وابن الرفعة (ت۷۱۰) والأذرعي (ت ۷۸۳) والزركشي (ت ۷٩٤) والكركي (ت۸۵۳) والمليباري (ت ۹۸۷)(52).

ولكن نقل البكري (ت ۱۳۱۰) أن المعتمد عند الغزالي وشيخ الإسلام وابن حجر والرملي والخطيب وغيرهم الكراهة، وقال: وعبارة ابن حجر في التحفة هكذا: فرع: ذكروا هنا في اللحية ونحوها خصالاً مكروهة منها نتفها وحلقها وكذا الحاجبان،

ولا ينافيه قول الحليمي: لا يحلّ ذلك، لإمكان حمله على أن المراد نفي الحلّ المستوي الطرفين، والنصّ على ما يوافقه إن كان بلفظ (لا يحلّ) يحمل على ذلك، أو (يحرم) كان خلاف المعتمد(53).

ولكن اعترضه ابن الرفعة في حاشية الكافية بما سبق من روايته النصّ عن الشافعي في الأم على تحريمه (54).

ويمكن أن يضاف إلى ذلك: بأنه كما يمكن تأویل (لا يحل) بما لا ينافي الكراهة التنزيهية كذلك يمكن أن تحمل الكراهة في كلمات بعض متقدمي الشافعية على الكراهة التحريمية، بل لعلّ هذا أولی.

قال ابن قيّم الجوزية: قد غلط كثير من المتأخّرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب تورّع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم وإطلاقهم لفظ الكراهة، فنفى المتأخّرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة، ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفّت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى، وهذا كثير جداً من تصرّفاتهم، فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة.

وقد قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين بملك اليمين: أكرهه ولا أقول هو حرام، ومذهبه تحريمه، وإنما تورّع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان.

وقد نصّ محمد بن الحسن أن كل مكروه فهو حرام إلا أنه لما لم يجد فيه نصّاً قاطعاً لم يطلق عليه لفظ الحرام(55)، وروى محمد أيضاً عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إلى الحرام أقرب، وقد قال في الجامع الكبير : يكره الشرب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء، ومراده التحريم.

وأما أصحاب مالك فالمكروه عندهم مرتبة بين الحرام والمباح ولا يطلقون عليه اسم الجواز ويقولون إن أكل كل ذي ناب من السباع مکروه غير مباح.

وقال الشافعي في اللعب بالشطرنج أنه لهو شبه الباطل أكرهه ولا يتبين لي تحريمه، فقد نصّ على كراهته وتوقّف في تحريمه، فلا يجوز أن ينسب إليه وإلى مذهبه أن اللعب بها جائز.

ومن هذا أيضاً أنه نصّ على كراهة تزوج الرجل بنته من ماء الزنا، ولم يقل قطّ أنه مباح ولا جائز، والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه الذي أجله الله به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم وأطلق لفظ الكراهة لأن الحرام يكرهه الله ورسوله.

فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في کلام الله ورسوله، ولكن المتأخرين اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرّم وتركه أرجح من فعله، ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث فغلط في ذلك(56). انتهى كلامه بتصرّف.

فالنتيجة أنه لم يظهر أن المعتمد عند الإمام الشافعي هو كراهة حلق اللحية ، وأما ذهاب بعض فقهاء الشافعية إلى الكراهة فهو لا يقوم حجة على من يقلّد الشافعي، مضافاً إلى أن جمعاً آخرين من فقهاء هذا المذهب ذهبوا إلى تحريم الحلق كما سبق.

المذهب الحنبلي:

نال شمس الدين المقدسي الحنبلي (ت ۷٦۲): وإعفاء اللحية فرض(57).
وقال ابن مفلح الحنبلي (ت ۸۸٤): ويحرم حلقها – أي اللحية – ذكره الشيخ تقي الدين، ولا يُكره أخذ ما زاد على القبضة(58).
ونظير ذلك ما ذكره مرعي بن يوسف وابن ضويان والبهوتي وهم من علماء الحنابلة(59)، وأضاف الأخير أنه لا يصحّ الاستيجار لحلق اللحية(60).

المذهب الظاهري:

نصّ ابن حزم الظاهري (ت٤٥٦) على أن إعفاء اللحية فرض(61).

مواقف المحدثين من علماء الجمهور وكتّابهم:

بعد أن فُتن المسلمون في القرن الأخير بالتشبه بالغربيين في الزيّ والصورة، وكما قال الشنقيطي: عمّت البلوى بحلق اللحية في البلاد الشرقية حتى أن كثيراً من أهل الديانة قلّد فيه غيره خوفاً من ضحك العامة منه لاعتيادهم حلقها في عرفهم(62)، حاول عدد من علماء الجمهور وكتّابهم تخريج بعض الوجوه لحلية حلق اللحية، ومن هؤلاء محمد حبيب الله الشنقيطي ومحمد رشید رضا صاحب المنار، ومحمود شلتوت ومحمد عبد الله السمان ويوسف القرضاوي وصالح الورداني،

وفيما يلي استعراض البعض ما قالوه في هذا المجال :

١. قال الشنقيطي: بحثت غاية البحث عن أصل أُخرج عليه جواز حلق اللحية حتى يكون لبعض الأفاضل مندوحة عن ارتكاب المحرّم بالاتفاق، فأجريته على القاعدة الأصولية، وهي أن صيغة (افعل) في قول الأكثرين للوجوب وقيل: للندب وقيل : بالتفصيل، فإن كانت من الله تعالی في القرآن فهي للوجوب وإن كانت من النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث هنا على الروايتين وهما رواية: وفّروا اللحى، ورواية: اعفوا اللحي، فهي للندب .. وهذا القول الذي ينبغي حمل العامة عليه (63).

(أقول): القول بدلالة صيغة الأمر على الندب إما مطلقة أو في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم قول ضعیف ردّه المحققّون(64)، ولا يلتزم أصحابه بما هو لازمه من عدم وجوب الكثير من الواجبات التي ينحصر الدليل على وجوبها فيما ورد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأمر بها.

۲- قال محمد رشيد رضا: إن إعفاء اللحية ورد في عداد سنن الفطرة كما في حديث عائشة وأبي هريرة، وسنن الفطرة هي أمور الخلفة المتعلقة بحسن المنظر والنظافة والصحّة والتجمّل، فليست هي من المسائل الدينية التي يعبد الله بها فعلاً أو تركاً (65)

وقال محمود شلتوت: إن الخصال المعدودة من سنن الفطرة قد أخذت عند كثير من الفقهاء الباحثين عن أحكام الشريعة حكم السنيّة أو الاستحباب وأخذت حكم الكراهة، وإعفاء اللحية واحدة من هذه الخصال، لا يعدو حكمه حكمها وهي السنيّة والاستحباب(66).

وقال محمد عبد الله السمان: إن الأمر بإعفائها – أي اللحية – لم يكن إلا من قبيل الندب وشأنها شأن كل المظاهر الشكلية التي لا يهتمّ بها الإسلام ولا يفرضها على أتباعه، بل يتركها لأذواقهم وما تتطلّبه بيئاتهم وعصورهم(67).

(أقول) : ذكر النووي أنه ذهب أكثر العلماء إلى أن الفطرة هي السنّة، والخصال المعدودة منها ما هو واجب عند بعض العلماء ولا يمتنع قرن الواجب بغيره .

ورد عليه ابن نجيم بأن الفطرة إذا فسّرت بالسنّة يقتضي أن جميع المعدود من السنّة، فإنه إذا قيل: جاء عشر من الرجال لا يجوز أن يكون فيهم من ليس منهم، فالأولى في الفطرة تفسيرها بالدين كما قاله المحقّق كمال(68)

والصحيح أن المراد بالفطرة الجبلّة والطبع التي خلق الله الإنسان عليها، فلو ترك لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنها من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد – كما قال بعض اللغويين(69) – فمعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (عشر من الفطرة) أن القيام بهذه الأمور من مقتضيات الجبلّة التي خلق الإنسان عليها، فلا دلالة فيه على كونها من المستحبات ليعارض ما دل على وجوب بعضها، كما أنه ليس معناه أنها من الدين ليلتزم في جميعها بالوجوب أو الاستحباب، وليس فيه أيضا دلالة على عدم تعلق الوجوب أو الاستحباب بالمذكورات -كما رامه محمد رشید رضا ۔ بل لا مانع من أن يكون بعض ما هو من الفطرة واجباً أو مستحباً، وبالفعل ثبت استحباب البعض كالسواك ووجوب بعض آخر كالختان للذكور فإنه واجب عند الفقهاء عامة إلا من شذّ.

والحال أنه لا دلالة في عدّ إعفاء اللحية من الفطرة على عدم وجوبه فلا يعارض بذلك ما ظاهره الوجوب.

وأما قول السمان بأن المظاهر الشكلية لا يهتم بها الإسلام ولا يفرضها على أتباعه بل يتركها لأذواقهم وما تتطلّبه بيئاتهم وعصورهم فمردود بأنه لم تثبت هذه الكلية بل ثبت عکسها، ومن ذلك تحريم اللباس الحرير والتزين بالذهب على الرجال وتحريم تشبّه أحد الجنسين بالجنس الآخر في الزيّ والشكل كما هو محقّق في محلّه.

٣- قال محمد رشيد رضا أنه قد ورد الأمر بإعفاء اللحية معلّلاً بمخالفة المشركين والمجوس، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول الإسلام يحبّ مخالفة المشركين وموافقة أهل الكتاب، ثم صار بعد الهجرة يأمر بمخالفة أهل الكتاب حتى في الأمور الاجتماعية والعادية، لأن المسلمين كانوا في صدر الإسلام مع المشركين في مكة فكان يحب أن يمتازوا عنهم، وكانوا بعد الهجرة مخالطين لأهل الكتاب فكان يحب أن يمتازوا عنهم، مثال ذلك أمره بصبغ الشيب كما في حديث ابن عباس: “إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم”.

فما ذكر لمخالفة أهل الملل إنما هو لأجل أن يكون للمسلمين مشخّصات وعادات حسنة خاصة بهم من حيث هم أمة جديدة جعل دينها إماماً وقدوةً لسائر أهل الملل في إصلاح أمور الدين والدنيا وقد كان الفساد الديني والاجتماعي عاماً في جميع الأمم بإجماع المؤرّخين(70).

وقال محمود شلتوت: وجاء في أحاديث خاصة باللحية الأمر بالإعفاء والتوفير وعلّلت ذلك بمخالفة المجوس والمشركين، ومن هنا فقد أخذ بعض العلماء أن حلق اللحية حرام أو منکر .

والذي نعرفه في كثير مما ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذه الخصال أن الأمر كما يكون للوجوب يكون لمجرد الإرشاد إلى ما هو الأفضل وأن مشابهة المخالفين في الدين إنما تحرم فيما يقصد به التشبه في خصائصهم الدينية، أما مجرد المشابهة فيما تجري به العادات والأعراف العامة فإنه لا بأس بها ولا كراهة فيها ولا حرمة(71).

وقال الشيخ عطية صقر في تقريب وجهة نظر القائلين بجواز الحلق: إن إعفاء اللحية جاء فيه نصّ خاص يخرجه من الندب إلى الوجوب وهو مخالفة المشركين فدلّ على الوجوب، لكن ردّ عليهم القائلون بالندب بأنه لو كانت كل مخالفة للمشرکین محتّمة لتحتّم صبغ الشعر الذي ورد فيه حدیث رواه الجماعة: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» مع إجماع السلف على عدم وجوب صبغ الشعر ..

ومن هنا يبقى الأمر بإعفاء اللحية على الندب لا الوجوب، وعززوا رأيهم بما جاء في كتاب نهج البلاغة – وهو كتاب له منزلته عند الشيعة – سئل علي رضي الله عنه عن قول النبي : غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود، قال: «إنما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك والدين قلّ، فأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما يختار(72).

وقال الشيخ يوسف القرضاوي: إن في حلق اللحية ثلاثة أقوال: قول بالتحريم.. وقول بالكراهة.. وقول بالإباحة.. ولعلّ أوسطها أقربها وأعدلها وهو القول بالكراهة، فإن الأمر لا يدلّ على الوجوب جزماً وإن علّل بمخالفة الكفّار، وأقرب مثل على ذلك هو الأمر بصبغ الشيب مخالفة لليهود والنصارى، فإن بعض الصحابة لم يصبغوا فدلّ على أن الأمر للاستحباب (73).

(أقول): يلاحظ أن بعض هؤلاء أراد أن يجعل من الأمر بمخالفة المشركين والمجوس عقيب الأمر بالإعفاء قرينة على كونه مسوقاً لمجرّد الإرشاد إلى ما يتميّز به المسلمون عن الكفار، في حين رأی بعض آخر أن الأمر بمخالفة المشركين والنهي عن التشبّه بالمجوس فرينة على إرادة الوجوب من الأمر بالإعفاء، فناقش فيه البعض بأنه إنما تحرم مشابهة الكفار فيما يقصد به التشبّه في خصائصهم الدينية لا مطلقاً، واستشهد بعضهم على عدم حرمة التشبّه مطلقاً بما ورد من الأمر بتغيير الشيب خلافاً للكفار مع عدم وجوبه بالسيرة والإجماع.

ولكن سيأتي إن شاء الله تعالى أن الأمر بإعفاء اللحية ظاهر في حدّ ذاته في الوجوب، وليس من جهة تعقبه بالأمر بمخالفة المشركين أو النهي عن التشبّه بالمجوس، كما لا قرينة في التعفبب بهما على كون الأمر لغير الوجوب فلاحظ.

٤- قال صالح الورداني: إن الفقهاء اعتبروا قول الرسول: وفّروا اللحيه و اعفوا اللحى» أمراً والأمر واجب امتثاله ومخالفته يعني الوقوع في الحرمة وبالتالي دخلت اللحية دائرة التشريع وحمل الرسول أمر تبلیغ حكمها للأمة.

وإذا كان الرسول قد بلغ الأمة أمر اللحية عن طريق الوحي فأين هي الإشارات القرآنية التي تدعم هذا الأمر، وما دامت لا توجد نصوص قرآنية تدعم أمر اللحية فإن هذا يعني أن أمرها من إضافات الرسول، وإذا كان الفقهاء قد باركوا هذا الأمر فإن هذا يعني أيضاً أنهم قد أدخلوا الرسول دائرة التشريع، فإن أقرّوا بغير ذلك فمعنى هذا أن مسألة اللحية لا صلة لها بحدود الشرع وهي لا تخرج عن كونها عادة وليست عبادة، وعادة إطلاق اللحى كانت شائعة في الجاهلية عند العرب وكل ما فعله الرسول هو أنه أقر هذه العادة.

ولم يكتف الورداني بما تقدّم، بل اتهم الرواة باختلاق الروايات الدالة على حرمة حلق اللحية وانهم الفقهاء بمباركة هذا الاختلاق قائلاً : لقد تجاوز الرواة الحدود في نسبة التحريم للرسول حتى في السلوكيات والعادات والأعراف التي يكون نسبة التحريم إليها مصادماً للفطرة والعقل، فهم قد نسبوا إلى الرسول تحريم حلق اللحية .. واخترعوا لها الروايات لشغل الأمة بالشكلات وإبعادها عن الاهتمام بجوهر الدين حتى يفسحوا الطريق أمام الحكام، ثم جاء الفقهاء فاشتقّوا لها الأحكام وضخّموها لأن مثل تلك الأمور كانت شغلهم الشاغل في ظل واقع عزل فيه الإسلام عن دوره وجوهره(74).

(أقول): هذا الكلام يتضمّن أموراً خطيرة تمسّ أسس الفقه الإسلامي:

أحدها: أنه لا يثبت حكم شرعي إلا إذا كان إليه إشارة قرآنية ! وهذا يعني التخلّي عن عشرات الأحكام الفقهيّة المسلّمة عند جميع المسلمين لأنه لا توجد في الكتاب المجيد إشارات إليها، وكأنه لم يثبت أن سنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم – إلى جنب القرآن الكريم – مصدر أساس للتشريع الإسلامي.

ثانيها: إن ورود التحريم فيما يتعلّق بالسلوكيات والعادات والأعراف مصادم للفطرة والعقل!، ولا يفهم لماذا لا يقبل العقل والفطرة ورود حکم شرعي في هذه المجالات؟! وكيف يوجه إذاً ورود عشرات الأحكام الإسلامية في الكتاب والسنّة فيما يخصّ المأكل والمشرب والملبس وجميع ما يدخل في نطاق السلوكيات والأعراف والعادات؟

ثالثها: اتهام الرواة بوضع الروايات الدّالة على التحريم فيما سمّاه ب(الشكليات) لغرض إبعاد الأمة عن جوهر الدين، وهذا يهدم أساس الاعتماد على الروايات بصورة عامة، فإن رواة الأحكام الخاصة ب(الشكليات) هم أنفسهم رواة ما يتعلّق من السنّة النبوية بما سمّاه ب(جوهر الدين) فكيف يكذّبون في تلك ويصدّقون في هذا؟!

(١) أعددت هذه اللمحة التاريخية عن اللحية من المصادر التالية:
قصة الحضارة ج ۲ ص 15 و ۱۰۲ ,۱۹۳ ,۲٦٦ و۳۰۳ و ٤١٠، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج ٤ ص ٦۰۹ و ٦۱۰، مجمع البیان ج ١ ص ۳۷٤، سعد السعود ص ٨٤، تفسير علي بن إبراهيم ج١ ص۵۹، الشرائع ص۸، الهداية ص۱۷، کنز الفوائد ص ۲۸٤، المصنف لابن أبي شيبة ج٨ ص۳۳، شرح نهج البلاغة ج۸ ص ۲۲۲، التبیان ج١ ص ٤٤٥، بلوغ الارب ج۲ ص ۲۸۷، محاضرات الأدباء ج۳ ص۳۱۵، رحلة ابن فضلان ج۱ ص ۱۳۱ و ۱۳۷، قاموس الكتاب المقدس ص ۸۱۳، عجانب الآثار ج٣ ص٥٦٦، معجم البلدان ج١ ص۳۲۲، رحلة ابن بطوطة ج١ ص٤٩، نزهة المشتاق ج۲ ص۹۱۸، البداية والنهایه ج۱۳ ص ۲۲۹ وج١٤ ص۳۱٤، أخبار الدولة العباسية ص۳۳۱؛ بلاد آشور لاندريه بارو ، عجائب الخلق ص ۹۷، تاريخ مدينة دمشق ج ٤٥ ص ۳، إيران في عهد الساسانيين ص۷۸ و ۲۱۱ و ۲۱٤ و ۲۱۸، موسوعة العذاب ج٤ ص۱۷ وما بعدها ، تقرير للأستاذ بهنام أبو الصوف.
Encyclopedia Britannica Balfour Both 3 p. 326-327, The Encyclopedia Americana Volume 3 p. 381, Grolier Encyclopedia Volume 3 p. 109-110, New Universal Encyclopedia Volume 2 p. 114-115, Encyclopedia Opedia International Volume 2 p. 458, The New Caxton Encyclopedia Volume 2 p. 60, Encyclopedia of Religion and Ethics Volume 2 p. 441-442.
(٢) الوافي ج٤ ص ۹۹.
(٣) الحدائق الناضرة ج٥ ص ٥٦١.
(٤) ينبغي الإيعاز هنا إلى أنه لا يوجد في العصر الحاضر من التراث الفقهي للعلماء السابقين على الشيخ المفيد (ت ٤١٣) إلا بعض كتب الصدوق، وقد ضاع فيما ضاع من تراث الإمامية قبل ذلك تصانیف فقهاء بارزين كيونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان ومحمد بن الحسن بن الوليد وابن أبي عقيل وابن الجنيد والصابوني صاحب الفاخر وجعفر بن محمد بن قولویه و محمد بن أحمد بن داود وغيرهم.

نعم يوجد بأیدینا کتاب الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السلام الذي كشف المرحوم السيد حسن الصدر قدس سره عن أنه هو كتاب التكليف الذي ألّفه الشلمغاني – المقتول سنة ۳۲۲ – أيام استقامته إلا أن النسخة الواصلة منه مختلة الترتيب وفيها سقط وخلل كثير .

وكذلك توجد قطعة صغيرة من أول كتاب الشرائع لعلي بن بابویه والد الصدوق مع قطع متفرقة منه في بعض کتب ولده كالفقيه والمقنع والهداية وعلل الشرائع وفي مختلف الشيعة للعلامة الحلي قدس سره.

والملاحظ أن ما وصل إلينا من كتب الصدوق وكتب المفيد ومن بعده كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي وسلار بن عبد العزيز وأبي الصلاح الحلبي والقاضي ابن البراج لا يستوعب حتى الأحكام المنصوص عليها فيما بأيدينا من الروايات فضلاً عن غيرها، وأما كتب الذين كانوا من بعد الشيخ الطوسي إلى عصر المحقق والعلامة الحليين قدس سرهما فهي أكثر اختصاراً وإيجازاً من كتب الشيخ نفسه .

ولذلك لا يمكن أن يستشعر من عدم العثور على حكم – كحرمة حلق اللحية – في كتب الفقهاء المتقدمين على المحقق والعلامة عدم ثبوته عندهم، فإن هناك العديد من الأحكام التي لا ينبغي الشك في التزامهم بها – كحرمة النميمة وحرية الإضرار بالنفس بمثل قطع الجوارح وغيرهما – مع أنه لم أجد لها ذكراً في كتب السابقين ، نعم ربما يشار إليها عرضاً في باب آخر کحرمه النميمة التي أشير إليها في الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السلام في باب مفطرات الصوم ص۲۰٦، وسيأتي أن الشهيد الأول قدس سره الذي هو من أوائل من يستفاد من كلامهم تحريم حلق اللحية لم يذكر ذلك بعنوانه بل في ضمن حديثه عن أحكام الخنثی. والحاصل أن عدم العثور على من ينصّ على حرمة حلق اللحية إلى منتصف القرن الثامن لا يدل بوجه على عدم ثبوت هذا الحكم عند المتقدمين فتدبر .
(٥) من لا يحضره الفقیه ج١ ص٧٦.
(٦) معاني الأخبار ص ۲۹۱.
(٧) الغاية ص٣.
(٨) الجامع للشرائع ج١ ص٢٣٢.
(٩) الغالية ص٣، ويجدر الإشارة إلى ما ذكره صاحب الذريعة في ج٢ ص ٣٦٧ من أن نسخة من الحواشي الفخرية بخط عتيق كانت موجودة في مكتبه المرحوم السيد حسن الصدر.
(١٠) القواعد والفوائد ج١ ص ٢٣٢.
(١١) نضد القواعد الفقهية ص ١٦٤.
(١٢) الأقطاب الفقهية ص٦٩.
(١٣) الاعتقادية ص٩.
(١٤) اثنا عشر رسالة ج٣ ص١٠٣.
(١٥) الذريعة ج١٣ ص٥.
(١٦) مفاتيح الشرائع ص٧٧، منهاج النجاة ص٨٢.
(١٧) الغاية ص٢.
(١٨) بداية الهداية ص٧.
(١٩) الوسائل ج١ ص٤٢٢.
(٢٠) الحدائق الناضرة ج۵ ص ۵٦۱.
(۲١) کشف الغطاء ج۲ ص٤۱۸.
(٢٢) جواهر الكلام ج ۷ ص ۲۹.
(٢٣) الرسائل الأربعة عشرة ص۱٥٦.
(٢٤) اللوامع القدسية ج١ ص ۲٤۲.
(٢٥) روضة المتقين ج۱ ص۳۳۲ – ۳۳۳.
(٢٦) مرآة العقول ج١ ص ۲۵٤، وفيه: (أو دلالتها) بعد قوله : (وفي سندها) والظاهر أنه من سبق القلم ولذلك لم يذكره المولی محمد صالح في كتابه.
(٢٧) شرح أصول الكافي ج٦ ص٢٨٦.
(٢٨) المصدر السابق (الهامش).
(٢٩) حلية المتقين ص١١٧.
(٣٠) لاحظ مستدركات أعيان الشيعة ج٥ ص٢٩.
(٣١) مجمع البحرین ج۱ ص ۱۰٤.
(٣٢) محاضرات في الفقه الجعفري ج۱ ص۱۹۸ الهامش .
(٣٣) أي حلق الرأس.
(٣٤) الدرة النجفية ص۵۹.
(٣٥) يجدر الإشارة إلى ما ذكر في طبقات أعلام الشيعة ج١ ق۳ ص ٩٤٢ من أن الشيخ محمد صالح الجزائري (ت۱۳٦٦) كان عالماً فاضلاً له اطلاع في اللغة وأخبار العرب وأشعارهم ومن آثاره رسالته في كراهية حلق اللحية .
(٣٦) لاحظ منهاج الصالحين ج٢ ص٢٦٠، مباني العروة الوثقى كتاب النكاح ج١ ص٦٤.
(٣٧) لاحظ العروة الوثقی ج۱ ص۱۱٥ التعليقة، التنقيح في شرح العروة الوثقی ج٥ ص٤۸۳.
(٣٨) لاحظ العروة الوثقی ج۲ ص ٧٤ التعليقة، مستند العروة الوثقى کتاب الزكاة ج۲ ص١١٨.
(٣٩) لاحظ مناسك الحج ص۱۸٦، قاعدة التقية ص١٦٤.
(٤٠) لاحظ منهاج الصالحين ج١ ص۳۵۳، منار العروة الوثقی کتاب الزكاة ج۲. ص۱۹۸.
(٤١) مصباح الفقاهة ج١ ص ۲٦١، محاضرات في الفقه الجعفري ج۱ ص۱۹۷.
(٤٢) بدائع الصنائع ج۲ ص۱۹۳.
(٤٣) البحر الرائق ج۲ ص ٤٩٠ نقلاً عن فتح القدير .
(٤٤) الدر المختار ج٦ ص ۷۲۷.
(٤٥) رسالة ابن أبي زيد القيرواني ص ٦٨٣.
(٤٦) طرح التثريب ج۱ ص٨٣ عن المفهم.
(٤٧) مواهب الجليل ج۱ ص۳۱۳.
(٤٨) حاشية الدسوقي ج۱ ص۹۰.
يجدر الإشارة إلى أن بعض الشافعية نسبوا إلى الفاضي عياض المالكي (ت ٥٤٤) كراهة حلق اللحية وقصّها وتحذيفها، وأول من نسب إليه ذلك هو النوري في شرح صحيح مسلم ج۳ ص ۱۵۱ وتبعه الحافظ العراقي في طرح التثریب ج۱ ص ۸۳ وابن حجر في فتح الباري ج۱٠ ص۲۹٦ ولكن لم أجد هذه النسبة في مصادر المالكية فلاحظ.
(٤٩) الأم ج ص٣٦.
(٥٠) لاحظ إعانة الطالبين ج٢ ص٣٤٠.
(٥١) لاحظ حول التكفير في الصلاة ص٣٥ الهامش.
(٥٢) لاحظ إعانة الطالبين ج٢ ص٣٤٠، وفيض القدير ج١ ص١٩٨ وفتح المعين ج٢ ص٣٨٦.
(٥٣) إعانة الطالبين ج٢ ص٣٤٠.
(٥٤) المصدر نفسه.
(٥٥) في كتاب الأم ج۷ ص ۳۲۰: قال أبو يوسف: ما أعظم قول الأوزاعي: هذا حلال من الله ، أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام إلا ما كان في كتاب الله عزوجل بيّنا بلا تفسير ، وحكي عن إبراهيم النخعي أنه حدث عن أصحابه أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا: هذا مکروه، وهذا لا بأس به، فإما أن نقول : هذا حلال وهذا حرام، فما أعظم هذا.
(٥٦) أعلام الموقعین ج١ ص ٤١ – ٤٥.
(٥٧) الفروع ج١ ص١٠٠.
(٥٨) المبدع ج١ ص١٠٥.
(٥٩) دليل الطالب ج١ ص٨، منار السبيل ج١ ص٣٠، كشف القناع ج١ ص٧٥.

(60) كشف القناع ج4 ص14
(61) المحلي ج٢ ص٢١٨.
(62) يسألونك في الدين والحياة ج٢ ص٢٥.
(63) المصدر نفسه .
(64) لاحظ الفصول في الأصول ج٢ ص٨٣.
(65) فتاوي محمد رشيد رضا ج٤ ص١٥٠٩.
(66) الفتاوي ص٢٢٧.
(67) الإسلام المصفى ص٧٢.
(68) لاحظ البحر الرائق ج١ ص٨٩.
(69) لسان العرب ج٥ ص58.
(70) فتاوي محمد رشيد رضا ج٤ ص١٥١٠ – ١٥١١.
(71) الفتاوي ص٢٢٨ – ٢٢٩.
(72) فكر المسلم المعاصر ما الذي يشغله؟ ص٢٠١.
(73) الحلال والحرام في الإسلام ص٩٣.
(74) دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص١٦٤- ١٦٢ بتصرف.

 

تحميل كتاب

بحوث فقهية، حول الذبح بغير الحديد والزي والتجمل ومسائل أخرى – السيد محمد رضا السيستاني
  

 

2 تعليقات

  1. السيد الخوئي في بحثه الإستدلالي قال بجواز حلق اللحية إذ لا وجود لدليل قرآني ولا روائي دل على حرمة حلقها عنده.فلا نريد ماستحسنه الناس من غير مصادر الشرع الشريف.

    • السلام عليكم ورحمة الله

      كلام السيد الخوئي في كتاب مصباح الفقاهة الجزء الأول – ص406

      مسألة حرمة حلق اللحية
      فنقول: المشهور بل المجمع عليه بين الشيعة والسنة [1] هو حرمة حلق اللحية.
      وبعد التعرض لذكر الروايات يقول رحمه الله:
      ويؤيد ما ذكرناه دعوى الاجماع عليه كما في كلمات جملة من الاعلام، وعدم نقلهم الخلاف في المقام من الشيعة والسنة كما هو كذلك والله العالم. –

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign